السبت 24 / ربيع الأوّل / 1446 - 28 / سبتمبر 2024
نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا۟ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ وَقَدِّمُوا۟ لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ [سورة البقرة:223]، قال ابن عباس - ا -: الحرث موضع الولد، فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي كيف شئتم".أصل الحرث الزرع، تقول: فلان صاحب حرث يعني صاحب زرع، ثم أطلق على سببه، فصارت المرأة المزدرع الذي يوضع فيه البذر لكونها محل مزدرع الرجل.
ومعلوم أن موضع الزرع من المرأة القبل، ولا يكون الحرث إلا في هذا الموضع، والآية دلالتها واضحة وصريحة في تحريم إتيان المرأة في غير القبل، وإن كان يحل منها جميع أنواع الاستمتاع فيما عدا محل الأذى "الدبر"، بل وتواردت الأحاديث في هذا المعنى وإن كانت لا تخلو من ضعف، إلا أن بعضها يتقوى، فيرتقي إلى درجة الحسن، وعلى فرضية أنه لم يصح شيء منها كما نقل عن بعض أهل العلم من الأئمة المتقدمين، فهذا لا يفهم منه الجواز والحل؛ إذ إنهم محكومون بالآية وهي في غاية الوضوح، وناصعة الاستدلال.
وأما ما ينسب إلى الأئمة كالإمام مالك أنه أجازه فهذا كذب عليه صريح، ويوجد في كلامه ما يكذبه صراحةً، ويبرِّئه منه، وكذا ما نسب إلى الشافعي إنما كان ذلك عن طريق أحد الكذابين.
وأما ما نقل عن جماعة كابن عمر وغيره من الكلام الذي فُهم منه قصده هذا المعنى فقد جاء في روايات أخرى عنه ما ينفيه صراحة، وأنه لا يريده، ولا يقصده، وإنما حمله الناس عنه على غير الوجه الذي قصده، ولذا أنكره ابن عمر غاية الإنكار، والحقيقة أن هذا الفعل لا يقدم عليه إلا صاحب هوى ممسوخ، وفطرة منكوسة، نسأل الله العافية.
"فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي: كيف شئتم مقبلة أو مدبرة في صِمام واحد، كما ثبتت بذلك الأحاديث".أراد الله سبحانه بقوله: أَنَّى شِئْتُمْ أي على أي هيئة مكانية، أو فترة زمانية شئتم فيما حدده لكم الشرع فقد أجاز إتيان المرأة مقبلة، أو مدبرة إلى آخره، وابن جرير - رحمه الله - يقول: إن السياق يبين المراد، ولذا فسر المراد من قوله: فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي من قِبل المأتى، وهذا تفسير مطابق، وانتقد من فسرها باعتبار الزمان أو المكان، ويقول: إن ذلك كان بسبب ألوان من الاستعمال جاءت في كلام العرب، فكلٌّ حمل المراد على معنى، لكن الملاحظ في التركيب، والسياق، وأصل المعنى إذا تمعن فيه المتمعن وجده: من أي وجه شئتم. والله أعلم.
"روى البخاري عن ابن المنكدر قال: سمعت جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ورواه مسلم وأبو داود[1]".
المراد من الجماع في رواية جابر ما كان في موضع الولد قطعاً؛ لأن الولد لا يأتي إلا إذا جامعها في القبل، والمقصود من إيراد سبب نزول الآية أن للمرء الخيار في طريقة الجماع، وهي مقبلة، أو مدبرة، أو على جنبها، أو بأي شكل كان، والآية إنما وردت في مقام التهكم باليهود؛ لأنهم كانوا يتصورن هذا التصور المنحرف الخاطئ، ولذا كانوا يجامعون نسائهم على جنب، ويقولون: إن ذلك أستر، ويعتقدون في الجماع بتلك الهيئة ما سبق، فجاء الشرع بخلاف ما اعتقدوه، ونفى ضمناً ما ظنوه.
"وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر أن جابر بن عبد الله - ا - أخبره: أن اليهود قالوا للمسلمين: من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول، فأنزل الله: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قال ابن جريج في الحديث: فقال رسول الله ﷺ: مقبلة، ومدبرة؛ إذا كان ذلك في الفرج[2].
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - قال: أنزلت هذه الآية نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ.... في أناس من الأنصار أتوا النبي ﷺ فسألوه، فقال النبي ﷺ: ائتها على كل حال إذا كان في الفرج[3].
وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن سابط قال: دخلت على حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت: إني سائلك عن أمر، وأنا أستحي أن أسألك عنه، قالت: فلا تستح يا ابن أخي، قال: عن إتيان النساء في أدبارهن، قالت: حدثتني أم سلمة - ا - أن الأنصار كانوا لا يُجَبُّون النساء، وكانت اليهود تقول: إنه من جَبّى امرأته كان ولده أحول، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار فجَبّوهن..."
التجبية: أن تكون المرأة باركة على وجهها كالساجدة، ويأتيه[4]ا في موضع الولد خاصة، وفي حديث وفد ثقيف لما أنزلهم الرسول ﷺ المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا أن لا يحشروا، ولا يعشروا، ولا يُجَبُّوا (أي يسجدوا) كناية عن امتناعهم عن الصلاة، وفي صحة الحديث نظر.
"فأبت امرأة أن تطيع زوجها، وقالت: لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله ﷺ-، فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك، فقالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله ﷺ، فلما جاء رسول الله ﷺ استحيت الأنصارية أن تسأل رسول الله ﷺ، فخرجت فحدثت أم سلمة رسول الله ﷺ فقال: ادعي الأنصارية، فدعيت، فتلا عليها هذه الآية: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، صماماً واحداً ورواه الترمذي وقال حسن".هذا الأثر الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود ليس من أسباب نزول الآية؛ لأن النبي ﷺ في هذا الحادثة إنما تلا هذه الآية ليبين الحكم فقط ليس غير، وقد سبق الإشارة إلى سبب نزولها وأنها نزلت في اليهود، وقد جاء في بعض الروايات ما يشبه هذه الرواية، وهو أن قريشاً كانوا يشرحون النساء (يأتون المرأة مستلقية)، فتزوج رجل من قريش امرأة من الأنصار فامتنعت.... القصة.
ويؤخذ من الرواية أنه لا يمنع الإنسانَ الحياءُ من السؤال في الدين، وهذا العبارة أصوب من قول بعضهم: لا حياء في الدين، وكأنه غفل أن الدين كله حياء، بل إن الحياء شعبة من الإيمان كما أخبر بذلك المصطفى ﷺ.
"وروى النسائي عن كعب بن علقمة عن أبي النضر أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر - ا -: إنه قد أكثر عليك القول، إنك تقول عن ابن عمر - ا - إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن، قال: كذبوا عليّ، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر، إن ابن عمر عرض المصحف يوماً وأنا عنده حتى بلغ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، فقال: يا نافع هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت: لا، قال: إنا كنا معشر قريش نُجَبِّي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثلما كنا نريد، فإذا هن قد كرهن ذلك، وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود إنما يؤتيْن على جنوبهن، فأنزل الله: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ[5] وهذا إسناد صحيح".هذه الرواية صريحة في نفي وتكذيب ما نسب إلى ابن عمر، ولعل ذلك فهم من ابن عمر على غير قصده، والرواية الأخرى الواردة عنه في مخالفته لهذا القول جاءت في البخاري.
"روى أحمد عن خزيمة بن ثابت الخُطَمي أن رسول الله ﷺ قال: لا يستحيي الله من الحق ثلاثاً، لا تأتوا النساء في أعجازهن[6] رواه النسائي وابن ماجه.
وروى أبو عيسى الترمذي والنسائي عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في الدبر[7] ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه ابن حزم أيضاً".
حسن بعض أهل العلم كالشيخ الألباني هذا الحديث، والأحاديث وإن كانت متضافرة في هذا الباب إلا أنها لا تخلو من ضعف، والآية وحدها دلالاتها كافية في تحريم إتيان النساء في أدبارهن.
"وروى الإمام أحمد عن علي بن طلق قال: "نهى رسول الله ﷺ أن تؤتى النساء في أدبارهن، فإن الله لا يستحيي من الحق"[8] وأخرجه أبو عيسى الترمذي وقال: هو حديث حسن.
وروى أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في مسنده عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر - ا -: "ما تقول في الجواري حين أحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟، فذكرت الدبر"، فقال: "وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين" وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك.
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: حدثني إسماعيل بن حصن، حدثني إسماعيل بن روح، سألت مالك بن أنس: ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ قال: ما أنتم قوم عرب هل يكون الحرث إلا موضع الزرع، لا تعدوا الفرج!! قلت: يا أبا عبد الله إنهم يقولون إنك تقول ذلك، قال: يكذبون عليّ، يكذبون عليّ.
فهذا هو الثابت عنه، وهو قول سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، وعكرمة، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، ومجاهد بن جبر، والحسن وغيرهم من السلف، إنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار، ومنهم من يطلق على فاعله الكفر، وهو مذهب جمهور العلماء".
مراد ابن كثير من قوله: وهو مذهب جمهور العلماء أي تحريم إتيان المرأة في الدبر، وليس إطلاق الكفر عليه، ولا يكاد يوجد مخالف في هذه المسألة، ومن نُقل عنه خلاف ذلك فهو كذب كما أسلفنا.
"وقوله: وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ أي: من فعل الطاعات مع امتثال ما نهاكم عنه من ترك المحرمات".الأقرب في تفسير الآية والأظهر ما ذكره ابن كثير، ولذا اختاره جمع من المحققين منهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - وقد جاء في الآية الأخرى: وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ [سورة البقرة:110]، والمعنى قدموا لأنفسكم من فعل الخير ما تعمرون به آخرتكم.
وبعضهم يقول: قدموا لأنفسكم، يعني الذكر الذي يقال عند الجماع: اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا[9]، وقيل غير هذا لكنها معانٍ بعيدة.
"ولهذا قال: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ أي: فيحاسبكم على أعمالكم جميعها، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي: المطيعين الله فيما أمرهم، التاركين ما عنه زجرهم.
وروى ابن جرير عن عطاء قال: أراه عن ابن عباس - ا -: وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ قال: تقول: بسم الله - التسمية عند الجماع -.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً[10]".
هذا المعنى في تفسير المراد من الآية وإن كان حكماً ثابتاً، لكنه يمكن أن يكون من الأمثلة على تفسير القرآن بالسنة مما يدخله الاجتهاد إلا أنه جانب الصواب، وذلك أن تفسير القرآن بالسنة على نوعين:
نوع تعرض فيه النبي ﷺ للآية بالتفسير والتوضيح، هذا لا إشكال فيه إذا ثبت عن النبي ﷺ، ولا ينظر إلى قول أحد بعد النبي ﷺ؛ لأنه أعلم الناس بكلام الله ومراده.
ما يجتهد فيه المفسر من تفسيره للقرآن بالسنة من خلال فهمه لكلام الله ، فيعمد المفسر إلى حديث لا تعلق له بالآية فيتكلف في الربط بين الآية وبين الحديث، وقد يوفق في الربط، وقد لا يوفق، مثل من فسر هذا الحديث بأنه المراد من قوله سبحانه: وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ فهذا يعتبر من قبيل النوع الثاني من تفسير القرآن بالسنة مما يدخله اجتهاد المفسر، وهو مأجور على اجتهاده فيما ذهب إليه من تفسيره وإن لم يوفق للصواب.
والخلاصة أن يُفسر قوله: وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ بما ذكره ابن كثير من فعل الطاعات مع امتثال ما نهاهم عنه من ترك المحرمات، وهو الأصوب، والله أعلم.
ويبقى سؤال هو ما وجه المناسبة بين قوله: فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وما بعدها وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ؟
الجواب: يكمن في أن أعظم متعة في هذه الدنيا هي النساء كما قال النبي ﷺ: حبب إلي من الدنيا النساء والطيب...[11]، ولذلك كان العرب يقولون عن النكاح والطعام: الأطيبان؛ لأنه أطيب ما في الدنيا، وقد يشغل العبدَ السعيُ في طلب الزوجة والبحث عنها، وما يتعلق بكماليات وأمور ومتطلبات الحياة الزوجية، وذلك كله مآله إلى الوطء، يشغله عما هو بصدده من عبادة الله ، لأن النساء من الزينة المحببة إلى قلب الإنسان كما قال سبحانه: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء... [سورة آل عمران:14] وتأمل كيف أن الله بدأ بذكر النساء من الشهوات التي يبحث عنها الناس لما علم أنه لا يعادلها قناطير، ولا أنعام، ولا حرث، ولا خيل مسومة لكنه قال بعدها: ذلك مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ۝ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ فيكون ذلك من قبيل لفت أنظار المكلفين إلى أن هذه المتع في الحياة الدنيا زائلة، وأن هذه المرأة التي يحرص على نكاحها، والالتصاق بها؛ سوف تشمط يوماً ما، وتظهر آثار الزمان على وجهها، وتشيخ عند كبرها، عندها يذهب جمالها، وبهاؤها، ورونقها، وحسنها، وشبابها، فتصير إلى حالة لا يطلب فيه أحد نكاحها، ولا تتوق إليها النفوس، فلا ينبغي أن ينشغل العبد بالنساء عن عبادة الله ، بل لا بد أن يقدم لنفسه زاداً يدخره لآخرته؛ فالآخرة دار لا تصلح للمفاليس، والله أعلم.
  1. رواه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة البقرة برقم (4254) (4/1645)، ومسلم في كتاب النكاح - باب جواز جماعه امرأته في قبلها من قدامها ومن ورائها من غير تعرض للدبر برقم (1435) (2/1058).
  2. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/122).
  3. رواه أحمد في مسنده برقم (2414) (1/268)، وعلق عليه شعيب الأرنؤوط بقوله: حسن لغيره، وإسناده ضعيف لضعف رشدين بن سعد.
  4. رواه أبو داود برقم (2979) (5/215)، وأحمد في مسنده برقم (26601) (6/305)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2979).
  5. رواه النسائي في سننه الكبرى برقم (8978) (5/315).
  6. رواه النسائي في سننه الكبرى برقم (8986) (5/317)، وابن ماجه بلفظ ((في أدبارهن)) برقم (1924) (1/619)، والترمذي برقم (1164) (3/468)، وأحمد برقم (21903) (5/213)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (13669) عن طريق خزيمة بن ثابت.
  7. رواه النسائي في السنن الكبرى برقم (9001) (5/320)، والترمذي برقم (1156) (3/469)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (13759).
  8. رواه الترمذي برقم (1164) (3/468)، وأحمد في مسنده برقم (21907) (5/213)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (2733).
  9. رواه البخاري في كتاب الوضوء - باب التسمية على كل حال وعند الوقاع برقم (141) (1/65)، ومسلم في كتاب النكاح - باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع برقم (1434) (2/1058).
  10. سبق تخريجه.
  11. رواه النسائي برقم (3939) (7/61)،  وأحمد في مسنده برقم (13079) (3/199)، وقال الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: حسن صحيح برقم (3939).

مرات الإستماع: 0

"حَرْثٌ لَكُمْ أي: موضع حرث؛ وذلك تشبيه للجماع في إلقاء النطفة، وانتظار الولد بالحرث في إلقاء البذر، وانتظار الزرع".

سبب نزول نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ كما جاء عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من، ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ[1].

وفي رواية: إن شاء مجبية - يعني على هيئة السجود - وإن شاء غير مجبية، غير أن ذلك في صمام واحد[2] يعني موضع الولد.

وجاء عن أبي النضر أنه قال لنافع، مولى ابن عمر: قد أُكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى بأن يؤتى النساء في أدبارهن، قال نافع: لقد كذبوا عليّ، ولكن سأخبرك كيف كان الأمر؟ إن ابن عمر عرض عليّ المصحف يوماً، وأنا عنده، حتى بلغ: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ قال: يا نافع هل تدري ما أمر هذه الآية؟ إنا كنا معشر قريش نجبي النساء - يعني يجامعونها، وهي مكبة على وجهها - فلما دخلنا المدينة، ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن ما كنا نريد من نسائنا، فإذا هن قد كرهن ذلك، وأعظمنه، وكان نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن - يعني تجامع على جنب - فأنزل الله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [3] يعني: امتنعن من ذلك، وكأنه قد أخذوا ذلك من اليهود، فاليهود كانوا يرون أن هذا أستر، فكانوا يجامعون المرأة على جنب، وأهل مكة كانوا يفعلون ذلك، وغيره، ويشرحون النساء تشريحًا، كما جاء في بعض الروايات، فأرادوا أن يفعلوا ذلك بنساء الأنصار لما صاهروهم، فامتنعن، حتى يسألن رسول الله صلى الله عليه، على آله، وسلم.

فقوله: حَرْثٌ لَكُمْ أي موضع حرث؛ وذلك تشبيه الجماع بإلقاء النطفة، وانتظار الولد بالحرث في إلقاء البذر، وهذا يدل على أنه إنما يكون الوقاع في موضع الحرث، وموضع البذر، وهذا لا يكون إلا في الفرج، والرحم هو موضع الاستنبات، فهذا الذي ذكره ابن جزي - رحمه الله - ذكر نحوه ابن جرير - رحمه الله -[4] باعتبار أن الحرث الزرع، ولما كان النساء من أسباب الزرع جعلهن حرثًا، يعني صارت كأنها هي الحرث، يُستنبت فيه الولد، وقد قال ابن عباس في قوله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الحرث: موضع الولد[5].

"أَنَّى شِئْتُمْ أي: كيف شئتم من الهيئات، أو متى شئتم، لا أين شئتم؛ لأنه يوهم الإتيان في الدبر، وقد افترى من نسب جوازه إلى مالك[6] وقد تبرأ هو من ذلك، وقال: إنما الحرث في موضع الزرع".

ابن جرير - رحمه الله - فسر أَنَّى أي: على أي وجه شئتم، يعني مقبلة، أو مدبرة، أو غير ذلك[7] لكن في موضع واحد، وهو موضع الولد، وجاء في الصحيحين عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، كما سبق، فنزلت هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [8] يعني أن هذا الذي قاله اليهود غير صحيح، ولا علاقة له بالحَوَل.

"وقدموا لِأَنْفُسِكُمْ أي: الأعمال الصالحة".

كما قال الله : وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 110] [المزمل: 20].

  1.  أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، وقدموا لأنفسكم [البقرة: 223] الآية برقم: (4528)، ومسلم في النكاح، باب جواز جماعه امرأته في قبلها من قدامها، ومن، ورائها برقم: (1435).
  2.  أخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب جواز جماعه امرأته في قبلها، من قدامها، ومن، ورائها من غير تعرض للدبر برقم: (1435).
  3.  أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 42 - 4399).
  4. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 745).
  5.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 588).
  6.  تفسير السمعاني (1/ 226)، وتفسير البغوي - إحياء التراث (1/ 291).
  7.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 755).
  8.  سبق تخريجه.

مرات الإستماع: 0

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:223].

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أي: أن نساءكم مُزدرع لكم، يعني: أنهن موضع زرع لكم، تُلقى النُطفة في الرحم فيخرج منها الولد بمشيئة الله -تبارك وتعالى- وإرادته، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، وذلك بموضع الولد، وهو القُبل بأي كيفية شاء.

وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ، من الأعمال الصالحة التي تتقربون بها إلى الله -تبارك وتعالى، وَاتَّقُوا اللَّهَ، بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ، للحساب والجزاء يوم القيامة، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، بما يسرهم ويُفرحهم من حُسن الجزاء عند الله -تبارك وتعالى- في الآخرة.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات الأدب في الألفاظ والكنايات كما الآية قبلها: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ، فعبر بالاعتزال، وَلا تَقْرَبُوهُنَّ، عبر بذلك عن الجماع، حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ، عبر به عن الجماع، مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة:222]، هنا قال: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223]، هذه العبارة في غاية الإيجاز والبلاغة، وتحتها من المعاني الشيء الكثير مما لا يُحتاج معه إلى شرح وتطويل وذلك بأن الله -تبارك وتعالى- جعل هذه الآيات والتعريضات التي تُغني عن الإفصاح عن أمور قد لا يحسُن الإفصاح عنها، فهذا كله في كتاب الله -تبارك وتعالى- في مواضع كثيرة كما أشرنا في الليلة الماضية.

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223]، كان اليهود يتحرجون ويتنزهون من معاشرة المرأة إلا في حال أو وضع أو صفة معينة، فلما جاء المهاجرون إلى المدينة وكانت قريش تصنع ما لا عهد للأنصار الذين جاوروا اليهود به، فتزوجوا من الأنصار فلما أراد بعضهم ذلك تمنعن حتى يسألن رسول الله ﷺ، فجاء هذا الجواب: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223][1]، ومثل هذا يكفي عن ذكر تفاصيل لا حاجة إليها في معنى هذه الجملة.

هذه الآية فيها تشبيه النساء بالحرث، وذلك لما يُلقى من النُطف التي يُخلق منها الأولاد، كذلك الحرث يُلقى فيه البذر فتخرج الأشجار والنباتات.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223]، توسعة الشارع على عباده، فلم يُضيق عليهم في ذلك في وجوه الاستمتاع إلا فيما كان ضررًا وأذى سواء كان ذلك في حال الحيض أو كان ذلك في غير موضع الولد.

كذلك يؤخذ من هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223]، تشبيه النساء بالحرث هنا فهي مُزدرع، فصاحب الحرث يسعى إلى تثميره وتكثيره واستنبات ألوان النباتات والأشجار فيه، فإذا كان هؤلاء النساء مُزدرع للرجال فينبغي أن يحرصوا على هذا المعنى بتكثير النسل، والنبي ﷺ يقول: تزوجوا الودود الولود فإني مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة[2]، والله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، يعني: خوف الفقر إذا كثُر النسل، نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [سورة الإسراء:31]، فرزقهم على الله -تبارك وتعالى، أما إذا كان قتل هؤلاء الأولاد بسبب فقر واقع على الأبوين فقال الله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ، يعني: من فقر واقع متحقق، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [سورة الأنعام:151]، فقدم رزق الآباء، فالرزق عند الله -تبارك وتعالى- والإنسان لا يرزق نفسه فضلاً على أن يرزق غيره من هؤلاء الأولاد، فكثرة النسل وكثرة الأولاد لا تكون سببًا للفقر؛ لأن هؤلاء قد تكفل الله برزقهم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ، هذا بأقوى صيغة من صيغ الحصر، فيدخل في هذا الإنسان وغير الإنسان، كل من يدب على الأرض، أيضًا هذا الوأد الخفي كما يُسميه بعض السلف بالإجهاض، وإسقاط الحمل، ونحو ذلك كل هذا وما يُلحق به من تعاطي موانع الحمل من أجل أن لا يكثر الأولاد كل هذا من بقايا الجاهلية، الذين كانوا يقتلون الأولاد خشية الفقر، فكانوا يسمون ذلك بالمؤودة الصُغرى، والوأد الخفي، فالرزق عند الله -تبارك وتعالى- ينزل على الخلق سواء كانوا كثيرين أو قليلين ويد الله وخزائنه ملأى لا تغيضها نفقة[3].

وكذلك يؤخذ من هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، لم يقل: فأتوه أو فأتوهن وإنما قال: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223]، تأكيدًا لهذا المعنى أنهن حرث، كذلك أيضًا هذا الحرث الإنسان يُحافظ عليه ويصونه من كل آفة، فهكذا المرأة ينبغي أن تُصان وتُحفظ ولا تُترك عُرضة لكل آسر وكاسر، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223]، يعني: كيف شئتم.

وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:223]، فهنا نوع في الخطاب خاطب المؤمنين وخاطب النبي ﷺ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ، ثم حول الخطاب إلى النبي ﷺ لتبشير المؤمنين لأن ذلك يكون عن طريقه -عليه الصلاة والسلام.

وكذلك هنا أيضًا: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [سورة البقرة:223]، جمع بين أمرين: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، هذا موضع الاستمتاع وهذا من أعظم المُتع في هذه الدنيا، لكن ذلك لا يُنسي العمل والطاعة التي يُتقرب بها إلى الله ، كما قال في آية الصيام: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187]، ما الذي كتبه الله لنا؟

بعضهم يقول: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، من قيام ليالي رمضان، فلا يشغلكم ذلك عن العبادة.

وبعضهم يقول: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، التماس ليلة القدر، وهو يرجع إلى القول قبله.

وبعضهم يقول: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يعني: الولد، يعني: أن يكون لك نية في هذا الوِقاع.

وبعضهم يقول كابن جرير -رحمه الله[4]: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يشمل هذا جميعًا إضافة إلى أقوال أخرى كقول من قال: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يعني: في اللوح المحفوظ، أو ما كتب الله لكم مما شرعه، فكل هذا داخل فيه، فالمقصود أنه جمع بين هذا وهذا، يعني: حينما أباح لهم ليلة الصيام الوقاع قال: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187]، لا يشغلكم هذا الوقاع عن العبادة والطاعة وقيام ليالي الشهر والتماس ليلة القدر، وهنا أيضًا: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [سورة البقرة:223]، فهذا هو المراد أن يُقدم الإنسان لنفسه ما ينفعه ويرفعه ولا تشغله هذه الشهوات ولو كانت مباحة عن طاعة الله ، وليس المراد كما قال بعضهم أن قوله: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [سورة البقرة:223]، يعني قبل الوقاع من المقدمات التي تكون أدعى إلى قبول المرأة لذلك، هكذا قال بعضهم، ألَّا يبدأ مُباشرة بالوقاع وإنما يكون له مُقدمات يجعل ذلك أدعى للقبول، ولكن هذا بعيد وإن كان ظاهر اللفظ يحتمله، لكن عادة القرآن وطريقة القرآن من الجمع بين هذا وهذا أعني المُتع الدنيوية إذا ذكرها مع أمور الآخرة وما يُقرب إلى الله -تبارك وتعالى.

كذلك أيضًا هنا يؤخذ من هذه الآية أن من أراد أن يذكر أمرًا له أهمية أن يُبرزه كما قال الله : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [سورة البقرة:223]، فهذا يحتاج إلى هز للنفوس وتحريك لها بحيث يكون الإنسان متهيئًا مستعدًا للقاء الله وهذا يبعث على المُحاسبة والمُراقبة، فإذا علم الإنسان أنه سيُلاقي ربه -تبارك وتعالى- فإنه يجد ويجتهد في التقديم لنفسه ما يجد ثوابه عند الله -تبارك وتعالى.

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [سورة البقرة:223]، هذا فيه تحذير مُبطن وتهديد مُغلف لمن فرط وضيع.

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:223]، فالبُشرى تكون لأهل الإيمان والعمل الصالح، وهذا أمر للنبي ﷺ يؤخذ منه أن البُشرى مطلوبة، من كان على خير وعلى عمل صالح يُقال له: أبشر، كذلك تبشير الناس بالأمور السارة بالأمور الطيبة بالأمور التي تبعث الطمأنينة في نفوسهم هذا مطلوب، أما ذكر ما يسوء الناس دائمًا وسياق الأخبار التي تُدمي فمثل هذا غير مُستحسن ولا جيد، الناس يحتاجون إلى تبشير وتطمين وذكر ما يسر.

وكذلك: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يدل على أن غير المؤمنين لا بُشرى لهم، وفي هذا أيضًا يؤخذ فضيلة الإيمان فقد علق البشارة عليه، وكما أنه لم يذكر المُبشر به، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، بشرهم بالنصر في الدنيا بالرفعة والتمكين والعلو، أو بشرهم بالثواب في الآخرة والجنة وما إلى ذلك، هنا حُذف المتعلق، وحذف المُتعلق يفيد العموم النسبي، المتعلق المقدر المحذوف: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، فيُحمل على العموم، بشرهم في الدنيا بالنصر، والظفر، والتمكين، والحياة الطيبة، وحُسن العاقبة، وبشرهم في الآخرة بالثواب الجزيل، والجنات، ورضا الله -تبارك وتعالى، وما يجدونه مذخورًا لهم من أنواع النعيم. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ [سورة البقرة:223] الآية، برقم (4528)، ومسلم، كتاب النكاح، باب جواز جماعه امرأته في قبلها، من قدامها، ومن ورائها من غير تعرض للدبر، برقم (1435).
  2. أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، برقم (2050)، والنسائي، كتاب النكاح، كراهية تزويج العقيم، برقم (3227)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2941).
  3. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ [سورة هود:7]، برقم (4684)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، برقم (993).
  4. تفسير الطبري (3/ 248).