السبت 24 / ربيع الأوّل / 1446 - 28 / سبتمبر 2024
فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ ۗ وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَٰمَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ ۚ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله: كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۝ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [سورة البقرة:219-220]، أي: كما فصل لكم هذه الأحكام، وبيَّنها، وأوضحها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه، ووعده، ووعيده.
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: يعني في زوال الدنيا، وفنائها، وإقبال الآخرة، وبقائها"
ومن أهل العلم من يقول: في الجزء من الآية تقديم وتأخير: أي: كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون فيهما، ودعوى التقديم والتأخير لا وجه لها، ولا حاجة إليها؛ لأن المعنى ظاهر بدونها.
قوله سبحانه: فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ قيل: إنها متعلقة بالتبيين، والمعنى كذلك يبين لكم الآيات في الدنيا والآخرة، وهذا لا حاجة إليه ويتغير به المعنى، والأقرب تعلقها بالتفكر، والمعنى كذلك يبين الله لكم الآيات من أجل أن يحصل لكم الاعتبار والتفكر في الدنيا والآخرة، وهو ما ذكره ابن عباس - ا -.
وقال بعضهم: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ  أي تتفكرون في أمرهما بزوال هذه، وبقاء هذه.
وقيل: إنها خطاب للإنسان إنك إذا تفكرت في دنياك أصلحت فيها ما تحتاج إليه من أمر المعاش، وإذا تفكرت في آخرتك حاسبت نفسك، وعملت لآخرتك، وأنفقت في وجوه البر، فيكون الإنسان مصلحاً لأمر معاشه، ومعاده، وهذا المعنى وإن كان قريباً من الأول، إلا أن ثمة فرقاً بينهما يدركه المتمعن فيهما، ويمكن الجمع بين هذه المعاني فنقول: إن التفكر يحصل بذلك كله، لأن الله لم يحدد شيئاً دون شيء، فيُبقي الإنسان عنده ما يحتاج إليه في هذه الحياة، ولا يكون ذلك مانعاً له من النفقة، والصدقة، والله أعلم.
قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ [سورة البقرة:220] الآية.
"روى ابن جرير عن ابن عباس - ا - قال: لما نزلت: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الأنعام:152]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10]، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ، فأنزل الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم[1]" وهكذا رواه أبو داود والنسائي والحاكم في مستدركه، وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد، وعطاء، والشعبي، وابن أبي ليلى، وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف.
وروى وكيع بن الجراح عن عائشة - ا - قالت: "إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة، حتى أخلط طعامه بطعامي، وشرابه بشرابي، فقوله: قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ أي على حدة، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ أي وإن خلطتم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم؛ فلا بأس عليكم؛ لأنهم إخوانكم في الدين، ولهذا قال: وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ أي يعلم مَن قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح.
وقوله: وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي ولو شاء الله لضيق عليكم، وأحرجكم، ولكنه وسع عليكم، وخفف عنكم، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن كما قال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الأنعام:152]، بل قد جوز الأكل منه للفقير بالمعروف، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر أو مجاناً كما سيأتي بيانه في سورة النساء إن شاء الله، وبه الثقة".
فلما تهدد الله وتوعد الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [سورة النساء:10] وقع الحرج لدى الناس، فصاروا يعزلون طعامهم عن طعامهم، ويضعون طعامهم في إناء، وطعام اليتيم في إناء مختلف، وإذا أبقى اليتيم طعاماً فلا ينتفع به أحد، بل يترك حتى يفسد، فلحق بالناس مشقة شديدة جراء ذلك، فأنزل الله التخفيف عليهم بقوله سبحانه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ والمعنى: أنْ تثمر ماله، وتقوم بإصلاحه دون مخالطة، أو تأخذ شيئاً منه لقيامك عليه، ورعايتك للمال، ولصاحبه اليتيم؛ دون إجحاف فهذا أفضل؛ لما في هذا الصنيع من صيانة لمال اليتيم، وحفظ ورعاية له، وللمفسرين أقوال في تأويل الآية، لكن هذا من أقربها، ومن أكثرها ملاءمة للسياق، ويعتبر من أحسن ما تفسر به الآية، ولفظة خير في الآية يمكن أن تكون بمعنى أفعل التفضيل: "أخير"، ومعلوم أن صيغة خير وشر تأتي بمعنى التفضيل أحياناً، كما قال ابن مالك - رحمه الله -:
وغالباً أغناهم خير وشر عن قولهم أخير منه وأشر
وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ المخالطة قيل: المعاشرة، وقيل: هي المصاهرة التي وردت في سورة النساء: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ [سورة النساء:3] إذ إن المعنى المشهور للآية: إن خفتم أن لا تعدلوا في اليتيمة، ويقع منكم ظلم تجاهها؛ فلا تنكحوهن، إذ إن الظلم الواقع على اليتيمة أعظم من الذي يقع على غيرها، وقد قال الله لنبيه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [سورة الضحى:9]، فاليتيم له حق زائد؛ لأنه بحاجة إلى مزيد رعاية وعناية تعويضاً له عما فقده من الأبوة.
والصواب أن المقصود بالآية إنما هو المخالطة في المال والنفقة لكونهما سببا التحرج، فلذلك يدخلان في الآية دخولاً أولياً، والمخالطة في المال والنفقة تقع على صور متعددة، يقدرها ولي اليتيم بحسب استهلاكه من النفقة في قوته، ومعاشه؛ تماشياً مع العرف السائد بين الناس، ويحسب حساب القائم على مال اليتيم بالتربية، وحسن التنشئة إذا كان محتاجاً فقيراً، فله أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف وهو حق ضمنه الله له بقوله: وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [سورة النساء:6]، ومن المعروف أن لا تكون النفقة التي يتعاطاها على سبيل التوسع أو التقتير، أو من المبادرة والاستغلال لماله قبل أن يبلغ سن الرشد كما قال الله : وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ [سورة النساء:6]، يريد أن يقول: ادفعوا أموال يتاماكم أيها الولاة والأوصياء، ولا تأكلوها مسرفين في الأكل، ومبادرين بالأخذ خشية أن يكبروا، بأن تفرطوا في إنفاقها، وتقولوا: ننفقها كما نريد قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا.
ولهذا عقّب بقوله: وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ جملة على قِصر لفظها، واختصارها؛ إلا أنها حملت معنى عظيماً لا يقوم غيرها مقامها في تأديته، إذ إن الكثير من الأمور قد لا يعلمها الناس، ولا يستطيعون الحكم عليها بالصواب والخطأ عند التصرف؛ لأن هذا يرجع إلى قضايا تتعلق بالعرف والحاجة، فيبقى قوله: وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، فالمصلح: من قصد حفظ مال اليتيم، وصيانته، ورعايته، والمفسد: من قصد استغلال مال اليتيم لحظوظه، ومصالحه الشخصية، والله المطلع على خفايا النفوس وما تضمره الصدور، فمثل هذه الآية تجعل الإنسان يعامل الله في تصرفاته إزاء هذا اليتيم، وماله، لأنه يعلم أنه إن خفي على الناس تصرفه، فإنه لن يخفى على الله الذي قال عن نفسه: إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء [سورة آل عمران:5].
قوله: وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ العنت: هو الضيق، والشدة، فإذا شدد عليكم لحقكم الحرج، والله أعلم.
  1. رواه أبو داود برقم (2873) (3/73)، والنسائي برقم (3669) (6/256)، والحاكم في مستدركه برقم (2499) (2/113)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3669).

مرات الإستماع: 0

"تَتَفَكَّرُونَ ۝  فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ أي: في أمرهما".

يعني كذلك يبين هذه الآيات الواضحات كذلك البيان لعلكم تتفكرون في الدنيا، والآخرة، يعني كما فصّل الله هذه الأحكام، فكذلك يوضح بمثل ذلك سائر آياته، وأحكامه، كي نتفكر من خلالها فيما شرعه الله - تبارك، وتعالى - من أحكام، تتعلق بالدارين: الدنيا، والآخرة؛ ولأجل أن يقودنا ما فيها من الوعد، والوعيد، والثواب، والعقاب، إلى التفكر في الدنيا، وسرعة انقضائها، وإقبال الآخرة، وبقائها، فنزهد في الدنيا، ونقبل على الآخرة، كما جاء عن ابن عباس - ا -[1].

وهنا يقول: "أي في أمرهما" يعني في أمر الدنيا، والآخرة، وتحسبون من أموالكم ما تصلحون به معايش دنياكم، وتنفقون الباقي فيما يقربكم إلى الله - تبارك، وتعالى - .

وبعضهم يدعي أن الآية فيها تقديم، وتأخير، وهذا خلاف الأصل، فالأصل في الكلام أنه على نسق، كما جاء في كلام الله - تبارك، وتعالى -  فهؤلاء الذين قالوا ذلك، قالوا: يكون هكذا: كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا، والآخرة، لعلكم تتفكرون في الدنيا، وزوالها، وفي الآخرة، وبقائها، فترغبون في الآجلة عن العاجلة.

"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى كانوا قد تجنبوا اليتامى تورّعًا، فنزلت بإباحة مخالطتهم بالإصلاح لهم".

هذه الآية: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى جاء في سبب نزولها عن ابن عباس - ا - قال: لما نزلت: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام: 152] وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا انطلق من عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيُحبس له، حتى يأكله، أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، يعني شق ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فأنزل الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى فخلطوا طعامهم بطعامه، وشرابهم بشرابه[2] فكان ذلك تخفيفًا، فهذا سبب النزول.

"فإن قيل: لم جاء (يسألونك) بالواو ثلاث مرات، وبغير واو ثلاث مرات قبلها؟

فالجواب: أن سؤالهم عن المسائل الثلاث الأول وقع في أوقات متفرقة، فلم يأت بحرف عطف، وجاءت الثلاثة الأخيرة بالواو لأنها كانتا متناسقة".

إن قيل: لم جاء (يسألونك) بالواو ثلاث مرات، وبغير، واو ثلاث مرات قبلها" هذا ملحظ بلاغي، وكما ذكرنا أن هذه الأمور هي من الأمور الظنية، يعني لا يُقطع بها.

قوله: "فالجواب: أن سؤالهم عن المسائل الثلاث الأول وقع في أوقات متفرقة، فلم يأت بحرف عطف" وهذا يحتاج إلى دليل أنه جاء فعلًا في أوقات متفرقة، يقول: "وجاءت الثلاثة الأخيرة بالواو لأنها كانتا متناسقة"، وهذا يحتاج إلى دليل - فالله أعلم -وهكذا شأن عامة ما يُذكر من هذه المُلح البلاغية.

"وَاللَّهُ يَعْلَمُ تحذير من الفساد، وهو أكل أموال اليتامى".

بمعنى أن هذا فيه تهديد مبطن وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فإذا كان يعلم المفسد من المصلح فينبغي الحذر.

"لَأَعْنَتَكُمْ لضيّق عليكم بالمنع من مخالطتهم، قال ابن عباس: لأهلككم بما سبق من أكلكم لأموال اليتامى".

أصل العنت: العسف، والحمل على المكروه، هذا أصل العنت.

وبالنسبة لهذا المعنى الآخر: لَأَعْنَتَكُمْ يعني بالمؤاخذة على ما سبق، فيحتمل، لكن المعنى المتبادر: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ يعني لضيق عليكم في مخالطة اليتامى، فألزمكم بفصل أموالكم عن أموالهم، وذلك يشق على الناس.

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 697).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الوصايا، باب مخالطة اليتيم في الطعام برقم: (2871)، وحسنه الألباني، وانظر: تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 699).

مرات الإستماع: 0

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۝ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:219، 220].

يسألك المؤمنون عن الخمر والميسر، تعاطي ذلك فيما يتصل بالخمر بالشرب والبيع والشراء، وكذلك أيضًا الميسر وذلك هو القمار مما كانوا يتعاطونه في جاهليتهم، ويدخل في ذلك ألوان المغالبات التي يكون فيها العِوض من الطرفين مما يكون من قبيل القِمار، والنبي ﷺ يقول: لا سبق إلا في خف، أو في حافر، أو نصل [1] وإن اختلف الفقهاء -رحمهم الله- في تفاصيل اشتراط المُحلل وهو الطرف الثالث الذي يدفع أو عدم الاشتراط، فهم يسألون عن الخمر والميسر، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، هذا الإثم الكبير مما يكون من الأوزار لكن باعتبار أن هذه الآية قبل التحريم فلا وزر، وإنما يكون ذلك كما يقول بعض أهل العلم في التبعة والأثر كما يقول ذلك أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله[2] يعني ما يترتب عليهما، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ من ذهاب العقل، وما يصدر عن هذا السكران من الأقوال والأفعال التي قد تصل إلى أحوال كالقتل وما إلى ذلك، العدوان على النفوس والأموال والأعراض.

كذلك أيضًا الميسر بأخذ أموال الناس بالباطل، وما يحصل بسبب ذلك من العداوات والشحناء بين الناس، وأما المنافع فإن ذلك كما قيل من كون الخمر يحصل بشربها شجاعة للجبان، وبذل وجود للبخيل، وما يحصل بسبب ذلك من اللذة المُطربة ونحو ذلك مما قد يحصل من بيعها وألوان ما كانوا ينتفعون به، وهكذا بالنسبة للميسر يحصل له مال من غير كد ولا تعب، كما يحصل له لذة من جهة الظفر، يعني يشعر أنه قد انتصر وفاز وحقق كسبًا هذه منافع ضئيلة وغير مُعتبرة إزاء تلك المفاسد من الصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وما إلى ذلك من المفاسد المتنوعة.

وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، فهذه الآية بعض أهل العلم يقولون: إنها دالة على تحريم الخمر والميسر، والجمهور على أن هذه أول آية نزلت في الخمر، ذهب طوائف من أهل العلم إلى أنها تدل على التحريم، واحتجوا بأن الله ذكر فيها علة التحريم: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ، فالإثم لا يجوز مقاربته من جهة، وكذلك في قوله: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، فقاعدة الشريعة أن ما غلبت فيه المفسدة على المصلحة فإنه يكون حرامًا، فهنا قال: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، والذين قالوا: إن هذه ليست للتحريم وإنما هي توطئة للتحريم احتجوا أيضًا بأدلة وأجابوا عن مثل هذا فقوله -تبارك وتعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، بعضهم قال: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، هذا بعد التحريم.

وبعضهم قال: بأن ذلك الإثم الكبير باعتبار الأثر المترتب من قتل أو انتهاك عرض، أو أخذ مال أو نحوذ لك، وكذلك في قوله: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، بعضهم يقول: هذا باعتبار الآثار، وبعضهم يقول هذا بعد التحريم، والذي يظهر -والله أعلم- أن الله -تبارك وتعالى- ذكر ذلك للناس توطئة؛ لتتهيأ نفوسهم لما بعده مما ذكره الله -تبارك وتعالى- في الآيتين من سورة النساء والمائدة، ففي الآية الثانية التي جاء فيها الحديث عن الخمر وهي آية النساء وذلك قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [سورة النساء:43]، فحد من شُربها بحيث إنهم يحتاجون في هذه الحال إلى أن يشربوها في وقتين فقط، إما أن يشرب بعد الفجر من أجل أن يُفيق قبل الظهر، أو أن يشرب بعد العشاء من أجل أن يُفيق قبل الفجر، فصار تعاطيها محصورًا.

كذلك أيضًا نزلت آية المائدة وهي آخر ما نزل في الخمر: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90]، فهنا أمر باجتنابه فذلك نص صريح في المنع، ويدل على هذا التدريج وأن هذه الآية ليست للتحريم أن عمر قال: "اللهم بين لنا في الخمر فنزلت هذه الآية من سورة البقرة، فلم يفهم منها عمر التحريم، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في سورة النساء، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في سورة المائدة، فقال: انتهينا انتهينا"[3] ففهم منها التحريم.

كذلك أيضًا صح: "أنه كان يُنادي منادي رسول الله ﷺ بالصلاة بعد ما نزلت الآية التي في سورة النساء: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43]، إذا نادي المنادي المؤذن يذكر في أذانه أن لا يقرب الصلاة سكران"[4] فلو كانت محرمة آنذاك وآية النساء نازلة بعد هذه لما كان ذلك في الأذان لاستجاب الناس وما احتاج المجتمع المؤمن في ذلك الوقت مجتمع الصحابة إلى أن يُقال في الأذان في شيء محرم أصلاً أن يُقال لا يقرب الصلاة سكران، فهو ليس مجتمع سُكارى بل هو مجتمع إيمان وطُهر ونزاهة ونظافة فلما نزل التحريم في آية المائدة قالوا: انتهينا انتهينا، حتى جاء في حديث أنس : "أنه كان يسقي ساقي القوم في مجلس أبي طلحة فلما سمعوا المنادي على أن الخمر قد حُرمت"، هذا ما حصل إلا بعد نزول آية المائدة، فأمره أبو طلحة أن يقوم إلى تلك الدِنان دِنان الخمر وأن يُريقها أو يشقها، فسالت الطرقات في المدينة بالخمر"[5] هذا لم يحصل قبل آية المائدة فلو كانت محرمة لكان ذلك من أول الأمر.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۝ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [سورة البقرة:219، 220]، يسألونك ماذا ينفقون، ظاهر الجواب قُلِ الْعَفْوَ، أن السؤال كان عن القدر المُنفق، هل ينفقون جميع ما في أيديهم، أو ينفقون بعضه وما مقدار هذا المُخرج، فقال: الْعَفْوَ، والعفو المقصود به ما عفى يعني القدر الزائد عن الحاجة، وظاهر من هذا أن المقصود بذلك غير الزكاة، أن يُخرج الإنسان ما فاض عن حاجته وحاجة أولاده فذلك هو الذي يُنفقه ولا يترك أهله في حال من الحاجة والمسغبة ويتصدق بماله، كذلك البيان والإيضاح يُبين الله لكم الآيات في أحكام الدين والشريعة من أجل أن تتفكروا فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات والفوائد في قوله -تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، حرص الصحابة على الفقه في الدين، كذلك في قوله: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ، وهذه الخمر كانت لربما من أشد الأشياء علوقًا في نفوسهم، كانت نفوسهم متعلقة بالخمر فكانت في مجالسهم تُدار، وتجد في أشعارهم وفي منثورهم من الكلام ما يذكرون فيه هذه الخمر بأسمائها المختلفة، وأوصافها المتنوعة مما يعتبرونه نخوة، ومما يعتزون به ويتفاخرون، فكانت قهوة المجالس كما يُقال، وأُنس تلك المجالس ومع ذلك سألوا عنها، فهذا يدل على شدة حرصهم على مرضاة الله -تبارك وتعالى.

ثم أيضًا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قلنا: بأن الميسر هو القِمار، وقد ذكر الإمام مالك -رحمه الله[6]  أن الميسر ميسران:

النوع الأول: ميسر اللهو وأدخل فيه جميع أنواع اللهو واللعب؛ لأن ذلك يصد عن ذكر الله وعن الصلاة يعني ولو كان من غير عِوض.

والنوع الثاني: وهو ميسر القِمار وذلك ما يكون فيه معاوضة أو ما يكون فيه مُغالبة ومُقامرة ونحو ذلك بالعِوض، فأدخل الفقهاء -رحمهم الله- في الميسر أنواعًا من المُغالبات التي يكون فيها العِوض إلا ما اُستثني بالحديث، وما ألحقوا به على سبيل القياس مما يكون به قوة الأمة وعزها ومنعتها، وما عدا ذلك فإنه غير داخل فيه، لقوله ﷺ: لا سَبَق، هكذا بفتح أوله وثانيه، سبق يعني العِوض والجائزة، وضبطه بعضهم: لا سبْق بفتح أوله والسكون على الباء يعني المُسابقة إلا في ثلاث: النصل، يعني: الرمي بالسهام والسباق بالإبل؛ لأنه ذكر الخُف، وكذلك الحافر على الخيل.

فهذا يحصل فيه قوة للأمة ولا شك أنه يكون مما يحصل به عزتها وإعدادها لعدوها، ألحق فيه بعض الفقهاء المسابقات في الحديث والقرآن ونحو ذلك، أما المُغالبات الأخرى التي لا تورث قوة ولا نفعًا فإن ذلك لا يصح فيه العِوض، أما ما يورث العداوة والبغضاء والشحناء فإنه لا يجوز ولو كان من غير عِوض، بهذا التفصيل.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، هذا كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- هو شأن جميع المحرمات يعني أن فيها الإثم الكبير وأن الإثم فيها أكثر من النفع، يقول: "فإن فيها من القوة الخبيثة التي تؤثر في القلب ثم البدن في الدنيا والآخرة، فهذا يُربي على ما فيها من منفعة قليلة تكون في البدن وحده في الدنيا خاصة"[7] يعني: هذه المحرمات كالخمر وغيره كالدُخان ونحو ذلك كالحشيش والمُخدرات وسائر المحرمات، وأكل الميتة أكل السِباع، هذا يؤثر في بدن الإنسان، فهذا الذي ذكره شيخ الإسلام في شأن جميع المحرمات يقول: "فإن فيها من القوة الخبيثة التي تؤثر في القلب ثم البدن في الدنيا والآخرة"، يعني: أكل الحرام سواء كان ذلك من المكاسب المحرمة كالربا والرُشى ونحو ذلك، أو هذا المُحرم لكسبه، وكذلك المحرم لوصفه كالميتة والخمر والخنزير والسِباع ونحو ذلك، هذا يؤثر في القلب ويؤثر في البدن، يعني قد يكون هذا الإنسان من أهل الغواية يؤثر الضلال على الهدى لا ينتفع بالموعظة، هذا أثر في القلب، الزيغ.

وكذلك أيضًا الأثر في البدن من الأمراض والعِلل والأسقام ولهذا قال النبي ﷺ بأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليه[8] فبعض الناس يتحدثون عن أشياء من التداوي بأنواع من المحرمات فالجواب هو هذا أن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها.

إذًا هذه المحرمات بجميع أنواعها لا يوجد فيها شفاء ولو قال ذلك قائلون، فهذا كلام المعصوم -عليه الصلاة والسلام.

ثم هنا ذكر المعيار في باب الحلال والحرام في غير ما ورد فيه النص، أنه يُنظر في المنافع والمضار، ولا يوجد كما يقول الشاطبي -رحمه الله- في هذه الحياة الدنيا منفعة ولذة خالصة من كل وجه[9] يعني: لا يشوبها مفسدة، كما أنه لا يوجد مفسدة خالصة من كل وجه، وإنما يوجد منافع يشوبها شيء من المضار لكن العبرة بما غلب، على سبيل المثال اللحوم الأطباء يقولون: حينما يُكثر الإنسان من اللحوم يوجد شيء من الأثر والضرر سواء كانت اللحوم الحمراء أو غير ذلك، لكن هل هذا يعني أنها محرمة؟

الجواب: لا، فإن المنافع التي فيها غالبة، وهكذا ما ذكره صاحب المراقي في العِنب قد يزرعها بعضهم من أجل الخمر يأخذ العنب من أجل أن يُخمر، وكذلك الفواكه، فما حُرمت من أجل هذا؛ لأن هذه مفسدة محصورة محدودة في مُقابل الانتفاع الكبير الواسع لهذه الفواكه.

وانظر تدلي دوالي العنب في كل مشرق وكل مغربِ[10]

يعني: ما أفتى العلماء بالتحريم، تحريم العنب مثلاً مع أنه يُعصر منه الخمر، فالعبرة بما غلب.

وهكذا ذكروا أمثلة قالوا: اختلاط الرجال والنساء في البلد الواحد، قد يحصل أن هذه تلقى هذا ولربما تكون علاقة محرمة معه هذه مفسدة، لكن ما قال أحد من أهل العلم في عصر من العصور بأنه يجب عزل الرجال عن النساء في البلد الواحد، بمعنى: أن الرجال يسكنون وحدهم والنساء يسكن وحدهن، ويوضع حصن على النساء لا يصل إليهن أحد، ما أحد قال هذا؛ لأن تلك المفسدة المتوقعة محصورة محدودة في مقابل المنافع العظيمة التي تحصل من اجتماع الرجل بأهله وذويه من محارمه ونحو هذا، فهذا مع أهله وهذا مع أهله وهذا مع أهله وهكذا يكّون المجتمع، فهنا أُهدرت المفسدة القليلة المُحتملة، فما لم يرد فيه النص يُنظر فيه إلى ما غلب، فإذا غلبت المفسدة فإن ذلك يُقال: إنه محرم، وما غلبت فيه المنفعة والمصلحة فإنه يكون مُباحًا فإذا استوت المصلحة والمفسدة كان ذلك موضع اجتهاد.

كذلك أيضًا في قوله: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، هذا من حيث الجملة لكن ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله، أنه إذا لم يجتمع التمييز واللذة فهو إما صحو بلا لذة[11] تمييز العقل يعني، وإما لذة بلا عقل، ففي هذه الحال بالنسبة لأهل الإيمان أن المُترجح هو التمييز والعقل على تلك اللذة التي في الخمر، فيقول أهل الإيمان: العقل والصحو هو المصلحة في حقهم، لكنه ذكر الكفار الذين يقتلون النفوس ويأخذون الأموال وينتهكون الأعراض يقول هؤلاء اللذة وذهاب العقل بالنسبة إليهم أفضل من الصحو؛ لأن هؤلاء إذا صحوا قتلوا النفوس وأخذوا الأموال، ولهذا مر -رحمه الله- مع طائفة من أصحابه على قوم من التتر يشربون الخمر، فوقف بعض أصحابه يُريد الإنكار فأمرهم شيخ الإسلام -رحمه الله- أن يمضوا وقال: " إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم"[12] لا لأن الخمر مُباحة ولكن باعتبار النظر في ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما.

فأحيانًا قد يكون إنكار المُنكر سببًا لمفسدة أعظم فيُترك إن لم يمكن نقله إلى المعروف فيُترك على حاله، مثلاً: هذا الإنسان الذي لربما يقضي وقته في أمور تُضيع عليه الزمان وقد تورث الشحناء والبغضاء بلعب الورق ونحو ذلك يقضي ليلاً طويلاً حتى فروع الصبح فمثل هذا إذا ترك ذلك أين سيذهب وبماذا سيقضي وقته، فإذا كان سيقضي وقته بمفاسد وأذى الناس وتتبع أعراض الناس والعدوان عليهم فمثل هذا يُقال: الإنكار عليه غلط، فهو يشتغل بهذا أفضل من أن يذهب ويُفسد في الأرض، فالشريعة جاءت بتحصيل المصالح ودرأ المفاسد.

ويؤخذ من هذه الآية: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، والتعبير بـ"في" يدل على أن الإثم متوغل في الخمر والميسر، فهو مُتغلغل فيهما، هو داخل فيهما دخولاً بحيث لا ينفك عنهما بحال من الأحوال، وهذا يدل على شدة تعلق الإثم بهما، فذلك من التعبير بالظرفية "في" حرف يدل على الظرفية.

كذلك أيضًا تنكير الإثم: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ، فهذا يدل على شدته وعِظمه وفداحته ووصفه أيضًا بالكبير، فدل على أن هذا الأمر من شرب الخمر والمُقامرات بجميع أنواعها أن هذا لا يجوز بحال من الأحوال.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية العناية بباب المصالح والمفاسد فهذا هو حقيقة الفقه في الدين، فليس الفقيه هو الذي يعرف الحلال من الحرام من غير تمييز بين المصالح والمفاسد، وإنما الفقيه هو الذي يعرف خير الخيرين عند التزاحم وشر الشرين، يعني: حتى قاعدة درأ المفاسد مُقدم على جلب المصالح هذه ليست على إطلاقها، أحيانًا تُقدم المصالح على درأ المفاسد، وذلك أن المفاسد والمصالح المتعلقة بالضرورات والحاجيات والتحسينيات مُتدرجة، يعني: أعلى الضروريات وهي خمس أعلاها الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم العرض، ثم المال، بهذا التدريج.

فإذا كانت المصلحة تتعلق بالدين والمفسدة تتعلق بالمال مثلاً وكل ذلك من الضروري فهنا لا نقول: درأ المفسدة مقدم على جلب المصلحة، نقول: جلب المصلحة مقدم على دفع المفسدة، ولذلك فإن الجهاد في سبيل الله تذهب فيه النفوس وتُبذل في سبيله الأموال، فهذا ذهاب للنفوس والأموال ويكون شهيدًا، وتُبذل الأموال في هذا السبيل وتكون نفقة في سبيل الله وهي من أنفع وأجل وأعظم النفقة، فذهاب النفوس والأموال في سبيل تحقيق مصلحة وهي إعلاء كلمة الله فصار جلب المصلحة مقدم على دفع المفسدة، فهذه القاعدة: درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، صحيحة في حالتين: فيما إذا استوت في المرتبة المصلحة والمفسدة، أو كانت المفسدة أعلى درجة من المصلحة. 

 

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:220]، يسألك المؤمنون عن اليتامى كيف يكون التصرف معهم في معاشهم وأموالهم؟

فكان الجواب: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ، أي: إصلاحكم لهم خير، بمعنى: أن تسعوا إلى فعل الأصلح والأنفع لهؤلاء اليتامى بحفظ أموالهم وحقوقهم، وإن تخالطوهم في سائر شؤون المعاش فهم إخوانكم في الدين، يعني: أنهم كانوا يتحرزون من أموال اليتامى لاسيما بعد أن نزل قول الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [سورة النساء:10]، فاحترزوا وخافوا فالرجل يكون في حِجره اليتيم فيعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، وهذا أمر شاق، فكانوا يفعلون ذلك تحرزًا من أن يصيبوا شيئًا من أموال اليتامى بغير قصد، فلما لحقتهم المشقة سألوا النبي ﷺ فجاءت التوسعة والرُخصة لكن بهذا الضابط وبهذا القيد، قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ.

السعي في الإصلاح لهم وفي حال المُخالطة فإن الله -تبارك وتعالى- قد رخص في ذلك وهو عالم بمن يقصد بذلك الإصلاح وحفظ أموال اليتامى ومن يقصد إتلافها وأكلها، فكان ذلك رُخصة لهم في المُخالطة: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ، فيمكن أن يُقدر لليتيم قدرًا من الطعام الذي يصنعه لنفسه وعياله، فيكون ذلك من مال اليتيم القدر الذي يكون لليتيم لكن قد لا يأكله اليتيم، وقد يأكل بعضه ويترك بعضه، فينالون من ذلك شيئًا، والله يقول: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [سورة النساء:10]، فخافوا من هذا الوعيد، فجاءت هذه الرُخصة فصار ذلك قد رُفع الحرج فيه إذا كان قصد هذا المُخالط لهم الإصلاح لأموالهم ومعاشهم دون قصد الإتلاف: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [سورة البقرة:220]، يعني: لضيق عليكم وشق عليكم بتحريم المُخالطة لهؤلاء الأيتام: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:220]، متصف بالعزة فهو لا يُغالب ولا يُمانع عزيز في ملكه وفي شأنه كله، حكيم في خلقه وتدبيره وتشريعه من حفظ أموال الضعفاء في المجتمع لكن بحيث لا يلحق من يقومون على هؤلاء اليتامى المشقة، ويحصل لهم بسبب ذلك العنت فيؤدي هذا إلى أيضًا التخلي عن اليتامى، وعن رعايتهم حذرًا من مُقاربة أموالهم ولو كان ذلك بغير قصد.

يؤخذ من هذه الآية من الفوائد كما ذكرنا في الليلة الماضية حرص الصحابة رضي الله عنه- على الاستفصال عن ما نابهم وأشكل عليهم، وكذلك أيضًا أن المرجع في ذلك إلى رسول الله ﷺ إلى المُشرع وليس إلى الآراء والأذواق والعقول وما أشبه ذلك فهم يسألون النبي ﷺ لم يرجعوا إلى عقولهم وإنما رجعوا إليه -عليه الصلاة والسلام- ليعرفوا الحكم الشرعي، وهكذا اللائق بأهل الإيمان أن يسألوا أن يطلبوا الحكم الشرعي بالسؤال عنه، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة النحل:43].

ويؤخذ من هذه الآية لزوم مراعاة الإصلاح فيمن جعل الله له ولاية على غيره: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، فإذا كان هذا في اليتامى فكذلك كل من تحت يد الإنسان ممن يعولهم، أو يرأسهم فإنه يجب عليه أن يسعى في الإصلاح: الزوجة والأولاد، وكذلك من تحت يده من الموظفين، أو الرعية، أو التلاميذ، أو نحو ذلك أن يسعى جهده فيما هو الأصلح والأنفع لهم، فلا يُضيع هؤلاء؛ لأن الله -تبارك وتعالى- سيسأله عنهم، ولو أن هذا المعنى روعي في كل الولايات لرأيت الحال غير الحال التي نحن عليها، لو أن المدير يفعل ذلك فيمن استرعاه الله ، ورب الأسرة يفعل ذلك فيمن تحت يده، وكذلك أيضًا المُعلم حينما يدخل على تلامذته ونحو ذلك، فهذا لا شك أنه سيدفعه ويحمله على بذل الجُهد في النفع والإصلاح ما استطاع.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، السعي في الإصلاح لهؤلاء اليتامى، والعمل الذي ينفعهم ويحفظ أموالهم فهذا من التكافل الاجتماعي الذي جاءت به هذه الشريعة بحفظ حقوق هؤلاء الضعفاء الذين لا يستقلون بحفظها، فهم سيكونون عُرضة لكل آسر وكاسر فتضيع أموالهم وحقوقهم ثم بعد ذلك يصيرون إلى حال من الضياع فجاءت هذه الشريعة بالاحتراز لهم: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الأنعام:152]، يعني: بالخصلة التي هي أحسن، من تثميره، وحفظه، وصيانته، والاتجار به بالطرق المأمونة.

وكذلك أيضًا المُخالطة كما ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية بحسب القيد المذكور فيها، فرعاية الضعفاء وحفظ أموال اليتامى هؤلاء الصغار الذين فقدوا آباءهم ينبغي الاحتياط والاحتراز لحقوقهم فقد عظمها الله -تبارك وتعالى- وتوعد من اعتدى وانتهك تلك الحقوق وأكل تلك الأموال.

قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ، فهذا جاء بصيغة الشرط: فَإِخْوَانُكُمْ، يعني: أن هذه رخصة الأصل هو حفظ أموال هؤلاء اليتامى والاحتراز لها من غير مسيس لشيء منها، لكن لو احتاج إلى مخالطة هذا اليتيم في ماله بحيث يُقدر لهذا اليتيم كم يكون له من المصروف الشهري بحسب طعامه وشرابه بحسب سنه وحاجاته في دراسته وأكله وشربه ونحو ذلك فيُقدر له، فيأخذ من مال اليتيم هذا المقدار المُعتدل بحسب العرف وبحسب المكان الذي هم فيه، وبحسب العصر الذي يعيشون فيه.

فلو قُدر أن هذا اليتيم صغير عمره ثلاث سنوات أو أربع سنوات فلربما يُقدر له مبلغًا من المال في العُرف أنه يكفيه؛ لأنه ليس له مطالب زائدة من دراسة ونحو ذلك فقد يُقدر له مثلاً سبعمائة ريال في الشهر ونحو هذا بحسب المكان والزمان، الذي يعيش في المدينة ليس كالذي يعيش في الريف، والذي يعيش في البادية ليس كالذي يعيش في القرية، والذي يعيش في مكان فيه غلاء غير الذي يعيش في مكان تكون الأسعار فيه مُتدنية، فهذا كله يُراعى بالمعروف.

وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ، فلا يحتاج إلى عزل طعام اليتيم وحاجات اليتيم ومصاريف اليتيم، إذا كان هذا اليتيم في سن لربما فوق ذلك في المدرسة وهو يحتاج إلى مصاريف ونحو ذلك أكثر فيمكن أن يُقدر ذلك له في الشهر فتكون المشتريات لأهل البيت جميعًا، ويكون نصيب هذا اليتيم بهذه الحصة مقدرة، قد يأخذ أكثر قليلاً وقد ينقص قليلاً لكن لا يلحقهم حرج إن كان قصدهم في ذلك الإصلاح لهذا اليتيم وحفظ مال اليتيم، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ

ولاحظ هنا جاء السياق بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب، قال: وَيَسْأَلُونَكَ، هؤلاء الذين يسألون غائبون، ويسألونك هم يعني، يسألونك يعني أصحاب النبي ﷺ، فلما جاء بالجواب: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، فجاءت موضع الإشكال وهو المخالطة في أموالهم، قال: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ، فتحول الخطاب من الغائب إلى المُخاطب؛ لأن هذه هي القضية المُشكلة الحساسة التي تحرجوا وتحرزوا فيها فوجه إليهم الخطاب فذلك فيه من إيقاظ النفوس، والتنبيه لهذا المُهم الذي سألوا عنه وتحرجوا منه، من أجل أن تتهيأ نفوسهم لتلقيه وسماعه وفهمه.

وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [سورة البقرة:220]، يعني: المقاصد مؤثرة ليست العبرة بكلام الإنسان الجميل الذي يقوله فقد تسمع كلامًا في غاية الحُسن من الورع والتحرز من الأموال المحرمة لاسيما أموال اليتيم، وقد يتحدث عنه إنجازاته وأعماله وحرصه، وبذله وإنفاقه من جيبه الخاص على هذا اليتيم مع غِناه، ولكن قد تكون الحقيقة غير ذلك، هذا الإنسان الذي لربما يحتاج إلى مُخالطة اليتيم في تلك المصروفات في أمور المعاش قد يكون بذلك قاصدًا الإتلاف والانتفاع بأموال اليتيم فيشترك أولاده معه، وتكون النفقة واحدة ولربما كان أغلب ذلك من مال هذا اليتيم، نفقة هؤلاء الأولاد، لربما جعل هذا اليتيم يدرس في مدرسة خاصة مرتفعة التكاليف وأدخل معه ولده الذي هو قرين لهذا اليتيم في سني الدراسة بزعمه أنه يريد تسليته بذلك وتقوية عزيمته والشد من أزره فتكون النفقة على مال اليتيم، ويقول: إنما أدخلته معه إلى هذه المدرسة لمصلحة اليتيم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.

قد يقول هذه النفقات في الطعام والشراب والمصروفات من ملابس ونحو ذلك، هذه نُقدر لليتيم قدرًا فيها لكنه بعد أن دخل عليه هذا اليتيم تغيرت المشتريات فصارت الأنواع في الطعام والشراب واللباس من أنواع عالية التكاليف فاخرة في أنواعها وصنوفها، ولم يكن ذلك من معهوده، إنما حصل له هذا التوسع بعد دخول هذا اليتيم عليه، وهكذا، وقد يقول: بأنه يُريد أن يُسافر بهذا اليتيم من أجل العمرة أو من أجل النُزهة ونحو ذلك وقصده بذلك أن يعتمر هو فيقول أنا مرافق وإنما ذهبت من أجله والنفقة من مال اليتيم فيذهب ويتنزه أو يعتمر في سفر طاعة وقُربة ثم بعد ذلك يأخذ من مال هذا اليتيم نفقات هذا السفر، وقد يكون ليس من عادته أن يسكن في الدور والفنادق ذات التكاليف المرتفعة، كان يسكن في شُقق متواضعة وبعيدة عن الحرم ولكن لما جاء هذا اليتيم صار يسكن في أحسن الفنادق يقول: من أجل أن لا نشق عليه من أجل الرفق بهذا اليتيم ونحو ذلك، ويقول: إنما جاء فرق السعر بسبب هذا اليتيم مراعاة له، فبدلاً من أن يستأجر بمائتي ريال صار يستأجر في الليلة الواحدة بألفي ريال ليقول: أنا فعلت ذلك من أجل هذا اليتيم؛ لئلا أشق عليه، رفقًا به، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.

 فهذه الآية تجعل القائم على مال اليتيم بل تجعل المسلم يتوقف طويلاً معها فهذا لا يختص باليتامى، هذه قاعدة عامة: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، هذه يُقال فيمن يقوم على الأموال الخيرية، الجمعيات الخيرية، قد يتوسع في المشتريات، قد يذهب ويُسافر ويذهب ويجيء في الشهر عدة مرات ويمكن أن يُسافر مرة واحدة.

قد يكون من عادته هذا الإنسان أنه لا يُسافر إلا بالدرجة السياحية فصار يُسافر في الدرجة الأولى لأنه يُسافر من أموال هذه الجمعية، فالله يعلم المفسد من المصلح.

وكان يأكل ألوانًا من المطعومات فصار يأكل أنواعًا أخرى عالية التكاليف، ويقول: إنما سافرت من أجل مصالح هذه الجمعية وأعمال الجمعية ومشروعات الجمعية، كان يمكن أن يكتفي بسفرة واحدة في السنة أو في الشهر فتجد أنه يذهب ويجلس يوم أو يوم ونصف يُسافر بالدرجة الأولى ثم يرجع ثم بعد ذلك يقول بعد أيام أُسافر مرة أخرى، وبعد أيام، فتجد أن التكاليف في هذه الأسفار والتذاكر ونحو ذلك باهظة الثمن من أجل أن يُقيم مشروعًا أو مسجدًا لربما إذا حُسبت هذه المصروفات التي أنفقها لا تُعادل لا تصلح بالنسبة الموزونة مع نفقات هذا المشروع، بل قد يُنفق المال الذي أُعطي له من أجل شراء هذه الأرض لهذا المسجد أو نحو ذلك يقول أنفقتها في السفر من أجل ذلك والذهاب هنا وهناك وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.

فكل هذا ينبغي أن يُحترز له، وأموال الجمعيات الخيرية، وأموال التبرعات ونحو ذلك هذه ينبغي أن يُتعامل معها كالتعامل مع مال اليتيم، كيف يتعامل مع مال اليتيم يحترز قد يتوسع في ماله لكن هذه الأموال لا يتوسع فيها، وأضعف الإيمان أن يُعامل نفسه فيها كما يتعامل مع ماله الخاص، عندما يدفع من ماله الخاص يحترز ويحتاط ويبحث عن الأرخص في الأُجرة ونحو ذلك.

فهكذا ينبغي أن يتعامل مع هذه الأموال، ويحفظ ذلك، أما أن يتوسع، وإذا جاء في نهاية الميزانية ويجد أنه سيبقى فائض منها ثم بعد ذلك يشتري أجهزة وأشياء لا حاجة إليها، يقول: من أجل أن لا نُرجع من هذه الميزانية شيء فيُخصم علينا في السنة القادمة ميزانية العام القادم، فهذا لا يجوز، وهذا من هذا الإتلاف، سواء كان ذلك في أموال التبرعات، أو كان ذلك في الأموال العامة من بيت مال المسلمين، يعني: هو يقوم على مصلحة يقوم على جهة ترجع في ميزانياتها إلى بيت مال المسلمين، يعني جهة حكومية، فلا يجوز له أن يتصرف بفائض الأموال بحيث يُريد أن يُنفقها بأي وجه كان يبحث عن نفقات، يبحث عن أشياء من أجل أن يُنهي هذه الميزانية فلا يرجع منها شيء هذا من إضاعة الأموال العامة، ولا تبرأ الذمة بذلك، فينبغي الاحتياط والاحتراز في هذا.

وهكذا في هذا الختم: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فهذا فيه تهديد مُبطن، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- عزيز غالب قادر فيأخذ المُفسد، وكذلك أيضًا لو شاء لأعنتهم وألحق بهم الحرج، فكلفهم التكليف الشاق بفصل مال اليتيم تمامًا عن أموالهم فلا تحصل المُخالطة أصلاً ويُسد هذا الباب. 

  1. أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في السبق، برقم (2574)، والترمذي، أبواب الجهاد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرهان والسبق، برقم (1700)، والنسائي، كتاب الخيل، باب السبق، برقم (3585)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7498).
  2. تفسير الطبري (3/ 676).
  3. تفسير ابن كثير (2/ 308). 
  4. تفسير ابن كثير (2/ 309).
  5. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب صب الخمر في الطريق، برقم (2464)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، وبيان أنها تكون من عصير العنب، ومن التمر والبسر والزبيب، وغيرها مما يسكر، برقم (1980).
  6. تفسير القرطبي (3/ 52).
  7. مجموع الفتاوى (21/ 570).
  8. أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (7509)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (9714)، وعلقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم (7/ 110)، كتاب الأشربة، باب شراب الحلواء والعسل، وصححه الحافظ ابن حجر في فتح الباري لابن حجر (10/ 79)، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (4/ 175).
  9. انظر: الموافقات (2/ 360).
  10. نشر البنود على مراقي السعود (2/ 266).
  11. الاستقامة (2/ 165). 
  12. انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 13)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 207).