السبت 24 / ربيع الأوّل / 1446 - 28 / سبتمبر 2024
يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلْءَايَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۝ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:219-220].
"روى الإمام أحمد عن أبي ميسرة عن عمر أنه قال: لما أنزل تحريم الخمر قال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت هذه الآية التي في البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، فدُعي عمر فقُرئتْ عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43]، فكان منادي رسول الله ﷺ إذا أقام الصلاة نادى أن لا يقربن الصلاة سكران، فدُعي عمر فقُرئتْ عليه فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في المائدة فدُعي عمر فقُرئتْ عليه، فلما بلغ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:91] قال عمر: انتهينا انتهينا"[1] هكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال علي بن المديني: هذا الإسناد صالح صحيح، وصححه الترمذي، وسيأتي هذا الحديث أيضاً مع ما رواه أحمد من طريق أبي هريرة أيضاً عند قوله في سورة المائدة إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:90] الآيات.
فقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أما الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : إنه كل ما خامر العقل، كما سيأتي بيانه في سورة المائدة، وكذا الميسر وهو القمار"
فقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الخمر: إنه كل ما خامر العقل؛ أراد غطاه، والخمر من خمر الشيء بمعنى غطاه، والتخمير التغطية، سميت بذلك لأنها تغطي العقل فيزول بسببها، ويحصل الإسكار.
وتأتي الخمر بمعنى المخالطة ما خامر العقل أي: خالطه، أو من التخمير وهو ضد الفطير، تقول: تركته حتى خمر فهو خمير، والمعنى تركته حتى أدرك، تقول: تركت العجين حتى تخمّر، أو خمر.
وتقول في الرأي هذا رأي خمير أي ليس بفطير، بمعني أنه قد قلب من جميع الوجوه، وحصل فيه أناة حتى نضج؛ فيمكن أن تكون بهذا الاعتبار؛ لأنها تركت حتى تغيرت، والفواكه التي يصنع منها الخمر تترك حتى تتخمر، فيلقي بالزبد ثم بعد ذلك؛ تكون مسكرة.
والمشهور الأول وهو أنها سميت خمراً؛ لأنها تغطي العقل، ولا تعارض مع المعنى الآخر؛ لأن المراد أنها تخالط العقل؛ فإذا صارت المخالطة فإن العقل لا يكون في حالة سوية، والله تعالى أعلم.
قوله سبحانه: وَالْمَيْسِرِ الميسر: من يسر ييسر وهو القِمار الذي كان يتعاطاه العرب قديماً قبل الإسلام، ويدخل فيه القداح، والأزلام إلى غير ذلك من هذه الأمور التي يتخاطر الناس فيها، سواء كانت من قبيل اللهو كالشطرنج، والنرد، والكعاب التي يلعب بها الصبيان، فهذا كما يسميه الإمام مالك - رحمه الله -: ميسر اللهو، أو الذي يتخاطر الناس فيها بمقابل، فيقامر الرجل على فرسه، أو جمله، أو بيته، أو أرضه، أو ماله، وقد يصل الحال ببعضهم أن يقامر على امرأته، إذا لم يبق له شيء من أجل أن يسترجع ما فات، ويلحق باللهو الباطل لعب الورق، والكيرم، والفريرة، وألعاب تشبه المنيبولي، وأخرى تشبه النرد لكنها كما يقال: بطريقة إسلامية، وهي محل نظر وتأمل، فتعتبر من اللهو الذي يشغل الناس عن ذكر الله ، وعن الصلاة، ومدعاة للعداوة والبغضاء بين المسلمين، ولا تخرج الأمة منه بكبير طائل، ولا بفائدة، أو قوة في بنائها، وجهادها، وحضارتها، بل هي سبب في صرف صاحبها عن المطالب العالية، ويدخل فيه كثير من الألعاب الإلكترونية اليوم، والله تعالى أعلم.
وصورة القمار، والقداح، والأزلام المعروفة عند العرب أنهم يأتون بأقداح معدودة بعدد، في كل واحد منها مكتوب سهم، وفيها ما ليس فيه شيء، ويتقامرون على لحم جزور مثلاً، ثم يأتي صاحب القداح بكيس، ويلتحف بثوب، فيدخل يده في الكيس، ثم يخرج لكل واحد سهمه، ونصيبه؛ فيأخذه طواعية أو كرهاً، وكان لكل قدح من هذه القداح اسم عند العرب.
"وقوله: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية من حيث إن فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذة الشدة المطربة التي فيها، وكذا بيعها، والانتفاع بثمنها".عد الإمام الشاطبي - رحمه الله - جملة من فوائد الخمر، لكنها ضئيلة بالنسبة لمفاسدها ومنها: أنها تشجع الجبان لذلك كانت العرب تشربها في الحروب، فإذا شربها أحدهم ربط على رأسه خرقة حمراء فلا يكاد يقف في وجهه أحد، يقول أحدهم:
ونشربها فتتركنا ملوكاً وأُسْداً ما يُنَهْنِهُنا اللقاءُ
ومنها: أن البخيل إذا شربها صار جواداً كريماً، ولحمزة بن عبد المطلب  قصة مشهورة في هذا مع شارف علي بن أبي طالب يحكيها عليٌّ فيقول: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي ﷺ أعطاني مما أفاء الله عليه الخمس يومئذ، ..أردت أن أبتني به بفاطمة عليها السلام، ... فخرجت لسوق بني قينقاع، فلما رجعت، إذا أنا بشارفي قد أجبت أسنمتهما، وبقرت خواصرهما، وأخذ من أكبادهما؛ فلم أملك عيني حين رأيت المنظر قلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب، وهو في البيت، في شرب من الأنصار عنده قينة وأصحابه، فقالت في غنائها: ألا يا حمز للشرف النواء، فوثب حمزة إلى السيف وصنع ما رأيت! قال علي: فانطلقت حتى أدخل على النبي ﷺ وعنده زيد بن حارثة، وعرف النبي ﷺ الذي لقيت فقال: ما لك؟ قلت: يا رسول الله ﷺ ما رأيت كاليوم, عدا حمزة على ناقتي ... فطفق النبي ﷺ يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمِل محمرة عينه، فنظر حمزة إلى النبي ﷺ، ثم صعد النظر فنظر إلى ركبته، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه، ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟، فعرف النبي ﷺ أنه ثمِل، فنكص رسول الله ﷺ على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا معه"[2]
الشاهد من الحادثة أن شرب الخمر تشجع الجبان، وتجعل البخيل كريماً، ولا يفهم من القصة أن حمزة كان بخيلاً؛ بل هو من أكرم الناس، وأفضلهم، وأجلهم، وأعلاهم، وما شرب الخمر إلا لأنها لم تكن حرمت حينها، فالمقصود أن البخيل وغير البخيل يجود بماله وبغير ماله في حالة تعاطيه لها، ولهذا يقول بعضهم:
وإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
ويقصد بالشطر الأول أنه في حال السكر ربُّ القصر الذي يجلس فيه الملك يأكل، بل وفوق الملك، وإذا صحا فإنه راعي إبل وغنم يرجع إلى حاله الطبيعية.
فهذه بعض فوائد الخمر، ولكنها فوائد ضئيلة إذا ما قوبلت بالمفاسد الكبيرة من شربها، والعبرة إنما هي بما غلب ولذا قال أحدهم في الخمر:
رأيت الخمر صالحة وفيها خصالاً تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحا ولا أشفى بها أبداً سقيما
ولا أعطي بها ثمناً حياتي ولا أدعوا لها أبداً نديما
ولا يوجد على ظهر الدنيا مفسدة خالصة كما يقول الأصوليون، وبالمقابل لا يوجد فيها مصلحة خالصة، إنما هي مشوبة بين هذا وذاك.
أما اللذات الخالصة فمحلها الجنة، والمفاسد الخالصة فمحلها النار، فإذا نظر الإنسان إلى الأشياء المحرمة وجد أنها تشتمل على بعض الأشياء التي فيها مصلحة لكن هذه المصلحة قليلة بالنسبة للمفسدة الكبيرة، وإذا نظر إلى الأشياء المباحة وجد فيها مفسدة، لكنها قليلة بالنسبة للمنفعة كما أخبر النبي ﷺ عن البقر بقوله: ألبانها شفاء، وسمنها دواء، ولحومها داء[3].
وأما مرضى القلوب من المنافقين فتجدهم يتعلقون بمصلحة مرجوحة في بعض مسائل الدين تتوافق مع أهوائهم، ويتغاضون عن المفاسد الكبيرة المترتبة علي الإقدام على هذه المسألة، ولذا الصواب القول: إنه ليس كل شيء يحصل فيه منفعة للإنسان يفهم منه الإباحة والجواز، والله أعلم.
"وما كان يقمشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه، أو عياله، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته، ومفسدته الراجحة؛ لتعلقها بالعقل، والدين"فالميسر يكسب من ورائه المقامر المال من غير تعب، فيحصل له بسببه فرح، وسرور، وهذه مصلحة لكنها لا توازي المضرة، والمفسدة؛ وهي كونه أخذ ماله بغير حق، فتترجح حينها المفسدة، وتغلب، ولا يكون للمقامر حق في أخذ المال بالمقامرة؛ للمفسدة الراجحة، والله أعلم.
"ولهذا قال الله تعالى: وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا [سورة البقرة:219]"كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - يقول: إثمهما يعني: إثم ما ينتج عنهما، ويعلل ذلك بأن هذه الآية نزلت قبل التحريم، وأن سياقها إنما يفهم منه الإخبار فقط، فلا يلحق شاربها الإثم بمجرد شربها؛ بل باعتبار ما ينتج عن تعاطيها من ظلم الآخرين بلسانه، وبيده، أو فعل ما لا يليق مما يوقعه في الحرج.
والإثم يطلق على معنيين: العمل الذي ينتج عنه المؤاخذة، والتبعة، تقول: من فعل كذا فهو آثم، ومنه أُطلق على الكذب إثم، والزنا إثم ...الخ
وكثر إطلاقه على الخمر من بين الذنوب؛ لكثرة ما فيها من المفاسد، والقبائح، والعرب كانت تسميها بالإثم كما قال أحدهم:
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تفعل بالعقول
وبعض العلماء يقول: إن أول آية نزلت في الخمر هي قوله - سبحانه - في سورة النحل: وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [سورة النحل:67]، قالوا: السَّكَر هو المسكر، ثم نزلت هذه الآية فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، لكن المشهور أن آية البقرة هي أول ما نزل في المدينة، وأما آية النحل فليس المقصود بالسَّكَر الخمر على الأرجح، إنما هو ما شرب من عصير هذه الثمار المسمى: "النبيذ"، فإنهم يلقون الرطب في الإناء، ويتركونه يوماً وليلة أو نحو هذا، مما يورث هذا الشراب مذاقاً حلواً، فالآية إنما جاءت في مقام الامتنان، ويستحيل أن الله يمتن علي عباده بالخمر، وهي كثيرة الشر والآثام، ومفسدتها أعظم من مصلحتها، وما ذكر من تأويلات ومحامل لتبرير هذا الامتنان فهو بعيد، والله أعلم.
"ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرّحة بل معرّضَة، ولهذا قال عمر لما قُرئتْ عليه: "اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً" حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۝ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:90-91]، وسيأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة - إن شاء الله تعالى -، وبه الثقة.
قال ابن عمر ، والشعبي، ومجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن هذه أول آية نزلت في الخمر يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [سورة البقرة:219]، ثم نزلت الآية التي في سورة النساء، ثم نزلت الآية التي في المائدة فحرمت الخمر"
تحريم الخمر أخذ منحى التدريج على مراحل فأول شيء ذَكَرَ الله لهم في آية سورة البقرة هذا الملحظ في الخمر وهو أن إثمها أعظم من نفعها، فالعاقل ينبغي له أن يتحرز منها ما استطاع، ثم جاء النهي أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، وهذا يقتضى امتناعهم عن شرب الخمر إلا في وقتين:
- بعد العشاء فلا يدخل وقت صلاة الفجر إلا وقد أفاق.
- بعد صلاة الفجر من أجل أن يأتي الظهر وقد أفاق، وفي حالة إذا كان شاربها مدمناً لها، أو يشربها بمقادير محددة لا تؤدي إلى فقدانه عقله؛ فلا بأس، وهذا من ترويض النفس على ضبطها تجاه الخمر، ثم نزل التحريم الصريح أخيراً في سورة المائدة يقول - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:90].
"وقوله: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [سورة البقرة:219] قُرئ بالنصب، وبالرفع، وكلاهما حسن متجه قريب"قُرئتْ قُلِ الْعَفْوَ بالنصب، وبالرفع، فالجمهور يقرءونها بالنصب، وأبو عمرو بن العلاء من القراء السبعة قرأها بالرفع، وتوجيه الرفع، والنصب؛ بالنظر في لفظة ماذا، فإذا فصلنا ما وذا على حدة، أعربنا ذا اسماً موصولاً بمعنى الذي، والتقدير: ما الذي ينفقون؟ والجواب: الذي ينفقون هو العفو.
وإذا جعلنا ماذا للاستفهام بهذا التركيب فعندئذ النصب، والتقدير: ينفقون العفو، فالعفو بهذا الاعتبار في موقع مفعول به.
"وقال الحكم: عن مقسم، عن ابن عباس - ا -: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ قال: ما يفضل عن أهلك، كذا روي عن ابن عمر - ا -، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والقاسم، وسالم، وعطاء الخرساني، والربيع بن أنس وغير واحد"ورد في المراد بالعفو في قوله: قُلِ الْعَفْوَ أقوال: فقيل: ما سهل وتيسر، ولم يشق على القلب، كما قال الله في آية الأعراف: خُذِ الْعَفْوَ [سورة الأعراف:199] أي: ما تيسر وسهل من أخلاق الناس، واترك الغلظة عليهم، والمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولا تجهدوا أنفسكم، وقيل: هو ما فضل عن نفقة العيال، وقيل: العفو نفقات التطوع.
وما عليه عامة أهل العلم، وهو الظاهر المتبادر؛ أن المراد بالعفو ما فضل عن حاجتك وحاجة أهلك، وعيالك، وبعض أهل العلم يقول: إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة المفروضة وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [سورة التوبة:34-35] مستدلين بتفسير أبي ذر وفهمه لهذه الآية حيث يرى أن لا يُبقي الإنسان شيئاً فوق حاجته، وإلا عمه العقاب فيكوى جنبه، وظهره، والصواب القول بأن الله وسع على الناس في الأرزاق، وصار الإنسان إذا أخرج زكاة المال فلا يطالب أن ينفق ما زاد عن حاجته وحاجة عياله، ولا يكون المال المدخر كنزاً ولو بلغ أمثال الجبال، أو كان مدفوناً في باطن الأرض، وهذا الذي عليه عامة أصحاب النبي ﷺ، وأما دعوى النسخ فلا بد فيها من دليل، إذ إن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
والعلماء يتكلموا في مسألة معروفة هل في المال حق سوى الزكاة أو لا؟، فالمقصود أن هذه الآية اشتملت على توجيه الناس إلى الأدب في النفقة كما قال الله : وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29] والمعنى أي تلومك نفسك، ويلومك سائلوك، ومن وجب عليك أن تنفق عليهم من أهل وقرابة؛ لأنك لم تترك لهم شيئاً، ولم تستطع أن تبذل، أو تنفق، أو تقدم القرى للضيف، أو تتصرف في شئونك، فالله يوجههم ويرشدهم في الإنفاق، فيقول: ما فضل عن حاجتكم، فهذا مجال للإنفاق، وأما سواه فلا، والله تعالى أعلم.
"وروى ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رجل يا رسول الله ﷺ عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك قال: عندي آخر، قال: أنفقه على أهلك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على ولدك، قال: عندي آخر، قال: فأنت أبصر[4] وقد رواه مسلم في صحيحه.
وأخرج مسلم أيضاً عن جابر أن رسول الله ﷺ قال لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا[5]"
هذا من أحسن ما يفسر به العفو.
"وفي الحديث أيضاً ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف[6].
  1. رواه الترمذي برقم (3049) (5/253)، والنسائي برقم (5540) (8/286)، وأحمد برقم (378) (1/443)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3049). 
  2. رواه البخاري في كتاب المغازي - باب شهود الملائكة بدراً برقم (3781) (4/1470)، ومسلم في كتاب الأشربة –باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والزبيب وغيرهما مما يسكر برقم (1979) (3/1568)
  3. رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (21194) (25/42)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (8422).
  4. رواه النسائي برقم (2535) (5/62)، ورواه أبو داود برقم (1691) (1/529)، وقال الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي: حسن صحيح برقم (2535).
  5. رواه مسلم في كتاب الزكاة - باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة برقم (997) (2/692).
  6. رواه مسلم في كتاب الزكاة - باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة برقم (1036) (2/718).

مرات الإستماع: 0

"الْخَمْرِ كل مسكر من العنب، وغيره".

الخمر: مأخوذ من (خَمَر) إذا سَتَر، وهنا يقول: "كل مسكر من العنب، وغيره" منه خمار المرأة لأنه يغطي الوجه، ويستره، وقيل: بأن الخمر سميت بذلك؛ لأنها تستر العقل بهذا الاعتبار، وهذا هو الأقرب، وبعضهم يقول: سميت بذلك؛ لأنها تُركت حتى أدركت.

هنا يقول: "كل مسكر من العنب، وغيره" وهذا رد على من خص الخمر عند الإطلاق بأنها ما كان من عصير العنب المسكر، والواقع أن الخمر في ذلك الوقت ما كانت محصورة بعصير العنب، ثم إن العلة التي من أجلها حرمت الخمر هي الإسكار، فذلك في أي نوع كان، مما يحصل بتعاطيه السُكر، سواء كان ذلك مشروبًا، أم مأكولًا، أم مشمومًا، أم يُتعاطى بطريق آخر بالوريد، أو غيره، وقد جاء عن ابن عمر، والشعبي، ومجاهد، وقتادة، والربيع، وعبد الرحمن بن زيد[1]: بأن أول آية نزلت في الخمر: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ثم نزلت الآية التي في سورة النساء، فنهوا عن أن يقربوا الصلاة، وهم سكارى، ثم نزلت الآية التي في المائدة: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90] فحرمت الخمر.

وعلى هذا فإن الآية التي يذكر بعض أهل العلم أنها أول آية نزلت في الخمر، وهي قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل: 67] يخالف هذا القول قول هؤلاء من السلف: إن أول آية نزلت في الخمر هي هذه.

أما ذاك السَكَر فالمقصود به العصير غير المسكر، قالوا: والله لا يمتن عليهم بالمسكر، ولو كان ذلك قبل التحريم؛ لما فيها من المفاسد.

 "وَالْمَيْسِرِ القمار، وكان ميسر العرب بالقداح في لحم الجزور، ثم يدخل في ذلك النرد، والشطرنج، وغيرهما، وروي أن السائل عنها كان حمزة بن عبد المطلب ".

الميسر يقول: "القمار"، وأصله من يَسَرْت إذا ضربت بالقداح، أو من يَسَر ييسر، وتفسيره بالقمار جاء عن جماعة من السلف كثير: كابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، ومقاتل، والسدي، وعطاء الخرساني، ومكحول، وعطاء بن ميسرة[2] كل هؤلاء قالوا: إن الميسر هو القمار.

وقد جاء عن جماعة من السلف بأن كل شيء فيه قمار من نرد، أو شطرنج، أو غيرهما، فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوزي، والكعاب، فالصبيان قديمًا كان عندهم ألعاب بالجوز، وألعاب بالكعاب، وقد كتب بعضهم رسالة في ألعاب الصبيان قديمًا، ما هي ألعاب الصبيان؟ يشرحها، وتجدون هذه مبثوثة أيضًا في كتب اللغة، فهذا أدخلوه في الميسر، وهذه الألعاب التي يحصل فيها عوض، ونحو ذلك أدخلوها في الميسر، والنبي ﷺ يقول: لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر[3] وألحق بعض الفقهاء ما ينفع المسلمين، ويكون قوة لهم من حفظ القرآن، والسنة، والعلم، والفقه، ونحو ذلك، لكن الأشياء الأخرى التي ليس فيها هذا، فتدخل في الميسر.

ومن الأشياء الشائعة بين الصبيان في العصر الحديث: اللعب الذي بـ(التيل) فهذا من الميسر أيضاً، فبأي حق إذا أصاب هذه أَخَذَها، كان الصبيان منذ زمن قصير في الشوارع، في كل ناحية، يلعبون هذه الألعاب، فهذا من الميسر.

وقوله هنا: "وكان ميسر العرب بالقداح في لحم الجزور" كان العرب يشترك العشرة في الجزور، ويجعلون ذلك على أسهم، ثم بعد ذلك يجرون على أنفسهم هذه القداح، عن طريق الياسر، وهو صاحب هذه القداح، فيضعها في كيس، أو نحو ذلك، ويدخل يده، وهذه القداح مكتوب عليها عبارات تدل على ظفر، أو خسران، أو ليس فيها شيء، فيخرج هذه القداح، فمن ظهر له شيء من الظفر، فإن هذا السهم من الجزور يكون على الآخر الذي خسر، فيكون لهذا من قبيل الكسب، فيكون حاصلًا له، ويغرم ثمنه الذي لم يظهر له الظفر، وهكذا، ثم هذا الجزور يعطونه للفقراء، وكانوا يتفاخرون في ذلك، على خلاف في التفاصيل في طريقتهم في هذا.

ويقول الإمام مالك - رحمه الله -: الميسر ميسران: ميسر اللهو كالنرد، والشطرنج، والملاهي كلها، وميسر القمار، وهو ما يتخاطر الناس عليه[4] يتخاطرون يعني فيه عوض، والأول بدون عوض، هذا الميسر.

وميسر الهوى على هذا، كالنرد، والشطرنج، والملاهي كلها، يدخل في هذه الأشياء: لعب الكيرم، وما يحتف به، ويشبهه من أنواع اللهو، التي هي بأسماء كثيرة، لا أحسنها، معروفة عند هؤلاء الذين يلعبون بها مثل: الظمنة، وغيرها، من الألعاب القديمة، وغيرها مما استجد. 

 "إِثْمٌ كَبِيرٌ نص في التحريم، وأنهما من الكبائر؛ لأن الإثم حرام؛ لقوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ [الأعراف: 33] خلافًا لمن قال: إنما حرمتها آية المائدة، لا هذه الآية".

قوله: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ذهب ابن جرير - رحمه الله - إلى أن المراد بالإثم هنا ما نتج عنهما[5] باعتبار أن الآية هذه قبل تحريم الخمر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ ولو كان المقصود بذلك هو نفس الخمر، فإن ذلك يكون حرامًا باعتبار أن الخمر حرمت بآية المائدة، وحينما نزلت هذه الآية لم تكن الخمر محرمة، فحرمت على التدريج، إذن أين الإثم؟ قال: ما نتج عنهما، والذين ينتج عنهما أنه إذا سَكِر قد يسب نفسه، ويسب دينه، ويسب أهله، ووالديه، ويعتدي، ويضرب، ويتلف، ويقتل، وهكذا في الميسر يؤدي إلى: العداوة، والبغضاء، وأخذ أموال الناس بالباطل، ونحو ذلك، كما هو معلوم، فحملها ابن جرير على الأثر المترتب، وهذا باعتبار أن ذلك قبل التحريم.

وابن جزي نظر إلى هذا الوصف للخمر، والميسر، فقال: نص في التحريم، وأنهما من الكبائر؛ لأن الإثم حرام؛ لقوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ [الأعراف: 33] فابن جزي يعتبر أن تحريم الخمر بهذه الآية، وليس بآية المائدة، وهذا مشكل باعتبار أن آية النساء نهاهم فيها عن أن يقربوا الصلاة، وهم سكارى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء: 43] ويمكن أن يجيب عن هذا:

أن الخمر حرام، وأن الصلاة حال السكر لا تصح، باعتبار أن النهي يقتضي الفساد؛ وذلك على الأقرب - والله أعلم - إذا كان في مثل هذه الصورة، يعني متصلًا بالعبادة المعينة، أو العمل المعين، يقول: "خلافًا لمن قال: إنما حرمتها آية المائدة، لا هذه الآية" وبعضهم يقول: تضمنت هذه الآية ذم الخمر لا تحريمها، حيث ذكر ما فيها من الإثم، والمنافع، وهذا مروي عن جماعة كبيرة من السلف: كابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل[6].

وقال بعضهم: بأن هذه الآية دلت على التحريم، كما يقول ابن جزي، وهذا مروي عن الحسن البصري، وعطاء، وبه قال من أصحاب المعاني: الزجاج[7] وبه قال أيضًا أبو يعلى[8].

أصحاب القول الأول يقولون: إن قوله: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا أنه بعد التحريم؛ لأنه إذا كان الإثم أكبر من النفع، فهذا حرام؛ لأنه كما يقول الشاطبي - رحمه الله -: لا يوجد في هذه الحياة الدنيا لذة خالصة[9] لا بد أن تكون مشوبة، فالعبادات فيها مشقة، ونحو ذلك المطعومات، والمباحات، فيها جانب من الضرر، لكنه يسير، والعبرة بغالب النفع، فيكون حلالًا، فإذا غلب الضرر كان حرامًا، فالشاطبي يقول: لا يوجد منفعة خالصة في الدنيا كما لا يوجد مضرة خالصة في الدنيا، وإنما الضرر، والشر المحض موجود في النار.

فقوله: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا هذا بعد التحريم، وبهذا قال ابن عباس، ومقاتل[10] يعني أن المنافع قبل التحريم بالتجارة، ومن قال: إن هذه الآية تدل على التحريم، فما الإثم، والمنافع؟ قالوا: باعتبار أن إثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما، هكذا قالوا، أي لما كان الأمر محتملًا للتأويل، قال عمر بعد نزولها: اللهم بين لنا[11] لأنه يمكن لأحد أن يتأول فيقول: إذا كان فيها منافع، فلماذا لا ننتفع بها؟ لكن على كل حال المشهور أن هذه الآية كانت توطئة لتحريم الخمر، ولم يحصل التحريم بها، وإنما كان التحريم بآية المائدة، وهنا ذكر لهم بأن فيهما إثم كبير، ومنافع للناس، وذكر هنا شيء من المنافع.

 "وَمَنافِعُ في الخمر التلذذ، والطرب، وفي القمار الاكتساب به، ولا يدل ذكر المنافع على الإباحة، قال ابن عباس: المنافع قبل التحريم، والإثم بعده".

 

هنا في الخمر المنافع يقول: التلذذ، والطرب، والخمر يذكرون فيها أشياء من المنافع بأن الجبان يكون شجاعًا، والبخيل يكون جوادًا، وذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: تهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذة الشدة المطربة، وكذلك أيضًا البيع، والانتفاع بثمنها[12] ولكن العبرة بما غلب، وهذه قاعدة في الشريعة في المحرمات، والمباحات: ما غلب ضرره على نفعه فهو حرام.

وأما القمار فقال: "الاكتساب به" وذكر ابن كثير أيضًا ما كان يقمشه بعضهم من الميسر، فينفقه على نفسه، وعياله[13] فيكتسب من غير تعب، وما يحصل له بسبب ذلك من الفرح، والظفر، ونحو هذا، هذه المنافع لكنها منافع فاسدة.

 "وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ تغليبًا للإثم على المنفعة، وذلك أيضًا بيان للتحريم".

وهذا على القول الذي مشى عليه، لكن سبب النزول مشهور، في حديث عمر لما نزل تحريم الخمر أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا[14]. فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قال: فدُعي عمر، فقُرأت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء: 43] فكان منادي رسول الله ﷺ إذا أقام الصلاة نادى: ألا يقربن الصلاة سكران، فلو كانت الخمر محرمة فكيف يكون هذا مع النداء؟! فدل على أنه كان مباحًا؛ ولهذا كانوا يشربونها بعد العشاء من أجل أن يفيقوا قبل الفجر، أو يشربونها بعد الفجر من أجل أن يفيقوا قبل الظهر، يعني ما يشربونها في الأوقات المتقاربة، فكانت مباحة، فدعي عمر فقُرأت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في المائدة، فدُعي عمر فقُرأت عليه، فلما بلغ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] قال عمر : انتهينا انتهينا، وعمر  من أعلم الناس باللغة، ومن أفقه الناس في كتاب الله - تبارك، وتعالى - فلم يفهم من تلك الآيات التحريم مطلقًا - والله أعلم -. 

"قُلِ الْعَفْوَ أي: السهل من غير مشقة، وقراءة الجماعة بالنصب، بإضمار فعل، مشاكلة للسؤال، على أن يكون (ماذا) مركبًا مفعولًا لـ(ينفقون)، وقرأ أبو عمرو بالرفع بالابتداء، مشاكلة للسؤال على أن يكون (ما) مبتدأ، و(ذا) خبره".

العفو يقال لما تسهّل، وتيسر، ولم يشق على القلب من فضل حوائجهم، وقال بعضهم: بأن العفو هنا المراد به الفضل، يعني فضل المال، من قولهم: عفا الشيء إذا كثر، فيُخرج ما زاد عن حاجته، وهذا ليس في الزكاة، وإنما في نفقات التطوع.

وقال بعضهم: إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، باعتبار أنه كان يجب إنفاق ما زاد عن الحاجة، ثم بعد ذلك نُسخ بفرض الزكاة، مقدار معين يخرجه من المال المخصوص لطائفة مخصوصة، لكن الناسخ لا يثبت بالاحتمال؛ ولهذا أنكر أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - هذا القول، ورده[15]

وقد جاء في صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي ﷺ قال لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا، وهكذا، يقول: فبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك[16] يعني أنفق هنا، وهناك في وجوه البر.

وعند مسلم أيضاً: يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى[17] والمقصود أن ذلك كان في البداية، فكان يجب إخراج ما زاد عن الحاجة، ثم بعد ذلك فرض الله - تبارك، وتعالى - الزكاة، فلو أمسك المسلم ما زاد عن حاجته، فإنه لا يأثم، وأبو ذر لقي النبي ﷺ بمكة، ثم بعد ذلك رجع إلى قومه غفار بأمر النبي ﷺ وبقي مدة، حتى هاجر إلى المدينة، بعد ما هاجر النبي ﷺ بمدة، فكان أبو ذر  له رأي معروف: أن ما زاد عن حاجة الإنسان، فهو كنز يُكوى به جنبه، وظهره، وجبينه[18] ما زاد عن حاجته، يعني غير الزكاة، وخالفه الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - في ذلك؛ ولهذا جاء عن ابن عمر : أن المال الذي أُديت زكاته ليس بكنز[19] وهذا واضح، ولو كان تحت الأرض.

فليس في قوله: مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ما يدل على فرضية ذلك، ومن هنا فإن القول بالنسخ يكون موضع احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، يعني قد يكون ذلك من باب الإرشاد إلى ما ينفق، وهو العفو، وهو ما زاد عن الحاجة، كما دل عليه الحديث: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا، وهكذا» يقول: فبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك[20] وتفسيره بما تيسر، ولم يشق أيضًا، فهذا من معاني العفو، وهو معنى قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] يعني ما تسهّل، وتيسر من الناس، فيما يتصل بأخلاقهم، وما تسمحت به نفوسهم من غير أن يشق ذلك عليهم، يعني لا تستقصي في مطالبة الناس بما يشق عليهم، فيما يتصل بالحقوق، والآداب، ونحو ذلك، لكن هنا في النفقات وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ فهذا التفسير أنه ما سهُل، وتيسر، ولم يشق على نفس الإنسان من فضل حاجته، يجمع بين القولين - والله أعلم -.

يقول: "وقرأ الجماعة بالنصب، خلافًا لأبي عمرو، حيث قرأه بالرفع[21].

فالنصب يقول: "بإضمار فعل مشاكلة للسؤال، على أن يكون (ماذا) مركبًا مفعولًا لـ(ينفقون)" يعني (مركبة) أنها استفهام (ماذا)؟ أما إذا كان (ما) للاستفهام، و(ذا) موصولة، بمعنى (الذي) فالرفع، والمعنى: الذي ينفقونه هو العفو، والنصب باعتبار أن (ما)، و(ذا) شيء، واحد، والمعنى: ينفقون العفوَ، وهو الفضل، هذا على قراءة النصب، وهذا معنى إضمار فعل، مشاكلة للسؤال، السؤال هو: ماذا ينفقون؟ الإضمار: ينفقون العفوَ، فالفعل المقدر مشاكلًا لما ورد في السؤال: ماذا ينفقون؟ ينفقون العفو، فهذا الفعل المضمر، أو الذي ينفقونه هو العفو.

  1.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 579).
  2.  تفسير ابن أبي حاتم (2/ 390).
  3.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الجهاد، باب ما جاء في الرهان، والسبق برقم: (1700)، وصححه الألباني.
  4. البحر المحيط في التفسير (2/ 404).
  5.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 679).
  6. زاد المسير في علم التفسير (1/ 185).
  7.  المصدر السابق.
  8.  المصدر السابق.
  9.  الموافقات (2/ 46).
  10.  البحر المحيط في التفسير (2/ 406).
  11.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن، باب، ومن سورة المائدة برقم: (3049)، وأبو داود في كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر برقم: (3670)، وصححه الألباني.
  12.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 579).
  13.  المصدر السابق.
  14.  سبق تخريجه.
  15.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 692).
  16.  أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة برقم: (997).
  17.  أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة، وأن السفلى هي الآخذة برقم: (1036).
  18.  أخرجه في مسند البزار = البحر الزخار (9/ 340 - 3895)
  19.  أخرجه بنحوه البخاري في كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز برقم: (1404).
  20.  سبق تخريجه.
  21.  النشر في القراءات العشر (2/ 160).

مرات الإستماع: 0

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۝ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:219، 220].

يسألك المؤمنون عن الخمر والميسر، تعاطي ذلك فيما يتصل بالخمر بالشرب والبيع والشراء، وكذلك أيضًا الميسر وذلك هو القمار مما كانوا يتعاطونه في جاهليتهم، ويدخل في ذلك ألوان المغالبات التي يكون فيها العِوض من الطرفين مما يكون من قبيل القِمار، والنبي ﷺ يقول: لا سبق إلا في خف، أو في حافر، أو نصل [1] وإن اختلف الفقهاء -رحمهم الله- في تفاصيل اشتراط المُحلل وهو الطرف الثالث الذي يدفع أو عدم الاشتراط، فهم يسألون عن الخمر والميسر، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، هذا الإثم الكبير مما يكون من الأوزار لكن باعتبار أن هذه الآية قبل التحريم فلا وزر، وإنما يكون ذلك كما يقول بعض أهل العلم في التبعة والأثر كما يقول ذلك أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله[2] يعني ما يترتب عليهما، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ من ذهاب العقل، وما يصدر عن هذا السكران من الأقوال والأفعال التي قد تصل إلى أحوال كالقتل وما إلى ذلك، العدوان على النفوس والأموال والأعراض.

كذلك أيضًا الميسر بأخذ أموال الناس بالباطل، وما يحصل بسبب ذلك من العداوات والشحناء بين الناس، وأما المنافع فإن ذلك كما قيل من كون الخمر يحصل بشربها شجاعة للجبان، وبذل وجود للبخيل، وما يحصل بسبب ذلك من اللذة المُطربة ونحو ذلك مما قد يحصل من بيعها وألوان ما كانوا ينتفعون به، وهكذا بالنسبة للميسر يحصل له مال من غير كد ولا تعب، كما يحصل له لذة من جهة الظفر، يعني يشعر أنه قد انتصر وفاز وحقق كسبًا هذه منافع ضئيلة وغير مُعتبرة إزاء تلك المفاسد من الصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وما إلى ذلك من المفاسد المتنوعة.

وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، فهذه الآية بعض أهل العلم يقولون: إنها دالة على تحريم الخمر والميسر، والجمهور على أن هذه أول آية نزلت في الخمر، ذهب طوائف من أهل العلم إلى أنها تدل على التحريم، واحتجوا بأن الله ذكر فيها علة التحريم: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ، فالإثم لا يجوز مقاربته من جهة، وكذلك في قوله: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، فقاعدة الشريعة أن ما غلبت فيه المفسدة على المصلحة فإنه يكون حرامًا، فهنا قال: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، والذين قالوا: إن هذه ليست للتحريم وإنما هي توطئة للتحريم احتجوا أيضًا بأدلة وأجابوا عن مثل هذا فقوله -تبارك وتعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، بعضهم قال: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، هذا بعد التحريم.

وبعضهم قال: بأن ذلك الإثم الكبير باعتبار الأثر المترتب من قتل أو انتهاك عرض، أو أخذ مال أو نحوذ لك، وكذلك في قوله: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، بعضهم يقول: هذا باعتبار الآثار، وبعضهم يقول هذا بعد التحريم، والذي يظهر -والله أعلم- أن الله -تبارك وتعالى- ذكر ذلك للناس توطئة؛ لتتهيأ نفوسهم لما بعده مما ذكره الله -تبارك وتعالى- في الآيتين من سورة النساء والمائدة، ففي الآية الثانية التي جاء فيها الحديث عن الخمر وهي آية النساء وذلك قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [سورة النساء:43]، فحد من شُربها بحيث إنهم يحتاجون في هذه الحال إلى أن يشربوها في وقتين فقط، إما أن يشرب بعد الفجر من أجل أن يُفيق قبل الظهر، أو أن يشرب بعد العشاء من أجل أن يُفيق قبل الفجر، فصار تعاطيها محصورًا.

كذلك أيضًا نزلت آية المائدة وهي آخر ما نزل في الخمر: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90]، فهنا أمر باجتنابه فذلك نص صريح في المنع، ويدل على هذا التدريج وأن هذه الآية ليست للتحريم أن عمر قال: "اللهم بين لنا في الخمر فنزلت هذه الآية من سورة البقرة، فلم يفهم منها عمر التحريم، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في سورة النساء، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في سورة المائدة، فقال: انتهينا انتهينا"[3] ففهم منها التحريم.

كذلك أيضًا صح: "أنه كان يُنادي منادي رسول الله ﷺ بالصلاة بعد ما نزلت الآية التي في سورة النساء: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43]، إذا نادي المنادي المؤذن يذكر في أذانه أن لا يقرب الصلاة سكران"[4] فلو كانت محرمة آنذاك وآية النساء نازلة بعد هذه لما كان ذلك في الأذان لاستجاب الناس وما احتاج المجتمع المؤمن في ذلك الوقت مجتمع الصحابة إلى أن يُقال في الأذان في شيء محرم أصلاً أن يُقال لا يقرب الصلاة سكران، فهو ليس مجتمع سُكارى بل هو مجتمع إيمان وطُهر ونزاهة ونظافة فلما نزل التحريم في آية المائدة قالوا: انتهينا انتهينا، حتى جاء في حديث أنس : "أنه كان يسقي ساقي القوم في مجلس أبي طلحة فلما سمعوا المنادي على أن الخمر قد حُرمت"، هذا ما حصل إلا بعد نزول آية المائدة، فأمره أبو طلحة أن يقوم إلى تلك الدِنان دِنان الخمر وأن يُريقها أو يشقها، فسالت الطرقات في المدينة بالخمر"[5] هذا لم يحصل قبل آية المائدة فلو كانت محرمة لكان ذلك من أول الأمر.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۝ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [سورة البقرة:219، 220]، يسألونك ماذا ينفقون، ظاهر الجواب قُلِ الْعَفْوَ، أن السؤال كان عن القدر المُنفق، هل ينفقون جميع ما في أيديهم، أو ينفقون بعضه وما مقدار هذا المُخرج، فقال: الْعَفْوَ، والعفو المقصود به ما عفى يعني القدر الزائد عن الحاجة، وظاهر من هذا أن المقصود بذلك غير الزكاة، أن يُخرج الإنسان ما فاض عن حاجته وحاجة أولاده فذلك هو الذي يُنفقه ولا يترك أهله في حال من الحاجة والمسغبة ويتصدق بماله، كذلك البيان والإيضاح يُبين الله لكم الآيات في أحكام الدين والشريعة من أجل أن تتفكروا فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات والفوائد في قوله -تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، حرص الصحابة على الفقه في الدين، كذلك في قوله: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ، وهذه الخمر كانت لربما من أشد الأشياء علوقًا في نفوسهم، كانت نفوسهم متعلقة بالخمر فكانت في مجالسهم تُدار، وتجد في أشعارهم وفي منثورهم من الكلام ما يذكرون فيه هذه الخمر بأسمائها المختلفة، وأوصافها المتنوعة مما يعتبرونه نخوة، ومما يعتزون به ويتفاخرون، فكانت قهوة المجالس كما يُقال، وأُنس تلك المجالس ومع ذلك سألوا عنها، فهذا يدل على شدة حرصهم على مرضاة الله -تبارك وتعالى.

ثم أيضًا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قلنا: بأن الميسر هو القِمار، وقد ذكر الإمام مالك -رحمه الله[6]  أن الميسر ميسران:

النوع الأول: ميسر اللهو وأدخل فيه جميع أنواع اللهو واللعب؛ لأن ذلك يصد عن ذكر الله وعن الصلاة يعني ولو كان من غير عِوض.

والنوع الثاني: وهو ميسر القِمار وذلك ما يكون فيه معاوضة أو ما يكون فيه مُغالبة ومُقامرة ونحو ذلك بالعِوض، فأدخل الفقهاء -رحمهم الله- في الميسر أنواعًا من المُغالبات التي يكون فيها العِوض إلا ما اُستثني بالحديث، وما ألحقوا به على سبيل القياس مما يكون به قوة الأمة وعزها ومنعتها، وما عدا ذلك فإنه غير داخل فيه، لقوله ﷺ: لا سَبَق، هكذا بفتح أوله وثانيه، سبق يعني العِوض والجائزة، وضبطه بعضهم: لا سبْق بفتح أوله والسكون على الباء يعني المُسابقة إلا في ثلاث: النصل، يعني: الرمي بالسهام والسباق بالإبل؛ لأنه ذكر الخُف، وكذلك الحافر على الخيل.

فهذا يحصل فيه قوة للأمة ولا شك أنه يكون مما يحصل به عزتها وإعدادها لعدوها، ألحق فيه بعض الفقهاء المسابقات في الحديث والقرآن ونحو ذلك، أما المُغالبات الأخرى التي لا تورث قوة ولا نفعًا فإن ذلك لا يصح فيه العِوض، أما ما يورث العداوة والبغضاء والشحناء فإنه لا يجوز ولو كان من غير عِوض، بهذا التفصيل.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، هذا كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- هو شأن جميع المحرمات يعني أن فيها الإثم الكبير وأن الإثم فيها أكثر من النفع، يقول: "فإن فيها من القوة الخبيثة التي تؤثر في القلب ثم البدن في الدنيا والآخرة، فهذا يُربي على ما فيها من منفعة قليلة تكون في البدن وحده في الدنيا خاصة"[7] يعني: هذه المحرمات كالخمر وغيره كالدُخان ونحو ذلك كالحشيش والمُخدرات وسائر المحرمات، وأكل الميتة أكل السِباع، هذا يؤثر في بدن الإنسان، فهذا الذي ذكره شيخ الإسلام في شأن جميع المحرمات يقول: "فإن فيها من القوة الخبيثة التي تؤثر في القلب ثم البدن في الدنيا والآخرة"، يعني: أكل الحرام سواء كان ذلك من المكاسب المحرمة كالربا والرُشى ونحو ذلك، أو هذا المُحرم لكسبه، وكذلك المحرم لوصفه كالميتة والخمر والخنزير والسِباع ونحو ذلك، هذا يؤثر في القلب ويؤثر في البدن، يعني قد يكون هذا الإنسان من أهل الغواية يؤثر الضلال على الهدى لا ينتفع بالموعظة، هذا أثر في القلب، الزيغ.

وكذلك أيضًا الأثر في البدن من الأمراض والعِلل والأسقام ولهذا قال النبي ﷺ بأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليه[8] فبعض الناس يتحدثون عن أشياء من التداوي بأنواع من المحرمات فالجواب هو هذا أن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها.

إذًا هذه المحرمات بجميع أنواعها لا يوجد فيها شفاء ولو قال ذلك قائلون، فهذا كلام المعصوم -عليه الصلاة والسلام.

ثم هنا ذكر المعيار في باب الحلال والحرام في غير ما ورد فيه النص، أنه يُنظر في المنافع والمضار، ولا يوجد كما يقول الشاطبي -رحمه الله- في هذه الحياة الدنيا منفعة ولذة خالصة من كل وجه[9] يعني: لا يشوبها مفسدة، كما أنه لا يوجد مفسدة خالصة من كل وجه، وإنما يوجد منافع يشوبها شيء من المضار لكن العبرة بما غلب، على سبيل المثال اللحوم الأطباء يقولون: حينما يُكثر الإنسان من اللحوم يوجد شيء من الأثر والضرر سواء كانت اللحوم الحمراء أو غير ذلك، لكن هل هذا يعني أنها محرمة؟

الجواب: لا، فإن المنافع التي فيها غالبة، وهكذا ما ذكره صاحب المراقي في العِنب قد يزرعها بعضهم من أجل الخمر يأخذ العنب من أجل أن يُخمر، وكذلك الفواكه، فما حُرمت من أجل هذا؛ لأن هذه مفسدة محصورة محدودة في مُقابل الانتفاع الكبير الواسع لهذه الفواكه.

وانظر تدلي دوالي العنب في كل مشرق وكل مغربِ[10]

يعني: ما أفتى العلماء بالتحريم، تحريم العنب مثلاً مع أنه يُعصر منه الخمر، فالعبرة بما غلب.

وهكذا ذكروا أمثلة قالوا: اختلاط الرجال والنساء في البلد الواحد، قد يحصل أن هذه تلقى هذا ولربما تكون علاقة محرمة معه هذه مفسدة، لكن ما قال أحد من أهل العلم في عصر من العصور بأنه يجب عزل الرجال عن النساء في البلد الواحد، بمعنى: أن الرجال يسكنون وحدهم والنساء يسكن وحدهن، ويوضع حصن على النساء لا يصل إليهن أحد، ما أحد قال هذا؛ لأن تلك المفسدة المتوقعة محصورة محدودة في مقابل المنافع العظيمة التي تحصل من اجتماع الرجل بأهله وذويه من محارمه ونحو هذا، فهذا مع أهله وهذا مع أهله وهذا مع أهله وهكذا يكّون المجتمع، فهنا أُهدرت المفسدة القليلة المُحتملة، فما لم يرد فيه النص يُنظر فيه إلى ما غلب، فإذا غلبت المفسدة فإن ذلك يُقال: إنه محرم، وما غلبت فيه المنفعة والمصلحة فإنه يكون مُباحًا فإذا استوت المصلحة والمفسدة كان ذلك موضع اجتهاد.

كذلك أيضًا في قوله: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، هذا من حيث الجملة لكن ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله، أنه إذا لم يجتمع التمييز واللذة فهو إما صحو بلا لذة[11] تمييز العقل يعني، وإما لذة بلا عقل، ففي هذه الحال بالنسبة لأهل الإيمان أن المُترجح هو التمييز والعقل على تلك اللذة التي في الخمر، فيقول أهل الإيمان: العقل والصحو هو المصلحة في حقهم، لكنه ذكر الكفار الذين يقتلون النفوس ويأخذون الأموال وينتهكون الأعراض يقول هؤلاء اللذة وذهاب العقل بالنسبة إليهم أفضل من الصحو؛ لأن هؤلاء إذا صحوا قتلوا النفوس وأخذوا الأموال، ولهذا مر -رحمه الله- مع طائفة من أصحابه على قوم من التتر يشربون الخمر، فوقف بعض أصحابه يُريد الإنكار فأمرهم شيخ الإسلام -رحمه الله- أن يمضوا وقال: " إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم"[12] لا لأن الخمر مُباحة ولكن باعتبار النظر في ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما.

فأحيانًا قد يكون إنكار المُنكر سببًا لمفسدة أعظم فيُترك إن لم يمكن نقله إلى المعروف فيُترك على حاله، مثلاً: هذا الإنسان الذي لربما يقضي وقته في أمور تُضيع عليه الزمان وقد تورث الشحناء والبغضاء بلعب الورق ونحو ذلك يقضي ليلاً طويلاً حتى فروع الصبح فمثل هذا إذا ترك ذلك أين سيذهب وبماذا سيقضي وقته، فإذا كان سيقضي وقته بمفاسد وأذى الناس وتتبع أعراض الناس والعدوان عليهم فمثل هذا يُقال: الإنكار عليه غلط، فهو يشتغل بهذا أفضل من أن يذهب ويُفسد في الأرض، فالشريعة جاءت بتحصيل المصالح ودرأ المفاسد.

ويؤخذ من هذه الآية: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، والتعبير بـ"في" يدل على أن الإثم متوغل في الخمر والميسر، فهو مُتغلغل فيهما، هو داخل فيهما دخولاً بحيث لا ينفك عنهما بحال من الأحوال، وهذا يدل على شدة تعلق الإثم بهما، فذلك من التعبير بالظرفية "في" حرف يدل على الظرفية.

كذلك أيضًا تنكير الإثم: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ، فهذا يدل على شدته وعِظمه وفداحته ووصفه أيضًا بالكبير، فدل على أن هذا الأمر من شرب الخمر والمُقامرات بجميع أنواعها أن هذا لا يجوز بحال من الأحوال.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية العناية بباب المصالح والمفاسد فهذا هو حقيقة الفقه في الدين، فليس الفقيه هو الذي يعرف الحلال من الحرام من غير تمييز بين المصالح والمفاسد، وإنما الفقيه هو الذي يعرف خير الخيرين عند التزاحم وشر الشرين، يعني: حتى قاعدة درأ المفاسد مُقدم على جلب المصالح هذه ليست على إطلاقها، أحيانًا تُقدم المصالح على درأ المفاسد، وذلك أن المفاسد والمصالح المتعلقة بالضرورات والحاجيات والتحسينيات مُتدرجة، يعني: أعلى الضروريات وهي خمس أعلاها الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم العرض، ثم المال، بهذا التدريج.

فإذا كانت المصلحة تتعلق بالدين والمفسدة تتعلق بالمال مثلاً وكل ذلك من الضروري فهنا لا نقول: درأ المفسدة مقدم على جلب المصلحة، نقول: جلب المصلحة مقدم على دفع المفسدة، ولذلك فإن الجهاد في سبيل الله تذهب فيه النفوس وتُبذل في سبيله الأموال، فهذا ذهاب للنفوس والأموال ويكون شهيدًا، وتُبذل الأموال في هذا السبيل وتكون نفقة في سبيل الله وهي من أنفع وأجل وأعظم النفقة، فذهاب النفوس والأموال في سبيل تحقيق مصلحة وهي إعلاء كلمة الله فصار جلب المصلحة مقدم على دفع المفسدة، فهذه القاعدة: درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، صحيحة في حالتين: فيما إذا استوت في المرتبة المصلحة والمفسدة، أو كانت المفسدة أعلى درجة من المصلحة. 

 

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:220]، يسألك المؤمنون عن اليتامى كيف يكون التصرف معهم في معاشهم وأموالهم؟

فكان الجواب: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ، أي: إصلاحكم لهم خير، بمعنى: أن تسعوا إلى فعل الأصلح والأنفع لهؤلاء اليتامى بحفظ أموالهم وحقوقهم، وإن تخالطوهم في سائر شؤون المعاش فهم إخوانكم في الدين، يعني: أنهم كانوا يتحرزون من أموال اليتامى لاسيما بعد أن نزل قول الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [سورة النساء:10]، فاحترزوا وخافوا فالرجل يكون في حِجره اليتيم فيعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، وهذا أمر شاق، فكانوا يفعلون ذلك تحرزًا من أن يصيبوا شيئًا من أموال اليتامى بغير قصد، فلما لحقتهم المشقة سألوا النبي ﷺ فجاءت التوسعة والرُخصة لكن بهذا الضابط وبهذا القيد، قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ.

السعي في الإصلاح لهم وفي حال المُخالطة فإن الله -تبارك وتعالى- قد رخص في ذلك وهو عالم بمن يقصد بذلك الإصلاح وحفظ أموال اليتامى ومن يقصد إتلافها وأكلها، فكان ذلك رُخصة لهم في المُخالطة: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ، فيمكن أن يُقدر لليتيم قدرًا من الطعام الذي يصنعه لنفسه وعياله، فيكون ذلك من مال اليتيم القدر الذي يكون لليتيم لكن قد لا يأكله اليتيم، وقد يأكل بعضه ويترك بعضه، فينالون من ذلك شيئًا، والله يقول: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [سورة النساء:10]، فخافوا من هذا الوعيد، فجاءت هذه الرُخصة فصار ذلك قد رُفع الحرج فيه إذا كان قصد هذا المُخالط لهم الإصلاح لأموالهم ومعاشهم دون قصد الإتلاف: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [سورة البقرة:220]، يعني: لضيق عليكم وشق عليكم بتحريم المُخالطة لهؤلاء الأيتام: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:220]، متصف بالعزة فهو لا يُغالب ولا يُمانع عزيز في ملكه وفي شأنه كله، حكيم في خلقه وتدبيره وتشريعه من حفظ أموال الضعفاء في المجتمع لكن بحيث لا يلحق من يقومون على هؤلاء اليتامى المشقة، ويحصل لهم بسبب ذلك العنت فيؤدي هذا إلى أيضًا التخلي عن اليتامى، وعن رعايتهم حذرًا من مُقاربة أموالهم ولو كان ذلك بغير قصد.

يؤخذ من هذه الآية من الفوائد كما ذكرنا في الليلة الماضية حرص الصحابة رضي الله عنه- على الاستفصال عن ما نابهم وأشكل عليهم، وكذلك أيضًا أن المرجع في ذلك إلى رسول الله ﷺ إلى المُشرع وليس إلى الآراء والأذواق والعقول وما أشبه ذلك فهم يسألون النبي ﷺ لم يرجعوا إلى عقولهم وإنما رجعوا إليه -عليه الصلاة والسلام- ليعرفوا الحكم الشرعي، وهكذا اللائق بأهل الإيمان أن يسألوا أن يطلبوا الحكم الشرعي بالسؤال عنه، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة النحل:43].

ويؤخذ من هذه الآية لزوم مراعاة الإصلاح فيمن جعل الله له ولاية على غيره: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، فإذا كان هذا في اليتامى فكذلك كل من تحت يد الإنسان ممن يعولهم، أو يرأسهم فإنه يجب عليه أن يسعى في الإصلاح: الزوجة والأولاد، وكذلك من تحت يده من الموظفين، أو الرعية، أو التلاميذ، أو نحو ذلك أن يسعى جهده فيما هو الأصلح والأنفع لهم، فلا يُضيع هؤلاء؛ لأن الله -تبارك وتعالى- سيسأله عنهم، ولو أن هذا المعنى روعي في كل الولايات لرأيت الحال غير الحال التي نحن عليها، لو أن المدير يفعل ذلك فيمن استرعاه الله ، ورب الأسرة يفعل ذلك فيمن تحت يده، وكذلك أيضًا المُعلم حينما يدخل على تلامذته ونحو ذلك، فهذا لا شك أنه سيدفعه ويحمله على بذل الجُهد في النفع والإصلاح ما استطاع.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، السعي في الإصلاح لهؤلاء اليتامى، والعمل الذي ينفعهم ويحفظ أموالهم فهذا من التكافل الاجتماعي الذي جاءت به هذه الشريعة بحفظ حقوق هؤلاء الضعفاء الذين لا يستقلون بحفظها، فهم سيكونون عُرضة لكل آسر وكاسر فتضيع أموالهم وحقوقهم ثم بعد ذلك يصيرون إلى حال من الضياع فجاءت هذه الشريعة بالاحتراز لهم: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الأنعام:152]، يعني: بالخصلة التي هي أحسن، من تثميره، وحفظه، وصيانته، والاتجار به بالطرق المأمونة.

وكذلك أيضًا المُخالطة كما ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية بحسب القيد المذكور فيها، فرعاية الضعفاء وحفظ أموال اليتامى هؤلاء الصغار الذين فقدوا آباءهم ينبغي الاحتياط والاحتراز لحقوقهم فقد عظمها الله -تبارك وتعالى- وتوعد من اعتدى وانتهك تلك الحقوق وأكل تلك الأموال.

قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ، فهذا جاء بصيغة الشرط: فَإِخْوَانُكُمْ، يعني: أن هذه رخصة الأصل هو حفظ أموال هؤلاء اليتامى والاحتراز لها من غير مسيس لشيء منها، لكن لو احتاج إلى مخالطة هذا اليتيم في ماله بحيث يُقدر لهذا اليتيم كم يكون له من المصروف الشهري بحسب طعامه وشرابه بحسب سنه وحاجاته في دراسته وأكله وشربه ونحو ذلك فيُقدر له، فيأخذ من مال اليتيم هذا المقدار المُعتدل بحسب العرف وبحسب المكان الذي هم فيه، وبحسب العصر الذي يعيشون فيه.

فلو قُدر أن هذا اليتيم صغير عمره ثلاث سنوات أو أربع سنوات فلربما يُقدر له مبلغًا من المال في العُرف أنه يكفيه؛ لأنه ليس له مطالب زائدة من دراسة ونحو ذلك فقد يُقدر له مثلاً سبعمائة ريال في الشهر ونحو هذا بحسب المكان والزمان، الذي يعيش في المدينة ليس كالذي يعيش في الريف، والذي يعيش في البادية ليس كالذي يعيش في القرية، والذي يعيش في مكان فيه غلاء غير الذي يعيش في مكان تكون الأسعار فيه مُتدنية، فهذا كله يُراعى بالمعروف.

وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ، فلا يحتاج إلى عزل طعام اليتيم وحاجات اليتيم ومصاريف اليتيم، إذا كان هذا اليتيم في سن لربما فوق ذلك في المدرسة وهو يحتاج إلى مصاريف ونحو ذلك أكثر فيمكن أن يُقدر ذلك له في الشهر فتكون المشتريات لأهل البيت جميعًا، ويكون نصيب هذا اليتيم بهذه الحصة مقدرة، قد يأخذ أكثر قليلاً وقد ينقص قليلاً لكن لا يلحقهم حرج إن كان قصدهم في ذلك الإصلاح لهذا اليتيم وحفظ مال اليتيم، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ

ولاحظ هنا جاء السياق بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب، قال: وَيَسْأَلُونَكَ، هؤلاء الذين يسألون غائبون، ويسألونك هم يعني، يسألونك يعني أصحاب النبي ﷺ، فلما جاء بالجواب: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، فجاءت موضع الإشكال وهو المخالطة في أموالهم، قال: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ، فتحول الخطاب من الغائب إلى المُخاطب؛ لأن هذه هي القضية المُشكلة الحساسة التي تحرجوا وتحرزوا فيها فوجه إليهم الخطاب فذلك فيه من إيقاظ النفوس، والتنبيه لهذا المُهم الذي سألوا عنه وتحرجوا منه، من أجل أن تتهيأ نفوسهم لتلقيه وسماعه وفهمه.

وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [سورة البقرة:220]، يعني: المقاصد مؤثرة ليست العبرة بكلام الإنسان الجميل الذي يقوله فقد تسمع كلامًا في غاية الحُسن من الورع والتحرز من الأموال المحرمة لاسيما أموال اليتيم، وقد يتحدث عنه إنجازاته وأعماله وحرصه، وبذله وإنفاقه من جيبه الخاص على هذا اليتيم مع غِناه، ولكن قد تكون الحقيقة غير ذلك، هذا الإنسان الذي لربما يحتاج إلى مُخالطة اليتيم في تلك المصروفات في أمور المعاش قد يكون بذلك قاصدًا الإتلاف والانتفاع بأموال اليتيم فيشترك أولاده معه، وتكون النفقة واحدة ولربما كان أغلب ذلك من مال هذا اليتيم، نفقة هؤلاء الأولاد، لربما جعل هذا اليتيم يدرس في مدرسة خاصة مرتفعة التكاليف وأدخل معه ولده الذي هو قرين لهذا اليتيم في سني الدراسة بزعمه أنه يريد تسليته بذلك وتقوية عزيمته والشد من أزره فتكون النفقة على مال اليتيم، ويقول: إنما أدخلته معه إلى هذه المدرسة لمصلحة اليتيم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.

قد يقول هذه النفقات في الطعام والشراب والمصروفات من ملابس ونحو ذلك، هذه نُقدر لليتيم قدرًا فيها لكنه بعد أن دخل عليه هذا اليتيم تغيرت المشتريات فصارت الأنواع في الطعام والشراب واللباس من أنواع عالية التكاليف فاخرة في أنواعها وصنوفها، ولم يكن ذلك من معهوده، إنما حصل له هذا التوسع بعد دخول هذا اليتيم عليه، وهكذا، وقد يقول: بأنه يُريد أن يُسافر بهذا اليتيم من أجل العمرة أو من أجل النُزهة ونحو ذلك وقصده بذلك أن يعتمر هو فيقول أنا مرافق وإنما ذهبت من أجله والنفقة من مال اليتيم فيذهب ويتنزه أو يعتمر في سفر طاعة وقُربة ثم بعد ذلك يأخذ من مال هذا اليتيم نفقات هذا السفر، وقد يكون ليس من عادته أن يسكن في الدور والفنادق ذات التكاليف المرتفعة، كان يسكن في شُقق متواضعة وبعيدة عن الحرم ولكن لما جاء هذا اليتيم صار يسكن في أحسن الفنادق يقول: من أجل أن لا نشق عليه من أجل الرفق بهذا اليتيم ونحو ذلك، ويقول: إنما جاء فرق السعر بسبب هذا اليتيم مراعاة له، فبدلاً من أن يستأجر بمائتي ريال صار يستأجر في الليلة الواحدة بألفي ريال ليقول: أنا فعلت ذلك من أجل هذا اليتيم؛ لئلا أشق عليه، رفقًا به، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.

 فهذه الآية تجعل القائم على مال اليتيم بل تجعل المسلم يتوقف طويلاً معها فهذا لا يختص باليتامى، هذه قاعدة عامة: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، هذه يُقال فيمن يقوم على الأموال الخيرية، الجمعيات الخيرية، قد يتوسع في المشتريات، قد يذهب ويُسافر ويذهب ويجيء في الشهر عدة مرات ويمكن أن يُسافر مرة واحدة.

قد يكون من عادته هذا الإنسان أنه لا يُسافر إلا بالدرجة السياحية فصار يُسافر في الدرجة الأولى لأنه يُسافر من أموال هذه الجمعية، فالله يعلم المفسد من المصلح.

وكان يأكل ألوانًا من المطعومات فصار يأكل أنواعًا أخرى عالية التكاليف، ويقول: إنما سافرت من أجل مصالح هذه الجمعية وأعمال الجمعية ومشروعات الجمعية، كان يمكن أن يكتفي بسفرة واحدة في السنة أو في الشهر فتجد أنه يذهب ويجلس يوم أو يوم ونصف يُسافر بالدرجة الأولى ثم يرجع ثم بعد ذلك يقول بعد أيام أُسافر مرة أخرى، وبعد أيام، فتجد أن التكاليف في هذه الأسفار والتذاكر ونحو ذلك باهظة الثمن من أجل أن يُقيم مشروعًا أو مسجدًا لربما إذا حُسبت هذه المصروفات التي أنفقها لا تُعادل لا تصلح بالنسبة الموزونة مع نفقات هذا المشروع، بل قد يُنفق المال الذي أُعطي له من أجل شراء هذه الأرض لهذا المسجد أو نحو ذلك يقول أنفقتها في السفر من أجل ذلك والذهاب هنا وهناك وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.

فكل هذا ينبغي أن يُحترز له، وأموال الجمعيات الخيرية، وأموال التبرعات ونحو ذلك هذه ينبغي أن يُتعامل معها كالتعامل مع مال اليتيم، كيف يتعامل مع مال اليتيم يحترز قد يتوسع في ماله لكن هذه الأموال لا يتوسع فيها، وأضعف الإيمان أن يُعامل نفسه فيها كما يتعامل مع ماله الخاص، عندما يدفع من ماله الخاص يحترز ويحتاط ويبحث عن الأرخص في الأُجرة ونحو ذلك.

فهكذا ينبغي أن يتعامل مع هذه الأموال، ويحفظ ذلك، أما أن يتوسع، وإذا جاء في نهاية الميزانية ويجد أنه سيبقى فائض منها ثم بعد ذلك يشتري أجهزة وأشياء لا حاجة إليها، يقول: من أجل أن لا نُرجع من هذه الميزانية شيء فيُخصم علينا في السنة القادمة ميزانية العام القادم، فهذا لا يجوز، وهذا من هذا الإتلاف، سواء كان ذلك في أموال التبرعات، أو كان ذلك في الأموال العامة من بيت مال المسلمين، يعني: هو يقوم على مصلحة يقوم على جهة ترجع في ميزانياتها إلى بيت مال المسلمين، يعني جهة حكومية، فلا يجوز له أن يتصرف بفائض الأموال بحيث يُريد أن يُنفقها بأي وجه كان يبحث عن نفقات، يبحث عن أشياء من أجل أن يُنهي هذه الميزانية فلا يرجع منها شيء هذا من إضاعة الأموال العامة، ولا تبرأ الذمة بذلك، فينبغي الاحتياط والاحتراز في هذا.

وهكذا في هذا الختم: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فهذا فيه تهديد مُبطن، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- عزيز غالب قادر فيأخذ المُفسد، وكذلك أيضًا لو شاء لأعنتهم وألحق بهم الحرج، فكلفهم التكليف الشاق بفصل مال اليتيم تمامًا عن أموالهم فلا تحصل المُخالطة أصلاً ويُسد هذا الباب. 

  1. أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في السبق، برقم (2574)، والترمذي، أبواب الجهاد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرهان والسبق، برقم (1700)، والنسائي، كتاب الخيل، باب السبق، برقم (3585)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7498).
  2. تفسير الطبري (3/ 676).
  3. تفسير ابن كثير (2/ 308). 
  4. تفسير ابن كثير (2/ 309).
  5. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب صب الخمر في الطريق، برقم (2464)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، وبيان أنها تكون من عصير العنب، ومن التمر والبسر والزبيب، وغيرها مما يسكر، برقم (1980).
  6. تفسير القرطبي (3/ 52).
  7. مجموع الفتاوى (21/ 570).
  8. أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (7509)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (9714)، وعلقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم (7/ 110)، كتاب الأشربة، باب شراب الحلواء والعسل، وصححه الحافظ ابن حجر في فتح الباري لابن حجر (10/ 79)، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (4/ 175).
  9. انظر: الموافقات (2/ 360).
  10. نشر البنود على مراقي السعود (2/ 266).
  11. الاستقامة (2/ 165). 
  12. انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 13)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 207).