الأربعاء 29 / شوّال / 1445 - 08 / مايو 2024
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُۥ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ۝ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ۝ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [سورة البقرة:204-207]: "قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، جاء إلى رسول الله ﷺ، وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك.
وعن ابن عباس - ا -: أنها نزلت في نفر من المنافقين، تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم، فأنزل الله في ذم المنافقين، ومدح خبيب وأصحابه، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ، وقيل بل ذلك عام في المنافقين كلهم، وفي المؤمنين كلهم، وهذا قول قتادة ومجاهد، والربيع بن أنس وغير واحد وهو الصحيح."
فالملاحظ في هذه الآيات أن الله قسم الناس فيها إلى فريقين متقابلين متناقضين، قال في الفريق الأول: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وقال في الفريق الآخر: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ، ولهذا ذهب كثير من المفسرين إلى أن الآية الأولى عامة في المنافقين، والآية الثانية عامة في المؤمنين، وما روى عن السدي أنها نزلت في مثل الأخنس بن شريق الذي أظهر الإسلام، وباطنه على الخلاف، ثم بعد ذلك قتل أناساً، وقتل حمراً، وأفسد حرثاً وما أشبه ذلك، فهذه الرواية عن السدي لا تصح؛ لأنها في حكم المرسل، وعلى افتراض صحتها فالعبرة كما يقول المفسرون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعليه فتحمل على كل من يشملهم الوصف في الآية.
وكذا قوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ تعتبر عامة في أهل الإيمان الذين صدقوا في إيمانهم، ولم يخالطوه بنفاق، ولا تختص بأحد دون أحد منهم، والله أعلم.
وهذا ما اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - أنها عامة، وأما الرواية الأخرى التي نقلها عن ابن عباس أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذي قتلوا بالرجيع، فحصل لهم الغدر، وعابوهم فقالوا: "إن هؤلاء قد غرروا بأنفسهم وأوقعوها في القتل، فلم يستبقوا مهجهم، ولم يؤدوا ما طلب منهم"، وجلسوا يتكلمون عليهم، ويقعون في أعراضهم، ويشمتون بهم، وما علموا أن هؤلاء بذلوا نفوسهم في سبيل الله فحصل مقصودهم من الشهادة، فهذه الرواية تؤكد ما ذهب إليه ابن جرير الطبري وابن كثير من عمومها، وشمولها جميع أفراد العام الذين يصدق فيهم هذا الوصف الوارد في الآية.
"وروى ابن جرير عن القرظي عن نوف وهو البكالي وكان ممن يقرأ الكتب، قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل".نوف البكالي كان ممن يقرأ الكتب السابقة، ويروي الإسرائيليات، وينقلها كثيراً.
"قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبِر، يلبسون للناس مسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب".الصَّبر هو نبات معروف، لا يطاق طعمه؛ لأنه مر.
والمسوك جلود الضأن، فهم ذئاب، ويلبسون جلود الضأن، والمراد أنهم يتظاهرون بالخير والصلاح، وحقيقتهم خلاف ذلك.
"يقول الله تعالى: فعليّ يجترئون، وبي يغترون، حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران.
قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون، فوجدتها وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ... الآية، وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح".
الآية بظاهرها وعمومها تصدق في أهل النفاق؛ لأنهم يظهرون الصلاح، والدين، والخير والطاعة، ويبطنون الكفر، وهكذا كل من تظاهر بالإسلام وأبطن خلافه؛ يقاس عليهم، فتجدهم يتربصون بأهل الإسلام الدوائر، فإذا ألم بالمسلمين حادثة، أو اعتراهم ضعف، أو نحو ذلك؛ أظهروا كوامن النفوس، فصاروا يشمتون ويطعنون في دين الله ، وشرعه وأهله، ويسخرون منهم، ويدعون إلى الإصلاح المبطن بالإفساد في الأرض يقول الله في وصف حقيقتهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ۝ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:11-12].
"وأما قوله: وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ معناه أنه يظهر للناس الإسلام، ويبارز الله بما في قلبه من الكفر، والنفاق كقوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ... [سورة النساء:108] الآية، هذا معنى ما رواه ابن اسحاق عن ابن عباس - ا -.
وقيل معناه: إنه إذا أظهر للناس الإسلام حلف، وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه، وهذا المعنى صحيح".
يَحتمِل في الإشهاد وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ معنيين:
الأول: أنه يقول قولاً والواقع أن الله يشهد على خلافه، ويعلم من باطنه وحاله خلاف ما أظهره، وهذا المعنى تشهد له قراءة ابن عباس وهي غير متواترة والله يشهد على ما في قلبه، والآية تحتمله احتمالاً قوياً.
والثاني: أنه يدعي الإسلام، ومحبة الله ورسوله، وطاعته، واتباعه لشرائع الإسلام، ويعقب ذلك بقوله: والله يشهد على ما أقول من إرادتي للخير والإصلاح وما أشبه ذلك، وهو كذاب في ادعائه وإشهاده، وهذا المعنى هو المتبادر إلى الأذهان، ويشهد له قوله تعالى: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [سورة المنافقون:1]، فهم جاءوا بلفظ الشهادة "نشهد" مؤكدة بإن ولام القسم، ورغم هذا بيَّن الله حقيقة شهادتهم فقال عنهم: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، وهذا القول...
"وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس - ا -، وحكاه عن مجاهد، والله أعلم".ويمكن أن يستدل أيضاً للقول الثاني بقراءة أخرى ليست متواترة وهي قراءة ابن مسعود : ويستشهد الله على ما في قلبه، والآية إذا كانت تحتمل معنيين مختلفين بدون معارض، فإنها تحمل عليهما جميعاً؛ لأن القرآن يعبر عنه بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهذا المنافق الذي يقول: إنه مؤمن، ومحب لله ورسوله، ومريد للخير، هو في الواقع حينما يقول ذلك، أو يتفوه به، إنما يجعل الله يشهد على أن حاله على خلافه، وأن باطنه مكذب لظاهره.
والإشهاد كذباً بالله يلجأ إليه كثيراً المنافق؛ لأنه يعلم أنه في موضع تهمة، وريب، فيتخذ من الإشهاد مطية للخروج من المأزق الذي وقع فيه، وهذه سجيتهم أخبر الله عنهم في معرض التشنيع بهم في أكثر من آية يقول سبحانه: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [سورة المنافقون:2]، يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة التوبة:96] يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ [سورة التوبة:62] حتى إنهم في اليوم الآخر إذا بعثهم الله يحتذون بما اعتادوه في الدنيا من الأيمان الفاجرة كما أخبر الله عنهم بقوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة المجادلة:18] ظناً منهم أن أيمانهم التي كانت تروج في الدنيا، فحقنوا بها دماءهم، وأحرزوا بسببها أموالهم تروج في الآخرة، فلأجل ذلك إذا قاموا من قبورهم يوم القيامة اشتغلوا بالأيمان الكاذبة على الله ، وفي سورة المنافقون جاءت المؤكدات قوية في كلامهم قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [سورة المنافقون:1]، لكن جاء الرد عليهم بنفس الطريقة وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، المهم أن كل معنى من هذه المعاني يوجد ما يشهد له من الدلائل، فيمكن أن تحمل الآية على الوجهين، والله تعالى أعلم.
"وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَام الألد في اللغة: الأعوج، وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا [سورة مريم:97] أي عوجاً".الألد جاءت في كلام العرب، وقد فسرت في الآية بأحد معنيين:
الأول: يرجع إلى معنى الخصومة، والمراد أنه من أشد الناس خصومة.
والثاني: يرجع إلى معنى الميل، والاعوجاج، واتخاذ الجانب، وهذا الذي مشى عليه ابن كثير - رحمه الله -، وأراد أنه مائل في خصومته، يكذب، ويتزايد، ويحرف الدليل، وقول مخالفه، ويقوّله ما لم يقل، ويستدل بأمور يعلم عدم صلاحها لإثبات المطلوب، ويكابر في الحق بعدما يتبين له، فكل ذلك داخل فيه، فهو معوج غير مستقيم في خصومته، وجداله.
فالمعنى الأول يدل على أنه صاحب جدال كما قال الله عن المشركين: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [سورة الزخرف:58] أي شديدو الخصومة، ومن هنا لا تجد الخصومة في القرآن الكريم تذكر إلا في مقام الذم، ومثلها المراء إلا في قوله: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا [سورة الكهف:22] بخلاف الجدال فجاء الأمر به تمدحاً في مواضع: وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل:125]، وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة العنكبوت:46]، بينما جاء في موضع آخر على سبيل الذم يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ [سورة الأنفال:6] إلى غير ذلك من النصوص.
وأما المعنى الثاني: فإنه ينبه إلى أنه غير مستقيم في خصومته، وإنما هو صاحب اعوجاج، والمعنيان يصبان في تفسير الألد، فيكون شديد الخصومة صاحب اعوجاج عند افتعالها، ولهذا ابن جرير - رحمه الله - يرى بأن المعنيين متقاربان، ولا مانع من حمل الآية عليهما، ولا حاجة للترجيح بين هذين المعنيين.
ومن أهل العلم من يقول: إن أصل اللدد مأخوذ من صفحة العنق، إذ إن شديد الخصومة صعب أن يثنيه أحد، أو يجعله يحيد، ويميل برأيه تلقاء ما يراه مجادله؛ لأنه وجه نفسه إلى شيء مازج دمه، وخالط فكره، فأخذوا منه المعنى الأول.
وأخذوا المعنى الثاني من كون صفحة العنق في الجانب، وعليه جعلوا معنى ألد الخصام أي: شديد الخصومة، مائل فيها، والله أعلم.
"وهكذا المنافق في حال خصومته يكذب، ويزّور عن الحق، ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر[1]"إذا خاصم فجر: أي يميل في خصومته، فتحمله على البغي والعدوان، وتجاوز الحد.
"وروى البخاري عن عائشة - ا - ترفعه قال: إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخَصِمْ[2]"الخصام في قوله سبحانه: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [سورة البقرة:204] يحتمل أن يكون مصدراً لخاصم يخاصم خصاماً فيكون بهذا الاعتبار أي: شديد الخصومة.
ويحتمل أن يكون جمعاً للخصم أو المخاصم، فيقصد به أكثر الخصماء، أو أكثر المخاصمين مخاصمة، وخصومة، وهو معنى ألدهم، والله أعلم.
  1. أصل الحديث عند البخاري ((أربع من كن فيه....)) رواه في كتاب الإيمان -باب علامة النفاق برقم (34) (1/21)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان خصلة المنافق برقم (58) (1/78).
  2. رواه البخاري في كتاب المظالم - باب إذا أذن إنسان لآخر شيئا جاز برقم (2325) (2/867)، ورواه مسلم في كتاب العلم - باب في الألد الخصم برقم (2668) (4/2054).

مرات الإستماع: 0

"قوله: مَنْ يُعْجِبُكَ الآية، قيل: نزلت في الأخنس بن شريق، فإنه أظهر الإسلام، ثم خرج فقتل دواب المسلمين، وأحرق لهم زرعًا، وقيل: في المنافقين، وقيل: عامة في كل من كان على هذه الصفة."

هو لا يصح أنها نزلت في الأخنس، أو في أحد بعينه - والله أعلم - لكن هي عامة وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فهذا عام في المنافقين كلهم، هذه الصفة المذكورة هنا أشبه ما تكون بأوصاف المنافقين يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني بدعوى الإيمان، والاستقامة على أمر الله، والنصح لله، ولرسوله ﷺ والغيرة على دينه، ولكن حاله، وعمله بخلاف ذلك، هذه صفة المنافق، ولهذا حملها كثير من أهل العلم على المنافقين، لا تختص بمعين، وإنما عامة فيهم، كما أن الأخرى عامة في المؤمنين يعني الصفة الثانية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ لا تختص بمعين كما قال بعض المفسرين، لكنها عامة، بهذا قال قتادة، ومجاهد، والربيع بن أنس، وهو اختيار ابن جرير، وابن كثير: أنها عامة في المنافقين[1].

"قوله: فِي الْحَياةِ متعلق بـ (قوله) أي: يعجبك ما يقول أي يعجبك ما يقول في أمر الدنيا، ويحتمل أن يتعلق بـ (يعجبك)."

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني حينما يتحدث عن الدنيا فهو يتحدث بحديث بصير بها عليم بتفاصيل مصالحها، فهو عالم في الدنيا معرض عن الآخرة، جاهل بأمر الله - تبارك، وتعالى - يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني حينما يتكلم في أمور الحياة الدنيا هذا معنى، والمعنى الثاني: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني حينما يكون أن هذا الإنسان يتكلم بكلام حسن بكلام جميل بهذه الدار وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في الحياة متعلق بلفظة قَوْلُهُ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة، حينما يتكلم عن الدنيا فإنه قوله يعجبك كلام عليم بصير خبير في أمر الدنيا جاهل في أمر الآخرة، هذا معنى، أي: يعجبك ما يقوله في أمر الدنيا، ويحتمل أن يتعلق بـ يُعْجِبُكَ يعجبك قوله في الحياة الدنيا يعني يعجبك قوله، وهو في هذه الدار بأنه يحب الله، ورسوله، وأنه مؤمن، وأنه يغار على دين الله فهو يتكلم في الدنيا بمثل هذا الكلام كحال المنافقين، ولكنه في حقيقة الأمر أبعد ما يكون عن ذلك، فهو في الدنيا يظهر الإيمان، ويبطن الكفر، فإذا حقت الحقائق في الآخرة حصل لهؤلاء ما ذكره الله - تبارك، وتعالى - من ضرب السور بينهم، وصاروا إلى الظلمة فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ۝ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الحديد:13 - 14] فهذا حال المنافقين، ففي الدنيا يتكلمون بمثل هذا، فيحصل لهم بسبب ذلك إحراز الأموال، وحقن الدماء، وهذا المعنى هو المتبادر؛ لأنه قال: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وعلى كل حال يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعجبك حديثه في شؤون الدنيا بعيدًا عن أمور الآخرة، أو يعجبك ظاهر حديثه عن أمور الدنيا لكنه حديثًا ينفعه في الدنيا دون الآخرة، أو يكون المعنى: يعجبك قوله في هذه الدار حيث يتقي بذلك ما يتخوفه، ويحصل له بسبب ذلك حقن الدم، والمال.

"قوله: وَيُشْهِدُ اللَّهَ أي يقول: الله أعلم إنه لصادق."

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: "هذا المعنى صحيح.  وقاله عبد الرحمن بن زيد، واختاره ابن جرير، وعزاه إلى ابن عباس، ومجاهد"[2] وفي قراءة غير متواترة لأُبي بن كعب، وابن مسعود - ا -: (ويستشهد الله على ما في قلبه[3] لاحظ القراءة الأحادية تفسر القراءة المتواترة إذا صح إسنادها، ويستشهد الله معنى هذا وَيُشْهِدُ اللَّهَ لأن هذه القراءة المتواترة تحتمل أنه المقصود وَيُشْهِدُ اللَّهَ يعني يقول: الله يعلم من قلبي أني أحب الله، ورسوله، أني مؤمن، الله يعلم إني أغار على دينه، الله يعلم إني أحب ظهور الإسلام، وأكره الكفر، وأهله، فهو يُشهد الله على ما في قلبه، وهنا (ويستشهد الله على ما في قلبه) يقول: الله يشهد علي.  وهذا المعنى هو الظاهر المتبادر، وذكر ابن كثير - رحمه الله - معنى: وهو أنه يظهر للناس الإسلام، ويبارز الله بما في قلبه من الكفر، والنفاق: كقوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108][4] وفي قراءة ابن عباس، وهي قراءة غير متواترة: (والله يشهد على ما في قلبه) فصار لكل معنى قراءة تشهد له، حاصله: المعنى الأول: أنه حينما يتكلم يُعبر بعبارات ليؤكد ما يقول حيث يستشهد ربه على ما في قلبه يقول: الله يعلم أني صادق، الله يعلم أن قلبي ينطوي على الإيمان، وأن ما أقوله حق يشهد الله علي بذلك، فهذا هو المتبادر.

والمعنى الثاني: تحتمله الآية: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ هو يتكلم بكلام حسن، وجميل في الوقت الذي يبارز ربه - تبارك، وتعالى - بالخصومة، ويناكف أهل الإيمان، وهو حرب عليهم فهو بذلك كله يشهد الله بحاله، وسوء ما ينطوي عليه قلبه، وفساد العمل، الله يراه، ويشاهده، ويراقبه، فهو يشهد الله على ما في قلبه بالمبارزة بالحرب على الإسلام، وأهله، وكراهية هذا الدين، وبغض المؤمنين، يتكلم بكلام حسن، ويشهد الله على ما ينطوي عليه قلبه من الكفر، ونحو ذلك، يعني هو لا يتكلم بهذا على هذا المعنى، ويقول: الله يشهد.  أو يقول: يعلم الله من قلبي كذا. لا، وإنما في الوقت الذي يقول فيه هذا الكلام الله شاهد على حال أخرى ينطوي عليها قلبه، هذا المعنى الثاني، والآية تحتمل المعنيين، ويمكن أن يجتمعا - والله أعلم - فقد يقول مثل هذا، والواقع قاله، أو لم يقله فالله مطلع عليه، فإذا كانت الآية تحتمل معنيين، ولكل معنى ما يشهد له، فإنها تُحمل عليهما حيث لا يوجد مانع من ذلك، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة - والله أعلم -.

"قوله تعالى: أَلَدُّ الْخِصامِ شديد الخصومة."

شديد الخصومة، أو أشدهم خصومة، باعتبار أن ألد أفعل تفضيل يعني أشد أهل اللدد في الخصومة؛ لأن اللدد شدة الخصومة، فهو ألد هو أكثرهم خصومة، ولددًا، فأصل اللدد الشدة، وهذا الألد هو الخصيم الشديد التأبي.

وبعضهم يقول: أصل الألد الشديد اللدد يعني صفحة العنق، وذلك إذا لم يمكن صرفه عما يريد، يعني عنده إصرار مهما أعطيته من الحجج، والبينات، والبراهين، وهو في غاية الإصرار على ما هو عليه من الباطل، وفي الحديث: إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم[5] ابن جرير - رحمه الله - اعتبر أن هذه الصفة باعتبار أنه ذو جدال، أو غير مستقيم في الخصومة، وأن هذا متقارب[6] لكن قوله - تبارك، وتعالى -: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ الخصام هنا يحتمل أنه مصدر خاصم، أو جمع خصم يعني ألد أهل الخصومة، ألد المخاصمين، أو شديد الخصومة. 

  1.  - انظر: تفسير الطبري (3/ 571) وتفسير ابن كثير (1/ 562).
  2.  - تفسير ابن كثير (1/ 563).
  3.  - تفسير القرطبي (3/ 15).
  4.  - تفسير ابن كثير (1/ 563).
  5.  - أخرجه البخاري، كتاب المظالم، والغصب، باب قول الله تعالى: وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ [البقرة: 204] برقم (2457) ومسلم، كتاب العلم، باب في الألد الخصم، برقم (2668).
  6.  - تفسير الطبري (3/ 578).

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- صنفين من الناس في حال السؤال والدعاء، فهناك من يدعو ويسأل ويطلب الدنيا دون أن يسأل الآخرة، والصنف الثاني: هم الذين أثنى الله عليهم، وهم من يقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] ثم ذكر صنفين آخرين من جهة الحال والعمل، الأول: وهو المنافق الذي يقول قولاً لا حقيقة له، ويصف نفسه بأوصاف لا يشهد لها عمله وواقعه، فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [سورة البقرة:204].

فهذا الصنف من الناس يعجبك قوله، وفصاحة كلامه، وحسن منطقه، وما يشتمل عليه كلامه من المعاني الحسنة، ولكن له واقع سيئ على خلاف ما يصف به نفسه، فهو لا يكتفي بهذه الدعاوى العريضة من محبته للإيمان، ولأهل الإيمان، وللرسول ﷺ، ومن سعيه في الإصلاح، وما إلى ذلك، بل يحلف أيضًا مستشهدًا بالله -تبارك وتعالى- على ما في قلبه وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ فهو يُؤكد هذا الكلام والدعاوى بإشهاد الله على ما في قلبه أنه كذلك.

وهذا لا شك أنه جرأة على الله -تبارك وتعالى- فهو في واقعه كما وصف الله وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ أي: شديد اللدد، وكثير الخصومة، والذين كانوا يكثرون من الشهادة والأيمان إنما هم أهل النفاق، إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [سورة المنافقون:1] فذكروا هذه المؤكدات: الشهادة و(إن) فهي مؤكدة بمنزلة إعادة الجملة مرتين، واللام الداخلة على جواب القسم إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [سورة المنافقون:1] فهؤلاء إذا دخلوا على النبي ﷺ قالوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وما كان أصحابه من الصادقين يرددون مثل هذه الشهادة.

وقال الله -تبارك وتعالى- أيضًا عن صفة المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ فكلامهم حسن كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [سورة المنافقون:4] فهم أشباح بلا أرواح، وجسوم بلا فهوم، يحضرون مجلس رسول الله ﷺ دون أن يفقهوا ما قال، فإذا خرجوا من عنده والوحي ينزل قالوا: مَاذَا قَالَ آنِفًا [سورة محمد:16] ويتساءلون: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [سورة التوبة:124] على سبيل السخرية، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [سورة البقرة:14].

فيُؤخذ من قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أنّ أخذ الناس في مقام الحكم والقضاء والفصل بين الخصوم لا يقبل فيه مجرد الدعاوى، فإن الإنسان قد يكون صاحب حجة وخصومة، ولسن، ولكنه مُبطل، ومن الخطأ في باب الخصومات أن يسمع الإنسان من طرف واحد، سواء كانت خصومة بين الزوجين، أو بين الأخوين، أو بين الجيران، أو المتبايعين، أو بين المدير ومن تحت يده، وبين الناس في أي أمر كان، فقد تسمع من الزوجة كلامًا فتقول: ما أحلمها! وما أصبرها! وما أعظم مصيبتها بهذا الزوج! وربما قلت: هل يوجد أحد من البشر يتعامل ويفكر ويعمل بهذه الأخلاق والأعمال التي لا تتصور من مؤمن بالله، واليوم الآخر؟! لكن إذا سمعت من الزوج وجدت كلامًا آخر على النقيض، فتقول: ما أحلمه! وما أصبره! وما أجمل فعله تجاه هذه الزوجة التي هي جحيم لا يطاق! فيصدر منها كل إساءة، وهو في غاية الاحتمال والإحسان، فكثير من الناس يدخل في إصلاح، أو حكم، أو نحو ذلك، فيسمع من طرف، لكنه لو سمع من الطرف الآخر لهاله الأمر، وهذا كثير، والنبي ﷺ قال: لو يعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم[1]، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام، البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه[2] فالدعوى لا يعجز عنها أحد، فهؤلاء الذين وصفهم الله وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [سورة المنافقون:4] وقال: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا يكتفي بهذا، بل يُشهد ربه -تبارك وتعالى- على ما في قلبه.

ويُؤخذ من هذه الآية من الهدايات: أن العبرة ليس بمجرد ما يقوله الإنسان، ولكن العبرة بما هو عليه من العمل، والامتثال والتطبيق، فهذا القول لا بد أن يصدقه عمل، وإلا فقد يتكلم الإنسان بعبارات جميلة، تستهوي أهل المجلس، فيعجبون، ويقولون: ما أعقله! ما أكمله! ما أفصحه!، ولكن حينما تنظر إلى الصورة المقابلة من الناحية العملية تجد التضييع والتفريط والإهمال والظلم، ومصادرة الحقوق، وأكل أموال الناس بالباطل، فلا الأجير يُعطى الأجر، ولا الزوجة تعطى الحق، ولا صاحب حق يصل إلى حقه ومطلوبه وبغيته منه، لكن الكلام جميل، يمكن أن يتحدث عن الحقوق، والإنصاف والعدل والظلم والتربية، وعن كثير من المفاهيم، ولكن الناحية العملية الواقعية بمنأى عن هذا تمامًا، إذًا لا نغتر بمجرد القول، بل لا بد من نظر آخر، وهو العمل، وهذا يحتاج الناس إليه في أمور كثيرة، منها: النكاح، فقد يتقدم لموليته من يتحدث بحديث جميل يستميل القلوب، فهل هذا يكفي في الحكم عليه بأنه صالح تام العقل وراشد؟ هذا لا يكفي، وكذلك فيمن يمكن أن توكل إليه المهام، فليست العبرة بكلامه، وهكذا أيضًا فيمن يشتكي ويتظلم، فإنك بحاجة إلى أن تسمع من الطرف الآخر، فينبغي أن يقال لمثل هذا: هذه خصومة لا نتكلم فيها، أحضر الطرف الآخر ويتكلم وتتكلم، وكل واحد يسمع صاحبه، ثم بعد ذلك نستطيع أن نستبين، وقد نعرف بهذا المحِق من المبطِل، أما أن يتكلم هكذا بعيدًا عن الطرف الآخر، فهذا غير صحيح، وقد يبكي ويستدر العواطف، ونحو ذلك.

ففي قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هذا الخطاب في ظاهره موجه للنبي ﷺ، فإذا كان ذلك قد يقع له فغيره من باب أولى، وقد ذكر النبي ﷺ أنه يحكم بحسب ما يسمع، وأن البعض قد يكون ألحن بحجته من البعض الآخر، لكنه بيّن أنها قطعة من نار؛ لأن الحكم بين الناس هو بناءً على الدعاوى والبينات والأيمان، ونحو ذلك، ولم نؤمر بأن نشق عن قلوب الناس.

وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ هذا جُرأة على الله ، من الأخطاء التي نقع فيها كثيرًا وينبغي التفطن لهذا أن الإنسان أحيانًا يريد أن يؤكد قوله وكلامه فيقول: علم الله أني كذا وكذا، يعلم الله أني كنتُ أريد أن أخاطبك بكذا، أو أن أحدثك، أو أن أخبرك بكذا، وليس بصحيح، فيكون قد أضاف إلى علم الله -تبارك وتعالى- ما ليس فيه؛ لأن ذلك لم يكن، فالله يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فالإنسان في مقام الاعتذار يضطر إلى التوسع في الكلام، فيكذب، فيقول: علم الله أني ما قصدتُ، أو علم الله أني كنتُ أريد الاتصال عليك، أو علم الله أني كنتُ أريد المجيء، ولكن حال دون ذلك حائل، وهو يعلم أن ذلك لم يكن في إرادته، فلم يكن يريد الاتصال، ولم يكن يريد المجيء، لكن أراد الاعتذار، فأضاف ذلك إلى علم الله، فيكون قد كذب على الله؛ لأن ذلك لم يكن في قلبه أصلاً، إذًا ذلك لم يعلمه الله منه، أنه كان يريد المجيء أو يريد الاتصال، أو يريد القيام بهذا العمل، ونحو ذلك؛ ولهذا مهما استطاع الإنسان أن يحسن العمل، وأن يأتي بالأمور والحقوق على وجهها دون أن يحتاج إلى اعتذار، فهذا هو المطلوب، لكن إذا قصَّر يعتذر، وإذا أخطأ يعتذر، ولكن في الغالب أن الإنسان إذا احتاج إلى الاعتذار أنه يحتاج إلى شيء من التوسع، فقد يوقعه ذلك بشيء من الكذب، لكن أخطر من هذا أن يضيف ذلك إلى علم الله في أمر لا حقيقة له، هو يعلم من نفسه أنه ليس كذلك، فيكذب على الله، هذا أمر خطير، ويتساهل فيه كثير من الناس.

وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ هذا فيه إثبات علم الله بما في الصدور؛ لأن ما في القلب لا يعلمه إلا الله، والنبي ﷺ أخبر أنه لم يؤمر أن يشق عن قلوب الناس.

وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [سورة البقرة:204] يُؤخذ منه ذم الخصومة، واللدد فيها، فقد وصف الله -تبارك وتعالى- مثل هذا بهذه الصفة، ووصف بها المشركين من قريش بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [سورة الزخرف:58] أي: أنهم كثير الخصومة، فهذه الخصومات في الغالب لا تؤدي إلى خير، ولا إلى مطلوب صحيح، وإنما يحضر معها الشيطان، ويريد كل إنسان أن ينتصر لنفسه.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية إضافة إلى هذا المعنى: ما جاء عن النبي ﷺ أنه قال: إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم[3]، فقوله: إن أبغض الرجال يدل على أن الله يبغض هذه الصفة؛ ولهذا وصف بها أهل النفاق، فقال: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ أي: أنه شديد الخصومة، في كل شيء، لا يفوِّت شيئًا، وإذا قصر أحد في شيء من حقه، فإنه لا يفلته، فالسماحة هي المحمودة في جميع الأمور.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية الكريمة: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ أن هؤلاء لما كان مطلوبهم هو الدنيا فقط لا يفكرون في الآخرة، فهم يريدون أن يُسوّقوا مطالبهم في الدنيا بالحلف بإشهاد الله على ما في نفوسهم، ولو ضيعوا آخرتهم، وهذا الإنسان المهزوز الذي يشعر أن أصابع الاتهام تتوجه إليه فيما يقول ويدعي يحتاج إلى حلف كثير؛ ولهذا قال الله عن المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [سورة المنافقون:2] أي: ترس ووقاية، فإذا وجهت إليهم التهمة: قلتم كذا، وفعلتم كذا، حلفوا؛ ولذلك قال الله في أوصاف المنافقين: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ، سَيَحْلِفُونَ وهكذا، فالأيمان تسبق الكلام؛ وذلك يدل على أنهم لا يقيمون لله وللأيمان شأنًا، ولا يعظمون الله حق التعظيم؛ ولهذا جاء عن إبراهيم النخعي -رحمه الله- من التابعين: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد[4]، بحيث لا يستسهل فيجري الحلف على لسانه، وبين جملة وأخرى يحلف، فهذا لا يليق؛ لأن ذلك استخفاف بمقام الله -تبارك وتعالى، وأما من عظّم الله فإن أيمانه تكون معدودة ومحدودة؛ ولذلك انظر إلى النبي ﷺ كم مرة حلف؟ في مرات قليلة، وعلى أمور مهمة، وهناك رسالة في المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد في عمره، وهي مسائل قليلة، لكن الإنسان الذي لا يبالي ولا يعظم الله حق التعظيم يحلف في كل جملة يقولها، وقد جاء في كتاب التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله: باب ما جاء في كثرة الحلف، ولماذا وضعه في كتاب التوحيد؟ لأنه خلاف تعظيم الله -عز وجل، الذي يعظم الله لا يجرؤ على إرسال لسانه بالحلف في كل أمر يستحق، أو لا يستحق. 

  1. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ [سورة آل عمران:77]: لا خير برقم: (4552) ومسلم في الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه برقم: (1711).
  2. أخرجه الترمذي في أبواب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه برقم: (1341) وصححه الألباني.
  3. أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب قول الله تعالى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [سورة البقرة:204] برقم: (2457) ومسلم في العلم، باب في الألد الخصم برقم: (2668).
  4. فتح الباري لابن حجر (5/ 261).