السبت 24 / ربيع الأوّل / 1446 - 28 / سبتمبر 2024
وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُوا۟ ٱلنِّسَآءَ فِى ٱلْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ۝ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:222-223].
"روى الإمام أحمد عن أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي ﷺ، فأنزل الله : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ حتى فرغ من الآية، فقال رسول الله ﷺ: اصنعوا كل شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر - ا - فقالا: يا رسول الله! إن اليهود قالت كذا وكذا أفلا نجامعهن؟، فتغير وجه رسول الله ﷺ حتى ظننا أنْ قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله ﷺ، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما"[1] ورواه مسلم".
فقد تباينت أقوال المفسرين في المراد من اعتزال النساء حال الحيض، فبعضهم يطلق المراد على المكان ويقرر أن المرأة إنما تجتنب في مكان الحيض فقط، وآخرون يرجعون المراد إلى الزمان، وأن المرأة إنما تجتنب في وقت وزمن الحيض، وكلا القولين يلزم من الآخر لزوماً يتضح به المعنى، لكن لو قلنا: إن المقصود هو اجتناب المرأة زمان الحيض فإن هذا الاجتناب يكون لموضع الحيض ولغيره، بخلاف ما لو جعلنا المراد اجتناب موضع الحيض، فإن اجتناب موضع الحيض يلزم منه اجتناب ذلك في وقت حيضتها، فيكون ذلك أدل على المراد؛ لأن المجتنب من المرأة نوع من الاستمتاع خاص هو ما بين السرة إلى الركبة أو مكان الحيض خاصة على خلاف، وأما ما دونهما فيحل الاستمتاع به، والنصوص الأخرى تدل عليه، فقد ثبت أن النبي ﷺ كان إذا أراد من امرأته شيئاً وهي حائض أمرها أن تتزر ما بين السرة والركبة، وفي بعض الروايات ألقى على فرجها ثوباً، فالترجيح بين القولين بهذه الطريقة مما يتضح به المعنى، وهذه الرواية التي أوردها ابن كثير - رحمه الله - هي سبب نزول صحيح صريح لهذه الآية، وتدل دلالة واضحة على أن المرأة الحائض إنما يجتنب منها موضع الحيض، ويحل منها ما عداه من ألوان الاستمتاع، ناهيك عن جواز المخالطة، والمؤاكلة، وما إلى ذلك فهو من باب أولى، والله أعلم.
"فقوله: فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ يعني الفرج".بحسب الاحتمالين السابقين أي: وقت الحيض يسألونك ماذا يحل لهم من النساء؟ أو يسألونك عن محل الحيض من المرأة عند حيضها هل يحل لهم الاستمتاع به أم لا؟ والتقارب بين المعنيين كبير، إلا أن ابن كثير مال إلى أن المراد من الآية محل الحيض، واستدل بما جاء عن النبي ﷺ
"لقوله: اصنعوا كل شيء إلا النكاح".والنبي ﷺ أراد بقوله: إلا النكاح الوطء، فعلق الحيض بمكانه، ومحل خروجه، وهذا الحديث يستدل به القائلون بجواز الاستمتاع ما بين السرة والركبة، وإن كان الأفضل أن يكون فيما فوق هذا المقدار، لكن الشيء المحرم قطعاً هو موضع الحيض؛ لأنه موضع الأذى وهو الذي تتعلق به العلة، وما عداه فليس محلاً للأذى، وإنما كرهه من كرهه مبالغة في التباعد، وقد يتأثر هذا الحكم - ما يتعلق بالمباعدة عن موضع الحيض - باعتبارات تطرأ نظراً لما استحدثه الناس في هذا الزمان، فالحاصل أنه لا يجوز لأحد أن يطأ المرأة في وقت الحيض بحال من الأحوال إطلاقاً.
وأما بالنسبة لمن قارف ووقع على أهله في حال الحيض فقد ورد عن بعض أهل العلم أنه يتصدق بدينار.
وبعض أهل العلم يفرق جمعاً بين الروايات بين الوطء في زمن الدم، والوطء بعد انقطاعه وقبل الغسل، وكل ذلك لا يجوز.
وأما ما يفعله البعض من الوطء في محل البول فهذا لن يستطيع التباعد عن محل الأذى، فلا بد أن يلامسه أولاً.
ثانياً: أن ذلك ليس بمحل للوطء حتى ولو في حال الطهر، إنما محل الوطء هو موضع الولد خاصة، ولذا فتركه أولى.
"ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج.
روى أبو داود عن عكرمة عن بعض أزواج النبي ﷺ: أن النبي ﷺ كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً[2].
وروى أبو جعفر بن جرير أن مسروقاً ركب إلى عائشة - ا - فقال: السلام على النبي ﷺ وعلى أهله، فقالت عائشة - ا -: أبو عائشة، مرحباً مرحباً، فأَذِنُوا له، فدخل فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي، فقالت: إنما أنا أمك، وأنت ابني، فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالت: له كل شيء إلا فرجها، وهذا قول ابن عباس - ا - ومجاهد، والحسن، وعكرمة، قلت: ويحل مضاجعتها، ومؤاكلتها بلا خلاف، قالت عائشة - ا -: كان رسول الله ﷺ يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن[3].
وفي الصحيح عنها - ا - قال: كنت أتعرق العرق وأنا حائض، فأعطيه النبي ﷺ، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه[4]".
العرق هو: العظم الذي أخذ أكثر اللحم، والمعنى أن عائشة كانت تأكل ثم تناوله النبي ﷺ فيأكل من الموضع الذي أكلت منه.
"وثبت في الصحيحين عن ميمونة بنت الحارث الهلالية - ا - قالت: كان النبي ﷺ إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض، وهذا لفظ البخاري[5].
ولهما عن عائشة - ا - نحوه.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله ﷺ: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟، قال: ما فوق الإزار[6].
فقوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ [سورة البقرة:222] تفسير لقوله: فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْن، ونهى عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجوداً، ومفهومه حله إذا انقطع.
وقوله: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ، فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال، وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه".
حكم الوطء بعد الحيض ينطبق عليه قاعدة: الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل النهي، فمن قال: إنه مستحب لكونه سبباً للولد، وسبباً للعفاف، ولأجل قول النبي ﷺ: وفي بضع أحدكم صدقة[7] رجع إلى الاستحباب.
ومن قال: إنه مباح، جعله باعتبارين، مباح بالجزء، وواجب بالكل، والمعنى أنه ينظر له من جهتين: جهة الفاعل المعين، وجهة العموم، فالفاعل المعين يتردد حكم الوطء في حقه من الوجوب - إذا خشي على نفسه العنت - إلى سائر التكاليف الباقية: "المباح - المستحب - المكروه - المحرم" وهي في كل مقام بحسب، وأما من جهة العموم فإنه يتعين على الرجل أن يطأ امرأته حفاظاً على النسل من الانقطاع، وأما المقدار في الوطء فهذا لا ينضبط، والكل أعرف بنفسه، فالوطء بعد الطهر يعرف حكمه بالاعتبار السابق، وهكذا سائر الأحكام ينظر إليها باعتبارين يسميها الشاطبي - رحمه الله -: الكل، والجزء.
ولقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله سبحانه: حَتَّىَ يَطْهُرْن فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فبعضهم زعم أن المراد بطهارتهن يعني انقطع الحيض عند المرأة، وهذا محتمل.
والبعض الآخر قال: يحتمل أن المراد من التطهر الاغتسال، وعليه عامة أهل العلم، فلا يجوز له أن يطأها حتى تغتسل، ويدل عليه القراءة الأخرى المتواترة: لا تقربوهن حتى يَطّْهَرْن والمعنى يتطهرن، التاء للطلب، فهذا يدل على صنع وفعل وتكلف يصدر من ناحيتها وجهتها، فليس انقطاع الدم هو المراد فحسب بل لا بد من فعلٍ يصدر منها وهو الاغتسال، وهذا خلافاً لمن أمضى عليها عشرة أيام، وبعضهم يقول: تتوضأ، فيقوم وضوءها مقام الاغتسال، والله أعلم بالصواب.
"وقال ابن عباس - ا -: حتى يطهرن: أي من الدم، فإذا تطهرن: أي بالماء، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، ومقاتل بن حيان، والليث بن سعد وغيرهم".قراءة يَطّهَرنَ قراءة حمزة والكسائي وعاصم في إحدى الروايتين عنه وهي قراءة متواترة، وبقية القراء السبعة على الأولى حَتَّىَ يَطْهُرْن وهي محتملة انقطاع الدم، ومحتملة للانقطاع مع الاغتسال كما سبق، ولكن لما كانت القراءات يفسر بعضها بعضاً سواء كانت متواترة أو من قبيل الآحاد فسرت القراءة الثانية الأولى، فيتبين المراد من ذلك أنه لا يجوز له أن يقربها حتى ينقطع الدم، وتغتسل، وفي بعض المواضع من القرآن الكريم قد ترد في الآية قراءتين، ويكون لكل منهما معنى يخصها فتنزل بمنزلة الآيتين.
"وقوله: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ قال ابن عباس - ا - ومجاهد وغير واحد، يعني: الفرج، وفيه دلالة على تحريم الوطء في الدبر كما سيأتي تقريره قريباً - إن شاء الله تعالى -.
وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ يعني طاهرات غير حيض".
وبعضهم يقول: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ أي بالحلال وهو النكاح، وبعضهم يقول: من غير مانع مثل أن تكون معتكفة أو هو معتكف، أو تكون صائمة صيام الفرض، فهذا لا يجوز له أن يفسد صومها، لكن الأقرب من هذه المعاني وهو الظاهر المتبادر ما ذكره ابن عباس أن المراد بذلك الفرج، والله أعلم.
"ولهذا قال: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ أي من الذنب وإن تكرر غشيانه، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أي المتنزهين عن الأقذار والأذى، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض، أو في غير المأتَي".هذه من جنس الآيات السابقة المتكررة التي يجمع الشارع فيها بين أمرين.
  1. رواه مسلم في كتاب الحيض - باب جواز غسل رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه برقم (302) (1/246).
  2. رواه أبو داود برقم (272) (1/111)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (8792).
  3. رواه البخاري في كتاب الحيض - باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض برقم (7110) (6/2744)، دون قوله: ((يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض)).
  4. رواه مسلم في كتاب الحيض -باب جواز غسل رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه برقم (300) (1/245).
  5. رواه البخاري في كتاب الحيض - باب مباشرة الحائض برقم (297) (1/115).
  6. رواه أبو داود برقم (212) (1/58)، وأحمد في مسنده برقم (86) (1/247).
  7. رواه مسلم في كتاب الزكاة - باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف برقم (1006) (2/69 7).

مرات الإستماع: 0

"وَيَسْأَلُونَكَ سأل عن ذلك عباد بن بشر، وأسيد بن حضير، قالا لرسول الله ﷺ: ألا نجامع النساء في المحيض، خلافًا لليهود؟".

هذا سبب النزول، ذكر هنا حديث أنس بن مالك: أن اليهود إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها، فاليهود يبالغون في هذا، حتى مجالسة الحائض، والمؤاكلة، فسأل أصحاب النبي ﷺ فأنزل الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ فقال ﷺ: اصنعوا كل شيء إلا النكاح فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أي يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا، وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله ﷺ حتى ظنوا أنه قد وجد عليهما[1] فهذا سبب نزول الآية.

"هُوَ أَذىً مستقذر، وهذا تعليل لتحريم الجماع في المحيض".

هو مستقذر، وأيضًا نجاسة، وهو سبب للأمراض، والعلل التي تقع للرجل، وتقع للمرأة، إذا كان الوقاع في حال الحيض.

"فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ اجتنبوا جماعهن، وقد فسر ذلك الحديث بقوله: لتشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها[2]".

هذا الحديث صحيح، وهذا معنى الاعتزال، يقول ابن عبد البر: "لا أعلم أحداً روى هذا الحديث مسنداً، بهذا اللفظ، أن رجلاً سأل رسول الله ﷺ هكذا، ومعناه صحيح ثابت"[3] ويغني عنه حديث، وهو أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد أن يباشر من نسائه أمرها فاتزرت، وهي حائض[4].

والحديث: لتشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها[5] هذا صححه الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله -[6] وقد سأل مسروق بن الأجدع عائشة - ا -: ما للرجل من امرأته، وهي حائض؟ فقالت له: كل شيء إلا فرجها[7].

وبه قال كثير من السلف: كابن عباس، ومجاهد، والحسن، وعكرمة[8] وجاء في الصحيحين عن ميمونة - ا -: كان النبي ﷺ إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت، وهي حائض[9].

فأثر عائشة مع غيره مما ورد يدل: على أن الأكمل، والأفضل إذا أراد الرجل مباشرة المرأة، وهي حائض، أن تتزر، ومعنى: تتزر: أن تلبس إزارًا، ويستمتع بأعلاها، وبيّن أثر عائشة - ا -  وهي أعلم الناس بحال النبي ﷺ قدر المحظور، وأن الممنوع هو الجماع، فيجتنب موضع الأذى، ويستمتع بما عدا ذلك، ولو كان فيما دون الإزار - والله أعلم -.

"حَتَّى يَطْهُرْنَ أي: ينقطع عنهن الدم فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي: اغتسلن بالماء، وتعلق الحكم بالغاية الأخيرة عند مالك، والشافعي، فلا يجوز عندهما وطء حتى تغتسل، وبالغاية الأولى عند أبي حنيفة، فأجاز الوطء عند انقطاع الدم، وقبل الغسل، وقرئ (حتى يطّهرن) بالتشديد، ومعنى هذه القراءة: بالماء، فتكون الغايتان بمعنى واحد، وذلك حجة لمالك".

وفي نسخة: "فتكون القراءتان بمعنى واحد" فتكون القراءتان أو تكون الغايتان بمعنى واحد حَتَّى يَطْهُرْنَ و(حتى يطّهرن) فالمعنى واحد.

فَإِذَا تَطَهَّرْنَ قال: اغتسلن بالماء، باعتبار أن تطهرن يدل على فعل منهن، وطلب، فهذا زيادة على انقطاع الدم، فصارت المرأة تحل يعني من جهة الجماع إذا تحقق شرطان: انقطاع الدم، بالإضافة إلى الاغتسال. 

يقول: "وتعلق الحكم بالغاية الأخيرة" التي هي: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فلا بد من الاغتسال، هذا قول الجمهور[10] قال: "عند مالك[11] والشافعي[12]"، وأحمد[13] أيضاً، "فلا يجوز الوطء حتى تغتسل" وهذا الذي عليه عامة أهل العلم من السلف، فمن بعدهم، وهو منقول عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، ومقاتل بن حيان، والليث بن سعد[14] بل نقل عليه ابن كثير الاتفاق[15].

لكن يقول: "بالغاية الأولى عند أبي حنيفة[16]" يعني يجوز له الجماع قبل اغتسالها، إذا انقطع عنها الدم، فقوله: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ عنده بمعنى انقطاع الدم، وهذا بعيد.

وقرئ: (حتى يطّهرن) بالتشديد، فهذه فيها زيادة؛ وزيادة المبنى لزيادة المعنى، يعني هي هكذا (يتطهرن) فأدغمت التاء بالطاء، فصارت (يطّهرن) بمعنى أنها تغتسل، وهذه (يطّهرن) بالتشديد، قراءة حمزة، والكسائي[17] وقراءة الجمهور بالتخفيف[18] التي نقرأ بها حَتَّى يَطْهُرْنَ.

لكن قوله: حَتَّى يَطْهُرْنَ يعني يتطهرن، فهذا بفعلها فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فالمقصود أنه لا يجوز الجماع إلا بانقطاع الدم، والاغتسال.

"مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قُبُل المرأة".

يقول ابن كثير: أي طاهرات من غير حيض[19]. هذا معنى.

ويقول بعضهم: من قِبَل الحلال[20] لا الزنا فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أن تكون زوجة، أو أمة.

وقيل: في غير حظر من صوم، أو إحرام، أو اعتكاف[21] يعني: يراعى في ذلك حدود الله - تبارك، وتعالى - لكن الذين قالوا: في قُبل المرأة، كابن جزي، قالوا ذلك باعتبار أن (حيث) للمكان وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وَجُوهَكُمْ [البقرة: 144، 150] يعني في أي مكان كنتم.

وكلام ابن كثير - رحمه الله -: حيث أمركم الله طاهرات من غير حيض[22] وكأن الذي ذكره ابن جزي أقرب - والله أعلم - فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ هي تطهرت فهنا بقي الموضع الذي يأتيها فيه، فقال: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ.

"التَّوَّابِينَ من الذنوب الْمُتَطَهِّرِينَ بالماء، أو من الذنوب".

هنا جمع بين الطهارتين: طهارة من الذنوب بالتوبة، والتطهر يحتمل أن يكون أيضًا من الذنوب، ويحتمل أن يكون التطهر من النجاسات بأنواعها، فيدخل في ذلك التطهر من ملابسة النجاسة، والوقاع في الحيض، وكذلك أيضًا التطهر من الحيض، والتطهر من سائر النجاسات، والتطهر من الأحداث، الحدث الأكبر بالغسل، والحدث الأصغر بالوضوء. 

فالمقصود أن الآية في ختمها جاءت مشتملة على الطهارتين: الطهارة الحسية، والطهارة المعنوية، إما بالقول بأن التَّوَّابِينَ هذه الطهارة المعنوية، والْمُتَطَهِّرِينَ الطهارة من النجاسات، والأحداث، أو بأن الْمُتَطَهِّرِينَ يعني من الذنوب، ومن النجاسات، والأحداث، فجمع بين هذا، وهذا. 

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، وترجيله، وطهارة سؤرها، والاتكاء في حجرها، وقراءة القرآن فيه برقم: (302).
  2.  أخرجه مالك في الموطأ رواية أبي مصعب الزهري (1/ 63 - 159)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 309 - 14081)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 174 - 555).
  3.  التمهيد لما في الموطأ من المعاني، والأسانيد (5/ 260).
  4.  أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض برقم: (303)، ومسلم في كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض فوق الإزار برقم: (293)، واللفظ للبخاري.
  5. سبق تخريجه.
  6.  سبق تخريجه.
  7.  أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 38 - 4384).
  8.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 586).
  9.  سبق تخريجه.
  10.  بداية المجتهد، ونهاية المقتصد (1/ 64)، وتفسير ابن رجب الحنبلي (1/ 169).
  11.  البيان، والتحصيل (1/ 122)، والمعونة على مذهب عالم المدينة (ص: 185).
  12.  بحر المذهب للروياني (1/ 311).
  13.  الشرح الكبير على متن المقنع (1/ 316).
  14.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 588).
  15. المصدر السابق.
  16. اللباب في الجمع بين السنة، والكتاب (1/ 147).
  17.  حجة القراءات (ص: 134).
  18.  حجة القراءات (ص: 135).
  19.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 588).
  20.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 740).
  21.  فتح القدير للشوكاني (1/ 259).
  22.  سبق تخريجه.

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة سورة البقرة التي هي أكثر سور القرآن اشتمالاً على الأحكام وهي أطول سورة من حيث عدد الآيات: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة:222].

يسألك أصحابك المؤمنون عن المحيض، والمقصود بالمحيض هو ذلك الدم الذي هو دم طبيعة يسيل من أرحام النساء في أوقات مخصوصة، دم يفيض من الرحم وهو دم طبيعة، يعني: ليس بدم عارض كدم العِرق الذي هو الاستحاضة ونحو ذلك، قل لهم: هو أذى، أذى هكذا بهذا الإطلاق فهو شيء مُستقذر يضر من يُلابسه فاجتنبوا النساء في المحيض، أي: اجتنبوا جماع النساء في المحيض في مدة الحيض حتى ينقطع الدم، حتى يطهرن، ويطهرن أي: ينقطع الدم، فإذا تطهرن فهذا فيه زيادة في المبنى فيدل على تفعل بفعل منها يصدر عن المرأة، فإذا تطهرن يعني بالاغتسال، فدل ذلك على أن المرأة يحل جماعُها بشرطين، يعني: بعد الحيض:

الشرط الأول: أن ينقطع الدم.

الشرط الثاني: أن تغتسل بعد انقطاعه، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، أي: فجامعوهن في الموضع الذي أحله الله ﷺ لكم وهو القُبُل، موضع الولد، إن الله يُحب من عباده المُكثرين من الطهارتين إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، يعني: الذين يُكثرون التوبة ويُحب المتطهرين الذين يبتعدون عن الفواحش والأقذار والنجاسات.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات والفوائد أنه ينبغي على الإنسان أن يسأل عما يحتاج إليه من أمور دينه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [سورة البقرة:222]، والأمر الثاني وهو ألا يمنعه الحياء عن السؤال عما يعنيه، فهنا سؤال عن الحيض وهو شيء يُستحيى منه، بل هو سؤال عن الجماع في الحيض، والمقاربة للنساء في ذلك فلم يمنع الحياء من مثل هذا السؤال كما قالت عائشة -رضي الله عنها- تُثني على نساء الأنصار: "لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين"[1].

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية بلاغة القرآن: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [سورة البقرة:222]، والسؤال عن قربان النساء في حال الحيض وليس عن الحيض نفسه، وإنما عن قربانها هل يقرب المرأة في حال الحيض أو لا؟ ولهذا جاء الجواب: قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [سورة البقرة:222]، فهذا دل عليه الجواب: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [سورة البقرة:222]، فهنا قدم عِلة الحكم عليه، الحكم هو فاعتزلوا النساء في المحيض أنه لا يجوز أن يُعاشر أن يُجامع وهي في حال الحيض، لكن قال: قُلْ هُوَ أَذًى، فقدم العلة من أجل أن تتهيأ النفوس لقبول الحكم إذا كان أذى فهذا يقتضي المُباعدة، وأن لا يُجامعها فإن النفوس لا شك أنها تعلم ذلك ويورثها نفورًا منه لما جُبل عليه الإنسان، وفُطر عليه من مُباعدة الأذى والنفور منه، قُلْ هُوَ أَذًى.

ولهذا جاء الحكم بعده بالفاء: قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [سورة البقرة:222]، هذه الفاء تدل على التعليل والترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهذا الذي يُسميه الأصوليون: دلالة الإيماء والتنبيه، أن يُقرن الحكم بوصف، الحكم: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ، الوصف: أَذًى، لو لم يكن علة هذا الوصف لو لم يكن علة لهذا الحكم لكان ذلك معيبًا يعني لماذا رتب عليه قال: فَاعْتَزِلُوا وقد ذكر الأذى، فدل على أن هذا الحكم الذي هو وجوب اعتزال النساء في حال الحيض لكونه أذى، فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ.

وهذا يدل أيضًا على أن الأحكام الشرعية معللة وهذا لا إشكال فيه، واعتقاد أهل السنة والجماعة أن من أسماء الله الحكيم، ومن أوصافه الحكمة، وهذا كثير في القرآن يأتي التعليل صريحًا: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ [سورة المائدة:32]، وتارة يكون بلام التعليل: ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا [سورة المائدة:97]، وتارة يكون بـ"كي": كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [سورة الحشر:7]، وتارة يكون بغير ذلك مما يُفهم منه التعليل، هذا كثير في القرآن، ولو جُمع لوجد منه مجلدات -والله تعالى أعلم.

ثم أيضًا: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ، هنا قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [سورة البقرة:222]، كان بالإمكان أن يُقال: (فاعتزلوهن في المحيض)؛ لأن ذلك يكون معلومًا أن المقصود المرأة فاعتزلوهن، لا، قال: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ؛ لأن ذلك هو موضع الاهتمام والرغبة فالنفوس تتوق إلى النساء فهنا قال: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ، وكذلك أظهر المحيض مع أنه ذكره قبل ذلك: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ، فيه، قال: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [سورة البقرة:222]، وذلك لأنه مناط الحكم، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فمتى وجد الحيض وجب الاعتزال، ومتى ارتفع الحيض حلت المرأة بشرطه وهو أن تغتسل.

كذلك أيضًا: قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [سورة البقرة:222]، هذه العبارة قُلْ هُوَ أَذًى، يدخل فيها كل ما يمكن أن يصدق عليه ذلك من الأذى بمعنى النجاسة، ومن الأذى بمعنى الضرر والمرض، والأطباء يذكرون عِللاً تقع للرجل متنوعة، أنواع الأضرار إذا جامع المرأة في حال الحيض، ويذكرون عِللاً متنوعة تقع للمرأة إذا جامعها الرجل في حال حيضها، فهو أذى، أذى هكذا بإطلاق، أذى نجاسة ولا يجوز مُلابسة النجاسات، وهو أذى أيضًا بمعنى ضرر يقع على الطرفين، على الرجل وعلى المرأة إذا عاشرها في حال الحيض فهنا وجب اعتزال النساء في هذه الحال، وهذه قضية لا حاجة لأن يُقال هذا من الإعجاز العلمي في القرآن؛ لأن كلمة أذى هذه تُعبر عن الضرر وتُعبر عن النجاسة، ولذلك تجد عبارات السلف تحوم حول هذين المعنيين، التفاصيل التي يذكرها الأطباء مما ثبت علميًا هذه داخلة فيه، هي تدخل فيه، فمثل هذا مما يذكرونه من التفاصيل لو ذُكر في درس التفسير فإن ذلك لا يكون مُخالفًا لأقوال السلف، ولا يعود عليها بالإبطال إنما هو يكون من باب زيادة المعنى وزيادة التفصيل وزيادة الشرح والتوضيح، فهذا لا إشكال فيه.

وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [سورة البقرة:222]، بمعنى انقطاع الدم، وهنا: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ، بمعنى الجماع، حَتَّى يَطْهُرْنَ، فجعل لذلك غاية فإذا حصل انتفاء أو حصل بلوغ هذه الغاية الطهارة فإن ذلك يقتضي الحِل، "الحكم المُغيا بغاية يكون إلى غايته".

فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [سورة البقرة:222]، لاحظ الأدب في هذه العبارات في كتاب الله ، وهذا كثير، هنا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ، يعني: يسألونك عن جماع النساء في حال الحيض فجاء بهذه العبارة: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ، قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ، يعني: لا تُجامعوهن في حال الحيض، فعبر بالاعتزال: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ، وَلا تَقْرَبُوهُنَّ، يعني: لا تُجامعوهن، فعبر عن ذلك بالقربان: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ، لم يقل: فجامعوهن، فَأْتُوهُنَّ، فعبر بالإتيان، وهذا كثير في القرآن حينما يذكر الله -تبارك وتعالى- مثل هذه الأمور كما ذُكر في سورة النور، وأيضًا في سورة الأعراف: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ [سورة الأعراف:189]، يعني: جامعها.

وكذلك أيضًا تجد مثل هذا في سور من كتاب الله وآيات يذكر الله فيها مثل هذه الكِنايات من باب التلطف والتأدب، قصة يوسف قصة كاملة طويلة في سياق طويل ذكر فيها عشق امرأة العزيز ونحو ذلك لكن لا تجد عبارة تُحرك الغرائز، الناس إذا أرادوا أن يوصفوا شيئًا من ذلك أو يتحدث لربما فقيه عن مثل هذه الأحكام لربما بعض الناس تتحرك نفسه.

كذلك أيضًا تجد من الناس من قد يقرأ في بعض كتب الفقه في بعض الأبواب لما يجد فيها من لذة وهو لا يتفقه وليس من أهل الفقه، وليس من ذلك في شيء أصلاً، وقد سُئل بعضهم ما بالك تقرأ في هذه المجلدات؟ فقال: أجد فيها جوانب تتحرك معها النفس، مع أنها كلام فقهاء، لكن حينما يُفصلون بعض التفصيلات بما يتعلق بالمعاشرة ونحو ذلك يجد بعض ضعفاء النفوس بُغيته في ذلك فيجد متعة ولذة وهو يقرأ مثل هذه التفاصيل، في القرآن لا تجد شيئًا يُحرك الغرائز والنفوس أبدًا، تُقرأ هذه في الصلوات ويخشع الناس عند سماعها، ولا يُحرك كوامن النفوس ودواعي الشهوة فيها.

فمهما استطاع المُتحدث من مفسر أو فقيه أو واعظ أو غير ذلك يتحدث بحديث يصل معه المعنى المطلوب من حكم فقهي أو موعظة أو معنى للآية من غير تحريك للغرائز فهذا هو الموافق لطريقة القرآن، ولاسيما الوعظ فإن كثيرًا من الواعظين لربما يتحدث عن تفاصيل وتُحرك النفوس والغرائز وهكذا كثير من الكاتبين بحُسن نية، نحن لا نتحدث عن الروايات المشينة التي تُلهب الغرائز لكن نتحدث عن الوعظ، والكتابات التي يُقصد بها الوعظ مما يُذكر فيه تفاصيل تُحرك النفوس الغافلة، وتوقظ تلك الغرائز الكامنة.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ، بالاغتسال، فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [سورة البقرة:222]، فهنا عبر بالإتيان، فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة:222]، فأتوهن من حيث أمركم الله، الذي أمر الله هو أن يأتيها في موضع الولد، كما قال الله -تبارك وتعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223]، يعني: كيف شئتم لكن في موضع الولد، وهذا هو موضع الحرث الذي يحصل معه البذر وذلك بنبات الجنين في الرحم.

فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، لاحظ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة:222]، إن هذه تُفيد التوكيد وتفيد أيضًا التعليل، فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة:222]، إشارة إلى معنى وهو أن المُلابسات في الحيض إثم تحتاج إلى توبة، وهي دنس يتنزه منه أهل الإيمان يتطهرون، وكذلك أيضًا الإتيان في غير موضع الولد هو معصية كبيرة من الكبائر، وكذلك أيضًا هو دنس وقذر، فإذا كان إتيان المرأة في موضع القذر والأذى العارض وهو الحيض في وقت مخصوص كان ذلك من المُحرم فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ، مع أنه أمر عارض فكيف بالموضع المُلازم للنجاسة، والنجاسة فيه مُتمكنة لا تنفك عنه بحال من الأحوال، وليست بعارضة فيه، فهذا فرق كبير، ولذلك كان إتيان المرأة في غير موضع الولد أعظم وأشد من إتيانها في الحيض أو في حال الحيض، والفرق بين النجاستين ظاهر، هذا موضع مُلازم للنجاسة وهذا موضع النجاسة فيه عارضة وكل ذلك مُحرم، لكن هنا هذا الختم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [سورة البقرة:222]، فقال: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [سورة البقرة:222]، هذا يدل فَأْتُوهُنَّ، والتوجيه للرجال أو الخطاب للرجال باعتبار أن الرجل هو المُخاطب بهذا وهو صاحب الشأن، وهو المُبادر وهو الذي يفعل ذلك، ولذلك بعض الرجال لربما يُلحق أهله عنتًا حينما يُطالبها أن تكون هي التي تُبادره بذلك، يعني: بطلب المعاشرة وهذا غير صحيح.

فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [سورة البقرة:222]، فذكر لفظ الجلالة: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، ثم قال: إِنَّ اللَّهَ، لم يقل إنه يحب التوابين ويُحب المتطهرين، فأعاد ذكر لفظ الجلالة مُظهرًا لتربية المهابة فهذا مقام ينبغي أن يُراقب الله فيه؛ لأن الناس لا يطلعون عليه ويكون الناس في غمرة الشهوة قد ينسى نفسه وينسى ما قد علم فيحتاج إلى إيمان رادع يمنعه مع شدة توقان النفس إلى المرأة يمنعه من معاشرتها في حال الحيض أو من إتيانها في غير موضع الولد.

وكذلك أيضًا في قوله : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة:222]، إذا كان الله -تبارك وتعالى- يُحب أهل الطهارة الذين يتنزهون من النجاسات الحسية فما بالك بالنجاسات المعنوية من الشرك والكبائر والبدع والمعاصي، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة:222]، فهنا في ذكر التوبة: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، فدل على أن التوبة من أسباب محبة الله ، بل الإكثار من التوبة، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [سورة البقرة:222]، فهنا هذا الإنسان الذي يتوب كثيرًا الله يُحبه؛ إذًا لا ينبغي للإنسان الذي يقع منه الذنب ويتكرر ثم يتوب، ثم يقع منه الذنب ثم يتوب، إذا تاب التوبة الصحيحة بشرطها فالله يُحب التوابين الذين يُكثرون من التوبة، لكن الشيطان يأتيه ويقول له أنت مُتلاعب بالتوبة، أنت مستخف بمقام الله ، فيحرمه من التوبة، ويمنعه ويحول بينه وبينها، وكان المتوقع أن يُقال: أنت تتوب ثم ترجع فعليك أن لا ترجع للذنب وتبقى على توبتك، لكن الشيطان لا يُريد هذا إطلاقًا، الشيطان يريد أن يوصل له رسالة واضحة يقول: المقصود أن لا تتوب، وليس أن لا ترجع إلى الذنب، انظروا إلى إغواء الشيطان، ومع ذلك يُصدقه بعض الناس ويترك التوبة من أجل أنه بزعمه يُعظم ربه -تبارك وتعالى.

وأيضًا هذا التعليل أو هذا الوصف: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة:222]، فالذين يتطهرون الطهارة بنوعيها: الطهارة من النجاسات بإزالة النجاسة والتخلي عنها في الرجلين يُعذبان قال: إنهما ليُعذبان وما يُعذبان في كبير، وذكر أن أحدهما كان لا يستتر من بوله أو لا يستنزه من بوله أو لا يستبرأ من بوله[2]، يعني: يُصيبه من البول، فعُذب في قبره، فهذا الذي لا يتنزه من البول أخبر النبي ﷺ أن عامة عذاب القبر منه[3].

فهذه نجاسات حسية، كذلك أيضًا الطهارة من الأحداث إذا أحدث يتوضأ، الحدث الأصغر والحدث الأكبر بالاغتسال من الحيض والنفاس والجنابة كل ذلك يتطهر منه، فهذه طهارات بالماء، وهناك طهارة معنوية بالتخلي عن أنواع الرجس المعنوي من الشرك والرجس والنفاق والبدع والكبائر والمعاصي، فهذا من التطهر: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وهنا جمع بين الأمرين بين التوبة فهي طهارة معنوية التائب من الذنب كمن لا ذنب له[4]، فهي تجلوه هذه التوبة وتنُقيه وتُطهره.

وكذلك الطهارة الأخرى: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة:222]، هذه أيضًا طهارة حسية ومعنوية، فيجمع أنواع الطهارات وبهذا جاءت الشريعة، وهذا من كمالها وشمولها، وعبر عن ذلك بالمحبة التي هي صفة فعلية من صفات الله -تبارك وتعالى، وقارن بين ما جاء في هذه الشريعة من طلب هذه الطهارات ومحبة الله لها وتربية أهل الإيمان عليها وبين أولئك الذين لا يتطهرون من النجاسات، الناس فتنوا بمحبة الكفار لاسيما الغرب والتشبه بهم، وهم لا يتطهرون من النجاسات بأنواعها، هم لا يتطهرون من الحيض، ولا من النفاس، ولا من الجنابة، ولا يتوضؤون لصلاة، ولا يستنجون، ولا يغتسلون إلا غُسل تبرد أو تنظف الله أعلم متى يغتسلون في الأسبوع مرة أو في الشهر مرة، ولكن الواحد لربما يكتفي أنه يمسح يديه بورقة أو نحو ذلك وهذا غاية ما هنالك، فأولئك النجاسات في ثيابهم، وفي أبدانهم، وفي نفوسهم وأرواحهم، فالنجاسات مشتملة عليهم من كل ناحية وهم متلبسون بها من كل وجه، ولكن كثير من الناس لا يرى مثل هذا.

وفي دراسة أُجريت قبل سنوات وكانت النتائج مُذهلة في فرق بين استهلاك المياه في بلاد الغرب في أوروبا ونحوها واستهلاك المياه في الخليج العربي، يعني: بالنسبة للفرد المعين للشخص المعين، هذه دراسة أُجريت موازنًا بناء على الأشخاص كم عدد الأشخاص وإلا هم كُثر، فكانت النتائج مُذهلة أن الاستهلاك هنا لا يُقاس باستهلاك الفرد هناك، يعني: هنا أضعاف مضاعفة، فكان بعض من لا بصر له ولا معرفة عنده يعتقدون أن أولئك لتحضرهم وحُسن استعمالهم لهذه المياه والمرافق العامة وإلى آخره وترك الإسراف والثقافة المجتمعية هناك أن هذا يدل على تحضرهم.

والواقع أنه ليس كذلك، هم ما حاجتهم للماء، لا يتطهرون من أنواع النجاسات أبدًا، ولا يستنجون من أنواع الأحداث فكيف يستعملون الماء، استعمالهم للماء قليل جدًا، والذين فتح الله بصائرهم وعاشروهم وسافروا معهم وركبوا معهم السيارة ونحو ذلك يرون ما لا قِبل لهم به ولا صبر عليه بحال من الأحوال، لكن الناس يرون من بعيد بياضًا ونحو ذلك ويظنون أنه نظافة.

وقد حدثني أحد الأطباء حينما كان طالبًا في كلية الطب، يقول: أستاذ من تلك البلاد أعطاهم ورقة يُجرى فيها اختبار للأشياء الموجودة في اليد مثلاً، التي هي أظن أنواع الجراثيم، فيقول: فعلنا كما أمر ثم نظر فيها لم يجد شيئًا يُذكر فغضب وقال: أنتم لا تُحسنون تطبيق التجربة فأعدنا مرة ثانية فنظر فيها، فقال: أنتم لا تُحسنون التجربة، فعملنا ثالثة ودلكنا لحانا بها يقول: فأعطيناه، فنظر فقال: عجبًا هل أنتم تستعملون المعقمات؟ فقلنا: لا، لكننا نتوضأ خمس مرات تفضل أنت طبق هذه التجربة، يقول: فلما قال بيده هكذا، يقول: ظهرت غابة، هذا هو الفرق.

هذا هو الفرق: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة:222]، وأشياء أخرى أكثر من هذا، لا أستطيع أن أتفوه بها مما تفعله -أعزكم الله- الكِلاب وليس كل الحيوانات في حال النجاسة والحيض بالنسبة للمرأة، وللأسف قد يوجد بعض من يتشبه بهم يفعل حتى هذا القذر الذي لا تقبله الحيوانات تشبهًا بهم، مُلابسة النجاسة بأقذر ما يكون من الصور نجاسة الحيض ليس بالجماع فقط بل بما هو أبلغ من هذا مما لا يصح ذكره في هذا المقام وأُنزه أسماعكم عنه. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، برقم (332)، وعلقه البخاري في صحيح البخاري (1/ 38).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب من الكبائر ألا يستتر من بوله، برقم (216)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، برقم (292).
  3. أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الطهارة، باب نجاسة البول والأمر بالتنزه منه والحكم في بول ما يؤكل لحمه، برقم (459)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3002).
  4. أخرجه ابن ماجه، أبواب الزهد، باب ذكر التوبة، برقم (4250)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3008).