"روى الإمام أحمد عن أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي ﷺ، فأنزل الله : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ حتى فرغ من الآية، فقال رسول الله ﷺ: اصنعوا كل شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر - ا - فقالا: يا رسول الله! إن اليهود قالت كذا وكذا أفلا نجامعهن؟، فتغير وجه رسول الله ﷺ حتى ظننا أنْ قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله ﷺ، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما"[1] ورواه مسلم".فقد تباينت أقوال المفسرين في المراد من اعتزال النساء حال الحيض، فبعضهم يطلق المراد على المكان ويقرر أن المرأة إنما تجتنب في مكان الحيض فقط، وآخرون يرجعون المراد إلى الزمان، وأن المرأة إنما تجتنب في وقت وزمن الحيض، وكلا القولين يلزم من الآخر لزوماً يتضح به المعنى، لكن لو قلنا: إن المقصود هو اجتناب المرأة زمان الحيض فإن هذا الاجتناب يكون لموضع الحيض ولغيره، بخلاف ما لو جعلنا المراد اجتناب موضع الحيض، فإن اجتناب موضع الحيض يلزم منه اجتناب ذلك في وقت حيضتها، فيكون ذلك أدل على المراد؛ لأن المجتنب من المرأة نوع من الاستمتاع خاص هو ما بين السرة إلى الركبة أو مكان الحيض خاصة على خلاف، وأما ما دونهما فيحل الاستمتاع به، والنصوص الأخرى تدل عليه، فقد ثبت أن النبي ﷺ كان إذا أراد من امرأته شيئاً وهي حائض أمرها أن تتزر ما بين السرة والركبة، وفي بعض الروايات ألقى على فرجها ثوباً، فالترجيح بين القولين بهذه الطريقة مما يتضح به المعنى، وهذه الرواية التي أوردها ابن كثير - رحمه الله - هي سبب نزول صحيح صريح لهذه الآية، وتدل دلالة واضحة على أن المرأة الحائض إنما يجتنب منها موضع الحيض، ويحل منها ما عداه من ألوان الاستمتاع، ناهيك عن جواز المخالطة، والمؤاكلة، وما إلى ذلك فهو من باب أولى، والله أعلم.
"فقوله: فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ يعني الفرج".بحسب الاحتمالين السابقين أي: وقت الحيض يسألونك ماذا يحل لهم من النساء؟ أو يسألونك عن محل الحيض من المرأة عند حيضها هل يحل لهم الاستمتاع به أم لا؟ والتقارب بين المعنيين كبير، إلا أن ابن كثير مال إلى أن المراد من الآية محل الحيض، واستدل بما جاء عن النبي ﷺ
"لقوله: اصنعوا كل شيء إلا النكاح".والنبي ﷺ أراد بقوله: إلا النكاح الوطء، فعلق الحيض بمكانه، ومحل خروجه، وهذا الحديث يستدل به القائلون بجواز الاستمتاع ما بين السرة والركبة، وإن كان الأفضل أن يكون فيما فوق هذا المقدار، لكن الشيء المحرم قطعاً هو موضع الحيض؛ لأنه موضع الأذى وهو الذي تتعلق به العلة، وما عداه فليس محلاً للأذى، وإنما كرهه من كرهه مبالغة في التباعد، وقد يتأثر هذا الحكم - ما يتعلق بالمباعدة عن موضع الحيض - باعتبارات تطرأ نظراً لما استحدثه الناس في هذا الزمان، فالحاصل أنه لا يجوز لأحد أن يطأ المرأة في وقت الحيض بحال من الأحوال إطلاقاً.
وأما بالنسبة لمن قارف ووقع على أهله في حال الحيض فقد ورد عن بعض أهل العلم أنه يتصدق بدينار.
وبعض أهل العلم يفرق جمعاً بين الروايات بين الوطء في زمن الدم، والوطء بعد انقطاعه وقبل الغسل، وكل ذلك لا يجوز.
وأما ما يفعله البعض من الوطء في محل البول فهذا لن يستطيع التباعد عن محل الأذى، فلا بد أن يلامسه أولاً.
ثانياً: أن ذلك ليس بمحل للوطء حتى ولو في حال الطهر، إنما محل الوطء هو موضع الولد خاصة، ولذا فتركه أولى.
"ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج.
روى أبو داود عن عكرمة عن بعض أزواج النبي ﷺ: أن النبي ﷺ كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً[2].
وروى أبو جعفر بن جرير أن مسروقاً ركب إلى عائشة - ا - فقال: السلام على النبي ﷺ وعلى أهله، فقالت عائشة - ا -: أبو عائشة، مرحباً مرحباً، فأَذِنُوا له، فدخل فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي، فقالت: إنما أنا أمك، وأنت ابني، فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالت: له كل شيء إلا فرجها، وهذا قول ابن عباس - ا - ومجاهد، والحسن، وعكرمة، قلت: ويحل مضاجعتها، ومؤاكلتها بلا خلاف، قالت عائشة - ا -: كان رسول الله ﷺ يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن[3].
وفي الصحيح عنها - ا - قال: كنت أتعرق العرق وأنا حائض، فأعطيه النبي ﷺ، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه[4]".العرق هو: العظم الذي أخذ أكثر اللحم، والمعنى أن عائشة كانت تأكل ثم تناوله النبي ﷺ فيأكل من الموضع الذي أكلت منه.
"وثبت في الصحيحين عن ميمونة بنت الحارث الهلالية - ا - قالت: كان النبي ﷺ إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض، وهذا لفظ البخاري[5].
ولهما عن عائشة - ا - نحوه.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله ﷺ: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟، قال: ما فوق الإزار[6].
فقوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ [سورة البقرة:222] تفسير لقوله: فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْن، ونهى عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجوداً، ومفهومه حله إذا انقطع.
وقوله: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ، فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال، وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه".حكم الوطء بعد الحيض ينطبق عليه قاعدة: الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل النهي، فمن قال: إنه مستحب لكونه سبباً للولد، وسبباً للعفاف، ولأجل قول النبي ﷺ: وفي بضع أحدكم صدقة[7] رجع إلى الاستحباب.
ومن قال: إنه مباح، جعله باعتبارين، مباح بالجزء، وواجب بالكل، والمعنى أنه ينظر له من جهتين: جهة الفاعل المعين، وجهة العموم، فالفاعل المعين يتردد حكم الوطء في حقه من الوجوب - إذا خشي على نفسه العنت - إلى سائر التكاليف الباقية: "المباح - المستحب - المكروه - المحرم" وهي في كل مقام بحسب، وأما من جهة العموم فإنه يتعين على الرجل أن يطأ امرأته حفاظاً على النسل من الانقطاع، وأما المقدار في الوطء فهذا لا ينضبط، والكل أعرف بنفسه، فالوطء بعد الطهر يعرف حكمه بالاعتبار السابق، وهكذا سائر الأحكام ينظر إليها باعتبارين يسميها الشاطبي - رحمه الله -: الكل، والجزء.
ولقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله سبحانه: حَتَّىَ يَطْهُرْن فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فبعضهم زعم أن المراد بطهارتهن يعني انقطع الحيض عند المرأة، وهذا محتمل.
والبعض الآخر قال: يحتمل أن المراد من التطهر الاغتسال، وعليه عامة أهل العلم، فلا يجوز له أن يطأها حتى تغتسل، ويدل عليه القراءة الأخرى المتواترة: لا تقربوهن حتى يَطّْهَرْن والمعنى يتطهرن، التاء للطلب، فهذا يدل على صنع وفعل وتكلف يصدر من ناحيتها وجهتها، فليس انقطاع الدم هو المراد فحسب بل لا بد من فعلٍ يصدر منها وهو الاغتسال، وهذا خلافاً لمن أمضى عليها عشرة أيام، وبعضهم يقول: تتوضأ، فيقوم وضوءها مقام الاغتسال، والله أعلم بالصواب.
"وقال ابن عباس - ا -: حتى يطهرن: أي من الدم، فإذا تطهرن: أي بالماء، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، ومقاتل بن حيان، والليث بن سعد وغيرهم".قراءة يَطّهَرنَ قراءة حمزة والكسائي وعاصم في إحدى الروايتين عنه وهي قراءة متواترة، وبقية القراء السبعة على الأولى حَتَّىَ يَطْهُرْن وهي محتملة انقطاع الدم، ومحتملة للانقطاع مع الاغتسال كما سبق، ولكن لما كانت القراءات يفسر بعضها بعضاً سواء كانت متواترة أو من قبيل الآحاد فسرت القراءة الثانية الأولى، فيتبين المراد من ذلك أنه لا يجوز له أن يقربها حتى ينقطع الدم، وتغتسل، وفي بعض المواضع من القرآن الكريم قد ترد في الآية قراءتين، ويكون لكل منهما معنى يخصها فتنزل بمنزلة الآيتين.
"وقوله: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ قال ابن عباس - ا - ومجاهد وغير واحد، يعني: الفرج، وفيه دلالة على تحريم الوطء في الدبر كما سيأتي تقريره قريباً - إن شاء الله تعالى -.
وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ يعني طاهرات غير حيض".وبعضهم يقول: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ أي بالحلال وهو النكاح، وبعضهم يقول: من غير مانع مثل أن تكون معتكفة أو هو معتكف، أو تكون صائمة صيام الفرض، فهذا لا يجوز له أن يفسد صومها، لكن الأقرب من هذه المعاني وهو الظاهر المتبادر ما ذكره ابن عباس أن المراد بذلك الفرج، والله أعلم.
"ولهذا قال: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ أي من الذنب وإن تكرر غشيانه، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أي المتنزهين عن الأقذار والأذى، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض، أو في غير المأتَي".هذه من جنس الآيات السابقة المتكررة التي يجمع الشارع فيها بين أمرين.
- رواه مسلم في كتاب الحيض - باب جواز غسل رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه برقم (302) (1/246).
- رواه أبو داود برقم (272) (1/111)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (8792).
- رواه البخاري في كتاب الحيض - باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض برقم (7110) (6/2744)، دون قوله: ((يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض)).
- رواه مسلم في كتاب الحيض -باب جواز غسل رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه برقم (300) (1/245).
- رواه البخاري في كتاب الحيض - باب مباشرة الحائض برقم (297) (1/115).
- رواه أبو داود برقم (212) (1/58)، وأحمد في مسنده برقم (86) (1/247).
- رواه مسلم في كتاب الزكاة - باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف برقم (1006) (2/69 7).