السبت 24 / ربيع الأوّل / 1446 - 28 / سبتمبر 2024
لَّا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِىٓ أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقوله: لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة:225] أي: لا يعاقبكم، ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية، وهي التي لا يقصدها الحالف بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد، ولا تأكيد".اليمين: الحلف، وأصل التسمية أن الواحد كان إذا حلف يأخذ بيمين صاحبه من باب التأكيد، فصارت تطلق على الحلف وإن لم يصحبها أخذ بيمين الحالف.
ومن تأمل عبارة ابن كثير - رحمه الله - في تفسير الآية يلاحظ أنه يقصد الأيمان التي لا كفارة فيها، وهي على نوعين:
الأول: أيمان يلحق صاحبها إثم، وهذه كاليمين الغموس.
الثاني: أيمان لا يلحق صاحبها إثم، وهي: ما كان على اعتقاد الحالف بالنسبة للأخبار، والأمور الماضية، أو كان على سبيل اللغو وهو: ما يجري على اللسان من غير عقد في القلب.
وهناك صور أخرى العلماء مختلفون فيها مثل: اليمين في حال الغضب في بعض صورها، أو اليمين التي يقصد بها الإكرام فيحلف علي إنسان بالضيافة والقِرَى، فبعض أهل العلم كشيخ الإسلام - رحمه الله - له كلام في هذه المسألة.
وأما الأيمان التي تتعلق بها الكفارة فهي ما أراده الله سبحانه في قوله: وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [(سورة البقرة:225] وهي اليمين التي يقصدها الحالف، ويعقد عليها قلبه، سواء كانت على أمر ماضٍ، أو مستقبل كما قال سبحانه: وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ [سورة المائدة:89].
وقوله سبحانه: لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ اللغو هو: الباطل، والأحسن أن تحمل الآية على كل يمين لا مؤاخذة فيها، فيدخل فيها ما حلف عليه الإنسان في أمر ماضٍ يعتقد فيه شيئاً وهو على خلافه، وكذا الأمور المستقبلة مما يجري على لسان الإنسان من غير قصد لليمين، وبعض أهل العلم يعد من اللغو يمين المعصية، وعلل ذلك بأن الأصل أن لا يقدم على هذه المعصية، وبالتالي لا يحتاج إلى التكفير.
وبعض أهل العلم يرى أن اليمين اللغو هي: ما يحصل من الإنسان إذا اشتط غضباً، فيدعو على نفسه ويقول: إنه يهودي، ونصراني؛ إذا فعل كذا.
والبعض الآخر قال: إنها اليمين المكفَّرة؛ لأنها صارت غير معتبرة؛ لكونه كفر عن يمينه، فصارت اليمين لا توجب على العبد الوقوف عندها، وهذا القول بعيد.
والأقرب أن تحمل يمين اللغو على ما لا كفارة فيه، ولا إثم، وابن جرير - رحمه الله - حملها على جملة من هذه المعاني السابقة، قال: هي التي لا كفارة فيها، لكن يبقى تقييد هذا بما لا إثم فيه؛ لأن اليمين الغموس لا كفارة فيها؛ لكن الإنسان يؤاخذ بها.
"كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله[1].
فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية قد أسلموا، وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد، فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد؛ لتكون هذه بهذه".
فهذه من لغو اليمين باعتبار أنه لا كفارة فيها، وعدّ بعضهم قوله ﷺ: فليقل: لا إله إلا الله كفارتها، وظاهر الأمر في الحديث للوجوب، والكفارة ليس بالضرورة أن تكون عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو صيام ثلاثة أيام أو...، بل قد تكون بشيء آخر كما في هذا الحديث.
وأما لو قال: والكعبة ... فهل تلزم الكفارة أم لا؟
المسألة خلافية بين أهل العلم، إلا أنهم متفقون على أن قوله هذا  يعتبر من الحلف بغير الله، ولذلك جعل بعضهم كفارته أن يقول: "لا إله إلا الله".
لكن تبقى مسألة ثانية وهي هل هذه يمين منعقدة مثل: الطلاق، والتحريم في قوله سبحانه: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [سورة التحريم:1]، لأن التحريم ورد فيه ثلاثة أقوال معتبرة هي في غاية التناقض مختارة من بين ثمانية عشر قولاً:
القول الأول: أن هذا لا تغير فيه حقيقة، ولا ينقلب الحلال إلى حرام، وهذا لفظ لا يعتد به، ولا يجوز للإنسان أن يقدم عليه، وهو لغو يمين لا يترتب عليه شيء.
القول الثاني: أن فيه كفارة الظهار، وهذا من أقوى الأقوال.
القول الثالث: أن فيه كفارة يمين؛ لأن الله قال بعده: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [سورة التحريم:2]، وعلى هذا القول فمن حلف بالحرام على شيء فإنه يلزمه كفارة اليمين، ويشكل على هذا أن النبي ﷺ كما جاء في بعض الروايات حلف عند تحريمه للجارية ألا يطأها، لكن هذا محمول كما ذكر أهل العلم على كون الكفارة باعتبار حلفه لا باعتبار لفظ التحريم المذكور بمجرده، والله أعلم.
وهناك أشياء أجراها طائفة من أهل العلم مجرى اليمين، وإن لم تكن بصيغة الحلف كأدوات القسم وهي: الواو، التاء، الباء، وأشهرها الواو، أو فعل القسم، وأكمل صيغ القسم ما اجتمعت فيه حروف القسم والمقسم به والمقسم عليه، وقد لا تكون الصيغة من صيغ القسم لا مختصرة ولا تامة، مثل، مسألة التحريم أو الطلاق، ومع هذا يجريها بعض أهل العلم مجرى اليمين بحسب نية المتكلم.
"ولهذا قال تعالى: وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة:225] الآية، وفي الآية الأخرى بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ [سورة المائدة:89].
قال أبو داود: باب لغو اليمين، ثم روى عن عطاء في اللغو في اليمين قال: قالت عائشة - ا -: إن رسول الله ﷺ قال: اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله[2].
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - قال: "لغو اليمين أن تحلف؛ وأنت غضبان".
وروى أيضاً عن ابن عباس - ا - قال: "لغو اليمين أن تحرّم ما أحل الله لك، فذلك ما ليس عليك فيه كفارة".
المسألة فيها خلاف كثير، إلا أن تفسير النبي ﷺ للغو اليمين بما ورد في حديث عائشة هو المعنى المتبادر المشهور، لكن هل يقتضي هذا الحصر؟ أو يدخل فيه الصور الأخرى مما لم يرد فيها النص، فتكون لا كفارة فيها، ولا إثم، ولا تبعة؟ المسألة تحتمل، والله أعلم بالصواب.
"وكذا روي عن سعيد بن جبير، وقال أبو داود: باب اليمين في الغضب، ثم روى عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: إن عدت تسألني عن القسم فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك، وكلم أخاك، سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا يمين عليك، ولا نذر في معصية الرب ، وفي قطيعة الرحم، وفيما لا تملك[3].بهذا الاعتبار يدخل قول من قال: إن المراد من قوله سبحانه: لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ أنها اليمين في معصية الله ، والمقصود أنه لا يجوز للإنسان أن يمضي في يمين المعصية، ومثلها ما لا يملكه ابن آدم، ولذلك تلك المرأة من المسلمين التي أسرها العدو، وقد كانوا أصابوا قبل ذلك ناقة لرسول الله ﷺ، فلما رأت من القوم غفلة ركبت ناقة رسول الله ﷺ، ثم جعلت عليها أن تنحرها، فلما قدمت المدينة؛ وأرادت أن تنحر الناقة؛ مُنعت من ذلك، فذُكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال: بئسما جزيتيها، ثم قال: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا في معصية الله - تبارك وتعالى - فبيَّن النبي ﷺ تشريعاً عاماً، وهو أنه لا نذر للعبد فيما لا يملكه.
"وقوله: وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة:225] قال ابن عباس - ا - ومجاهد وغير واحد: "هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب".
قال مجاهد وغيره: وهي كقوله تعالى: وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ [سورة المائدة:89] الآية".
هذا من تفسير القرآن بالقرآن، وهذا يجري على قول الجمهور بأن المراد من الآية اليمين المقصودة، وأما تفسير ابن عباس فمحمول على اليمين التي لا كفارة فيها، ولكن يلحق صاحبها الإثم، وبعض أهل العلم كابن جرير - رحمه الله - يحمل الآية على المعنيين، والله أعلم بالصواب.
وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي: غفور لعباده، حليم عليهم".
  1. رواه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة والنجم [سورة النجم:1] برقم (4579) (4/1841).
  2. رواه أبو داود برقم (3254) (2/243)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3254).
  3. رواه أبو داود برقم (3272) (2/247)، وقال الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: ضعيف الإسناد برقم (3272).

مرات الإستماع: 0

 "عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أي: لا تكثروا الحلف بالله فتبدلوا اسمه، وأَنْ تَبَرُّوا على هذا علة للنهي، فهو مفعول من أجله أي: نهيتم عن كثرة الحلف كي تبروا، وقيل المعنى: لا تحلفوا على أن تبرّوا، وتتقوا، وافعلوا البرّ، والتقوى دون يمين، فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا هو المحلوف عليه، والـ عُرْضَةً على هذين القولين كقولك: فلان عرضة لفلان، إذا أكثر التعرّض له، وقيل: عُرْضَةً مانع، من قولك: عرض له أمر حال بينه، وبين كذا، أي: لا تمتنعوا بالحلف بالله من فعل البر، والتقوى، ومن ذلك يمين أبي بكر الصديق أن لا ينفق على مسطح، فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا علة لامتناعهم فهو مفعول من أجله، أو مفعول بـ عُرْضَةً؛ لأنها بمعنى مانع."

قوله - تبارك، وتعالى -: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ العرضة قيل: أصل ذلك هو النصبة يعني ما تعرضه دون الشيء يكون حاجزًا له، أي: لا تجعلوا الله حاجزًا، أو مانعًا بما حلفتم عليه، وهذا قول الجمهور، وهو القول الأخير الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - وهو مروي عن ابن عباس، ومسروق، والشعبي، والنخعي، وقتادة، ومقاتل، والربيع، والضحاك، وعطاء الخرساني، والسدي، ومجاهد، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعكرمة، ومكحول، والزهري، والحسن، وهو اختيار الحافظ ابن كثير - رحم الله الجميع -[1]. فهذا قول عامة أهل العلم وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ لا تجعلوا الله حاجزًا أو مانعًا، أو حائلًا لما حلفتم عليه.

وهنا قال: لا تكثروا الحلف بالله، فتبدلوا اسمه. هذا قول آخر وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ لذلك تجد في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - باب ما جاء في كثرة الحلف، ووجه دخول هذا الباب في كتاب التوحيد: أن كثرة الحلف منبأ عن استخفاف باسم الله - تبارك، وتعالى - ومقام الرب  فلو عظّمه ما كان على لسانه في الحلف، يحلف به على كل شيء مما يستحق، وما لا يستحق، فهذا فيه ابتذال، ولهذا جاء عن بعض السلف: كإبراهيم النخعي - رحمه الله -: أنهم كانوا يؤدبون الصبيان على الحلف لئلا يعتاد، ويُكثر من ذلك فيبتذل اسم الله - تبارك، وتعالى -[2].

يقول: أَنْ تَبَرُّوا على هذا علة للنهي، فهو مفعول من أجله أي: نهيتم عن كثرة الحلف كي تبروا.

من أجل أن تبروا.

يقول: وقيل المعنى: لا تحلفوا على أن تبرّوا، وتتقوا، وافعلوا البرّ، والتقوى دون يمين، فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا هو المحلوف عليه. لا تحلفوا على أن تبروا، وتتقوا، وافعلوا البر، والتقوى دون يمين فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا هو المحلوف عليه وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ يعني من أجل أن تفعلوا البر، يعني افعل البر من غير حلف، فيُعظم اسم الله - تبارك، وتعالى - ويصان، وهذا توجيه غير الأول، الأول: لا تبتذلوا اسم الله - تبارك، وتعالى- كي تبروا، وهنا: لا تحلفوا على أن تبروا، يعني أن تفعلوا البر، افعلوه من غير حلف.

يقول: والـ عُرْضَةً على هذين القولين كقولك: فلان عرضة لفلان، إذا أكثر التعرّض له. يعني هذا يُكثر الحلف من أجل أن يفعل البر.، وقيل عُرْضَةً مانع.

هذا القول الذي ذكرته أنه قول الجمهور، من قولك: عرض لك أمر. حال بينه، وبين كذا، أي: لا تمتنعوا بالحلف بالله من فعل البر، والتقوى، وعليه فـ أَنْ تَبَرُّوا يكون عطف بيان أَيْمَانِكُمْ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا أي: لا تجعلوا الله مانعًا للأيمان التي هي بركم، وتقواكم، وإصلاحكم بين الناس، فيترك الإنسان العمل الطيب، والبر، والإصلاح بين الناس بحجة أنه حلف بعذر أنه حلف ألا يفعل.

قال: ومن ذلك يمين أبي بكر الصديق أن لا ينفق على مسطح فـ أَنْ تَبَرُّوا على هذا علة لامتناعهم فهو مفعول من أجله، أو مفعول بـ عُرْضَةً لأنها بمعنى مانع.

وقصة أبي بكر مع مسطح فيه نزلت الآية الأخرى في سورة النور: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى... [النور: 22][3] ولا يأتل من الألية، وهي الحلف، يعني لا يحلف، فهذا بهذا المعنى - والله تعالى أعلم -.

وبعضهم يقول: بأن العرضة من الشدة، والقوة. يعني: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم في الامتناع من الخير، وهذا اختيار أبي جعفر ابن جرير - رحمه الله -[4] وهو في المآل يرجع إلى قول الجمهور من جهة أن اليمين كانت سببًا لترك الخير، بخلاف القول الآخر الذي كان النهي فيه من أجل ألا يُبتذل اسم الله - تبارك، وتعالى - يفعل الخير من غير حلف، لا تحلف من أجل أن تبر، وتصلح بين الناس، هنا لا، لا تمتنع، لماذا لا تمتنع؟ إما بالتقوي باليمين على الامتناع، أو بجعل اليمين معترضة دون فعل الخير، فهذان يرجعان إلى الترك: ترك البر، والإصلاح بين الناس بسبب اليمين، إما لأنها مقوية، وإما بسبب أنها مانعة فهي معترضة، وبعضهم يقول: هو من قول الناس: فلان عرضة للناس.

يعني: يقعون فيه، فهذا بمعنى القول السابق: أن ذلك النهي من جهة الابتذال، كما قال الله : وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89]، فعلى بعض المعاني وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ يعني: لا تُكثر من الحلف على أحد المعاني، وإلا قد فُسر بأن يحفظ اليمين فلا يحنث فيها إلا إذا كان ذلك خير.

وعلى كل حال يعني يكون المعنى في نهايته ألا تكثر من الحلف، واليمين، أو لا تجعل الله - تبارك، وتعالى - عرضة لليمين إرادة للبر، لا تجعله معرضًا لأيمانكم من أجل البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس، وذلك أن من يكثر من اليمين، والحلف يكثر منه الحنث وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ فحصل الابتذال، والاستخفاف من الجهتين: من جعله على لسانه في كل شيء، وكذلك في كثرة الحنث، يعني لم يعد لليمين قيمة، جاء في الصحيحين مما يوافق المعنى الذي ذكره الجمهور من الامتناع عن فعل الخير كما وقع لأبي بكر الصديق في النفقة على مسطح، جاء في الصحيحين عن زهدم الجرمي، قال: كنا عند أبي موسى، فأتي - ذكر دجاجة - وعنده رجل من بني تيم الله أحمر كأنه من الموالي، فدعاه للطعام، فقال: إني رأيته يأكل شيئا فقذرته، فحلفت لا آكل، فقال: هلم فلأحدثكم عن ذاك، إني أتيت النبي ﷺ في نفر من الأشعريين نستحمله، فقال: والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم وأتي رسول الله ﷺ وسلم بنهب إبل، فسأل عنا فقال: أين النفر الأشعريون؟ فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى، فلما انطلقنا قلنا: ما صنعنا؟ لا يبارك لنا، فرجعنا إليه، فقلنا: إنا سألناك أن تحملنا، فحلفت أن لا تحملنا، أفنسيت؟ قال: لست أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإني، والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها[5].

وفي صحيح مسلم في خبر الرجل الذي حلف ألا يأكل من أجل صبيته ثم بدا له فأكل، هو حلف على امرأته ألا يأكل لما نام الصبية، وما طعموا، ثم بدا له، فأكل فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له، فقال النبي ﷺ: من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه[6].

فهذا كله في هذا المعنى ألا تكون اليمين حائلًا دون فعل البر، وهل تجتمع معه بعض المعاني المذكورة وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ يعني: لا تكثروا الحلف كأن يحلف الإنسان من أجل أن يفعل البر، افعل من غير حلف، وكذلك أيضًا تعليل هذا بالنهي عن ابتذال اسم الله - تبارك، وتعالى - هذا لا يبعُد، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، لا تكثر من الحلف فتبتذل اسم الله، افعل الخير من غير حلف، وكذلك لا تجعل الحلف مانعًا من فعل الخير - والله أعلم -.

"بِاللَّغْوِ الساقط، وهو عند مالك قولك: نعم والله، ولا والله، الجاري على اللسان من غير قصد، وفاقًا للشافعي[7] وقيل: أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يظهر خلافه، وفاقًا لأبي حنيفة[8] وقال ابن عباس: اللغو الحلف حين الغضب[9] وقيل: اللغو اليمين على المعصية، والمؤاخذة العقاب أو وجوب الكفارة."

هذه الأقوال كما سيأتي ليست متنافية لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ لما وجههم فيما يتصل بالأيمان المانعة التي يحصل الحنث بها، مانعًا فعل الخير، الأيمان التي يجزم بها صاحبها، ويعقد قلبه على مقتضاها ذكر لهم النوع الآخر من الأيمان، وهو ما لا كفارة فيه، ما هذه الأيمان التي لا كفارة فيها؟ يجمعها هذا الوصف، أنها لغو لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ فاللغو هو ما يجري في الكلام من غير عقد القلب، ولا قصد.

ولهذا يقال أيضًا للباطل من الكلام يقاله له لغو لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا [مريم: 62] [الواقعة: 25] [النبأ: 35]، الكلام الباطل، الكلام الذي لا قيمة له، فذلك من اللغو، لكن هنا الجامع المشترك لهذا المعنى، الكلام الباطل بمعنى أنه لا يترتب عليه حكم إذا أردنا أن ننزل ذلك على اليمين، فهو يجري على لسانه من غير قصد اليمين، ولهذا قال هنا: باللغو الساقط.

يعني غير المعتبر، لا يترتب عليه حكم، قال: وهو عند مالك قولك: نعم والله، ولا والله، الجاري على اللسان من غير قصد.

هذا المعنى الذي ذكرناه ما يجري على لسان الإنسان يقول: والله ذهبت إلى مكان كذا، والله إني في شوق لرؤيتك. ونحو ذلك مما يجري على ألسن الناس لا يقصدون به اليمين وفاقًا للشافعي، وهو أحد القولين لعائشة - ا - وبه قال ابن عمر، وابن عباس في أحد أقواله، وكذلك الشعبي، وعكرمة في أحد قوليه، وعطاء، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وبه قال أبو قلابة، والضحاك في أحد قوليه، وأبو صالح، والزهري[10].

يعني: ما يجري على اللسان من غير قصد، وقد جاء عن عائشة - ا - مرفوعًا، وموقوفًا: اللغو في اليمن هو كلام الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله[11].

وهذا قول الجمهور، الذي أضافه هنا إلى مالك، والشافعي، وذكرت من قال به من السلف هذا قول الجمهور سلفًا، وخلفًا، وبعضهم يقول: أن يحلف بحسب ظنه، فيتبين على خلافه.

يعني: إذا حلف الإنسان على شيء، وتبين أنه على خلاف ما حلف عليه فهذا لا يترتب عليه كفارة، ولا إثم، وليس من قبيل الكذب شرعًا المذموم، حلف أن زيدًا قد سافر، يظن أنه كذلك، فتبين أنه لم يسافر، فمثل هذا لا يترتب عليه حكم، لا يؤاخذ شرعًا، ولا يكون فيه كفارة، اليمين التي يترتب عليها الكفارة عند الفقهاء هي التي يعبرون عنها بإلزام المكلف نفسه، أو إلزام المكلف غيره بفعل أو ترك، يعني في المستقبل، هذه اليمين التي يترتب عليها الكفارة، تحلف عليه تقول: والله أن تأكل من هذا الطعام مثلًا، والله لا آكل من هذا الطعام، ونحو ذلك، فهذا على أمر مستقبل أن يفعل، أو يترك، هذه اليمين التي عند الفقهاء التي يترتب عليها الحنث، ما الذي يخرج عنها؟ يخرج عنها ثلاثة أشياء:

الأول: يخرج عنها ما يجري على اللسان من غير قصد، اللغو.

الثاني: يخرج عنها أيضًا اليمين الغموس، حلف على شيء، يعني اليمين التي هي في الخبر سواء كان كاذبًا، أو صادقًا، فالغموس إذا كان كاذبًا، حلف أنه اشترى هذه السلعة بكذا مثلًا، حلف أنه ما رأى زيدًا، وهو كاذب، حلف أن زيدًا قد سافر، وهو كاذب، حتى لو تبين أنه سافر فعلًا لكن هو يعتقد أنه مقيم، حلف كاذبًا فهذه هي اليمين الغموس تغمس صاحبها في النار، هذه من الكبائر، ولا تكفرها كفارة اليمين، وإنما عليه التوبة العظيمة، وكثرة الاستغفار، ونحو ذلك من العمل الصالح، والصدقة، ونحو ذلك فهذا جُرم عظيم أكبر من أن تكفره كفارة اليمين.

الثالث: اليمين التي يذكرها المؤلف، وهي أن يحلف على شيء يظنه، خبر يعني، يخبر عن شيء، فيتبين خلاف ما قال، أنه على خلاف ما ذكر، فهذه ليس فيها كفارة، وليس فيها إثم، اليمين الغموس ليس فيها كفارة على الراجح، وفيها الإثم، هذه لا كفارة، ولا إثم، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ألحق بهذا يعني ما لا يترتب عليه كفارة: أن يحلف الإنسان بقصد الإكرام[12] يحلف على الإنسان أن يطعم معه، أن يجلس في هذا المكان، أن يتقدم في المجلس، أن يجلس في مكانه، أو نحو ذلك، فهذا المقصود منه الإكرام، ألا يسافر حتى ينزل ضيفًا عنده، أو نحو هذا، فشيخ الإسلام يرى أن هذا لا كفارة فيه مع عزمه، وجزمه لكن يرى أن المقصود من هذا هو الإكرام، وقد حصل الإكرام بما قال، يعني كما نعبر الآن نقول: وصلت الرسالة، نريد إكرامه فالرجل امتنع أبى أن يجلس في المكان امتنع أن ينزل ضيفًا عنده، اعتذر إليه، فشيخ الإسلام يرى أن هذا لا كفارة فيه، فهذا على كل حال كله مما لا يدخل فيه الكفارة.

وبعضهم يقول: اللغو في الأيمان هو اليمين المكفرة. وهذا بعيد إلا إذا أدخلناه في المعنى الكبير الذي أشرت إليه في أول الكلام: أن ما لا كفارة فيه، لكن هنا أخرج الكفارة فيقصد هنا القائل بذلك أنه لا تبعة فيه، يعني لا إثم، ولا مؤاخذة، لما أخرج الكفارة تحلل من هذه اليمين، لكن هذا فيه بعُد، وبعضهم يقول: اللغو في اليمين هي يمين المعصية.

وبعضهم يقول: دعاء الرجل على نفسه. ودعاء الرجل على نفسه ليس بيمين، وجاء عن ابن عباس - ا -: أن تحلف وأنت غضبان. يعني يشير إلى اليمين التي لا يترتب عليها حكم أن يحلف وهو غضبان، قال: فذلك ما ليس عليك فيه كفارة. وجاء نحوه عن سعيد بن جبير - رحمه الله -.

يقول المؤلف: وقيل: أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يظهر خلافه. وهذا أيضًا مروي عن عائشة - ا - القول الآخر لها، وقلنا الأول أحد القولين لعائشة، وهو مروي عن أبي هريرة، وابن عباس في أحد أقواله، وسليمان بن يسار، وسعيد بن جبير، ومجاهد في أحد أقواله، والحسن، وإبراهيم، وزرارة بن أوفى، وبه قال أبو مالك، وعطاء الخرساني، وبكر بن عبد الله، وهو قول أيضًا لعكرمة، وحبيب بن أبي ثابت، والسدي، ومكحول، ومقاتل، وطاوس، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى بن سعيد[13].

قال: "وفاقًا لأبي حنيفة". ابن جرير - رحمه الله - حمله على المعنى الأعم، وهو أنه كل يمين لا كفارة فيها[14] فهذه المعاني المذكورة أولاها - والله تعالى أعلم - هو قول الجمهور: وهو ما يجري على لسان الإنسان من غير قصد، ولا عقد: كلا والله، وبلى، والله، ونحو ذلك، هذا يدخل فيه دخولًا أوليًا فإذا أردنا أن نوسع المعنى فيقال: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ كل يمين لا يترتب عليها كفارة، ولا إثم، حتى نخرج اليمين الغموس فيها مؤاخذة، وإثم عظيم لكن لا كفارة فيها، وإنما يدخل في هذا الأيمان التي لا كفارة، ولا إثم، مثل لو حلف على شيء يظنه كذا فتبين على خلافه فهذه لا كفارة فيها، ولا إثم، يدخل فيها اليمين في حال الغضب الذي لا تُعتبر فيه اليمين، الغضب درجات ثلاث:

النوع الأول: بالاتفاق لا يترتب عليها اعتبار طلاق، ولا عتاق، ولا حلف، وهو الغضب في إغلاق، إذا وصل الإنسان إلى حال لا يدري ما الذي قال، صار مثل السكران، فهذا إذا حلف فيمينه ليست بشيء.

النوع الثاني من الغضب: الغضب الشديد لكن يعقل ما قال، هذه مرتبة متوسطة فيها خلاف أهل العلم، هل يؤاخذ، أو لا يؤاخذ؟.

النوع الثالث: هو الغضب اليسير الذي لا يحصل معه تغير في إدراك الإنسان، وضبط تصرفاته، ونحو ذلك، فهذا مؤاخذ عليه بالاتفاق.

"بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي: قصدت، وهو على خلاف اللغو، وقال ابن عباس: هو اليمين الغموس، وذلك أن يحلف على الكذب متعمدًا، وهو حرام إجماعًا، وليس فيه كفارة عند مالك، خلافًا للشافعي."

وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ هذه قرينة تؤيد قول من قال: بأن اللغو في اليمين هو ما يجري على اللسان من غير عقد، ولا قصد.

قال: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ لاحظ القول الآخر: بأنه إذا حلف على شيء يظنه كذا فتبين على خلافه. هذا مما يعقد عليه القلب لكنه خبر، مجرد الخبر الذي لا يتضمن إنشاء هذا ليس فيها كفارة، ولكن فيه الإثم إذا كان كاذبًا، فهذا ينعقد عليه القلب، ويقصده، فإذا أردنا أن نرجح نقول: هو ما يجري على اللسان: كلا والله، وبلى والله، لكن هذا ينعقد عليه القلب الإخبار، لكن من نظر إلى المعنى، ولم ينظر إلى هذه القرينة - والله أعلم - قال: كل ما لا مؤاخذة فيه لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فكل ما لا مؤاخذة فيه فهو داخل في ذلك.

وإذا أردنا أن نرجح أحد الأقوال فهذه قرينة مرجحة للقول الأول: ما يجري على اللسان من غير قصد، وأما هذا الذي حلف على شيء يظنه كذا فهذا غير مؤاخذ بأدلة أخرى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] قال الله: قد فعلت[15].

وقوله ﷺ: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم[16].

أما حديث: إن الله قد تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه[17] فهذا لا يصح.

لكن يكفي: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا.

قال: أي: قصدت فهو على خلاف اللغو، وقال ابن عباس: هو اليمين الغموس، وذلك أن يحلف على الكذب متعمدًا، وهو حرام إجماعًا، وليس فيه كفارة عند مالك خلافًا للشافعي.

وهذا الذي قاله ابن عباس قاله به مجاهد أيضًا، ونقل أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - الإجماع على أن معنى كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي: ما تعمدت قلوبكم[18].

وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[19] وحملها ابن جرير - رحمه الله - على المعنيين[20].

وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يعني: هذا الذي يترتب عليه الكفارة، وكذلك أيضًا اليمين الغموس؛ لأنه تعمد الحلف، والكذب فيه عند ابن جرير - رحمه الله - فالمؤاخذة هنا ليست بمجرد الكفارة. 

  1. تفسير ابن كثير (1/600).
  2.  قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة، والعهد. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، رقم: (2652).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون، والمؤمنات، بأنفسهم خيرا [النور: 12]، رقم: (4750).
  4. تفسير الطبري (4/424).
  5.  أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، رقم: (3133)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، رقم: (1649).
  6.  أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، رقم: (1650).
  7.  الحاوي الكبير (15/ 288).
  8.  بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/3).
  9.  تفسير ابن عطية (1/301).
  10.  تفسير ابن كثير (1/602).
  11.  أخرجه أبو داود، كتاب الأيمان، والنذور، باب لغو اليمين، رقم: (3254).
  12.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/501).
  13.  تفسير ابن كثير (1/602).
  14.  تفسير الطبري (4/446).
  15.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة: 284]، رقم: (126).
  16.  أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق، والكره، والسكران، والمجنون، وأمرهما، والغلط، والنسيان في الطلاق، والشرك، وغيره، رقم: (5269)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس، والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر، رقم: (127).
  17.  أخرجه ابن ماجه، باب طلاق المكره، والناسي، رقم: (2043)، والطبراني في المعجم الصغير (2/52)، رقم: (765)، وإسناده تالف بمرة، أبو بكر الهذلي متروك الحديث، وأيوب بن سويد ضعيف جدا، وشهر ضعيف، ثم قد اختلف في إسناده أيضا. انظر: سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط (3/200).
  18.  تفسير الطبري (4/449).
  19.  شفاء العليل في مسائل القضاء، والقدر، والحكمة، والتعليل (ص: 120).
  20.  تفسير الطبري (4/451).

مرات الإستماع: 0

ثم قال تعقيبًا على ذلك: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة البقرة:225]، لما ذكر لهم التوجيه الأول، وهو أن الأيمان لا تكون حائلة من فعل المعروف، بين لهم ما الذي يُكفر عنه من الأيمان، ومن الذي لا يُكفر عنه، ما الذي لا يؤاخذ فيه العبد، وما الذي لا يؤاخذ فيه، فقال: لا يُؤَاخِذُكُمُ، لا يُعاقبكم، لا يُحاسبكم بسبب الأيمان التي حلفتموها بغير قصد، بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ، ولكن يُعاقبكم ويؤاخذكم، ويُحاسبكم بنوع منها، وهو ما قصدته القلوب، والله غفور لمن تاب إليه وأناب، حليم بما عصاه لا يُعالج بالعقوبة.

هذا على أشهر المعاني في تفسير اللغو في اليمين، هذا الذي قاله الجماهير من السلف والخلف، إن اللغو باليمين هو ما يجري على اللسان، يقول لا والله، وبلا والله ونحو ذلك، فهذه ليست بيمين مُنعقدة، فلا يؤاخذ الإنسان عليها، فإذا لم يفعل فإنه لا يكون مُلزمًا بكفارة اليمين، لا تجب عليه كفارة اليمين.

وقد قال بعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- بأن اللغو في اليمين هي كل يمين لا كفارة فيها[1]، ما هي الأيمان التي لا كفارة فيها؟ وهي أقوال للسلف ، يدخل فيها قول بعض السلف أنه إذا حلف على شيء يظنه كما قال فتبين أنه ليس كذلك، يعني: لو أنه حلف أن زيدًا قد سافر، وهو يعتقد هذا، فتبين أنه لم يُسافر، فهذه ليست فيها كفارة يمين هي يمين على خبر طابق ما في نفسه، أعني قوله طابق ما في قلبه، يعني: لم يقصد الكذب، ولكنه خالف ما في الخارج يعني خالف ما في الواقع، الإنسان يكون صادقًا يحلف أن فلانًا قد سافر، ويتبين أنه لم يُسافر، قاله مُعتقدًا أنه مسافر، فهذا لا يؤاخذ الإنسان عليه، وليس فيه كفارة يمين، هناك نوع آخر من الأيمان ليس فيها كفارة يمين لكنها ليس فيها كفارة يمين لعِظمها، وهي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، لو أنه حلف على شيء وهو كاذب خبر، فهذا ليس فيه كفارة، فهو أعظم من الكفارة، الكفارة لا تُكفر مثل هذا، إنما الكفارة تكون في الأيمان التي يعقدها قلبه على شيء في المستقبل، وليس على خبر في الماضي، وإنما يقول أفعل، أو لا أفعل، أو يقول ذلك في حق غيره أنه يفعل، أو لا يفعل ونحو ذلك.

وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة:225]، المراد بما كسبت القلوب كما قال الله : بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [سورة المائدة:89]، يعني: أن القلب يكون مُريدًا لليمين، قاصدًا لها دون أن يجري ذلك على اللسان من غير مواطأة القلب وقصد اليمين.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات: عدم مؤاخذة العبد على ما جرى على لسانه من غير قصد في قلبه، فهذا عام في باب الأيمان، وفي غيرها، قد يقع ذلك على سبيل الخطأ، وهذا معفو عنه، يعني: لو جرى على لسانه من قبيل الخطأ السب، أو الشتم وهو لا يقصده، أراد أن يقول لإنسان مثلاً أعطاك الله أغناك الله، فقال: لعنك الله، لا يؤاخذ، بعض الناس يُخطأ يأتي في عزى ويُسلم على هذا المُصاب ويقول فُرصة سعيدة، فهذا لا يؤاخذ، الله لما ذكر البر للوالدين في سورة الإسراء قال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [سورة الإسراء:23، 24]، قال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا [سورة الإسراء:25]، حمله جمع من المفسرين هذا الموضع من سورة الإسراء على أنه قد يبدر منه البادرة يُريد البر، فتكون عقوقًا، وهو لا يقصد، قد يقول كلامًا يمزح مع أبيه أو مع أمه، أو يظنه من الكلام الحسن ويتبين أنه من الكلام غير الجيد، كلمة سمعها ظن أنها من الكلام الجيد الذي يُدخل الأُنس على أبيه أو على أُمه، والواقع أنها لا تُقال إلا للبعيد فيقولها، لا يؤاخذ؛ لأنه لم يقصد الإساءة.

هكذا في سائر الأمور في البيع والشراء والعتق والتبرعات ونحو ذلك، قد يُخطأ من شدة الفرح، الرجل الذي قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح[2]، فهذا غير مؤاخذ، فالإنسان قد يقول في حالات الفرح الشديد أو الغضب الشديد كلامًا ولكنه لا يؤاخذ عليه، ولهذا قالوا: لا طلاق، ولا عتاق في إغلاق، الإغلاق الغضب الذي يُغلق معه العقل، يعني: لا يدري الإنسان ماذا قال، واختلفوا في الغضب الذي يدري معه ما يقول لكنه غضب شديد.

فالغضب ثلاث مراتب: مرتبة لا يؤاخذ عليها بالاتفاق، وهي الإغلاق يكون مثل السكران، ومرتبة يؤاخذ فيها بما قال باتفاق وهي الغضب الخفيف الذي يضبط فيه الإنسان نفسه، وتبقى مرتبة متوسطة، وهي الغضب الشديد الذي يعقل معه ما قال لكنه قد يفقد السيطرة، هل يقطع طلاقه أو لا؟

وكذلك قالوا: -كابن القيم رحمه الله- بأن الإنسان قد يتبرع، قد يهب سيارة في حال الفرح الشديد، يقول: فالورع ألا يُقبل منه ذلك[3]؛ لأنه بعد ما يهدأ ويتراد إليه عقله ووعيه قد يندم، يأتيه إنسان بخبر سار نجح في مُقرر دراسي أو نحو ذلك يقول: تفضل هذه سيارتي لك، وبعد نصف ساعة أو ساعة يجد نفسه بلا سيارة فيندم، فمثل هذا الورع ألا يُقبل من الإنسان في مثل هذه الحالات التي يشتد فيها فرحه، أي بما يؤثر على عقله، وضبطه للسانه ويده.

قوله: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة:225]، هذا يدل على أن القلوب لها كسبًا كما أن للجوارح كسبًا، فيؤاخذ الإنسان، لكنه لا يؤاخذ بحديث النفس، ومجرد الهم بالمعصية، ولكنه يؤاخذ بما قصد وعزم عليه، ولهذا قال في المراقي: والترك فعل في صحيح المذهب.

لكن العزم قال فيه النبي ﷺ: القاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه[4]، فصار مؤاخذًا بالعزم، فالعزم هو أحد أنواع الفعل الأربعة، أنواع الفعل: فعل القلب الذي هو العزم المُصمم، فعل الجوارح، وأقوال اللسان، والترك هو أحد أنواع الفعل كما قال في المراقي:

والكف فعل في صحيح المذهب له فروع ذكرت في المنهج

وذكر هذه الفروع والأمثلة، الترك المجرد، الترك، يقول لو أنه مثلاً أُعطي وديعة أو أمانة أو نحو ذلك، أو رهن بهائم وتركها ما أعلفها ولا سقاها وماتت، يؤاخذ أو لا يؤاخذ؟ يؤاخذ، يقول: أنا ما لمستها أنا ما قتلتها تركتها حتى ماتت.

يقول: لو أنه وجد إنسان يغرق ويستطيع أن يُنقذه فما أنقذه؛ فإنه مؤاخذ، لو وجد إنسان ينزف، ويستطيع أن يُنقذه طبيب مثلاً، أو يحمله للمستشفى، أو نحو ذلك وتركه حتى مات يتفرج عليه فهو مؤاخذ، وهكذا، فالترك فعل.

لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المُضللُ

قالها أحد الصحابة لما هاجر النبي ﷺ المدينة، وكانوا يبنون مسجد قباء، وهذا جالس والنبي ﷺ يحمل اللبن مع أصحابه فلما رأى ذلك قال:

لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المُضللُ

فسمى القعود عملاً، والله قال عن بني إسرائيل: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [سورة المائدة:79]، فسماه فعلاً.

وكذلك أيضًا في الأحبار والرهبان لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:63]، فسماه صُنعًا.

ويؤخذ من هذه الآية من الهدايات: أن الشارع لم يُرتب المؤاخذة إلا على ما يكون كسبًا للقلب من الأقوال والأفعال الظاهرة، وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة:225]، ولم يؤاخذ على أقوال وأفعال لم يعلم بها القلب كما يقول شيخ الإسلام ولم يتعمدها[5]، وكذلك ما يُحدث المرء به نفسه، الناس يسألون كثيرًا عن حديث النفس، وعن ما يقع من الخواطر السيئة في ذات الله، أو كتابه أو أنبيائه، أو نحو ذلك، هذا لا يؤاخذ عليه الإنسان، والنبي ﷺ لما سُئل عن هذا قال: أوقد وجدتموه قالوا: نعم، قال:  ذاك صريح الإيمان[6]، قيل القلق الذي يجده الإنسان إزاء ذلك من جراءه أو أن مثل هذه الوسوسة حينما تقع في القلب ذاك صريح الإيمان، بمعنى: أن الشيطان يأس منه فما وجد إلا هذه الخواطر التي لا تضره فالشيطان يُقلق الإنسان المؤمن ولكنه ماذا عسى أن يفعل بالبيت الخرِب، الكافر ما يُلقي في قلبه هذه القلق والوساوس والخواطر السيئة.

  1. تفسير الطبري (4/ 437).
  2. أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، رقم: (2747).
  3. انظر: بدائع الفوائد (3/ 136).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [سورة الحجرات:9]، رقم: (31).
  5. مجموع الفتاوى (14/ 116).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، رقم: (132).