السبت 24 / ربيع الأوّل / 1446 - 28 / سبتمبر 2024
وَلَا تَنكِحُوا۟ ٱلْمُشْرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا۟ ٱلْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا۟ ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُو۟لَٰٓئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ ۖ وَٱللَّهُ يَدْعُوٓا۟ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِۦ ۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة البقرة:221].
هذا تحريم من الله على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومها مراداً، وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية، ووثنية، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [سورة المائدة:5]".
وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ أل في المشركات للجنس، وذلك يشمل كل مشركة بلا استثناء، فيدخل فيها أمم الكفر قاطبة بما فيهم اليهود، والنصارى؛ لأنهم من المشركين، فاليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وإن كان الشرك في النصارى أكثر منه في اليهود، إلا أن الكفر ملة واحدة، فبهذا الاعتبار يدخل اليهود، والنصارى في عموم المشركين، لكن جاءت الإباحة بنكاح نساء أهل الكتاب في قوله - تبارك وتعالى - في سورة المائدة: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ [سورة المائدة:5] فهل نسخت هذه الآية بعض ما دخل تحت آية البقرة، أو يكون هذا من قبيل التخصيص - فنقول: هذه عامة، وتلك خاصة في أهل الكتاب، والعام يحمل على الخاص -؟
لا شك أن القول بالتخصيص هو الأسهل، والأقرب؛ لأن التخصيص بيان، والنسخ رفع، ومن الفروق بينهما:
- أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، بينما التخصيص يثبت بالاحتمال.
- النسخ فيه إهدار لأحد النصين، بخلاف التخصيص ففيه إعمال للنصين.
- النسخ له شروط ذكرها العلماء لم يذكروها في التخصيص.
والمقصود من سرد الفروق أن يُعلم أن التخصيص أخف أثراً من النسخ، ولذا فالقول بالتخصيص هو الأولى من القول بالنسخ؛ لأن فيه إعمالاً لكلا الدليلين، وإعمال كلا الدليلين أولى من إهمال أحدهما.
وذهب بعض أهل العلم إلى القول بأن الآية لا نسخ، ولا تخصيص فيها، واستدلوا بقوله تعالى: وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ ووجهوا الآية بأن التحريم يخص نساء المشركات دون نساء أهل الكتاب، بدليل أن الله فرق بين الاثنين في مثل قوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [سورة البينة:1]، فأهل الكتاب بنص الآية لا يدخلون في عموم المشركين، وبالتالي فلا نسخ، ولا تخصيص؛ لأن هذه إنما تحرّم نكاح المشركات كالبوذية، والمجوسية ...، وسائر صنوف أهل الشرك بما فيهم الملاحدة.
والأقرب أن أهل الكتاب داخلون في عموم المشركين، فتشملهم الآية، وإنما أخرجوا منها بتخصيص الآية الأخرى التي في سورة المائدة، وإليه ذهب ابن كثير، والله تعالى أعلم.
ومن أهل العلم من أخذ بظاهر الآية وقال: لا يجوز التزوج بالكتابية أصلاً، باعتبار أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة وهذا من أغرب الأقوال؛ لأن سورة البقرة من أول ما نزل في المدينة، وسورة المائدة من آخر ما نزل من الأحكام، ولم ينسخ منها شيء، حتى إن الصحابة كانوا يكتفون أحياناً بالتعبير عن الشيء أنه لم ينسخ بكونه نزل في سورة المائدة، فيعدونه من المحكم الذي لم يتطرق إليه نسخ، وقولهم هذا يقتضي مخالفة ما جاء عن عامة أهل العلم من جواز التزوج بالكتابية.
وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [(سورة البقرة:221]، الأمة تحتمل أمرين:
الأول: أن تكون الحرة باعتبار أنها أمة الله، ولذا عند ندائها يقال: يا أمة الله! ويعنون المرأة المؤمنة.
الثاني: أن تكون المرأة الرقيقة المملوكة، والمعنى أن تتزوج جارية مؤمنة أفضل من أن تتزوج تلك الحرة الكتابية مهما كان نسبها، أو جمالها، أو أحسابها أو غير ذلك، هذا هو الظاهر المتبادر.
وإن كان التزوج بالمملوكة لم يرغب الشارع فيه إلا في حالة ما إذا خشي الإنسان على نفسه العنت (الزنا) كما قال سبحانه: وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [سورة النساء:25]، ثم خص ذلك وقيده بقوله: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، وتبعه بقوله: وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ؛ ذلك لأن أولاده من الأمة إذا دخل بها سيكونون أرقاء تبعاً لأمهم، يتصرف فيهم كما يتصرف في العبيد بيعاً وشراءً، بخلاف الأمة إذا تسرى بها فإن الأولاد سيكونون أحراراً تبعاً لسيد الأمة.
وكذلك قوله: وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ والمعنى أن الرقيق أفضل من الحر المشرك، هذا هو ظاهر المعنى من الآية، واختاره جمع من المحققين، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - حيث رأي أن الآية من العام المراد به الخصوص.
والعام عند الأصوليين ثلاثة أنواع:
- العام الباقي على عمومه.
- العام المراد به الخصوص.
- العام المخصوص.
"قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله: وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [سورة البقرة:221] استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب، وهكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومكحول، والحسن، والضحاك، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس وغيرهم.
وقيل: بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان، ولم يرد أهل الكتاب بالكلية، والمعنى قريب من الأول، والله أعلم".
قول ابن كثير: والمعنى قريب من الأول، لا يترتب عليه شيء مختلف من ناحية النتيجة النهائية، لأن هذا إما أن يكون من العام المراد به الخصوص، فتكون هذه الآية عامة خصتها الآية الثانية، فأخرجت بعض أفراد المشركين وهم أهل الكتاب، أو أن آية البقرة قصدت نوعاً من المشركين وهم أهل الأوثان، والنتيجة النهائية جواز التزوج بالكتابية.
لكن قول من قال: إن هذه الآية في سورة البقرة ناسخة لآية المائدة فيه إشكال، وقيل: هو أحد قولي الشافعي - رحمه الله - فيما نقل عنه، وابن المنذر صاحب كتاب "الإجماع" ينفي أن يكون ذلك عرف عن أحد من المتقدمين من السلف ، لكن الصحيح أنه ثبت عن بعض السلف القول بالمنع في مسألة التزوج من الكتابية كابن عمر وغيره، وحملوا آية المائدة على بعض المحامل، ولا بد أن يعلم أن هناك فرقاً من الناحية الصناعية في هذا المنع، إذ قد تصل إلى نتيجة واحدة في قولين، أحدهما يكون أحياناً مبنياً على القياس، ومعلوم أن القياس لا بد له من النظر بالأركان الأربعة، فإذا انطبقت وتوفرت اعتبرنا القياس، وإذا قلنا: إنه أصلاً ليس بقياس فلا اعتبار له، والنتيجة واحدة، فالحكم بأن هذه الآية عامة خص منها بعض الأفراد، أو أنها من العام المراد به الخصوص، أو تلك الآية تكلمت عن نوع، وهذه الآية تكلمت عن نوع، من الناحية الصناعية لا يؤثر في الحكم النهائي، وإن كان يؤثر على أشياء في النص نفسه، فمثلاً من الأصوليين من قال - وهو قول لبعض أصحاب المذاهب -: إن التخصيص يعد من قبيل النسخ، فإذا طالعنا شروط النسخ عنده وجدناها لا تتطابق مع التخصيص، ويترتب عليه عند النظر في النصوص قضية أخرى، وهي أن النص الذي لم يتطرق إليه التخصيص أقوى من النص الذي تطرق إليه التخصيص؛ لأن ذلك يضعفه، ولهذا العلماء مختلفون في العمل بالدليل الذي دخل عليه التخصيص، فالجمهور يرون العمل به في باقي الأفراد وهذا عليه أدلة، ليس هذا موضع الكلام عليها، إنما الشاهد أن الآخرين يقولون لا يعمل به، ويرون السبب أن هذا صار مجازاً، ليس بحقيقة، لأن اللفظ العام بعد إخراج بعض الأفراد منه، انتزع منه العموم، ولم يعد يصدق على كل الأفراد، بل على بعضها، فيبطل العموم فيه وينتقض، وإذا انتقض العموم فلا يمكن العمل به في باقي الأفراد.
كذلك في باب التعارض والترجيح بين الأدلة يذكرون نحو مائة طريق للترجيح، منها العام الذي لم يتطرق إليه التخصيص فيجعلونه أقوى كحديث لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس[1] الذي دل على الخصوص مع حديث: من نسي صلاة فليصلِّ إذا ذكرها؛ لا كفارة لها إلا ذلك[2] فكيف نصنع إزاء هذه النصوص المتعارضة في ظاهر الأمر؟
إن من وجوه الجمع أن يقال: حديث من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها عام في الأوقات، خاص في الصلوات المنسية، والتي نام عنها، والثاني: لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة ... هذا عام في الصلوات، خاص في الأوقات، فجاء تخصيص لا صلاة بعد الصبح... في بعض الصور.
وقد يقول قائل: الثاني باقي على خصوصه فيستثنى من الحديث، ومنهم من يجمع بطرق أخرى، فالمقصود أن هذا يؤثر عند النظر في النصوص، لكن قد تكون النتيجة واحدة فيما يتعلق بالمسألة التي أمامنا من العام الذي تطرق إليه التخصيص. والله أعلم.
"قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله تعالى - بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات".يقصد بحكاية الإجماع أنه قول الأكثر؛ لأنه وجد من خالف هذا القول وهم قليل منهم عمر بن الخطاب .
"وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات".هذا من السياسة الشرعية المناطة بمراعاة المصلحة العامة بحسب نظر الإمام، فله الحق أن يمنع التزوج من الكتابيات، إذا أعرض الناس، وزهدوا في التزوج من المسلمات، مما مؤداه أن تبقى نساء المسلمين عوانس في البيوت.
"أو لغير ذلك من المعاني كما روى أبو كريب عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر : "خل سبيلها"، فكتب إليه: "أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟"، فقال: "لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن"، وهذا إسناده صحيح".فعمر بن الخطاب إنما منع الزواج من الكتابيات لكون الفساد، والانحراف، ومقارفة الفواحش غالباً فيهن، فلا يؤمن جانبهن، ويخشى على الرجل أن يخنّه في عرضه، فينبغي للمسلمين أن لا يتساهلوا في القران بهن، والزواج منهن؛ لأجل مثل هذه الأمور.
"وروى ابن جرير عن زيد بن وهب قال: قال عمر بن الخطاب : المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة، قال: وهذا أصح إسناداً من الأول".هذا مما يؤكد أن عمر بن الخطاب لم يقصد التحريم المطلق في منعه التزوج من الكتابيات، وحذيفة بن اليمان موطن سر الرسول ﷺ كما سبق تزوج يهودية، فالزواج منهن جائز، ولا حرج على من أقدم على ذلك، لكن مما ينبغي النظر إليه عند طلب القران بهن هو النظر في الآثار السلوكية، والعواقب الوخيمة خاصة في هذا العصر، ومعلوم كم من أسر ضاعت بما فيها الأولاد والبنات جراء التهاون بهذه القضية.
وملمح آخر نستطيع أن نستشفه من زواج المسلم بكتابية يهودية أو نصرانية، وهو مدى أثر الإعلام في صناعة عقول الناس، فمثلاً لو بلغنا أن أحد طلبة العلم تزوج يهودية؛ لكانت هذه في حقه أعظم مسبة، ومدعاة للشناعة عليه، والقدح فيه، وتوجيه التهمة إليه، بل يكفي أن يقال: إنه متزوج يهودية، بالرغم من أن صحابياً جليلاً كحذيفة بن اليمان تزوج بيهودية، صحيح أن الزواج من اليهودية مصدر للتوجس، والاستفزاز، ولا إشكال في ذلك، لكن الكلام في الحكم هل يجوز أو لا ما يجوز؟ فلا يقال في إنسان تزوج يهودية: إنه سقطت عدالته ومروءته....، ويتهم في الدين، وهناك فرق بين من يقترن بكتابية؛ لأنه معجب بقومها، ومنصهر في بوتقتهم، ومولع بحضارتهم، غارق في مستنقعهم الآسن، متنكر لدينه، وأمته، وبين من يقترن بيهودية وهو متمسك بدينه، ثابت علي مبدئه، والخلاصة أن التزوج بالكتابية أمر غير سائغ، والإقدام عليه فيه من المفاسد والمخاطر ما لا يحمد عقباه، وإذا استطاع المسلم أن يتخلى عن الالتصاق بكتابية فهو خير، وأفضل، وأصوب، والله أعلم.
"وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عمر - ا - أنه كره نكاح أهل الكتاب، وتأول وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ".
بمعنى أنه حمل هذه الآية على عموم المشركات، والكتابيات؛ باعتبار أن الكفر والشرك ملة واحدة.
"وقال البخاري: قال ابن عمر - ا -: "لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول: ربها عيسى"".ومن محامل التأويل القول بأنه تعارضَ المبيح والحاظر، وعند الترجيح معلوم أنه يقدم الحاظر على المبيح؛ لأنه أكثر صيانة واحتياطاً للدين، إلى غير ذلك من أوجه التأويل، لكن الراجح الذي عليه عامة أهل العلم هو جواز ذلك، ولا يصح إدعاء الإجماع في ذلك لوجود المخالف.
"وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك[3]فإذا كانت الشريعة ترغب في الزواج من ذات الدين، فماذا عسى الإنسان أن يجد عند الالتصاق بيهودية، أو نصرانية من الدين؛ إلا الضلال، وإذا كانت تقوم على تربية أولاده، وتنشئتهم ورعايتهم؛ فإن الخطب أفدح، والمأمول أفضح، وما الذي ينتظره الرجل من مستقبل أولاده مع امرأة تدين بغير دينه!!.
ومما يمكن أن يقال عند النظر في هذه النصوص: إن القاعدة والأصل في الفروج الحظر، كما إن الأصل في العبادات المنع كما قال النبي ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا[4]، فلو قال قائل من المانعين: هذه آيةٌ أباحتها في ظاهرها، وهذه آية حرمتها، فنبقى على الأصل وهو المنع؛ فهذا قول مرجوح ومحتمل، وله متمسك من الأدلة، فلا بد أن يتسع له صدر المخالف،؛ لأن المطلوب النظرة الواسعة في النصوص، وفي مآخذ العلماء، والاطلاع على مبرراتهم عند الجنوح إلى هذا الرأي أو ذاك.
"ولمسلم عن جابر مثله، وله عن ابن عمر - ا - أن رسول الله ﷺ قال: الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة[5] وقوله: وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ [سورة البقرة:221] أي: لا تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات كما قال تعالى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [سورة الممتحنة:10]".استنبط الفقهاء من قوله سبحانه: وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ حكماً وهو أن المرأة لا تتزوج إلا بولي؛ لأنه قال: وَلاَ تُنكِحُواْ والمعنى: لا تزوِّج يا ولي المرأة المشرك ما بقي على شركه، ولم يقل: ولا تَنكح المؤمناتُ المشركين، وجعلوا هذا الفهم من الآية عاضداً لقول النبي ﷺ: أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل[6].
"ثم قال تعالى: وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [سورة البقرة:221] أي: ولرجل مؤمن ولو كان عبداً حبشياً خير من مشرك وإن كان رئيساً سَرِياً".ابن كثير لم يحمل الآية على خصوص الحر أو العبد وهذا تفسير جيد منه، فإذا كان الله فضل العبد المؤمن على الكافر؛ فمن باب أولى القول: إن المؤمن الحر أفضل من المشرك، فجمع - رحمه الله - بين القولين بهذه العبارة الوجيزة.
"أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي: معاشرتهم، ومخالطتهم؛ تبعث على حب الدنيا، واقتنائها، وإيثارها على الدار الآخرة، وعاقبة ذلك وخيمة وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ أي: بشرعه، وما أمر به، وما نهى عنه وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ".قوله سبحانه: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ليست دعوتهم محتكرة في المخالطة، والمعاشرة التي تبعث على حب الدنيا، وإيثارها، بل تشمل الدعوة في جميع المناحي كالدعوة إلى مذاهبهم الباطلة، ونحلهم المحرفة، وآرائهم الفاسدة، ومعلوم أن الناس أسرى لعقائدهم، وأفكارهم، ولذا تجدهم أكثر تحمساً لدعوة الناس إليها، وهذه طبيعة وسجية في الإنسان، فإذا اقتنع بشيء فتجده كثيراً ما يدافع وينافح عنه، حتى لو كان في الأشياء البسيطة، وإذا أعجب بشخص يتبناه، ويجادل، ويخاصم عنه، وقد يصل به الحد إلى الإطراء، والثناء عليه كلما جلس في مجلس، أو جاءت مناسبة لذكره، ويريد من جميع الناس أن ينظروا بنفس النظرة التي ينظر بها إليه، فما بالك إذا كانت القضية عقيدة ومذهباً!!، ولذلك تجد أصحاب العقائد تلح عليهم عقائدهم وهو يكتب في التفسير، ويكتب في اللغة، ويكتب في أصناف الفنون، تجد هذا النفس في كتاباته، ويبحث عما يؤيدها، ولا يستطيع التخلص مهما حاول أن يتجرد إلا أن هذه اللوثة تلاحقه، فالناس أسرى لأفكارهم معتقداتهم.
وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ أي: بشرعه، وما أمر به، ونهى عنه، وبينه غاية البيان بهذا القرآن، وبما أنزل على الرسول ﷺ مما يوصلكم إلى مرضاته حيث بيَّن الصراط المستقيم بياناً شافياً، وأمركم باتباعه، والسير عليه؛ لتدركوا الفلاح المبين.
  1. رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة - باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس برقم (130) (1/281).
  2. رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة - باب من نسي الصلاة فليصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة برقم (572) (1/215)، ومسلم في كتاب المسجد ومواضع الصلاة - باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها برقم (684) (1/477).
  3. رواه البخاري في كتاب النكاح - باب الأكفاء في الدين برقم (4802) (5/1958)، ومسلم في كتاب الرضاع - باب استحباب نكاح ذات الدين (1466) (2/1086).
  4. رواه البخاري في كتاب الصلح - باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود برقم (2550) (2/959)، ومسلم في كتاب الأقضية - باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718) (3/1343).
  5. رواه مسلم في كتاب الرضاع - باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة برقم (1467) (2/1090).
  6. رواه أبو داود برقم (2085) (2/190)، والترمذي برقم (1102) (3/407)، وابن ماجه بلفظ: ((أيما امرأة لم ينكحها الولي ....)) برقم (1879) (1/605).

مرات الإستماع: 0

"وَلا تَنْكِحُوا أي: لا تتزوجوا، والنكاح مشترك بين الوطء، والعقد".

إطلاقات النكاح في القرآن جاء بأكمل معانيه، وهو: مجموع العقد مع الوطء في قوله - تبارك، وتعالى -: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة: 230] فلا بد من عقد صحيح، ووطء.

وجاء بمعنى العقد فقط؛ وذلك صريحًا في قوله - تبارك، وتعالى -: إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب: 49] فهذا صريح في العقد.

وأما مجيء النكاح مرادًا به الوطء فقط، فهذا لا أعلم موضعًا في القرآن جاء لهذا المعنى على سبيل الاتفاق، يعني باتفاق المفسرين، وإنما على أحد الأقوال، كما في قوله تعالى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور: 3] قيل: يطأ، يعني لا يقع إلا على مشاكلة له، زانية، تعرف أن الزنا حرام، لكنها لا تمتثل، أو مشركة، فهي لا تُقر بالحكم أصلًا، فلا يوافقه على الزنا إلا زانية أو مشركة، هذا على أحد الأقوال.

وإلا فالقول الآخر بأن النكاح هنا بمعنى التزوج، وسبب النزول يدل على هذا، والأول قول ابن كثير[1] والقول الثاني هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية[2] والحافظ ابن القيم[3] وجمع من أهل العلم سلفًا، وخلفًا، وإن تفرقت أقوالهم يعني في توجيه ذلك.

"الْمُشْرِكاتِ عبّاد الأوثان من العرب، فلا تتناول اليهود، ولا النصارى، المباح نكاحهن في المائدة، فلا تعارض بين الموضعين".

وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[4].

"ولا نسخ، خلافًا لمن قال: آية المائدة نسخت هذه، ولمن قال: هذه نسخت آية المائدة، فمنع نكاح الكتابيات، ونزول الآية بسبب مرثد الغنوي أراد أن يتزوّج امرأة مشركة".

هنا يقول: "ولا نسخ" لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، خلافًا لمن قال: آية المائدة نسخت هذه، وآية المائدة التي جاء فيها تحليل التزوج بالمحصنات من الكتابيات، فسورة المائدة آخر ما نزل من الأحكام، كما هو معروف، وسورة البقرة هي من أول ما نزل في المدينة، لكن لا تعارض، ولا دليل على النسخ، فإطلاق لفظ الإشراك تارة يطلق بمعنى أوسع، فيدخل فيه الكافر، ولو لم يقع منه الإشراك، يعني لو أنه كان موحدًا، ولكن لم يؤمن بالنبي ﷺ مثلًا، فهو مشرك بالإطلاق الأوسع للشرك، وهو كافر، وهذا الإطلاق الأول يدخل فيه أهل الكتاب، ولا شك أنهم من المشركين وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] فهذا صريح في شركهم، فيدخل أهل الكتاب في جملة المشركين.

ويطلق الإشراك، أو أهل الشرك على معنى أخص، وهم عباد الأوثان، فإذا قيل: أهل الكتاب، والمشركون، فيكون المشركون هم عباد الأوثان، ونحو ذلك، وإلا فالملاحدة الذين لا يؤمنون بإله أصلًا، هؤلاء من جملة المشركين، والله - تبارك، وتعالى - قد بيّن أن من اتخذ إلهه هواه، يكون عبدًا لهواه، فآية المائدة ليست بناسخة لهذه الآية، لكن البعض قد يعبر عن التخصيص بالنسخ، فآية المائدة يمكن أن يقال: إنها مخصصة لهذه الآية: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ فيُستثنى من ذلك الكتابيات.

يقول: "وخلافًا لمن قال هذه نسخت آية المائدة" فيحرم نكاح الكتابية بهذا الاعتبار، وهو أحد قولي الشافعي[5] وقد قال ابن المنذر - رحمه الله -: لا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك[6].

وعن ابن عمر أنه كره نكاح أهل الكتاب، وتأول قوله: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ فقد نقل عنه البخاري - رحمه الله - قوله: "إن الله حرم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئاً أكبر من أن تقول المرأة: ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله[7].

وذهب طائفة إلى أن الآية: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ عامة، خصصتها آية المائدة، وهذا مروي عن جماعة من السلف: كابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومكحول، والحسن، والضحاك، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس[8] وكأن القول بأن هذه الآية قد خُصصت بآية المائدة، هو الأقرب - والله أعلم -.

ومن نُقل عنه من السلف كراهة التزوج بالكتابيات فكان ذلك من أجل الولد، حيث تكون أمه بهذه المثابة، واليوم الولد، وغير الولد، لكن شأن الولد أشد، فاليوم لربما في قوانينهم أن الولد يكون تبعًا للأم في حال الفراق، تأخذه الأم بقوة القانون، ولو أن الأب استطاع أن يأخذه على غفلة، فإنه يُعتبر مثل هذا جريمة، واختطاف، يعاقب عليها، فينشأ هذا الولد على النصرانية، أو اليهودية، هذا بالإضافة إلى أن ما أباحه الله من نكاح الكتابيات قيده بالإحصان مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ، ولَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء: 25]، ولا تجد الآن من الكتابيات من لا تكون مسافحة، أو في أقل الأحوال، وأحسنها أنه ليس لها صديق، هذه يعتبرونها في المجتمع مريضة تحتاج إلى علاج، أول من يُنكر عليها أهلها، يقولون: إنها غير طبيعية، انطوائية، نسأل الله العافية؛ ولذلك من يتزوج هناك لا يسأل عن البكارة، فأي بكارة يبحث عنها؟!

وفيما يتعلق بنزول الآية هنا يقول: بأنها نزلت بسبب مرثد الغنوي، أراد أن يتزوج امرأة مشركة، واستأذن النبي ﷺ في ذلك، ولكن لا يثبت أن هذا هو سبب نزول هذه الآية، وهذا يُذكر في نزول قوله - تبارك، وتعالى - في سورة النور: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور: 3] أنه استأذن النبي ﷺ أن يتزوج امرأة مشركة يقال لها: عناق، وهذه المرأة كانت من البغايا، امرأة مسافحة، تزني بأجرة.

يقول: "قال مقاتل - يعني ابن حيان -: نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي، وقيل: في مرثد بن أبي مرثد، واسمه كناز بن حصين الغنوي، بعثه رسول الله ﷺ مكة سراً؛ ليخرج رجلاً من أصحابه، وكانت له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية، يقال لها: عناق، فجاءته، فقال لها: إن الإسلام حرم ما كان في الجاهلية، قالت: فتزوجني، قال: حتى أستأذن رسول الله ﷺ فأتى النبي ﷺ فاستأذنه، فنهاه عن التزوج بها؛ لأنه كان مسلماً، وهي مشركة.

هذا ذكره القرطبي - رحمه الله -[9] وقد رواه الواحدي في أسباب النزول[10] وكذلك ابن أبي حاتم رواه في التفسير[11] لكنه لا يثبت أنه سبب نزول هذه الآية.

"وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ أي: أمة لله، حرة كانت أو مملوكة، وقيل: أمة مملوكة مؤمنة خير من حرة مشركة".

لفظ أمة يطلق على المرأة، سواء كانت حرة أم عبدة، يقال لها: أمة الله، ويطلق على المملوكة، فهذا يحتمل وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ يعني امرأة مؤمنة خير من مشركة، أو مملوكة مؤمنة خير حرة مشركة، وهذا المعنى هو الذي اختاره ابن جرير[12] والواحدي[13] وابن عطية[14] والطاهر بن عاشور[15] وعلى هذا القول تكون الحرة أفضل من المشركة من باب أولى، فإذا كان الأمة أفضل من المشركة الحرة، فالحرة المؤمنة من باب أولى.

والقول الآخر: بأن ذلك يشمل الحرة، والأمة، فيدخل فيه هذا القول، وبهذا يظهر ما بين القولين من الارتباط، فإذا كانت الأمة المؤمنة أفضل من المشركة، فالحرة المؤمنة أفضل من المشركة من باب أولى.

"وَلَوْ أَعْجَبَتْكُم في الجمال، والمال، وغير ذلك".

يعني في المال، والجمال، والذكاء، وفي خفة الظل كما يقال، وفي التدبير، وتحصيل العلم، والمنصب، والمؤهلات، وغير ذلك، فالإيمان لا يعدله شيء.

"وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ أي: لا تزوجوهم نساءكم، وانعقد الإجماع على أن الكافر لا يتزوج مسلمة، سواء كان كتابيًا، أو غيره، واستدل المالكية على وجوب الولاية في النكاح بقوله: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ لأنه أسند نكاح النساء إلى الرجال".

في الرجال قال: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ فالرجل هو الذي يتولى ذلك، لا يحتاج إلى ولي يزوجه، لكن يُحتاج إلى ولي في المرأة، ففي المرأة قال: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ والأدلة على هذا كثيرة، منها: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل[16] وكذلك حديث: لا نكاح إلا بولي [17].

"وَلَعَبْدٌ أي: عبد لله، وقيل: مملوك".

كما قيل في الأمة، وهو أن المقصود: المملوك، وهذا اختيار ابن جرير[18] وهذا أيضًا هو اختيار الحافظ ابن كثير[19] وقبله ابن عطية[20] ومن المعاصرين: ابن عاشور[21]، والشنقيطي[22] - رحم الله الجميع - .

"أُولئِكَ المشركات، والمشركون".

وهذا واضح يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ يعني هذا تعليل للمنع، يعني مهما كان عندهم من المزايا، والإمكانات، والجمال، والذكاء، أو المال، فهؤلاء يدعون إلى النار، فرؤيتهم تذكر بالنار، واهتماماتهم، وحالهم، وعبادتهم، وإقبالهم على الدنيا، ومقارفاتهم لأعظم الجرائم، وهو الإشراك بالله فما دونه، كل هذا يدعو إلى النار، فهم يمثلون انحرافًا يمشي، ويتحرك، ويتنقل، وتؤويه إلى بيتك، فهذه دعوة صامتة، وإن لم يوجهوا الدعوة مباشرة إليك بهذا، مع أن الأصل أن كل صاحب مبدأ يدعو إليه، لكن هذه الدعوة قد تكون بالفعل، وقد تكون بالقول.

ولذلك لا يصح إقرار التبرج في بلاد المسلمين بحجة أن المرأة كافرة، فتظهر المرأة متبرجة سافرة، ويقال: إنها كافرة، فهذا رد غير صحيح، فالكافرة هذه حينما تخرج بهذه الطريقة تفتن الناس، ثم هي دعوة صامتة أيضًا إلى السفور، والتبرج، فلا تُقَر على هذا بحال من الأحوال، فيألف الناس المنكر، وما يلبث النساء أن يتشبهن بها، وللأسف تجد هذه الدعوة على لسان المتعلم، وعلى لسان أجهل الجاهلين، وتجد المرأة الأعرابية تمشي معها امرأة سافرة، وقد أخرجت شعرها، وتقول لها: يا أمة الله اتق الله، فترد عليك بالقول: هذه كافرة، فإذا كانت كافرة لماذا لا تخرج عارية كما ولدتها أمها؟! فإذا قالت: هذا لا يسوء، فيقال: كذلك أيضًا خروجها نافشة لشعرها، ونحو ذلك، فهذا يسوء أيضاً، فهل معنى كونها كافرة أنها ليست بعورة؟! وهذا التعليل قد سمعته من أكثر من أعرابية، أُنكر عليها، فتقول لي: كافرة، كأنهم تواصوا بهذا الرد، فتمشي معها في السوق، والشارع، وتقول: كافرة! نعريها إذن!

"يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ إلى الكفر الموجب للنار".

أي الكفر فما دونه، من الكبائر، كالزنى، والفواحش، وشرب الخمر.

"بِإِذْنِهِ أي: بإرادته، أو علمه".

الإذن هنا وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ الإرادة، أو العلم، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال: أي بشرعه، وما أمر به، وما نهى عنه[23] وهذا يرجع إلى ما سبق.

وإذا قيل: بعلمه يعني ما أعلمكم مما يوصلكم إلى مرضاته، هذا بعلمه، وهو يتضمن القول الآخر: أنه بإرادته، لو تأملت عبارة ابن كثير مثلًا أي: بشرعه، فهذا يدخل في علمه، وما أمركم به، يدخل في إرادته، فكان قول ابن كثير - رحمه الله - متضمنًا للقولين: بعلمه، أو بإرادته.

  1.  تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 9).
  2.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 154).
  3.  زاد المعاد (5/ 114).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 715).
  5. لم أجد ما يدل على أنه قول للشافعي، وإنما تقول الشافعية بكراهة: نكاح الكتابية، كما قال أسنى المطالب في شرح روض الطالب (3/ 161): "(فصل نكاح الكتابية) ذمية، أو حربية (مكروه) لئلا تفتنه، أو، ولده (و) لكن نكاح (الحربية أشد) كراهة؛ لأنها ليست تحت قهرنا، وللخوف من استرقاق الولد حيث لم يعلم أنه، ولد مسلم؛، ولما فيه من تكثير سواد أهل الحرب".
  6.  الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر (5/ 93).
  7.  أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة، ولو أعجبتكم [البقرة: 221] برقم: (5285).
  8.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 582)، وتفسير ابن أبي حاتم (2/ 397).
  9.  تفسير القرطبي (3/ 67).
  10.  أسباب النزول ت الحميدان (ص: 73).
  11.  تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2526).
  12.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 717).
  13.  التفسير الوسيط للواحدي (1/ 327).
  14.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 297).
  15.  التحرير، والتنوير (2/ 362).
  16.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب النكاح برقم: (1102)، وأبو داود في كتاب النكاح، باب في الولي برقم: (2083)، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي برقم: (1879)، وصححه الألباني.
  17.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي برقم: (1101)، وأبو داود في كتاب النكاح، باب في الولي برقم: (2085) وابن ماجه في كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي برقم: (1880)، وصححه الألباني.
  18.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 718).
  19.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 584).
  20.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 297).
  21. التحرير، والتنوير (2/ 362).
  22.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 29).
  23.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 584).

مرات الإستماع: 0

وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة البقرة:221].

ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، يعني: ولا تتزوجوا المؤمنات عابدات الأوثان حتى يدخلن في الإسلام، واعلموا أن امرأة مملوكة لا مال لها ولا حسب لكنها مؤمنة بالله خير من امرأة مشركة وإن أعجبتكم تلك المشركة الحرة كما قال بعض المفسرين باعتبار أن الأمة هي المملوكة، وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ.

وبعضهم يقول: إن الأمة هنا بمعنى المرأة، فالناس إماء الله -تبارك وتعالى، وَلَأَمَةٌ يعني: امرأة مؤمنة، خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تزوجوا نساءكم المؤمنات سواء كن من الإيماء أو الحرائر للمشركين حتى يؤمنوا بالله ورسوله ﷺ، واعلموا أن عبدًا مؤمنًا مع فقره خير من مشرك وإن أعجبكم المشرك، أولئك يعني المتصفين بالشرك رجالاً ونساء يدعون إلى النار، يدعون من يُخالطهم ويُعاشرهم أو يُصغي إليهم يدعونه إلى النار وما يؤدي إليها، والله -تبارك وتعالى- يدعوا عباده إلى دينه الحق وطاعته وما يؤدي بهم إلى الجنة ومغفرة الذنوب بإذنه، ويُبين آياته وأحكامه للناس؛ لكي يتذكروا فيعتبروا.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ، هذا نهي والنهي يدل على التحريم، أنه لا يجوز تزوج المشركة، وأرجح أقوال المفسرين والفقهاء أن هذه الآية المشركات أل للجنس أنها مُخصصة بآية المائدة، وذلك أن الله أحل نكاح الكتابيات، نساء الذين أوتوا الكتاب، فهي مُخصصة لهذه الآية، والعموم فيها مع العلم بأن الكتابيات من جملة المشركات، فالكتابيات هن اليهوديات أو النصرانيات، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [سورة التوبة:30]، فهم مشركون ولكن قد يُطلق الإشراك والمشركون ويُراد به عبدة الأوثان خاصة، فسواء قيل: المراد بذلك عبدة الأوثان خاصة بهذا الإطلاق أنه من العام المراد به الخصوص، أو قيل: إنه من العام المخصوص يعني المخصوص بغيره وذلك في آية المائدة، هذا الذي عليه الجمهور من أهل العلم، إلا قول من قال بأن هذه الآية من سورة البقرة ناسخة لما ورد في آية المائدة وهذا بعيد، فإن سورة البقرة من أوائل ما نزل في المدينة، وسورة المائدة آخر ما نزل في الأحكام، ولهذا قالوا: ليس فيها منسوخ مع أن هذا ليس على إطلاقه.

وبعضهم يقول: إن آية المائدة نسخت هذه الآية، والواقع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال فليس هنا ناسخ ولا منسوخ وإنما عام وخاص -والله تعالى أعلم.

وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ، فالغاية هنا هي الإيمان، والحكم المعلق بعلة يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فمتى وجد الإيمان وجد الحِل، ومتى انتفى الإيمان انتفى الحِل.

وكذلك أيضًا هنا قال: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، سواء قيل: بأن الأمة هنا المقصود بها المملوكة، أو قيل: بأن المقصود بها المرأة عمومًا، فالمؤمنة خير من المشركة ولو أعجبتكم، فهذا عام في المؤمنات سواء كانت مملوكة أو كانت حُرة فهي خير من المشركة ولو أعجبتكم، ولو أعجبتكم في أوصافها بحسبها ونسبها ومالها، وجمالها، وقدراتها، وإمكاناتها، وحذقها، وعقلها، وذكاءها، أو لما لها من الملكات من حُسن تدبير، أو حُسن صوت، أو غير ذلك، فهذا كله ليس بشيء أمام هذا الوصف المعتبر الذي هو الإيمان.

فهذا كلام الله -تبارك وتعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، ولو أعجبتكم بمواصفاتها المتنوعة المختلفة التي يتمايز بها الناس، وتجذبهم، وهذا كما يُقال في باب الزواج إلا أنه يؤخذ أيضًا من العموم في قوله: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، أن يُقال هذا في غيره أيضًا، فإذا أراد الإنسان أن يأتي بعاملة تعمل عنده في بيته مثلاً فكثير من الناس ربما يؤثر المشركة ويقول إنها أكثر اجتهادًا وعملاً وبذلاً وتفانيًا بل لربما قال: وأمانة من المسلمة.

وهذا الكلام غير مقبول، وغير صحيح، يوجد في المسلمين وفي غيرهم من التقصير لكن أولئك لا ذمة لهم، ولا أمانة، ولا خوف من الله -تبارك وتعالى- فهي تفعل كل شيء من الفواحش، والسحر، والقتل والسرقة؛ لأنها لا تخاف الله، ثم ومهما يكن فإن هذه المؤمنة التي آمنت بالله ورسوله مع ما يوجد عندها من التقصير فهي أفضل من ملأ الأرض من تلك الحاذقة التي لا تعرف الله -تبارك وتعالى، فالمعيار والمقياس والميزان عند الله هو المنصوص في هذه الآية الكريمة، وقل مثل ذلك فيمن يأتي بمرضات أو فيما يُناط به من التكاليف والأعمال قد يؤثر الكافرة على المؤمنة بحجة أو بأخرى، فيكفي في ذلك قول الله تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، فهذا هو الواجب.

وكذلك أيضًا هنا قال الله -تبارك وتعالى: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ، قال قبله: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، ففي نكاح المشركات قال: وَلا تَنكِحُوا، لأن الرجل هو الذي يتزوج وهو الذي يملك أمره وأما المرأة فلما كانت لابد من ولي في نكاحها والنبي ﷺ يقول: أيا ما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل[1]، لهذا لم يقل: ولا تنكحن المشركين حتى يؤمنوا، هناك في الرجال قال: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ، هنا لا، هنا قال: وَلا تَنكِحُوا، ولا تُنكِحوا أيها الأولياء، ولا تنكحوا المشركين يعني لا تزوجوا المشركين حتى يؤمنوا، فالمرأة المسلمة لا يجوز بحال من الأحوال أن يتزوجها المشرك، وكذلك أيضًا الكتابي لا يجوز أن يتزوج المرأة المسلمة؛ لأنه ليس بكفؤ لها، والكفاءة في الدين معتبرة، والله -تبارك وتعالى- قد قطع هذا السبيل وهذا النكاح وقال: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [سورة الممتحنة:10]، هذا بالنسبة للمشركات التي تحت يده مع أن القاعدة أن الاستدامة أسهل من الابتداء، يعني: كونه ينكح مشركة ابتداء لا يجوز، ومن كان تحت يده مشركة أسلم وتحت يده مشركة يؤمر بمفارقتها إلا أن تكون كتابية، فهنا لا يُقال: إن الاستدامة أسهل من الابتداء فهذا خارج عن هذه القاعدة لوجود النص.

وكذلك أيضًا المُهاجرات التي يأتين من المشركين أمر الله بامتحانهن: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [سورة الممتحنة:10]، وجاء بها بهذه الصيغة من الجهتين، أنها لا تحل له وكذلك هو لا يحل لها، فهذا كله سواء كان في أهل الكتاب أو في غيرهم المرأة المسلمة لا يجوز أن يتزوجها غير المسلم أيًا كان دينه.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية عمومًا أن المؤمن خير من المشرك وهذا أمر لا إشكال فيه ولو كان في المشرك من الأوصاف من العقل والفطنة والاختراع والقوة البدنية وغير ذلك ولو كان فيه ما فيه، ولو كان هذا المؤمن من أضعف الناس عقلاً وتدبيرًا ومن أفقرهم وممن لا يملك مهارات ولا قدرات ولا قوى ولا غير ذلك، فالعبرة أولاً بالإيمان وبه يحصل التفاضل، كذلك أيضًا كما قال الله -تبارك وتعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [سورة المائدة:100]، فلا شك أن المؤمن طيب وأن المشرك خبيث.

وكذلك أيضًا تفاضل الناس في أحوالهم أيضًا: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ.

وكذلك أيضًا يؤخذ من تنكير الأمة والعبد: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ، فهذا فيه مُبالغة في النهي عن تزويج المشركين، أو تزوج المشركات وهذه اللام تفيد التوكيد وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ، وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ، تُشبه لام القسم.

ثم بين العِلة في ذلك قال: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، يدعون إلى النار بأقوالهم وبأفعالهم وبأحوالهم فمخالطتهم من يُخالطهم كما يقول الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله[2] على خطر منهم، فهم يوجهون إليه الدعوة مُباشرة، وكذلك أيضًا أفعالهم وأحوالهم وتصرفاتهم كل ذلك يدعوا إلى النار، وهذا خطر أخروي، ويؤدي إلى الشقاء الأبدي.

ويؤخذ من هذا التعليل من هذه الآية كما يقول الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله- النهي عن مخالطة أهل الإشراك والبِدع، والمقصود بذلك المُعاشرة؛ لأن الزواج هو أعظم العِشرة فإذا لم يجز التزوج مع ما فيه من المصالح المختلفة فالخُلطة من غير ذلك من باب أولى، يقول: "وخصوصًا الخلطة التي فيها ارتفاع المُشرك ونحوه على المسلم[3].

والمقصود أن هذه الآية يؤخذ منها أنه ينبغي أن تُعاد الأمور إلى نصابها وأن تكون الموازين موازين شرعية كما قرر الله -تبارك وتعالى، وكذلك يكون المؤمن دائمًا على حذر مما يضر آخرته، ليست القضية أن يبحث عن مصالح دنيوية ويغفل عن الخطر الذي يرجع على دينه من مخالطة هؤلاء المشركين، ومن إيثار هؤلاء أهل الإشراك على أهل الإيمان، فهؤلاء يكفي أنهم يدعون إلى النار، وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [سورة البقرة:221]، فهذا من بيانه -تبارك وتعالى، وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة البقرة:221]، فيعقلون عن الله -تبارك وتعالى- ما ينفعهم ويرفعهم، ويحصل لهم التذكر وترتفع عنهم سُحب الغفلة. 

  1. أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي، برقم (2083)، والترمذي، أبواب النكاح عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، برقم (1102)، وابن ماجه، أبواب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، برقم (1879)، وأحمد في المسند، برقم (24372)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة، وهو عبد الله، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1817).
  2. انظر: تفسير السعدي (ص:99).
  3. تفسير السعدي (ص:99).