الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
وَٱذْكُرُوا۟ ٱللَّهَ فِىٓ أَيَّامٍ مَّعْدُودَٰتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ ۗ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة البقرة:203].
قال ابن عباس - ا -: "الأيام المعدودات" أيام التشريق، و"الأيام المعلومات" أيام العَشْر، وقال عكرمة: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ يعني التكبير في أيامَ التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر، الله أكبر".
هذا القول بأن الأيام المعلومات هي أيام العشر، والمعدودات هي أيام التشريق هو الذي عليه السواد الأعظم، وهو يشبه الإجماع، وإن وجد من خالف في ذلك باعتبار أن الله قال: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [سورة الحج:28]، فقالوا: إنما يكون ذلك في أيام الذبح والنحر ابتداءً من يوم النحر وثلاثة أيام بعده - على خلاف في العدد - فقالوا: هذه قرينة تدل على أن الأيام المعلومات أيضاً هي تلك الأيام، وهذا القول فيه نظر؛ لأن الله يقول: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203] وهذا دليل واضح أن المراد بهذه الأيام أيام التشريق إذ لا تعجل في أيام العشر، ولأن ذِكر اسمه - تبارك وتعالى - على ما رزق من بهيمة الأنعام لا يعني أنها أيام ذبح، وأنها هي المقصودة، ولكن الناس يذكرونه في تلك الأيام التي هي مقدمة لأيام أخرى شريفة منها أعظم يوم عند الله وهو يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر على قول كثير من أهل العلم وهو الراجح، ثم أيام التشريق التي تأتي بعد يوم النحر، وهي أيضاً أيام عيد، ثم إن كثيراً من الذين جاءوا للحج هم ممن يسوقون الهدي فناسب ذلك ذكر بهيمة الأنعام عند الحديث عن أيام العشر فهي إذن الأيام المعلومات، والله أعلم.
قوله: قال عكرمة: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ [(203) سورة البقرة] يعني التكبير في أيامَ التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر، الله أكبر، هذا ورد عن جماعة من الصحابة وعن التابعين أن الذكر في هذه الأيام المعدودات يكون بالتكبير الذي بعد الصلوات، وهو الذي يسميه الفقهاء التكبير المقيد، ويكاد يتفق هؤلاء الفقهاء - رحمهم الله - على أن هذا التكبير المقيد يكون في الأيام المعدودات، وإن اختلفوا في ابتدائه هل يكون من فجر يوم عرفة، أو من يوم النحر أو غير ذلك، فهم مختلفون في هذا كثيراً، ولكنهم يكادون أن يتفقوا على أن ذلك التكبير يكون بعد الصلوات في أيام التشريق، ولا يعني هذا أنه يكبر بعد الصلوات، ولا يكبر باقي الوقت، بل يكبر مطلقاً أيضاً؛ لأنها أيام أكل، وشرب، وذكر لله تعالى، وإذا ذكروا التكبير الذي ذكره الله في الأيام المعلومات التي هي أيام العشر لا يذكرون أن ذلك يكون بعد الصلاة، ولذلك قال الفقهاء - رحمهم الله - عن هذا التكبير: إنه التكبير المطلق، وهذه المسألة وإن لم يوجد فيها نص صريح يحدد ذلك بدقة إلا أنّ تتبع مثل هذه الآثار ربما يكون مستنداً لهذا التفريق بين التكبير المطلق والتكبير المقيد، والله أعلم.
"وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ: يوم عَرَفة، ويوم النحر، وأيام التشريق؛ عيدُنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل، وشرب[1]، وروى أحمد أيضًا عن نُبَيشة الهذلي قال: قال رسول الله ﷺ: أيام التشريق أيامُ أكل، وشرب، وذكر الله ورواه مسلم أيضًا[2].
وتقدم حديث جبير بن مطعم : عَرَفَة كلها موقف، وأيام التشريق كلها ذبح.
وتقدم أيضًا حديث عبد الرحمن بن يَعْمَر الدِّيلي : وأيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه[3].
وروى ابن جرير عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: أيام التشريق أيام طُعْم، وذكر الله[4].
وروى ابن جرير أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ بعث عبد الله بن حُذافة يطوف في منى: لا تصوموا هذه الأيام؛ فإنها أيام أكل، وشرب، وذكر الله [5].
وقال مِقْسَم عن ابن عباس - ا -: "الأيام المعدودات أيام التشريق أربعة أيام، يوم النحر، وثلاثة بعده".
ورُوي عن ابن عمر، وابن الزبير، وأبي موسى وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، وأبي مالك، وإبراهيم النخَعي، ويحيى بن أبي كثير، والحسن، وقتادة، والسدي، والزهري، والربيع بن أنس، والضحاك، ومقاتل بن حيّان، وعطاء الخرساني، ومالك بن أنس وغيرهم مثل ذلك.
وعليه دل ظاهر الآية الكريمة حيث قال: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203] فدل على ثلاثة بعد النحر."
المشهور الذي عليه عامة أهل العلم أن أيام التشريق التي هي أيام الذبح والذكر هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، أي أنها تنتهي بغروب شمس اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، وفي كلها يكون الذبح سواء في ليلها أو نهارها لا فرق، وإنْ فرّق بعض أهل العلم إلا أن هذا هو الذي عليه عامة أهل العلم، وهو الذي تدل عليه الأدلة، والله أعلم.
"ويتعلق بقوله: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:203] ذكْرُ الله على الأضاحي، والذكر المؤقَّت خلف الصلوات، والمطلق في سائر الأحوال، ويتعلق بذلك أيضاً التكبيرُ، وذكر الله عند رمي الجمرات كلّ يوم من أيام التشريق، وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله [6]"يقصد بهذا أن أيام التشريق يجتمع فيها الذكر المطلق في كل وقت، والذكر المقيد أدبار الصلوات، وقد جاء عن عمر أنه كان يكبر بقبته بمنى، فيكبر الناس.
"ولما ذكر الله تعالى النَّفْر الأول، والثاني، وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى سائر الأقاليم والآفاق بعد اجتماعهم في المشاعر، والمواقف قال: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة البقرة:203] كما قال: وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة المؤمنون:79]."هذا نوع من وجه المناسبة بين موضوع الآية وخاتمة الآية، فتارة تكون فيما يتعلق بالمذكور في آخرها من الأسماء الحسنى مثل: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة المائدة:38]، فالمناسبة بذكر هذين الاسمين من بين سائر الأسماء ظاهرة، لكن إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118]، المناسبة هنا تحتاج إلى استنباط.
ومن هذه المناسبات التي بين موضوع الآية وخاتمتها هذا المثال، فهنا ذكر النفْر فقال: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [سورة البقرة:203]، ثم قال: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة البقرة:203]، فوجه المناسبة أن الله ذكّرهم بتقواه مع شيء من الوعيد والتهديد غير الصريح حيث قال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فإنه إذا علم أنه سيحشر إلى الله - تبارك وتعالى - خاف، واستعد لذلك الحشر، فالله تعالى ذكر هذا الحشر بعد ذكر التفرق، فهم ينفرون بعد حجهم من كل وجه فيتفرقون في أرض الله، فناسب ذكر الحشر بعده.
قوله سبحانه: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203]: التعجل إنما يكون في يوم ونصف؛ لأنه ينفر بعد أن يرمي في اليوم الثاني عشر بعد الزوال، والعرب تكمل الكسر وبقية اليوم، أو العام، أو الشهر، أو الأسبوع، فذكر الله اليومين هنا من هذا الباب، والله أعلم.
وبالنسبة لنفي الله للإثم في الموضعين حين قال: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فإن بعض أهل العلم يقول: إن من العرب من كان يعتقد أن التعجل أمر مذموم، ومنهم من كان يعتقد أن التأخر أمر مذموم، فالله بيَّن بطلان ذلك الاعتقاد، وأن التعجل لا إشكال فيه، وأن التأخر لا إشكال فيه، ولهذا قال: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203]، فبعد أن كان المتبادر أنه من يتعجل لا إثم عليه لئلا يتوهم أن عمله ناقص؛ ذكر أن الذي يتأخر لا إثم عليه؛ وتبين أن السبب هي هذه العلة التي ذكرها أهل العلم، والله تعالى أعلم.
وفي قوله: وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [سورة البقرة:203] من أهل العلم من يقول: إن النفي في قوله: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ المقصود به أن ذنوبه تغسل جميعاً في حجته هذه، وليس المقصود فلا إثم عليه في تأخره، وتعجله، وبهذا القول لا نحتاج إلى جواب عن نفي الإثم مع التعجل والتأخر؛ لأنه على هذا القول الذي اختاره ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وقال به جماعة من السلف يكون المعنى أن هذا الإنسان الذي حج واتقى الله في حجه قد حُطت ذنوبه، فهو إن تعجل في يومين فلا إثم عليه؛ فقد حُطت ذنوبه، وإن تأخر فلا إثم عليه؛ لأن ذنوبه قد حُطت؛ فقد قال النبي ﷺ: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[7]) وقال - عليه الصلاة والسلام -: من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه[8] وبالتالي لا إشكال في نفي الإثم في التأخر، والتعجل؛ لأن المقصود حطُّ الخطايا والذنوب جزاءً للحج المبرور لمن اتقى فلم يرفث، ولم يفسق في حجه ذلك.
ويمكن أن يقال: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إن كان متقياً لله في تعجله، وتأخره، وهذا معنى قريب جداً، ومتبادر، ولا يبعد أن يكون هو المراد بالآية، فذلك سائغ، وإن كان التأخر أفضل، وهو لا يعارض قول من قال: إن من العرب من كان يتوهم أن التعجل غير محمود، أو أن التأخر غير محمود؛ فيمكن أن تجمع بين هذا وهذا، لكنه قول يختلف عن قول ابن جرير - رحمه الله -.
ويكون الإنسان محصلاً لهذا المعنى بحيث يكون متعجلاً لم يتق الله إن حمله تعجله على تعدي حدود الله كأن يرمي قبل الزوال، فهذا لم يتق، وعليه إثم، ورميه قبل الزوال لا يجزئه، ومثله من حمله تعجله على تضييع الرَّمل مثلاً، ومن ذلك ما يقع من بعض الناس حيث يوكل من يرمي عنه، ويذهب بحُجة أن عنده حجزاً في الطائرة، ويوجد في الشباب - وللأسف الشديد - من يفتيه، ويقول له: الشريعة جاءت بنفي الحرج، فاذهب ولا إشكال عليك، والحقيقة أن هذا تلاعب بالحج، وإلا فلماذا الحجز في ذلك الوقت الضيق، ومعلوم أن للحج رمياً في اليوم الثاني عشر، فلماذا هذا العبث الذي نسمعه، والفتاوى العجيبة الغريبة.
فالمقصود أن هذا من التعجل الذي لم تصاحبه تقوى الله تعالى، ومن حاله كهذا فقد لا يسلم من الإثم، فيجب على المسلم أن يتقي الله في تعجله إن تعجل.
ويكون الإنسان محصلاً لمعنى التأخر مع الإثم إذا حمله تأخره على معصية الله  أيضاً، ومن صور ذلك أن منطقة منى تكون قد خلت من الناس، ولم يبق فيها إلا أناس قليل؛ فربما يجترئ بعض من يتأخر على بعض الأمور السيئة كملاحقة النساء، وأمور أخرى غير لائقة، إضافة إلى أنه قد يستطيل مدة المكث فربما يحصل له من الانبساط مع قلة الزحام فيقع في أمور من المخالفات، والمحرمات؛ من غيبة، وتهكم بالناس، وتعليق وما أشبه ذلك، والخلاصة أن من تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى، ومن تأخر بلا إثم فهو أفضل ممن تعجَّل.
  1. أخرجه أبو داود في كتاب الصوم - باب صيام أيام التشريق (2421) (ج 2 / ص 295) والترمذي في كتاب الصوم -  باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق  (773) (ج 3 / ص 143) والنسائي في كتاب مناسك الحج - باب  النهي عن صوم يوم عرفة (3004) (ج 5 / ص 252) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2419).
  2. أخرجه مسلم دون قوله: وذكر الله في كتاب الصيام - باب تحريم صوم أيام التشريق (2421) (ج 2 / ص 295) وأحمد (20741) (ج 5 / ص 75) واللفظ له.
  3. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك - باب مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ (1951) (ج 2 / ص 141) والترمذي في كتاب الحج عن رسول الله ﷺ - باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889) (ج 3 / ص 237) والنسائي في كتاب مناسك الحج - باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة (3044) (ج 5 / ص 264) وابن ماجه في كتاب المناسك - باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015) (ج 2 / ص 1003) وصححه العلامة الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2714 ).
  4. أخرجه أحمد (7134) (ج 2 / ص 229) وقال شعيب الأرنؤوط: "صحيح لغيره وهذا إسناد حسن ".
  5. أخرجه أحمد (10674) (ج 2 / ص 513) وقال شعيب الأرنؤوط: "صحيح وهذا إسناد ضعيف لضعف صالح بن أبي الأخضر".
  6. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك - باب فِي الرَّمَلِ (1890) (ج 2 / ص 118) وأحمد (24396) (ج 6 / ص 64) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (2056).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب وجوب العمرة وفضلها (1683) (ج 2 / ص 629) ومسلم في كتاب الحج - باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349) (ج 2 / ص 983).
  8. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب قول الله تعالى: فلا رفث (1723) (ج 2 / ص 645) ومسلم في كتاب الحج - باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1350) (ج 2 / ص 983).

مرات الإستماع: 0

"قوله: فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ ثلاثة بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، والذكر فيها: التكبير في أدبار الصلوات، وعند رمي الجمار، وغير ذلك."

هذه الأيام المعدودات باعتبار أنها ثلاثة أيام بعد يوم النحر يعني أيام التشريق، وهذا نقل عليه الماوردي[1] والقرطبي[2] الإجماع، فهذه هي الأيام المعدودات بالاتفاق؛ لأن الله - تبارك، وتعالى - قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وهذا لا يكون إلا في أيام التشريق قطعًا، وفي الحديث: وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه[3].

قال: والذكر فيها التكبير في أدبار الصلوات. يعني الذكر المقيد، وعند رمي الجمار، وغير ذلك يعني ذبح الهدي، والأضاحي، كذلك الذكر المطلق في سائر الأحوال، وفي الحديث: إنما جُعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا، والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله [4] وأيام التشريق كما قال النبي ﷺ: أيام أكل، وشرب، وذكر لله [5] فيكثر من الذكر فيها، فالعبد مأمور بالذكر مطلقًا في كل أحواله، وفي كل الأوقات، ولكنه يتأكد بأوقات مخصوصة، وأحوال مخصوصة كالحج.

"قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ أي: انصرف في اليوم الثاني من أيام التشريق.

وَمَنْ تَأَخَّرَ إلى اليوم الثالث فرمى فيه بقية الجمار، وأما المتعجل، فقيل: يترك رمي الجمار اليوم الثالث، وقيل: يقدمها في اليوم الثاني."

يسقط عنه الرمي إذا تعجل خرج قبل غروب الشمس من اليوم الثاني عشر فلا يعجل الرمي، وإن قال بذلك بعض الفقهاء، ولكنه يسقط عنه كما يسقط عنه المبيت.

"قوله تعالى: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في الموضعين، قيل: إنه إباحة للتعجل، والتأخر، وقيل: إنه إخبار عن غفران الإثم، وهو الذنب للحاج، سواء تعجل، أو تأخر."

يعني هنا نفي الإثم فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لاحظ يعني لو أنه ذُكر نفي الإثم مع التعجل لفُهم منه أن ذلك لا حرج فيه، ولا يحصل له بسبب ذلك إثم، أو تبعة لكونه قد تعجل، فترك المبيت ليلة الثالث عشر، وترك رمي الجمار في ذلك اليوم، أن الحرج مرفوع، لكن قال: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فما وجه نفي الإثم في الحالتين؟ يعني حتى مع التأخر مع أنه فيه زيادة عمل، وموافقة لفعل النبي ﷺ حيث تأخر، قال: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فهذا هو موضع الإشكال، أو السؤال، يقول: قيل: إنه إباحة للتعجل، والتأخر. يعني لا حرج عليه في الأمرين، أن هذا هو المقصود: رفع الحرج، وقيل: إنه إخبار عن غفران الإثم، فهو الذنب للحاج سواء تعجل، أو تأخر.  وهذا قال به كثير من السلف، وقال بعضهم: عُبّر بنفي الإثم لأن بعض العرب كانوا يذمون التعجل، وأن بعضهم كان يذم التأخر فجاءت الآية مبينة لكون ذلك جميعًا مما لا إثم فيه، ولا يُذم فاعله، بهذا الاعتبار، وحمل أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - نفي الإثم بمغفرة ذنوب العبد الذي اتقى الله في حجه[6] يعني فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى فهذا محمله إلى ما ذهب إليه كثير من السلف بمعنى أن ذلك بمعنى غفران ذنوب الحاج سواء تأخر، أو تعجل، والنبي ﷺ يقول: من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم، ولدته أمه[7] يعني سواء تعجل، أو تأخر.

"قوله تعالى: لِمَنِ اتَّقى أما على القول بأن معنى: (فلا إثم عليه) الإباحة، فالمعنى: أن الإباحة في التعجيل، والتأخر لمن اتقى أن يأثم فيهما، فقد أبيح له ذلك من غير إثم، وأما على القول: بأن معنى (فلا إثم عليه) إخبار بغفران الذنوب، فالمعنى أن الغفران إنما هو لمن اتقى الله في حجه؛ كقوله ﷺ: من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق: خرج من ذنوبه كيوم، ولدته أمه فاللام متعلقة إما بالغفران، أو بالإباحة المفهومين من الآية."

يعني على الاحتمالين فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني إذا اتقى الله على المعنى الأول في تعجله، واتقى الله في تأخره، كيف يكون التقوى في التعجل إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] يعني في هذا العمل الذي عملوه، فقد يتعجل، ويؤذي الناس، ويؤذي نفسه، ويؤذي من معه، ويعرض نفسه للهلاك في رمي الجمار، والمشقات غير المحتملة في مزاحمة الناس عند الطواف، والذهاب إلى الحرم في الظهر بعد الزوال يرمي، ثم بعد ذلك يركب الأخطار من أجل أن يدرك، ويخرج من منى، ثم يطوف فهذا إن كان يؤدي إلى أذى فلا يجوز لِمَنِ اتَّقَى فبعض الناس قد يُفسد عمله، وأجره لما يصدر عنه من أذى الناس، ولربما باليد، أو باللسان، والشتم، ونحو ذلك.

وأما التأخر فلا إثم عليه، فقد يتأخر، ويتفرغ، وتكون منى قد ذهب أكثر الناس منها خالية، فكثير من الناس في مثل هذه الحالات، أو بعض الناس لربما يصدر عنه ما لا يليق من التجول هنا، وهناك، تتبع النساء، والنظر إلى الحرام، والكلام غير اللائق، وهذا موجود منذ عهود بعيدة، الشاعر الذي يقول:

مَا نَلْتَقِي إِلَّا ثَلَاثَ مِنَى حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا النَّفْرُ

يعني مع محبوبته

بدَا لِي منها معصمٌ يوم جَمَّرت وكفٌّ خضيبٌ زُيِّنت ببنانِ
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميتَ الجمرَ أم بثمانِ[8]

يعني هذا يتكلم عن مشاهدته اليد التي فُتن بها، وهي ترمي الجمار، ويقصد امرأة معينة كانت معروفة بالجمال فهي ترمي الجمار فرأى يدها، وهي مخضوبة بالحناء، فيقول:

فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميتَ الجمرَ أم بثمانِ

طاش عقله، وأشعارهم في هذا، وكلامهم فيه هؤلاء كثير، فمثل هذا قد يقعل لمن يتأخر لا سيما الرمي ليلًا، فأكثر النساء يرمين ليلًا فيأتي بعض ضعفاء النفوس، ويتتبع عورات الناس، ووجد في بعض الأزمنة غير البعيدة بعض الفسقة من الناس في ليلة الثالث عشر التأخر حيث تخلو منى، أو تكون شبه خالية يأتون معهم بالمعازف، ويحيون، أو يميتون تلك الليلة بضرب الدفوف، ونحو ذلك، وألوان الفسق، هذا موجود، ويعرفه الناس إلى عهد ليس بالبعيد مما يكون من بعض الفسقة، فهذا الذي تأخر! تأخر، وعصى الله، ولم يتقه، فتأخره مذموم، وقل مثل ذلك إذا كان يقضي ليلًا طويلًا في الكلام في الغيبة، وما أشبه ذلك، أو يكون ذلك على سبيل الرياء، والسمعة - والله المستعان -.

لِمَنِ اتَّقَى فالعبرة بالتقوى، ليست بكثرة العمل، وإنما بأن يتقي الله فيه، فقد يحج عشرات المرات، ولكن من غير تقوى لله فمثل هذا لربما كانت حجة واحدة بتقوى، أفضل من أربعين حجة من غير تقوى، بعض الناس يحج كل سنة، ويسابق إلى الحج، ولكنه يفعل في حجه أمورًا تخل بالنسك من التضييع، والتفريط بحدود الله فيه، وكذلك أيضًا ما يصدر عنه من السخرية من الناس، والتندر بهم، والجدال، والمخاصمة بالباطل، وإطلاق البصر، واللسان فيما لا يحل، وهكذا، فحجه محفوف بأنواع من المخالفات. 

  1.  - تفسير الماوردي (1/ 264).
  2.  - تفسير القرطبي (3/ 2).
  3.  - أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، برقم (1949) والترمذي، أبواب الحج عن رسول الله ﷺباب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، برقم (889) وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1703).
  4.  - أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب في الرمل، برقم (1888) وأحمد في المسند، برقم (24468) وقال محققوه: "إسناده حسن"، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، برقم (328).
  5.  - أخرجه أبو داود، كتاب الضحايا، باب في حبس لحوم الأضاحي، برقم (2813) والنسائي، كتاب الفرع، والعتيرة، تفسير العتيرة، برقم (4230) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2284).
  6.  - تفسير الطبري (3/ 568).
  7.  - أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، برقم (1521).
  8.  - انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/ 146).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في سياق ذكر آيات الحج: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة البقرة:203].

فقوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ أي: اذكروا الله بالتسبيح والتكبير والتهليل، وما إلى ذلك في تلك الأيام الفاضلة، وهي أيام التشريق الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشرة، من شهر ذي الحجة، فهي أيام أكل وشرب، وذكر لله -تبارك وتعالى، فمن أراد التعجل، وخرج من منى قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر، بعد رمي الجمار، فلا حرج عليه، ومن تأخر وبات بمنى حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، فلا حرج عليه، لِمَنِ اتَّقَى في عمله وحجه وتعجله، أو تأخره، مع أن التأخر أفضل؛ لأنه تزود بالعبادة، زيادة في العمل مشروعة، وكذلك فإن ذلك يكون اقتداءً بالنبي ﷺ؛ لأنه قد تأخر في حجه، كما هو معلوم، وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى، واتقوه في أعمالكم وأحوالكم كلها، واعلموا أنكم تحشرون إليه وحده بعد موتكم للحساب والجزاء، ولا يغادر منكم أحدًا.

ويُؤخذ من هذه الآية وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ أن هذه أيام وهي أيام التشريق يجتمع فيها لأهل الإيمان نعيم الأبدان بالأكل والشرب، وكذلك نعيم القلوب، بالذكر والشكر، ويكون بذلك تمام النعمة، كما يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى[1]، فيجتمع لهم هذا وهذا، يجتمع لهم قوت الأبدان، وما يقيمها، وتلتذ به، ويجتمع لهم قوت القلوب والأرواح، وما يحصل به حياتها وكمالها، من ذكر الله -تبارك وتعالى، وهكذا كلما أحدثوا شكرًا على نعمة من النعم، كان هذا الشكر نعمة أخرى تستدعي شكرًا آخر، وهكذا.

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فجاء الذكر في هذا الموضع كما جاء أيضًا في المواضع الأخرى التي أشرنا إليها، كما في قوله -تبارك وتعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [سورة البقرة:198] وقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ [سورة البقرة:199] فأمرهم بالاستغفار، وهنا قال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فالذكر متأكد في الحج، مع أنه مطلوب في كل حال.

وفي قوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فقال: (معدودات) للتقليل لعددها، فذلك يستدعي استثمارها، والحرص عليها، وليس أن يُتطاول الزمان فيها، فيبحث الناس عن شيء يقضونه به، بالتجول هنا وهناك، وتضيع الأوقات، وانتظار الوقت الذي يكون فيه انصرافهم على أي حال، وإنما هي أيام معدودات، فيحرص عليها المؤمن، ولا يفرط بشيء منها، فهي من أفضل الأيام عند الله -تبارك وتعالى

فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، فهنا أعاد فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ مع التأخر؛ لأنه ربما يظن الظان أن الحرج مرفوع عن المتعجل، لكن المتأخر قد بقي على أكمل الأحوال، فلماذا رُفع الحرج عنه؟

فيمكن أن يقال في هذا -والله -تبارك وتعالى- أعلم: إن التعجل والتأخر كما أشار الله -تبارك وتعالى- بعده: لِمَنِ اتَّقَى فقد يتعجل الإنسان ويضيع بعض أعمال الحج، أو يوقع ذلك في غير وقته، أو ربما تعجل فأدى به إلى الضرر الذي يلحقه، أو يلحق من معه من النساء والضعفة، أو ربما يلحق الآخرين لكونه يزاحمهم وهو قوي، فيحصل بسبب ذلك أذى للناس، فكل ذلك من أجل التعجل، فقد يخاصم، وقد يعارك من أجل أن يُدرك، وأن يصل قبل الآخرين، وأن يقضي ما بقي عليه من رمي وخروج من منى، ثم بعد ذلك طواف الوداع، أو إن كان عليه طواف الإفاضة، أو سعي الحج، فهذا التعجل أو هذا التأخر ينبغي أن يكون مقيدًا بتقوى الله -تبارك وتعالى، بمراعاة حدوده في أعمال الحج، وفي غيرها، وُجد من الناس قبل زمان من يتأخرون، ولكنهم يحييون ذلك التأخر، أو يميتونه بألوان من الملاهي والطرب، ونحو ذلك في ليلة الثالث عشر، إذا خرج الناس وتعجلوا بقي بعض الناس ربما عمد بعض السفهاء إلى شيء من اللهو وآلات الطرب والمعازف، وأين؟ في مشعر منى، وربما قام بعض السفهاء يحوم حول النساء عند الجمار، ونحو ذلك في تلك الليلة، ليلة الثالث عشر، وهذا كثير في أزمان متطاولة، وتجد ذلك في أشعارهم، وفي كلامهم، حتى قال بعضهم، وهذا قليل من كثير مما يقال:

بدا لي منها معصم حين جمّرت وكفّ خضيب زيّنت ببنانِ
فو الله ما أدري وإن كنت داريًا بسبع رميت الجمر أم بثمان[2]

فهذا ذهب إلى الحج، وينظر إلى كف هذه المرأة، ويتغزل بها، ونحو ذلك، وآخر يقول:

ما نلتقى إلا ثلاث منى حتى يفرّق بيننا النّفر[3]

فهو يقول: لا يجتمع مع معشوقته، أو محبوبته، إلا في ثلاث منى، يعني في الأيام الثلاثة، أيام منى، وهي أيام التشريق، حتى يفرق بيننا النفرُ، تذهب هي مع أهلها، ويذهب هو في سبيله، وفي هذا من الأخبار ما لا داعي ولا حاجة لذكره وإيراده من الشعر والنثر، فبعض السفهاء ربما لا يجد تلك الأعمال السيئة إلا في تلك المواطن، والبقاع الطاهرة.

فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إذا كان متقيًا لله -عز وجل- في هذا التعجل، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إذا كان متقيًا لله في هذا التأخر، فقد يتأخر ويكتسب وزرًا، أو يكون تأخره رياءً وسمعة، أو نحو ذلك، فهذا خلاف التقوى.

كما يُؤخذ من هذه الآية: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى أن العبرة ليست بطول الزمان الذي يقضيه الإنسان في النسك، وإنما العبرة بتقوى الله -تبارك وتعالى، فقد يذهب الإنسان من اليوم الأول من ذي الحجة إلى الحج، ويبقى إلى نهاية اليوم الثالث عشر من أيام التشريق، ولكنه على حال غير مرضية من نية وقصد فاسد، أو من أعمال فاسدة، وتضيع للفرائض والصلوات، وإطلاق البصر بالنظر في الرائحات والغاديات، وإطلاق اللسان بالغيبة والنميمة والسخرية من الناس والحجيج وأعمالهم، والتندر بهم، وبجهلهم، وممارساتهم، وذكر الطرائف في هذا، وما أشبهه، فمثل هذا لا يكون صاحبه متقيًا لله -تبارك وتعالى، وهذا أبعد ما يكون عن التقوى والإخبات، والحاج لا يكون كذلك، فالعبرة -أيها الأحبة- بالتقوى، وليست بكثرة العمل، ولا بطول زمانه.

ويُؤخذ من قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أن العبادات توقيفية، فالله -تبارك وتعالى- رفع الحرج عمن تأخر وعمن تعجل، فيتقيد بذلك بما حده الله -تبارك وتعالى، ولم يذكر من تعجل في يوم، فالذي يذهب في اليوم الأول من أيام التشريق، أو قبل ذلك كمن يذهب في يوم العيد، وبعضهم ربما ذهب وصلى العيد في بلده، وربما نقل هذا في بعض الوسائل وصوِّر، وهو في يوم العيد يصلي في بلده، وهو حاج، فهذا لا يصح بحال من الأحول.

فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فهذه هي الأفعال المخير بها، وهناك عبادات خير الله المكلَّف فيها، فذلك إلى المكلف، والقاعدة في هذا: أن التخيير إذا كان لأمر يعود إلى المكلَّف فذلك للتشهي، يعني يختار ما يشاء منها، لكن على ما حده الله ، مثل: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ [سورة المائدة:89] يختار الأصلح والأرفق به، ونحو ذلك، هذا في كفارة اليمين، وكذلك أيضًا في فدية الأذى، فهو مخير بين ثلاثة أشياء: إما أن يصوم ثلاثة أيام في أي مكان، أو يطعم ستة مساكين من فقراء الحرم، أو يذبح شاة، توزع على فقراء الحرم.

فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196] فهذا يرجع إلى المكلف، فيختار ما يلائمه ويناسبه، ويليق بحاله، وما هو أرفق به، لكن إذا كان التخيير لأمر يتعلق بالمصالح العامة، فهذا ليس للتشهي، وإنما يُنظر ما هو الأصلح للناس، كما قال الله -تبارك وتعالى- في المحاربين، وحد المحارب إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [سورة المائدة:33].

فالآية فيها كلام معروف لأهل العلم: هل هذا للتخيير أو أن ذلك بحسب الجنايات؟ فكل جناية لها جزاء من هذا، كما ذهب إلى ذلك الشافعي -رحمه الله- وجماعة، لكن على القول الأول: أنها للتخيير، وهو قول له وجه قوي من النظر، أن ذلك ليس للتشهي، وإنما بحسب المصلحة، فإذا كثر المحاربون والمفسدون فهنا يتعامل معهم بأقسى العقوبات: وهي الصلب، وقد تكون الحال تقتضي ما هو دون ذلك: وهو القتل، والصلب مع القتل، فهو يقتل ثم يصلب، فإن رأى الإمام أن الحال لا تقتضيه، فله أن ينفيهم من الأرض، فهذا يكون بحسب المصالح العامة، فهذه قاعدة معروفة.

وفي قوله: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى فإذا فعل الإنسان أحد هذه الأمور المخير فيها، وهو متقٍ لله -تبارك وتعالى- يكون قد أدى ما عليه، لكن إذا كان ذلك على سبيل التهاون والتفريط والتضييع، وعدم المبالاة فهذا لا يسلم فيه من التبعة.

وفي قوله: لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة البقرة:203] يذكر الحاج بآخرته لتكون حاضرة، فلما ذكر الله -تبارك وتعالى- النفر الأول والثاني، فالأول في الثاني عشر، والثاني في الثالث عشر، وتفرق الناس في موسم الحج إلى سائر الأقاليم والأفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف، قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تجتمعون يوم القيامة، كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله[4]، بمعنى أنه ربط وقرن بين هذا التفرق الذي يحصل في اليوم الأول من أيام النفر، وفي اليوم الثاني، والحشر يوم القيامة؛ وذلك أن هؤلاء الحجاج قد اجتمعوا باختيارهم في الموسم، والله -تبارك وتعالى- يحشرهم ويجمعهم بغير اختيارهم في الآخرة.

وكذلك أيضًا هؤلاء الذين ينصرفون وينفرون من كل وجه، لا يجتمعون أبدًا، ولا يستطيع أحد كائنًا من كان من البشر أن يجمعهم؛ لأن بعضهم يموت قبل أن يصل إلى بلده، وبعضهم يموت بعد أن يصل، لكنه لا يدرك موسم الحج الذي بعده، فلا يمكن لهؤلاء جميعًا أن يجتمعوا كما اجتمعوا في هذا العام، ولكن الله -تبارك وتعالى- على تفرقهم وعدم إمكان جمعهم من قبل أحد من المخلوقين قادر أن يجمعهم، فيُذكِّر بهذا النفر والتفرق، ويُذكِّر بالحشر يوم القيامة، فربط بين هذا وهذا، كما هي عادة القرآن، وَاتَّقُوا اللَّهَ بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم على أعمالكم، فمن اتقاه وجد جزاء التقوى عنده، ومن لم يتقه عاقبه أشد العقوبة، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فدل على أن العلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله -تبارك وتعالى؛ ولهذا أمرهم بالعلم به فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.

ونلحظ أن آيات الحج ختمت بالحشر والتذكير به، وسورة الحج اُبتدأت بالكلام على زلزلة الساعة إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [سورة الحج:1] وذلك أن الحج فيه شبه من الحشر والقيامة، فالناس يجتمعون في صعيد واحد في عرفة، وهكذا يسيرون جموعًا، كأنهم يساقون إلى محشرهم، فوجوه الشبه بين الحشر وبين الحج ظاهرة ومعلومة، وهذا التذكير أيضًا يدعو الحاج إلى تصحيح العمل، وتقوى الله، وتصحيح القصد والنية والإخبات والتواضع لله -تبارك وتعالى، والاشتغال بطاعته وذكره، وأداء النسك على الوجه المشروع، فالله سيحشر العباد ويجازيهم على أعمالهم.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة البقرة:203] الوعظ بالتخويف، فأمرهم بالتقوى، وَاتَّقُوا اللَّهَ ثم قال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وجاء في سورة الحج التأكيد على التقوى، وكثرة الذكر لله -تبارك وتعالى، فينبغي أن يعتني الحاج بذلك دائمًا، وليس الحاج فقط، بل ينبغي أن يكون المؤمن على هذه الحال، تقوى، مع كثرة ذكر الله -تبارك وتعالى، فلا يكون من الغافلين.

  1. تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 61).
  2. البيتان لعمر بن أبي ربيعَة في خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب للبغدادي (11/ 124).
  3. البيت للعرجي في الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء (ص:271).
  4. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 562).