السبت 24 / ربيع الأوّل / 1446 - 28 / سبتمبر 2024
وَلَا تَجْعَلُوا۟ ٱللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَٰنِكُمْ أَن تَبَرُّوا۟ وَتَتَّقُوا۟ وَتُصْلِحُوا۟ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة البقرة:224-225] يقول تعالى: لا تجعلوا أيمانكم بالله - تعالى - مانعة لكم من البر، وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها كقوله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة النور:22].فما أورده ابن كثير في تفسير قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ جرى على حمل العرضة في الآية على معنى الشيء المعترض - كالحاجز -، من قولهم هذا الشيء عرضة بمعنى: حاجز، وهذه الأحجار عرضة في الطريق أي: حاجزة للمارة فلا يتمكنون من اجتيازها، ويكون المعنى على هذا: لا تجعلوا الله حاجزاً ومانعاً لأيمانكم التي هي بركم، وتقواكم، وإصلاحكم بين الناس كما حلف أبو بكر ألا يصل مسطحاً، وأن يقطع عنه النفقة التي كان يتعهده بها بعدما تكلم في قصة الإفك المعروفة بما تكلم، فصار حَلِف أبي بكر  حاجزاً دون إيصال البر والإحسان إلى هذا القريب، ومثله لو حلف الإنسان ألا يزور أمه، أو لا ينفق على امرأته؛ لأصبح حلفه حائلاً دون بلوغ هذا البر والمعروف سواء كان واجباً، أو مستحباً، فلا ينبغي للإنسان أن يقيم على هذه اليمين التي تحول بينه وبين إيصاله البر والمعروف إلى أقربائه وسائر الناس، وإنما هو مطالب أن يكفر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير، وقد ثبت عن النبي ﷺ قوله: ... لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها[1]، فهذا هو المعنى المشهور والمتبادر الذي عليه الجمهور.
وقيل: العرضة بمعنى القوة، والشدة أي: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم في الامتناع من الخير، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، فالآية تحتمله وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
وقيل: يحتمل أن تكون من قولهم: فلان عرضة للناس بمعنى أنهم يقعون فيه كثيراً بما يكره، فتحمل الآية على النهي عن ابتذال الاسم الكريم، والإكثار من الحلف بذلك، ومعلوم أن كثرة الحلف ليست بالأمر المحمود، بل هي من صفات المنافقين كما قال الله عنهم: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [سورة المجادلة:16]، وكثرة الحلف لا يتفق مع تعظم المعبود - - التعظيم الواجب؛ لأن من اعتاده وصار ديدنه أعمله كثيراً في تعاملاته المختلفة لغرض أو لآخر، فتخف جذوة تعظيم المحلوف به في قلبه وتضعف، ولذلك أثر عن بعض السلف كإبراهيم النخعي - رحمه الله - أنه كان يؤدب الصبيان، ويضربهم على الحلف؛ لئلا يكون سهلاً على ألسنتهم فيعتادونه، وقديماً قيل: "من أكثر الحلف كثر منه الحنث"، والله أعلم.
وبعض المفسرين يرى أن المراد من الآية الحلف كذباً بحجة الإصلاح بين الناس، فإنه وإن كان يرخص للإنسان فيه لكن شريطة أن لا تضيع الحقوق بسببه، ومثله لو حلف بحجة أن قصده الخير، وتكثير سواده؛ فهذا مما لا يجوز، وصاحبه مقترف لكبيرة من الكبائر، والغاية لا تبرر الوسيلة.
وبعض أهل العلم يحمل الآية وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُم على أحد المعاني المذكورة، ويجعل قوله: أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ جملة جديدة حذف منها الخبر لا تعلق لها بما سبق، والمعنى البر، والتقوى، والإصلاح أولى لكم، والله أعلم.
"فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة[2]، وقال رسول الله ﷺ: والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله؛ آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه[3]، وهكذا رواه مسلم وأحمد.
وقال علي بن طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله: وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُم قال: لا تجعلن عرضة ليمينك ألا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك، واصنع الخير، وكذا قال مسروق والشعبي، وإبراهيم النخعي ومجاهد، وطاووس وسعيد بن جبير، وعطاء وعكرمة، ومكحول والزهري، والحسن وقتادة، ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس، والضحاك وعطاء الخرساني، والسدي - رحمهم الله تعالى -".
هذا المعنى يوافق المعنى الأول: لا تجعلوا أيمانكم حاجزاً ومانعاً يحول بينكم وبين فعل البر، والتقوى.
"ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: إني والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها[4].
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير[5].
  1. رواه البخاري في كتاب الخمس - باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين برقم (2964) (3/1140)، ومسلم في كتاب الأيمان - باب نذر من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه برقم (1649) (3/1268).
  2. رواه البخاري في كتاب الجمعة - باب فرض الجمعة برقم (836) (1/299)، ومسلم في كتاب الجمعة - باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة برقم (855) (2/585).
  3. رواه البخاري في كتاب الأيمان والنذور برقم (6250) (6/2444)، ورواه مسلم في كتاب الأيمان - باب النهي عن الإصرار على اليمين فيما يتأذى به أهل الحالف مما ليس بحرام برقم (1655) (3/1276).
  4. سبق تخريجه.
  5. رواه مسلم في كتاب الأيمان - باب نذر من حلف يمينا فرأى غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه برقم (1650) (3/1271).

مرات الإستماع: 0

 "عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أي: لا تكثروا الحلف بالله فتبدلوا اسمه، وأَنْ تَبَرُّوا على هذا علة للنهي، فهو مفعول من أجله أي: نهيتم عن كثرة الحلف كي تبروا، وقيل المعنى: لا تحلفوا على أن تبرّوا، وتتقوا، وافعلوا البرّ، والتقوى دون يمين، فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا هو المحلوف عليه، والـ عُرْضَةً على هذين القولين كقولك: فلان عرضة لفلان، إذا أكثر التعرّض له، وقيل: عُرْضَةً مانع، من قولك: عرض له أمر حال بينه، وبين كذا، أي: لا تمتنعوا بالحلف بالله من فعل البر، والتقوى، ومن ذلك يمين أبي بكر الصديق أن لا ينفق على مسطح، فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا علة لامتناعهم فهو مفعول من أجله، أو مفعول بـ عُرْضَةً؛ لأنها بمعنى مانع."

قوله - تبارك، وتعالى -: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ العرضة قيل: أصل ذلك هو النصبة يعني ما تعرضه دون الشيء يكون حاجزًا له، أي: لا تجعلوا الله حاجزًا، أو مانعًا بما حلفتم عليه، وهذا قول الجمهور، وهو القول الأخير الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - وهو مروي عن ابن عباس، ومسروق، والشعبي، والنخعي، وقتادة، ومقاتل، والربيع، والضحاك، وعطاء الخرساني، والسدي، ومجاهد، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعكرمة، ومكحول، والزهري، والحسن، وهو اختيار الحافظ ابن كثير - رحم الله الجميع -[1]. فهذا قول عامة أهل العلم وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ لا تجعلوا الله حاجزًا أو مانعًا، أو حائلًا لما حلفتم عليه.

وهنا قال: لا تكثروا الحلف بالله، فتبدلوا اسمه. هذا قول آخر وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ لذلك تجد في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - باب ما جاء في كثرة الحلف، ووجه دخول هذا الباب في كتاب التوحيد: أن كثرة الحلف منبأ عن استخفاف باسم الله - تبارك، وتعالى - ومقام الرب  فلو عظّمه ما كان على لسانه في الحلف، يحلف به على كل شيء مما يستحق، وما لا يستحق، فهذا فيه ابتذال، ولهذا جاء عن بعض السلف: كإبراهيم النخعي - رحمه الله -: أنهم كانوا يؤدبون الصبيان على الحلف لئلا يعتاد، ويُكثر من ذلك فيبتذل اسم الله - تبارك، وتعالى -[2].

يقول: أَنْ تَبَرُّوا على هذا علة للنهي، فهو مفعول من أجله أي: نهيتم عن كثرة الحلف كي تبروا.

من أجل أن تبروا.

يقول: وقيل المعنى: لا تحلفوا على أن تبرّوا، وتتقوا، وافعلوا البرّ، والتقوى دون يمين، فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا هو المحلوف عليه. لا تحلفوا على أن تبروا، وتتقوا، وافعلوا البر، والتقوى دون يمين فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا هو المحلوف عليه وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ يعني من أجل أن تفعلوا البر، يعني افعل البر من غير حلف، فيُعظم اسم الله - تبارك، وتعالى - ويصان، وهذا توجيه غير الأول، الأول: لا تبتذلوا اسم الله - تبارك، وتعالى- كي تبروا، وهنا: لا تحلفوا على أن تبروا، يعني أن تفعلوا البر، افعلوه من غير حلف.

يقول: والـ عُرْضَةً على هذين القولين كقولك: فلان عرضة لفلان، إذا أكثر التعرّض له. يعني هذا يُكثر الحلف من أجل أن يفعل البر.، وقيل عُرْضَةً مانع.

هذا القول الذي ذكرته أنه قول الجمهور، من قولك: عرض لك أمر. حال بينه، وبين كذا، أي: لا تمتنعوا بالحلف بالله من فعل البر، والتقوى، وعليه فـ أَنْ تَبَرُّوا يكون عطف بيان أَيْمَانِكُمْ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا أي: لا تجعلوا الله مانعًا للأيمان التي هي بركم، وتقواكم، وإصلاحكم بين الناس، فيترك الإنسان العمل الطيب، والبر، والإصلاح بين الناس بحجة أنه حلف بعذر أنه حلف ألا يفعل.

قال: ومن ذلك يمين أبي بكر الصديق أن لا ينفق على مسطح فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا علة لامتناعهم فهو مفعول من أجله، أو مفعول بـ عُرْضَةً لأنها بمعنى مانع.

وقصة أبي بكر مع مسطح فيه نزلت الآية الأخرى في سورة النور: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى... [النور: 22][3] ولا يأتل من الألية، وهي الحلف، يعني لا يحلف، فهذا بهذا المعنى - والله تعالى أعلم -.

وبعضهم يقول: بأن العرضة من الشدة، والقوة. يعني: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم في الامتناع من الخير، وهذا اختيار أبي جعفر ابن جرير - رحمه الله -[4] وهو في المآل يرجع إلى قول الجمهور من جهة أن اليمين كانت سببًا لترك الخير، بخلاف القول الآخر الذي كان النهي فيه من أجل ألا يُبتذل اسم الله - تبارك، وتعالى - يفعل الخير من غير حلف، لا تحلف من أجل أن تبر، وتصلح بين الناس، هنا لا، لا تمتنع، لماذا لا تمتنع؟ إما بالتقوي باليمين على الامتناع، أو بجعل اليمين معترضة دون فعل الخير، فهذان يرجعان إلى الترك: ترك البر، والإصلاح بين الناس بسبب اليمين، إما لأنها مقوية، وإما بسبب أنها مانعة فهي معترضة، وبعضهم يقول: هو من قول الناس: فلان عرضة للناس.

يعني: يقعون فيه، فهذا بمعنى القول السابق: أن ذلك النهي من جهة الابتذال، كما قال الله : وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89]، فعلى بعض المعاني وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ يعني: لا تُكثر من الحلف على أحد المعاني، وإلا قد فُسر بأن يحفظ اليمين فلا يحنث فيها إلا إذا كان ذلك خير.

وعلى كل حال يعني يكون المعنى في نهايته ألا تكثر من الحلف، واليمين، أو لا تجعل الله - تبارك، وتعالى - عرضة لليمين إرادة للبر، لا تجعله معرضًا لأيمانكم من أجل البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس، وذلك أن من يكثر من اليمين، والحلف يكثر منه الحنث وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ فحصل الابتذال، والاستخفاف من الجهتين: من جعله على لسانه في كل شيء، وكذلك في كثرة الحنث، يعني لم يعد لليمين قيمة، جاء في الصحيحين مما يوافق المعنى الذي ذكره الجمهور من الامتناع عن فعل الخير كما وقع لأبي بكر الصديق في النفقة على مسطح، جاء في الصحيحين عن زهدم الجرمي، قال: كنا عند أبي موسى، فأتي - ذكر دجاجة - وعنده رجل من بني تيم الله أحمر كأنه من الموالي، فدعاه للطعام، فقال: إني رأيته يأكل شيئا فقذرته، فحلفت لا آكل، فقال: هلم فلأحدثكم عن ذاك، إني أتيت النبي ﷺ في نفر من الأشعريين نستحمله، فقال: والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم وأتي رسول الله ﷺ وسلم بنهب إبل، فسأل عنا فقال: أين النفر الأشعريون؟ فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى، فلما انطلقنا قلنا: ما صنعنا؟ لا يبارك لنا، فرجعنا إليه، فقلنا: إنا سألناك أن تحملنا، فحلفت أن لا تحملنا، أفنسيت؟ قال: لست أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإني، والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها[5].

وفي صحيح مسلم في خبر الرجل الذي حلف ألا يأكل من أجل صبيته ثم بدا له فأكل، هو حلف على امرأته ألا يأكل لما نام الصبية، وما طعموا، ثم بدا له، فأكل فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له، فقال النبي ﷺ: من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه[6].

فهذا كله في هذا المعنى ألا تكون اليمين حائلًا دون فعل البر، وهل تجتمع معه بعض المعاني المذكورة وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ يعني: لا تكثروا الحلف كأن يحلف الإنسان من أجل أن يفعل البر، افعل من غير حلف، وكذلك أيضًا تعليل هذا بالنهي عن ابتذال اسم الله - تبارك، وتعالى - هذا لا يبعُد، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، لا تكثر من الحلف فتبتذل اسم الله، افعل الخير من غير حلف، وكذلك لا تجعل الحلف مانعًا من فعل الخير - والله أعلم -.

"بِاللَّغْوِ الساقط، وهو عند مالك قولك: نعم والله، ولا والله، الجاري على اللسان من غير قصد، وفاقًا للشافعي[7] وقيل: أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يظهر خلافه، وفاقًا لأبي حنيفة[8] وقال ابن عباس: اللغو الحلف حين الغضب[9] وقيل: اللغو اليمين على المعصية، والمؤاخذة العقاب أو وجوب الكفارة."

هذه الأقوال كما سيأتي ليست متنافية لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ لما وجههم فيما يتصل بالأيمان المانعة التي يحصل الحنث بها، مانعًا فعل الخير، الأيمان التي يجزم بها صاحبها، ويعقد قلبه على مقتضاها ذكر لهم النوع الآخر من الأيمان، وهو ما لا كفارة فيه، ما هذه الأيمان التي لا كفارة فيها؟ يجمعها هذا الوصف، أنها لغو لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ فاللغو هو ما يجري في الكلام من غير عقد القلب، ولا قصد.

ولهذا يقال أيضًا للباطل من الكلام يقاله له لغو لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا [مريم: 62] [الواقعة: 25] [النبأ: 35]، الكلام الباطل، الكلام الذي لا قيمة له، فذلك من اللغو، لكن هنا الجامع المشترك لهذا المعنى، الكلام الباطل بمعنى أنه لا يترتب عليه حكم إذا أردنا أن ننزل ذلك على اليمين، فهو يجري على لسانه من غير قصد اليمين، ولهذا قال هنا: باللغو الساقط.

يعني غير المعتبر، لا يترتب عليه حكم، قال: وهو عند مالك قولك: نعم والله، ولا والله، الجاري على اللسان من غير قصد.

هذا المعنى الذي ذكرناه ما يجري على لسان الإنسان يقول: والله ذهبت إلى مكان كذا، والله إني في شوق لرؤيتك. ونحو ذلك مما يجري على ألسن الناس لا يقصدون به اليمين وفاقًا للشافعي، وهو أحد القولين لعائشة - ا - وبه قال ابن عمر، وابن عباس في أحد أقواله، وكذلك الشعبي، وعكرمة في أحد قوليه، وعطاء، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وبه قال أبو قلابة، والضحاك في أحد قوليه، وأبو صالح، والزهري[10].

يعني: ما يجري على اللسان من غير قصد، وقد جاء عن عائشة - ا - مرفوعًا، وموقوفًا: اللغو في اليمن هو كلام الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله[11].

وهذا قول الجمهور، الذي أضافه هنا إلى مالك، والشافعي، وذكرت من قال به من السلف هذا قول الجمهور سلفًا، وخلفًا، وبعضهم يقول: أن يحلف بحسب ظنه، فيتبين على خلافه.

يعني: إذا حلف الإنسان على شيء، وتبين أنه على خلاف ما حلف عليه فهذا لا يترتب عليه كفارة، ولا إثم، وليس من قبيل الكذب شرعًا المذموم، حلف أن زيدًا قد سافر، يظن أنه كذلك، فتبين أنه لم يسافر، فمثل هذا لا يترتب عليه حكم، لا يؤاخذ شرعًا، ولا يكون فيه كفارة، اليمين التي يترتب عليها الكفارة عند الفقهاء هي التي يعبرون عنها بإلزام المكلف نفسه، أو إلزام المكلف غيره بفعل أو ترك، يعني في المستقبل، هذه اليمين التي يترتب عليها الكفارة، تحلف عليه تقول: والله أن تأكل من هذا الطعام مثلًا، والله لا آكل من هذا الطعام، ونحو ذلك، فهذا على أمر مستقبل أن يفعل، أو يترك، هذه اليمين التي عند الفقهاء التي يترتب عليها الحنث، ما الذي يخرج عنها؟ يخرج عنها ثلاثة أشياء:

الأول: يخرج عنها ما يجري على اللسان من غير قصد، اللغو.

الثاني: يخرج عنها أيضًا اليمين الغموس، حلف على شيء، يعني اليمين التي هي في الخبر سواء كان كاذبًا، أو صادقًا، فالغموس إذا كان كاذبًا، حلف أنه اشترى هذه السلعة بكذا مثلًا، حلف أنه ما رأى زيدًا، وهو كاذب، حلف أن زيدًا قد سافر، وهو كاذب، حتى لو تبين أنه سافر فعلًا لكن هو يعتقد أنه مقيم، حلف كاذبًا فهذه هي اليمين الغموس تغمس صاحبها في النار، هذه من الكبائر، ولا تكفرها كفارة اليمين، وإنما عليه التوبة العظيمة، وكثرة الاستغفار، ونحو ذلك من العمل الصالح، والصدقة، ونحو ذلك فهذا جُرم عظيم أكبر من أن تكفره كفارة اليمين.

الثالث: اليمين التي يذكرها المؤلف، وهي أن يحلف على شيء يظنه، خبر يعني، يخبر عن شيء، فيتبين خلاف ما قال، أنه على خلاف ما ذكر، فهذه ليس فيها كفارة، وليس فيها إثم، اليمين الغموس ليس فيها كفارة على الراجح، وفيها الإثم، هذه لا كفارة، ولا إثم، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ألحق بهذا يعني ما لا يترتب عليه كفارة: أن يحلف الإنسان بقصد الإكرام[12] يحلف على الإنسان أن يطعم معه، أن يجلس في هذا المكان، أن يتقدم في المجلس، أن يجلس في مكانه، أو نحو ذلك، فهذا المقصود منه الإكرام، ألا يسافر حتى ينزل ضيفًا عنده، أو نحو هذا، فشيخ الإسلام يرى أن هذا لا كفارة فيه مع عزمه، وجزمه لكن يرى أن المقصود من هذا هو الإكرام، وقد حصل الإكرام بما قال، يعني كما نعبر الآن نقول: وصلت الرسالة، نريد إكرامه فالرجل امتنع أبى أن يجلس في المكان امتنع أن ينزل ضيفًا عنده، اعتذر إليه، فشيخ الإسلام يرى أن هذا لا كفارة فيه، فهذا على كل حال كله مما لا يدخل فيه الكفارة.

وبعضهم يقول: اللغو في الأيمان هو اليمين المكفرة. وهذا بعيد إلا إذا أدخلناه في المعنى الكبير الذي أشرت إليه في أول الكلام: أن ما لا كفارة فيه، لكن هنا أخرج الكفارة فيقصد هنا القائل بذلك أنه لا تبعة فيه، يعني لا إثم، ولا مؤاخذة، لما أخرج الكفارة تحلل من هذه اليمين، لكن هذا فيه بعُد، وبعضهم يقول: اللغو في اليمين هي يمين المعصية.

وبعضهم يقول: دعاء الرجل على نفسه. ودعاء الرجل على نفسه ليس بيمين، وجاء عن ابن عباس - ا -: أن تحلف وأنت غضبان. يعني يشير إلى اليمين التي لا يترتب عليها حكم أن يحلف وهو غضبان، قال: فذلك ما ليس عليك فيه كفارة. وجاء نحوه عن سعيد بن جبير - رحمه الله -.

يقول المؤلف: وقيل: أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يظهر خلافه. وهذا أيضًا مروي عن عائشة - ا - القول الآخر لها، وقلنا الأول أحد القولين لعائشة، وهو مروي عن أبي هريرة، وابن عباس في أحد أقواله، وسليمان بن يسار، وسعيد بن جبير، ومجاهد في أحد أقواله، والحسن، وإبراهيم، وزرارة بن أوفى، وبه قال أبو مالك، وعطاء الخرساني، وبكر بن عبد الله، وهو قول أيضًا لعكرمة، وحبيب بن أبي ثابت، والسدي، ومكحول، ومقاتل، وطاوس، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى بن سعيد[13].

قال: "وفاقًا لأبي حنيفة". ابن جرير - رحمه الله - حمله على المعنى الأعم، وهو أنه كل يمين لا كفارة فيها[14] فهذه المعاني المذكورة أولاها - والله تعالى أعلم - هو قول الجمهور: وهو ما يجري على لسان الإنسان من غير قصد، ولا عقد: كلا والله، وبلى، والله، ونحو ذلك، هذا يدخل فيه دخولًا أوليًا فإذا أردنا أن نوسع المعنى فيقال: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ كل يمين لا يترتب عليها كفارة، ولا إثم، حتى نخرج اليمين الغموس فيها مؤاخذة، وإثم عظيم لكن لا كفارة فيها، وإنما يدخل في هذا الأيمان التي لا كفارة، ولا إثم، مثل لو حلف على شيء يظنه كذا فتبين على خلافه فهذه لا كفارة فيها، ولا إثم، يدخل فيها اليمين في حال الغضب الذي لا تُعتبر فيه اليمين، الغضب درجات ثلاث:

النوع الأول: بالاتفاق لا يترتب عليها اعتبار طلاق، ولا عتاق، ولا حلف، وهو الغضب في إغلاق، إذا وصل الإنسان إلى حال لا يدري ما الذي قال، صار مثل السكران، فهذا إذا حلف فيمينه ليست بشيء.

النوع الثاني من الغضب: الغضب الشديد لكن يعقل ما قال، هذه مرتبة متوسطة فيها خلاف أهل العلم، هل يؤاخذ، أو لا يؤاخذ؟.

النوع الثالث: هو الغضب اليسير الذي لا يحصل معه تغير في إدراك الإنسان، وضبط تصرفاته، ونحو ذلك، فهذا مؤاخذ عليه بالاتفاق.

"بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي: قصدت، وهو على خلاف اللغو، وقال ابن عباس: هو اليمين الغموس، وذلك أن يحلف على الكذب متعمدًا، وهو حرام إجماعًا، وليس فيه كفارة عند مالك، خلافًا للشافعي."

وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ هذه قرينة تؤيد قول من قال: بأن اللغو في اليمين هو ما يجري على اللسان من غير عقد، ولا قصد.

قال: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ لاحظ القول الآخر: بأنه إذا حلف على شيء يظنه كذا فتبين على خلافه. هذا مما يعقد عليه القلب لكنه خبر، مجرد الخبر الذي لا يتضمن إنشاء هذا ليس فيها كفارة، ولكن فيه الإثم إذا كان كاذبًا، فهذا ينعقد عليه القلب، ويقصده، فإذا أردنا أن نرجح نقول: هو ما يجري على اللسان: كلا والله، وبلى والله، لكن هذا ينعقد عليه القلب الإخبار، لكن من نظر إلى المعنى، ولم ينظر إلى هذه القرينة - والله أعلم - قال: كل ما لا مؤاخذة فيه لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فكل ما لا مؤاخذة فيه فهو داخل في ذلك.

وإذا أردنا أن نرجح أحد الأقوال فهذه قرينة مرجحة للقول الأول: ما يجري على اللسان من غير قصد، وأما هذا الذي حلف على شيء يظنه كذا فهذا غير مؤاخذ بأدلة أخرى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] قال الله: قد فعلت[15].

وقوله ﷺ: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم[16].

أما حديث: إن الله قد تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه[17] فهذا لا يصح.

لكن يكفي: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا.

قال: أي: قصدت فهو على خلاف اللغو، وقال ابن عباس: هو اليمين الغموس، وذلك أن يحلف على الكذب متعمدًا، وهو حرام إجماعًا، وليس فيه كفارة عند مالك خلافًا للشافعي.

وهذا الذي قاله ابن عباس قاله به مجاهد أيضًا، ونقل أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - الإجماع على أن معنى كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي: ما تعمدت قلوبكم[18].

وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[19] وحملها ابن جرير - رحمه الله - على المعنيين[20].

وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يعني: هذا الذي يترتب عليه الكفارة، وكذلك أيضًا اليمين الغموس؛ لأنه تعمد الحلف، والكذب فيه عند ابن جرير - رحمه الله - فالمؤاخذة هنا ليست بمجرد الكفارة. 

  1. تفسير ابن كثير (1/600).
  2.  قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة، والعهد. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، رقم: (2652).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون، والمؤمنات، بأنفسهم خيرا [النور: 12]، رقم: (4750).
  4. تفسير الطبري (4/424).
  5.  أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، رقم: (3133)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، رقم: (1649).
  6.  أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، رقم: (1650).
  7.  الحاوي الكبير (15/ 288).
  8.  بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/3).
  9.  تفسير ابن عطية (1/301).
  10.  تفسير ابن كثير (1/602).
  11.  أخرجه أبو داود، كتاب الأيمان، والنذور، باب لغو اليمين، رقم: (3254).
  12.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/501).
  13.  تفسير ابن كثير (1/602).
  14.  تفسير الطبري (4/446).
  15.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة: 284]، رقم: (126).
  16.  أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق، والكره، والسكران، والمجنون، وأمرهما، والغلط، والنسيان في الطلاق، والشرك، وغيره، رقم: (5269)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس، والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر، رقم: (127).
  17.  أخرجه ابن ماجه، باب طلاق المكره، والناسي، رقم: (2043)، والطبراني في المعجم الصغير (2/52)، رقم: (765)، وإسناده تالف بمرة، أبو بكر الهذلي متروك الحديث، وأيوب بن سويد ضعيف جدا، وشهر ضعيف، ثم قد اختلف في إسناده أيضا. انظر: سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط (3/200).
  18.  تفسير الطبري (4/449).
  19.  شفاء العليل في مسائل القضاء، والقدر، والحكمة، والتعليل (ص: 120).
  20.  تفسير الطبري (4/451).

مرات الإستماع: 0

وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:224]، أي: لا تجعلوا الحلف بالله -تبارك وتعالى- مانعًا لكم من البر وصلة الرحم والتقوى والإصلاح بين الناس بأن يُدعى الإنسان إلى شيء من ذلك فيدع فعله محتجًا بأنه قد حلف أن لا يفعل، بل عليه أن يعدل عن ذلك، ويفعل تلك الأعمال الخيرة، ويُكفر عن يمينه، فالله -تبارك وتعالى- سميع لأقوال عباده، عليم بأحوالهم، هذا المعنى الذي عليه عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا، عليه الجمهور من المفسرين.

وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً [سورة البقرة:224]، يعني: مانعًا وحائلاً يحجزكم عن فعل البر والخير والصلة والإصلاح، وما إلى ذلك، فيترك الإنسان صلة الرحم أو يترك الإصلاح بين الناس بحجة أنه قد أقسم أن لا يفعل، والنبي ﷺ قال: لا أحلف على يمين ثم أرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير[1]، فهذا هديه ﷺ.

وبعض أهل العلم ذهب في تفسير هذه الآية: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة:224]، بمعنى: الإكثار من الحلف، يُقال: فلان عُرضة للناس، يعني: كثير التعرض لهم، بمعنى أن الإنسان يبتذل اسم الله -تبارك وتعالى- فيحلف على كل شيء؛ ولهذا تجدون في كتاب التوحيد للإمام المُجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله: باب ما جاء في كثرة الحلف، وعلاقة هذا الباب بكتاب التوحيد: أن كثرة الحلف تُنبئ عن قلة تعظيم الله ، يعني: يحلف على كل شيء، يحلف على ما يستحق وما لا يستحق، فهذا خلاف تعظيم الله، ولهذا جاء عن إبراهيم النخعي -رحمه الله- أنهم كانوا يؤدبون الصبيان على الحلف، إذا رأوا الصبي يحلف أدبوه من أجل أن يُعظم الله ويُعظم اسمه فلا يُبتذل اسم الرب -تبارك وتعالى- بأيمان تتكرر على ما يستحق وما لا يستحق.

وبعضهم نظر إليه من وجه آخر، من جهة هذا المعنى الابتذال، وذلك أن من أكثر من الحلف؛ فإنه يقع منه خلاف ذلك، يعني: يكون حانثًا في بعض هذه الأيمان، فيكون بسبب ذلك لم يُعظم اسم الله -تبارك وتعالى- ويحفظ أيمانه، ولهذا فسروه بقوله: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [سورة المائدة: 89]، على هذا المعنى.

وعلى كل حال، الله -تبارك وتعالى- يقول: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [سورة القلم:10]، حلاف على وزن فعال يعني كثير الحلف، وأخبر عن المنافقين أنهم هم الذين كانوا يحلفون دائمًا إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [سورة المنافقون:1]، الشاهدة هنا بمعنى الحلف.

كذلك أيضًا: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ [سورة التوبة:62]، ونحو ذلك مما أخبر الله -تبارك وتعالى- عنهم، كما قال: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المنافقون:2]، فجعلوها كالتُرس؛ فإذا وجهت إليهم تُهمة في فعل فعلوه أو مقالة قالوها حلفوا أنهم ما فعلوا، فدفعوا ذلك عنهم.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة:224]: تعظيم اسم الله ، فلا يُبتذل بكثرة الحلف على هذا المعنى الذي قال به كثيرون أيضًا، وهو معنى قريب، ويمكن أن تكون الآية متضمنة لهذا وهذا.

كذلك أيضًا يؤخذ من وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة:224]، النهي عن كثرة الحلف.

الأمر الثالث وهو أنه ليس للإنسان أن يحلف على ترك البر والمعروف والخير والصلة، والإحسان، والإصلاح بين الناس؛ فإذا وقع منه شيء من ذلك فليس له أن يدع ذلك الفعل بحجة أنه حلف بل عليه أن يُكفر عن يمينه، وأن يفعل هذه الأمور، فلا يمتنع من طاعة الله بسبب اليمين، وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة:224]، أي: حائلاً يحجزكم عن فعل البر والمعروف، فيحلف ألا يُكلم فلانًا، أو ألا يزور فلانة من قرابته ومحارمه، فيقطع الرحم بحجة أنه قد حلف.

كذلك أيضًا الحث على البر والتقوى والإصلاح بين الناس؛ لأنه إذا كان الله -تعالى- قد نهانا أن نجعل اليمين مانعة من فعل ذلك فمن باب أولى ألا يُترك ذلك من غير يمين مع أن اليمين يُطلب حفظها، وهو أحد الوجوه في قوله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [سورة المائدة: 89]، يعني: ألا يحنث الإنسان فيها على أحد الأقوال في التفسير، فإذا كان لم يحلف أصلاً، ويمتنع من فعل الخير والمعروف والبر فهذا من باب أولى يُنهى عن ذلك.

وكذلك أيضًا هذه الأشياء المذكورة المنصوص عليها، أَنْ تَبَرُّوا، البر اسم جامع لكل من يُحبه الله ويرضاه، وكذلك التقوى، وَتَتَّقُوا، لكنه ذكر فردًا من أفراد البر وأعمال التقوى وهي الإصلاح بين الناس، ومعلوم أن ذكر الخاص بعد العام يدل على مزية فيه وأهمية، فدل على أنا الإصلاح بين الناس من أجل الأعمال، ومن أفضلها وقد صح عن رسول الله ﷺ في غير ما حديث أنه من أشرف وأجل وأفضل الأعمال الصالحة.

ثم أيضًا ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، سميع صيغة مُبالغة، كثير السمع، عظيم السمع، عليم صيغة مُبالغة، أي: أنه عظيم العلم واسع العلم، فالله عليم لجميع الأصوات، يسمع قول القائلين، وأيمان الحالفين، وكذلك أيضًا هو عليم بالمقاصد والنيات، وهو عليم بهؤلاء الذين يحلفون أن لا يفعلوا البر والمعروف والتقوى والإصلاح بين الناس، كل ذلك يعلمه، وهذا فيه تحذير مُبطن، وتهديد ووعيد مُغلف، بمعنى أنه ينبغي على الإنسان أن يُراعي في ذلك كله سمع الله وعلمه، فالله محيط به، سامع لما يقول، عليم بدواخله وظواهره ومقاصده وأحواله كلها، فعلى العبد أن يتقي الله في كل أحواله، ولا يدع المعروف بحجة أنه قد حلف، فالمعروف لا يعتذر منه أحد. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب كفارات الأيمان، باب الاستثناء في الأيمان، رقم: (6718)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، (1649).