السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
أُو۟لَٰٓئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا۟ ۚ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] فأنزل الله: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:202] ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأخرة فقال: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201]"سبب نزول قوله تعالى: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] يبين معناها، فهم يقولون: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً أي يسألون الله من خيري الدنيا والآخرة.
ومن أهل العلم من يحمل مثل هذه الآيات على أمور تتعلق بالتعبد، فقالوا: آتنا في الدنيا حسنة ليس المراد به الزوجة الحسناء، أو المال أو ما أشبه ذلك، وإنما فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً يعني العبادة، والتوفيق للطاعة، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَة يعني الجنة.
وقد مرت بنا في الدرس الماضي آيات حملها بعض أهل العلم على نظائر هذا مثل قوله تعالى: أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198]، وقوله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197]، وقوله: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [سورة القصص:77]، وقوله: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10]، فهذا منحى لبعض أهل العلم يفسِّر به مثل هذه الآيات، وإن كنا لا نقول إن هذا هو المعنى الراجح فيها.
فالمقصود أن الحسنة في قوله تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً [سورة البقرة:201] غير محددة، فيدخل فيها كل ما يحتاج إليه الإنسان، ويُسرُّ به، ويستحسنه من أمور هذه الدنيا، وحطامها من المال، والولد، والزوجات، والمراكب، ويدخل في  ذلك أيضاً ما يوفق إليه من العبادات، والطاعات، فكل ذلك من الحسنة في الدنيا، وأما الآخرة فهي الجنة.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: "ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأخرى فقال: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] فجمعت هذه الدعوةُ كلَّ خير في الدنيا، وصرَفت كلّ شر؛ فإن الحسنة في الدنيا تشملُ كلّ مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا.
وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العَرَصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم، والآثام، وترك الشبهات، والحرام.
وقال القاسم بن عبد الرحمن: "من أُعطي قلبا شاكراً، ولساناً ذاكراً، وجسداً صابرًا، فقد أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار"، ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء.
روى البخاري عن أنس بن مالك قال: "كان النبي ﷺ يقول: اللَّهم ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار[1]".
فهذا اللون من التفسير هو من أحسن ما يقال في تفسير هذه الآية، وإذا جرى المفسر على هذا النمط في كثير من المواضع التي يمكن فيها أن تجمع الأقوال سواء كانت من خلاف التنوع، أو خلاف التضاد فإن هذا هو التحقيق في التفسير، وهذا تجده كثيراً في تفسير ابن كثير - رحمه الله - وتجده أيضاً في تفسير ابن جرير، وتجد ذلك أيضاً في كلام الحافظ ابن القيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأيضاً في أضواء البيان، وأمثال هذه الكتب التي كتبها أئمة محققون، وهذا بخلاف بعض الكتب التي أولع أصحابها بتشقيق الأقوال وتعدادها فلا تجد فيها مثل هذا، ولهذا إذا قرأ في تلك الكتب من لا بصر له في التفسير ربما لا يزيده ذلك إلا حيرة في معرفة الراجح من هذه الأقوال الكثيرة.
وعلى كل حال فهذا مثال على هذا النوع من التحقيق، وذلك أن الله لم يخصص حسنة دون حسنة، وإنما قال: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً فيدخل فيه كل ما ذكره المفسرون مما يصدق عليه أنه حسنة.
والمعنى الذي ذكره أيضاً في قوله: وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ مما يتعلق باتقاء الشبهات، والمحرمات إلى آخره، هذا كله مما يذكر قد بُني على ما يذكر في الأصول من أن النص تسلط عليه أنواع الاستنباط المأخوذة من أنواع الدلالة المعروفة، فيؤخذ منه ومن معناه المطابق، والمتضمن، واللازم، ودلالة الإشارة، ودلالة الإيماء، والتنبيه، فإذا قال: وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ فإن لازم ذلك أن يقيه أسباب دخول النار.
"وروى أحمد عن أنس أن رسول الله ﷺ عاد رَجُلاً من المسلمين قد صار مثل الفَرْخ، فقال له رسول الله ﷺ: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إيَّاه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله ﷺ: سبحان الله! لا تطيقه - أو لا تستطيعه - فهلا قلت: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، قال: فدعا الله، فشفاه" [انفرد بإخراجه مسلم][2].
وروى الحاكم في مستدركه عن سعيد بن جبير قال: جاء رَجُل إلى ابن عباس - ا - فقال: إني أجَّرت نفسي من قوم على أن يحملوني، ووضعت لهم من أجرتي على أن يدعوني أحجَّ معهم، أفيجزي ذلك؟ فقال: أنت من الذين قال الله: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:202]، ثم قال الحاكم: [صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه][3]."
سبق الكلام في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198] عن الذي يكري نفسه في الحج، وهذه الرواية مفسِّرة لتلك الرواية، فهو يكري نفسه بالحج، ويضع من أجرته على أن يمكنوه من الحج.
واسم الإشارة في قوله - تبارك وتعالى -: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ [سورة البقرة:202] يرجع كما قال بعض أهل العلم إلى الذي أراد الدنيا بقوله: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [سورة البقرة:200] وإلى الذي أراد الدنيا والآخرة بقوله: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201].
والأقرب - والله أعلم - أن اسم الإشارة يرجع إلى المذكور الآخِر وهو قوله: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] وهذا على قاعدة أن اسم الإشارة يرجع إلى أقرب مذكور، وهذا الذي عليه كثير من المحققين سلفاً وخلفاً، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - وابن كثير لم يتعرض لهذه المسألة.
وسريع الحساب من قوله تعالى: وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:202] يحتمل معنيين:
المعنى الأول: أن مجيءَ اليوم الآخر الذي يقع فيه الحساب وهو يوم القيامة سريع وقريب، ومعلوم أن كل ما هو آت قريب، والله أخبر عن أمر الساعة أنه كلمح البصر أو هو أقرب، وأن هذه الدنيا قصيرة، وسريعة الانقضاء، والزوال.
والمعنى الثاني المتبادر والأشهر، وهو الذي عليه كثير من المفسرين، وهو اختيار ابن جرير الطبري - رحمه الله - أن ذلك الحساب لا يطول لكثرة الخلق الذين يحاسبهم الله، بخلاف حال المخلوقين، فإنهم إذا كثر ذلك عليهم فإن هذا يقتضي طول الوقت الذي تستغرقه تلك المحاسبة، والله لا يحتاج إلى إحصاء، وعد، وضبط بيدٍ، أو آلة، يضبط فيها هذا الحساب؛ فحساب النفوس جميعاً عنده سبحانه كحساب نفس واحدة، والله تعالى أعلم.
  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب قول الله: وعلم آدم الأسماء كلها (4250) (ج 4 / ص 1644) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار(2690) (ج 4 / ص 2070) واللفظ للبخاري.
  2. أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا (2688) (ج 4 / ص 2068).
  3. أخرجه الحاكم في المستدرك (3099) (ج 2 / ص 305).

مرات الإستماع: 0

"قوله: نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا يحتمل أن تكون (من) سببية، أي: لهم نصيب عند الله من أجل ما كسبوا من الحسنات."

أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا من، يعني بسبب الحسنات التي اكتسبوها باعتبار أن قوله: أُولَئِكَ الإشارة يرجع إلى الفريق الثاني الذي يدعو بالحسنتين: في الدنيا، وفي الآخرة، وهذا اختيار ابن جرير[1] ويدل عليه سبب النزول الذي ذكرته آنفًا، وبعضهم يقول: يرجع إلى الفريقين.  والأول أقرب - والله أعلم -.

أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا يعني من الحسنات التي اكتسبوها، والنصيب على هذا الثواب. 

قوله: وأن تكون لبيان الجنس، أي: لهم نصيب من الحسنات التي اكتسبوها، والنصيب على هذا الثواب.

لأن (من) تحتمل هذين المعنيين، تكون سببية، وأن تكون بيانية.

"قوله: سَرِيعُ الْحِسابِ فيه وجهان؛ أحدهما: أن يراد به سرعة مجيء يوم القيامة."

وهذا قال به بعض السلف: كمقاتل بن حيان سَرِيعُ الْحِسَابِ سرعة مجيء الحساب الذي استبطؤه، واستعجلوا به.

"قوله: والآخر أن يراد به سرعة وقوع الحساب يوم القيامة؛ لأن الله لا يحتاج إلى مدة، ولا فكرة."

لا يحتاج إلى مدة يعني وقت للحساب فهو سريع الحساب، ولا فكرة يعني لا يحتاج إلى تفكير كما هو الحاصل بالنسبة للمخلوق، فيكون ذلك باعتبار أن حسابه سريع لا يحتاج إلى عد، وإحصاء على كثرة العباد، وكثرة الأعمال، ولا يحتاج إلى آلة، ويحاسب الجميع كنفس واحدة على كثرتهم، هذا المعنى هو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[2].

"قوله: وقيل لعليّ : كيف يحاسب الله الناس على كثرتهم؟ قال كما يرزقهم على كثرتهم."

وهذا على معنى أنه سريع الحساب بمعنى لا يحتاج إلى عد، ووقت أي مدة طويلة. 

  1. تفسير الطبري (3/ 548).
  2. المصدر السابق (5/ 285).

مرات الإستماع: 0

لما أمر الله -تبارك وتعالى- الناس إذا أفاضوا من عرفة أن يذكروه هناك، عند المشعر الحرام، على هداهم، أرشدهم بعد ذلك إلى الإكثار من ذكره، مع توجيههم فيما ينبغي عند السؤال والدعاء والطلب، فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ۝ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۝ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:200-202].

فقوله: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فالقضاء هنا بمعنى الإتمام والفراغ من الشيء، فإن القضاء يأتي لمعانٍ متعددة منها الفراغ من العبادة، كما في هذا الموضع، والمعنى: إذا فرغتم من أعمال الحج، فأكثروا من ذكر الله، والثناء عليه كذكركم مفاخر الآباء، بل أعظم من ذلك.

ثم ذكر أحوال الناس في سؤالهم ورغبتهم وطلبهم من الله -تبارك وتعالى، فذكر الصنف الأول: الذين لا همة لهم إلا هذه الدنيا، وما فيها من الحطام الفاني، فقال: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [سورة البقرة:200] يدعو بأمور تحصل له في هذه الحياة، من صحة ومال وولد، ونحو ذلك، وليس له في الآخرة حظ ولا نصيب عند الله -تبارك وتعالى؛ لأنه لا يطلبها، ولا يعمل من أجلها، ولا يرجوها، وإنما قد قصر همته على هذه الدنيا، وما فيها.

وذكر الصنف الآخر: فقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [سورة البقرة:201] يعني: عافيةً، ورزقًا، وعلمًا نافعًا، وعملاً صالحًا، وولدًا، فيسألون ربهم -تبارك وتعالى- من الخيرات الدينية والدنيوية، ويسألون الحسنة في الآخرة، فالحسنة في الدنيا تشمل الرزق والولد والعمل النافع، وما إلى ذلك، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وهي الجنة، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] أي: اصرف عنا عذب النار، وهذا الدعاء هو من أجمع الدعاء، كما هو معلوم؛ ولهذا كان أكثر دعاء النبي ﷺ كما في الصحيحين[1].

أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [سورة البقرة:202] أي: أولئك الداعون بهذا الدعاء لهم ثواب عظيم، بسبب ما كسبوه من الأعمال الصالحة أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا هذه الآية التي يعملونها، والرغبة إلى الله -تبارك وتعالى- والجد والاجتهاد وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:202] فهو يحصي أعمال العباد، ويجازيهم عليها، من حاجة إلى عد وحسب وأعوان، أو إلى زمان طويل لكثرة الخلق، وكثرة أعمالهم.

ويُؤخذ من هذه الآيات من الهدايات فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ يعني بعد التحلل من النسك فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ كيف يكون ذكر الآباء؟ جاء عن عطاء -رحمه الله- يقول: هذا كقول الصبي: أبه، أمه[2]، يعني حينما يلهج الصغير الطفل باسم أبيه، واسم أمه، فهو يردد ذلك على لسانه، من غير أن يكل، أو يمل، يعني كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه، فكذلك أنتم فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك.

وكذلك أيضًا ما قاله جمع من أهل العلم من أن المراد فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أي: كما تذكرونهم في الموسم في منى بعد انصرافكم من عرفة ومزدلفة، تتفاخرون بالآباء، وتذكرون مآثر الأجداد، فينبغي أن يكون ذكر الله -تبارك وتعالى- أعظم من ذلك، فهذه مواطن لا ينبغي أن يُشتغل فيها بذكر أحد من الناس، سوى الله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه.

فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ فهذا وغيره يدل على أن الذكر هو لب الحج، فإن الحج وأعمال الحج، كما جاء عن النبي ﷺ في الطواف والسعي ورمي الجمار، ونحو ذلك إنما شرعت لإقامة ذكر الله -تبارك وتعالى، وكما في قوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:203] وفي قوله: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [سورة الحج:28] قيل: هي العشر من ذي الحجة، والمعدودات هي أيام التشريق، وقد سئل النبي ﷺ: أي الحج أفضل؟ قال: العج والثج[3] والعج: هو رفع الصوت بالتلبية، والثج: هو نحر البدن، وذبح الهدي، فهذا أفضل الحج، كما صح عن النبي ﷺ.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: الأمر بالذكر عند انقضاء النسك فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فكما ذكرنا في شرح الأذكار أن العبادات تنقضي، والحج له منتهى، وأعماله محدودة، ولكن الذكر لا ينقضي، فالذكر على الدوام، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ فالفاء تدل على التعقيب والمباشرة، فلا توقف ولا انقطاع ولا غفلة، وإنما هو ذكر دائم مستمر؛ ولهذا لم يرد في شيء من العبادات الأمر بشيء منها مقترنًا بالكثرة إلا الذكر فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝  وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [سورة الأحزاب:41، 42]، وقال: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [سورة الأحزاب:35] وهكذا في نصوص معروفة كثيرة، ذكرنا طرفًا منها في الكلام على شرح الأذكار.

 ويُؤخذ من هذه الآية: كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ هم يذكرون الآباء وإن علوا، يعني من الأجداد، فكل هؤلاء يقال له: أب، فالجد يقال له: أب، فذكرت هذه الآية الآباء مع أن ذلك يصدق على الآباء وإن علوا يعني الأجداد، فالجد والد، بل يقال للعم أب أيضًا.

ويُؤخذ من هذه الآية فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا أن الناس ليسوا في الطاعة سواء، فمن الناس من ليس له هم إلا الدنيا، فهو يعمل من أجلها، حتى لو قام بشيء من العبادات، فهو يطلب عائدتها الدنيوية، كما ذكرنا من قبل، فهو إن صام ليصح، وإن زكى من أجل أن ينمو ماله، وإن كان في صلة رحم فذلك من أجل أن ينسأ له في أثره، وهكذا في سائر أعماله، فهذا الذي ليس له هم إلا الدنيا لا يفرق بين هوىً يرديه، وصالح يقيمه، كما يقول الأستاذ محمد أبو زهرة -رحمه الله[4].

ولما أمر بالذكر قال: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [سورة البقرة:200] فقرن الذكر بالدعاء، كأنه يشير إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا [سورة البقرة:200] فذكر سؤال وطلبًا، فهذا الداعي الذي يسأل ويطلب لا شك أنه ذاكر، وقد ذكرنا في الكلام على الأذكار أن الذكر يشمل الأنواع الثلاثة: الذكر الذي هو اللهج باللسان بالتكبير والتهليل والتحميد والثناء والتمجيد، ونحو ذلك، وكذلك أيضًا السؤال والدعاء والطلب، رب اغفر لي، وارحمني، ونحو ذلك، فهذا من الذكر، وكذلك أيضًا الذكر بالجوارح، فتشتغل الجوارح بطاعة الله ، فهنا قرن بين الذكر والدعاء، فالداعي حينما يطلب حاجة فإنه يستحضر ذلك بقلبه ويقصده؛ ولذلك هنا ابتدأ بالذكر فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ والذكر هو مقدمة للسؤال والدعاء، وكما ذكرنا في الكلام على الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] فهذا حمد، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:3] هذا ثناء؛ لأنه ثنى ذلك، فذكره ثانية، فهذا إعادة الحمد ثانيًا يقال له: الثناء، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:3-4] هذا التمجيد، والتمجيد يعني الكثرة بأوصاف الكمال ونحو ذلك، فهنا الذكر مقدمة للسؤال والدعاء، وكل ذلك يقال له: ذكر.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ [سورة البقرة:201] هنا ذكر الصنف الثاني، يعني الصنف الأول: وهم المفاليس في الآخرة، وهم من يقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [سورة البقرة:200] يعني ليس له نصيب عند الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه لا يطلبها، ولا يعمل من أجلها، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] فمثل هذا هو الكمال؛ لأن العبد لا غنى له عن ربه بحال من الأحوال، فهو بحاجة إلى أن يسأله مطالبه الدينية والدنيوية والأخروية، فموسى سأل أجل الأشياء فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:143] وسأل أقل الأشياء، فقال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [سورة القصص:24] يعني كان بحاجة إلى طعام، ونحو ذلك، ومأوى، فعرَّض بالسؤال بعد أن سقى للمرأتين، كما قص الله -تبارك وتعالى- خبره في ذلك، فنحن نسأل أجل الأشياء، وهي خيرات الآخرة، وأقل الأشياء من أمور الدنيا، فنقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

يقول ثابت البناني -رحمه الله: أنه قال لأنس -رضي الله عنه: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم، فقال: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، فأعاد عليه ثابت، يعني يريد سؤالاً فيه تفصيل، فقال: تريدون أن أشقق لكم الأمور، إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقاكم عذاب النار، فقد آتاكم الخير كله[5].

ولهذا أنكر من أنكر من الصحابة والسلف على من كان يتكلف في الدعاء، يقول مثلاً: اللهم ارزقني القصر الأبيض عن يمين الجنة، يقول: يا بني سل الله الجنة، واستعذ به من النار، فإذا دخل الإنسان الجنة فعند ذلك يجد فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهذا التكلف الذي أولع به كثير من الأئمة في قنوتهم في صلاة التراويح، ونحو ذلك، فمثل هذا لا يشرع، وإنما يُدعا بالجوامع من الكلم، مما جاء في كتاب الله، أو سنة رسول الله ﷺ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً [سورة البقرة:201] هذا يدل على أن الإسلام لا يُعطل الدنيا، ولا يطلب من أتباعه أن يشتغلوا بالآخرة مع تعطيل الدنيا، ولكن يستعينون بالدنيا في سفرهم وسيرهم إلى الله -تبارك وتعالى، فلا بد لهم منها؛ لأنها موضع المعاش، فهي مرحلة إلى الآخرة، ويبالغ من يبالغ في الجانب الآخر، فيرون أن الاشتغال في عمارة الدنيا، وعمارة الأرض أنه هو المطلب، وأنه هو الذي ينبغي أن توجه إليه الهمم، وهذا غلط، فالله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56].

فيأخذ الإنسان من هذه الحياة الدنيا ما يبلغهم، وما يكون به قوتهم، وما يحصل به استغناؤهم عن أعدائهم، وما تتحقق به مصالحهم، فيكون هؤلاء قد عمروا الدنيا، لكن على منهاج الله -تبارك وتعالى- وفق شريعته، عمارة لا تشغلهم عن الآخرة، ولا تنسيهم هذا السفر والسير إلى الله -تبارك وتعالى، فإن الناس يصيرون إليه ولا بد، وإنما هو خروج هذه النفس من الجسد، فإذا خرجت فعند ذلك يعاين الإنسان حقائق لم يكن يشاهدها، ولكنها وصفت له، وأخبر عنها، وتزول عنه حُجب كثيرة من أمور الغيب، فلا يبقى الإنسان محصورًا بين أسوار هذه الحياة الدنيا الضيقة المادية، وإنما ينظر إلى ما وراء هذه الحياة، من الحياة الأبدية السرمدية، حيث النعيم المقيم، والجنات والأنهار والقصور والحور والعين والسعادة التي لا يخالطها شقاء، ولا مرض ولا علل، ولا أوصاب، ولا هم ولا تعب، وإنما هي راحة مستديمة، أو الشقاء، نسأل الله العافية في تلك الدار، دار البوار، حيث لا راحة معها أبدًا.

كل ذلك نتائج المزاولات والأعمال والعقائد في هذه الحياة الدنيا، والعاقل من لم يشتغل بها عن الآخرة، ولكنه يعمل ويجد ويجتهد، ولكن يكون همه وسعيه الأبلغ هو طلب ما عند الله -تبارك وتعالى، فهؤلاء الذين يقولون: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۝ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:201، 202] فهؤلاء هم الذين يعطون الجزاء الأوفى، وهؤلاء هم الذين يجدون نتائج الأعمال الصالحة من الجنات، والنعيم المقيم.

وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ هذا فيه إثبات صفة السرعة لله ، وقد قيل لعلي : كيف يحاسب الله الناس على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم[6]، لو أن أحدًا يعطي خلقًا كثيرًا أرزاقًا أو أموالاً أو طعامًا فيحتاج إلى وقت، وربما يأتي اليوم الثاني وما أعطى كثيرًا منهم، وما وصل إليهم، ولكن الله -تبارك وتعالى- يرزق الناس كنفس واحدة، وهكذا يحاسبهم على أعمالهم كنفس واحدة، فهذه الآية تقرر هذه المفاهيم، والأصول الكبار، والمطالب العالية، فالعبد يستحي أن يشتغل في دعائه بطلب الدنيا دون ذكر الآخرة، يقول: يا رب ارزقني، يا رب أعطني في الدنيا، يا رب يسر لي كذا من المطالب الدنيوية، ولا يسأل شيئًا من المطالب الأخروية، هذا لا يليق بحال من الأحوال، فكيف لو أنه سخر عمله الصالح من أجل مطالب دنيوية، فهو يقرأ القرآن من أجل بركته، وهو يتصدق من أجل أن يدفع عن نفسه البلاء مثلاً، أو نحو ذلك، فهذا يكون على سبيل التبع لا إشكال، لكن أن يكون بالقصد الأول ولا يريد إلا هذا، فهذا غلط، لا يصح أن تستغل العبادات، وتعمل الطاعات من أجل مطالب دنيوية فقط، فإذا كان هذا لا يليق في باب الدعاء أن تفرد الدنيا فقط، ولا تُسأل الآخرة، فكيف بالعمل والطاعة التي شرَّعها الله ليتقرب إليه بها من أجل أمور عاجلة متقضية.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب قول النبي ﷺ: ربنا آتنا في الدنيا حسنة برقم: (6389) ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا، برقم: (2690).
  2. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (4/ 198).
  3. سنن الترمذي في أبواب الحج باب ما جاء في فضل التلبية والنحر (827) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1101).
  4. زهرة التفاسير (2/ 627).
  5. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/ 614).
  6. تفسير ابن جزي = التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 116).