السبت 24 / ربيع الأوّل / 1446 - 28 / سبتمبر 2024
لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِن فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۝ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:226-227].
الإيلاء: الحلف، فإذا حلف الرجل ألا يجامع زوجته مدة، فلا يخلوا إما أن يكون أقل من أربعة أشهر، أو أكثر منها، فإن كانت أقل فله أن ينتظر انقضاء المدة، ثم يجامع امرأته، وعليها أن تصبر، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة".
قوله - تبارك وتعالى -: لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ الإيلاء: الحلف، وذلك أنه مأخوذ من الأيلة، تقول: آلى يؤلي إيلاء يعني حلف حلفاً، وبعضهم يقول: أصل الإيلاء الامتناع باليمين، ويقال له: الحلف على وجه التوسع.
الإيلاء شرعاً: الامتناع باليمين من وطء الزوجة.
مدة الإيلاء: اتفق الفقهاء على أن من حلف ألا يمس زوجته أكثر من أربعة أشهر كان مولياً، واختلفوا فيمن حلف ألا يمسها أربعة أشهر، فقال أبو حنيفة وأصحابه: يثبت له حكم الإيلاء.
وذهب الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة: إلى أنه لا يثبت له حكم الإيلاء؛ لأن الله جعل له مدة أربعة أشهر، وبعد انقضائها فهو بالخيار بين الفيء، أو الطلاق.
وبعض أهل العلم يرى جواز اعتبار الإيلاء فيما دون أربعة أشهر، وكذا لو حلف ألا يطأ امرأته مطلقاً، وهذا ليس محل اتفاق.
وليس للزوجة أن تطالبه في هذه المدة أربعة أشهر بالوطء، وإنما تتربص به وتنتظر، فإذا مضى عليها أربعة أشهر فمن حقها المطالبة، فإما أن يرجع ويكفر عن يمينه، وإما أن يفارقها ويطلقها، والراجح أن الإيلاء ليس بطلاق إذا تمت المدة ولم تحصل المراجعة فيها، ويلزمه القاضي بالطلاق إذا أبى المراجعة، والله أعلم.
"وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة - ا - أن رسول الله ﷺ آلى من نسائه شهراً، فنزل لتسع وعشرين، وقال: الشهر تسع وعشرون[1] ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه.
فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر: إما أن يفيء - أي: يجامع -، وإما أن يطلق، فيجبره الحاكم على هذا، وهذا لئلا يضر بها، ولهذا قال تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ من نسائهم أي: يحلفون على ترك الجماع من نسائهم، وفيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور، تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أي: ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف، ويطالب بالفيئة أو الطلاق.
ولهذا قال: فَإِنْ فَآؤُوا أي: رجعوا إلى ما كانوا عليه، وهو كناية عن الجماع قاله ابن عباس - ا -، ومسروق والشعبي وسعيد بن جبير وغير واحد، ومنهم ابن جرير - رحمه الله -".
العلماء مختلفون في الفيئة بناءً على اختلافهم في معنى الإيلاء، فمن قال: بأن الإيلاء: هو أن يحلف ألا يجامعها؛ فعندئذ تكون الفيئة بالجماع، ومن وسع المعنى فقال الإيلاء: هو أن يحلف ألا يكلمها، أو  يهجرها، وكل ما فيه أذية الزوجة، والتضييق عليها؛ فالفيئة تكون بأن يرجع إليها، ويكلمها، وهذا قال به بعض السلف لكنه قول شاذ.
والصواب أن المراد بالفيئة في الآية الجماع، وأما من لم يتيسر له ذلك فبعض أهل العلم يرى إنها ترجع له بالنية، والقصد، ويمكن أن يشهد على الإرجاع، ويتكلم به، وهذه الصورة تتحقق في حق الرجل المسافر أو المريض.
والبعض الآخر يرى أنه لا يكفي القصد، والنية، فهو إما أن يجامع، وإما أن يطلق.
والإيلاء له ثلاث حالات:
صريح: كأن يحلف ألا يجامعها أو يطأها.
شبيه بالصريح: كأن يحلف ألا يغتسل لها من جنابة.
كناية: كأن يحلف ألا يجمعه بها فراش واحد، أو نحو ذلك مما ليس بصريح في الجماع.
فالصريح يؤخذ به، وغير الصريح ينظر إلى قصده بحسب نيته كما يقال في الأيمان.
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين".استدل بعض أهل العلم بهذه الآية على أن الكفارة تسقط عنهم، ولا يؤاخذوا بهذا الرجوع ولو حلفوا، وهذا يجري على قول من قال: إن الأيمان المحرمة، لا كفارة فيها، وأدخلها في جملة لغو اليمين المنصوص عليها في قوله سبحانه: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [سورة المائدة:89].
وقيل: بل المراد أن الله غفور رحيم فيما حنثوا فيه بما شرعه لهم من الكفارة للخروج من الحرج، فكان ذلك توسعة على المكلفين للخروج من أيمانهم إلى ما هو الأصلح والأرفق، والأفضل، فهذا من سعة رحمة الله على عباده؛ لأن الناس كانوا في الجاهلية يؤلى الرجل من امرأته السنة، والسنتين، والعشر، أو قد يولي منها إلى الأبد، فيتركها لا هي زوجة، ولا هي مطلقة، ولا يطالبه أحد بشيء، لتأتي الشريعة بما تحمله من يسر في تشريعاتها فتنقض حكم الجاهلية، وتحد الإيلاء بفترة محددة إما أن يطلق بعدها، أو يفيء، وعفا الله عما سلف.
  1. رواه البخاري في كتاب الصوم - باب قول النبي ﷺ: إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا برقم (1811) (2/675)، ومسلم في كتاب الصيام - باب الشهر يكون تسعاً وعشرين برقم (1083) (2/763).

مرات الإستماع: 0

يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يحلفون على ترك وطئهن، وإنما تعدى بـ (من) لأنه تضمن معنى البعد منهن، ويدخل في عموم قوله: (الذين) كل حالف حرًا كان أو عبدًا، إلا أن مالكًا جعل مدة إيلاء العبد شهرين، خلافًا للشافعي، ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم، خلافًا للشافعي في قصره الإيلاء على الحلف بالله، ووجهه أنها اليمين الشرعية، ولا يكون موليًا عند مالك، والشافعي، إلا إذا حلف على مدة أكثر من أربعة أشهر، وعند أبي حنيفة أربعة أشهر فصاعدًا، فإذا انقضت الأربعة الأشهر، وقف المولي عند مالك، والشافعي، فإما فاء، وإلا طلّق، فإن أبى الطلاق طلق عليه الحاكم، وقال أبو حنيفة: إذا انقضت الأربعة الأشهر وقع الطلاق دون توقيف، ولفظ الآية يحتمل القولين."

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ الإيلاء في اللغة هو بمعنى الامتناع باليمين، فالألية هي الحلف وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور: 22] يعني ولا يحلف، تقول: آليت ألا أفعل كذا. يعني حلفت، لكنه في الشرع أخص من مطلق الحلف فهو الامتناع باليمين عن وطء الزوجة، فهو حلف خاص.

يقول: يحلفون على ترك وطئهن يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وإنما تعدى بـ (من) لأنه تضمن معنى البعد منهن. ويمكن أن يقال: تضمينًا له بمعنى يمتنعون.

تكلمنا عن التضمين في بعض المناسبات، وأن معاني الأفعال تُعرف بما تتعدى به، وأن مذهب الكوفيين هو القول بتضمين الحرف معنى الحرف، وقول فقهاء النحاة كما يقول ابن القيم -رحمه الله- قول البصريين: هو تضمين الفعل معنى الفعل، وهذا أكثر في المعنى وأدق فيكون المعنى أوفر، وذكرنا له أمثلة في بعض المناسبات.

فهنا الإيلاء يُؤْلُونَ مضمن معنى الامتناع، فالامتناع يتعدى بـ (من) يمتنعون من نسائهم، المؤلف هنا يقول: تضمن معنى البعد يُؤْلُونَ مِنْ يبتعدون من فهو حلف وامتناع، حلف وبعُد، يعني هذا التضمين التعدية بحرف "من" أفاد أن الفعل المذكور يؤلون مضمن معنى فعل آخر يصح أن يُعدى بمن فدل على معنى البعد أيضًا أو الامتناع، والامتناع أليق بذلك.

يقول: ويدخل في عموم قوله: (الذين) كل حالف حرًا كان، أو عبدًا. يعني المملوك إذا آلى من امرأته، له زوجة وآلى منها، وهذا ظاهر من العموم في الآية، إلا أن مالكًا جعل مدة إيلاء العبد شهرين، خلافًا للشافعي.

جعلها شهرين قياسًا على ما جاء منصوصًا في بعض أحكام الأمة مثلًا فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء: 25] وقاسوا عليه العبد المملوك، وكذلك قالوا فيما يتعلق في عدة الأمة أنها ليست كعدة الحرة، قالوا في عدة الوفاة، وعدة الطلاق.

يقول: ويدخل في إطلاق. يعني خصص العموم بالقياس، يقول: ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم، خلافًا للشافعي في قصره الإيلاء على الحلف بالله، ووجهه أنها اليمين الشرعية.

يعني لو أنه حلف بأن قال: عليه الحرام ألا يطأها مدة كذا. هذا حلف لا يجوز له أن يحلف بهذا، لكن هل يترتب عليه حكم بالنسبة للإيلاء؟

فهنا ما ذكره المؤلف: ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم. لو أنه حلف بالطلاق ألا يطأها هل يكون هذا إيلاء أو يقال لا يُعتبر؟

يقول: "فالشافعي قصره على الحلف بالله، ووجهه أنها اليمين الشرعية ولا يكون موليًا عند مالك والشافعي إلا إذا حلف على مدة أكثر من أربعة أشهر، وعند أبي حنيفة أربعة أشهر فصاعدًا، فإذا انقضت الأربعة الأشهر وقف المولي عند مالك، والشافعي، فإما فاء وإلا طلّق، فإن أبى الطلاق طلق عليه الحاكم، وقال أبو حنيفة: إذا انقضت الأربعة الأشهر وقع الطلاق دون توقيف، ولفظ الآية يحتمل القولين".

الحافظ ابن القيم - رحمه الله - نقل عن الجمهور: أن أقل من أربعة أشهر لا يكون إيلاء، وهكذا أربعة أشهر[1].

هي الصورة صورة حلف لكن هنا: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ المقصود به ما كان زائدًا على الأربعة أشهر، إما أن يكون محددًا بمدة: كأن يقول: لا يطأها سنة مثلًا. أو كان مفتوحًا يعني حلف ألا يطأ امرأته فهنا يُتربص أربعة أشهر، لو حلف أقل من أربعة أشهر؟ حلف ألا يطأ امرأته، آلى ألا يطأ نساءه شهرًا، كما فعل النبي ﷺ وجلس في عُلية، غرفة في الأعلى واعتزل نساءه ﷺ فلما كان من الشهر تسع وعشرون ليلة نزل، فلما سئل عن هذا أخبر أن الشهر يكون تسع وعشرين، فهذا إذا بقي الإنسان هذه المدة حلف أن يطأ شهرًا ففي هذه الحال إذا بقي الشهر فلا شيء، حلف ألا يطأ ثلاثة أشهر وجلس ثلاثة أشهر؟ لا إشكال، لكن لو أنه حلف ألا يطأ شهرًا فبقي أسبوعًا ثم حصل منه الوطء فعليه كفارة يمين، لكن الكلام هنا تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فهذا فيما كان مفتوحًا، أو زيادة على أربعة أشهر؛ لأن ذلك تضييع لحق المرأة، وتحديد الأربعة أشهر هنا لحكمة، والله تعالى أعلم بها، لكن الذي يظهر أن المرأة قد تصبر إلى أربعة أشهر عن زوجها، ولهذا عمر  لما سمع تلك المرأة التي تردد بيتين وتذكر تطاول الليل عليها: تطاول هذا الليل واسود جانبه، وتتأسف أنه ليس بجوارها خليل تلاعبه وتقول: فوالله لولا خشية الله وحده لحرك من هذا السرير جوانبه.

فسأل عنها، وعن زوجها فكان في الغزو في الجهاد في سبيل الله، فسأل ابنته حفصة كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فاستحت من ذلك، ثم بعد ذلك أخبرته أنها تصبر إلى أربعة أشهر.

ولهذا مثل الشافعي - رحمه الله - يرى أن هذا النوع من الكفارة مثل كفارة الظهار، يرى أن كفارة الظهار يُحبس عليها، لو امتنع أن يكفر وقال: ظاهرت منها. وبقي هكذا فهذا حق للغير، ما يقال هذا بينه وبين الله . فهنا في كفارة الإيلاء، إيلاء أربعة أشهر فإن فاءوا يعني رجعوا فإن الله غفور رحيم، فهو يوقف بعد الأربعة أشهر ويقال له: إما أن تطأ ترجع عن هذه اليمين، وإما أن تطلق.

طبعًا المقصود هنا يقال له: ترجع أن تطأ قد لا تكون المرأة قريبة منه، قد يكون في سفر، قد يكون مريضًا، قد تكون المرأة مريضة، قد تكون المرأة مسافرة، لكن بعد تمام الأربعة أشهر إذا انقضت هذه المدة يقال له: إما أن ترجع وإما أن تطلق. فيرجع بالنية وإن لم يحصل منه وطء لعذر، وإما أن يطلق، فإن أبى أن يطلق طلق عليه الحاكم دفعًا للضرر.

يقول: ولفظ الآية يحتمل القولين. يعني قول أبي حنيفة: أنه يحصل الطلاق بمجرد انقضاء الأربعة أشهر، وقول مالك، والشافعي: أنه يؤمر بالطلاق إيقاع الطلاق، ولا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة. وهذا هو الأقرب: أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي المدة.

يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: هذا من الأيمان الخاصة بالزوجة في أمر خاص وهو حلف الزوج على ترك وطء زوجته مطلقًا، أو مقيدًا بأقل من أربعة أشهر، أو أكثر....

الجمهور يقولون: لا يكون بأقل من أربعة أشهر، هو الواقع أن الصورة صورة إيلاء لكن الكلام فيما يترتب عليه هذا الحكم المذكور في الآية أن يوقف.

يقول: فمن آلى من زوجته خاصة فإن كان لدون أربعة أشهر، فهذا مثل سائر الأيمان، إن حنث كفر، وإن أتم يمينه، فلا شيء عليه.

يقول: وإن كان آلى أبدًا - يعني مطلقًا هكذا من غير تحديد - أو مدة تزيد على أربعة أشهر، ضربت له مدة أربعة أشهر من يمينه، إذا طلبت زوجته ذلك؛ لأنه حق لها، فإذا تمت أُمر بالفيئة وهو الوطء، فإن وطئ، فلا شيء عليه إلا كفارة اليمين، وإن امتنع أجبر على الطلاق، فإن امتنع، طلق عليه الحاكم[2].

وجاء في الصحيحين عن عائشة - ا - أن النبي ﷺ: آلى من نسائه شهرًا... الحديث الذي أشرت إليه.

وعلى كل حال الجمهور: على أن الإيلاء يختص بالزوجات ولا يكون في كل يمين، والقرينة في الآية: يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ.

"فَإِنْ فَاءُوا رجعوا إلى الوطء وكفّروا عن اليمين."

الفيئة بمعنى الرجوع، فاء إلى كذا بمعنى رجع، والمقصود هنا رجع عن يمينه، وقد جاء عن ابن عباس، ومسروق، والشعبي، وسعيد بن جبير مثل هذا المعنى فَإِنْ فَاءُوا يعني: رجعوا إلى الوطء، وكفروا عن اليمين، وهذا المعنى هو الذي اختاره أيضًا أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -[3] والحافظ ابن كثير[4]، والعلماء مختلفون في ذلك بناء على اختلافهم في معنى اليمين الإيلاء هنا، فمن قال: إنه الحلف ألا يجامعها، فالرجوع بالجماع، أو النية إذا عجز، ومن قال: بأن الفيء لا يكون إلا بمجامعتها لم يعتبر عذره.

ومن قال: بأن الإيلاء قد يكون عن الكلام، أو غيره فهو بحسبه.

يعني: أعم من موضوع المعاشرة، والجماع والوطء، حلف ألا يكلمها مثلًا، ونحو ذلك فَإِنْ فَاءُوا رجعوا، رجع إلى مكالمتها، لكن ما ذكرنا من قول الجمهور: أن ذلك المقصود به الجماع، حلف ألا يجامع فإن فاءوا أي: رجعوا، لكن رجع إلى ماذا؟ رجع إلى الجماع، بالجماع إن كان ذلك ممكنًا، أو بالنية، والعزم فذلك قد لا يتأتى له - والله أعلم - لكن لو قالت المرأة: أنا متنازلة، أو كانت المرأة أصلًا لا ترغب فيه، أو كانت تريد الإبقاء على نفسها عنده فقط ولو لم يحصل وطء ينفق عليها، وتبقى في كنفه تربي أولادها، أو كانت المرأة كبيرة لا رغبة لها في المعاشرة، أو مريضة، أو نحو ذلك، فالأمر سيان عندها ففي هذه الحال لا يلزم بالرجوع.

"غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: يغفر ما في الإيلاء من الإضرار بالمرأة.

وفي نسخة: أي: يغفر ما في الأيمان من إضرار المرأة."

يعني: أنه لو حلف هذه المدة وأوقف أربعة أشهر، ثم رجع، يعني: بعد مضي الأربعة أشهر أوقف، ثم رجع، فالمرأة تضررت في هذه المدة فالله غفور رحيم، يبقى عليه الكفارة، ومن رحمته -  تبارك وتعالى - أنه أوجب له بقاء امرأته.

يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: غفور رحيم لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين[5].

هذا مثل ما ذكر ابن جزي، وأبو جعفر ابن جرير يقول: بما حنثوا من أيمانهم، وما شُرع لهم من الكفارة[6].

يعني: غفور بما وقع من الحنث، ورحيم حيث شرع لهم الكفارة وأبقى على نسائهم في عصمتهم، يعني أوجد لهم المخرج، وعلى كل حال كل هذا يحتمل - والله تعالى أعلم -. 

  1.  زاد المعاد في هدي خير العباد (5/311).
  2.  انظر: تفسير السعدي (ص: 101).
  3.  تفسير الطبري (4/465).
  4.  تفسير ابن كثير (1/604).
  5.  المصدر السابق.
  6.  تفسير الطبري (4/475).

مرات الإستماع: 0

لما نهى الله -تبارك وتعالى- عن الإكثار من الحلف، وجعل الأيمان سبب للامتناع من فعل البر والمعروف والصلة وما إلى ذلك، وبين ما يؤاخذ عليه الإنسان من الأيمان، وما لا يؤاخذ عليه مما هو من قبيل اللغو بين بعد ذلك نوعًا خاصًا من الأيمان، وهو ما يتعلق ويختص بالزوجات: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:226، 227].

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، للذين يحلفون أن لا يُجامعوا نسائهم، فقوله: يُؤْلُونَ من الألية وهي الحلف، آلا أن لا يفعل كذا بمعنى حلف، ومنه قوله -تبارك وتعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى [سورة النور:22]، نزلت في مسطح في قصة الإفك، لما حلف أبو بكر على أن لا ينفعه بنافعة[1]، كان يُنفق عليه وهو من قرابته، وهو فقير فلما قذف عائشة -رضي الله عنها- حلف أبو بكر أن لا يُنفق عليه، فقال الله: وَلا يَأْتَلِ [سورة النور:22]، يعني: ولا يحلف.

فهنا للذين يحلفون، للذين يؤلون من نسائهم انتظار أربعة أشهر، التربص بمعنى الانتظار، فإن رجعوا قبل فوات الأشهر الأربعة فإن الله غفور لما وقع منهم من الحلف بسبب رجوعهم رحيم بهم.

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [سورة البقرة:226]، يعني: يحلفون، يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته، هنا ما قال: للذين يؤلون من نسائهم واللاتي يؤلين من أزواجهن، وإنما قال: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، فهذا يكون من قِبل الرجل خاصة فلو حلفت المرأة أن لا يقربها زوجها؛ فإن ذلك لا ينطبق عليه هذا الحكم، يُقال: انتظار أربعة أشهر ثم بعد ذلك إن رجعت، وإلا طُبق عليها ما ذُكر في الآية فَإِنْ فَاءُوا، يعني: رجعوا، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:227]، مضى على يمينه، ترك الجماع فالله سميع لأقوالهم عليم بأحوالهم ومقاصدهم وسيُجازيهم على ذلك.

فلو أن المرأة حلفت؛ فإن ذلك لا يُقال فيه بأنه من قبيل الإيلاء يُتربص بها أربعة أشهر، فليس للمرأة أن تمتنع من زوجها أصلاً، فإذا حلفت في مثل هذا فإن ذلك ليس بمُعتبر، وأما الرجل فلو أنه حلف أن لا يطأ امرأته؛ فإن كانت المدة أقل من أربعة أشهر، أو إلى أربعة أشهر؛ فإنه إن رجع قبل المدة التي حددها فإنه يُكفر كفارة يمين، وإن بقي إلى المُدة التي حددها كما لو آلا شهرًا فجلس الشهر؛ فإنه لا كفارة عليه، وقد آلا النبي ﷺ من أزواجها شهرًا، ونزل ﷺ من عُلية، غرفة في الأعلى كان قد اعتزل بها نساءه، نزل لتسع وعشرين، فلما سُأل عن هذا أخبر أن الشهر يكون تسعًا وعشرين، فهذا يكون لا كفارة عليه، لكن لو كانت المدة أكثر من أربعة أشهر كأن يحلف خمسة أشهر، أو سنة أو يحلف مُطلقًا أن لا يطأ المرأة من غير تحديد، فهذا يُنتظر أربعة أشهر؛ فإذا تم له أربعة أشهر عندها هنا يوقف، يُقال له: إما أن ترجع وإما أن تُطلق؛ لأن هذا حق للمرأة هذا لو حلف، فكيف لو هجرها بلا حلف إهمالاً، أو مُغاضبة أو نحو ذلك هجرها لا يطأها، وقد سأل عمر ابنته حفصة -رضي الله عنها- كم تصبر المرأة عن زوجها، وذلك من أجل أن يرجع الغزاة الأجناد إلى أهلهم لا يتعرضون لفتنة، ولا تتضرر نساؤهم، وتعرفون الخبر المشهور لما ذهب يعُس ليلاً ، فسمع تلك المرأة تقول مقالتها:

والله لو الله والله وحده لحُرك من هذا السرير جوانبه

فسمع عمر ذلك، فسأل ابنته حفصة كم تصبر المرأة عن زوجها، فاستحيت، ثم بعد ذلك ذكر لها الموجب لهذا السؤال، فأخبرته أنه أربعة أشهر[2].

ولاحظ هذه الآية من حكمة الله أنه حدد مُدة الإيلاء إلى حد أربعة أشهر، ولهذا ذهب الشافعي -رحمه الله- إلى أن الكفارات لا يُلزم الإنسان بشيء منها من قِبل الناس من قِبل الخلق الحاكم، القاضي هذا بينه وبين الله يُكفر عن يمينه إلا الإيلاء والظهار؛ لأنه حق للغير، حق للمرأة فتتضرر بذلك.

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:226]، يُنتظر هذه المدة، والفيء، الفيئة بمعنى الرجوع فاء حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [سورة الحجرات:9]، يعني: حتى ترجع إلى أمر الله.

ويؤخذ من هذه الآية: أن رجوع الإنسان عما هو عليه من المخالفة يكون سببًا للمغفرة، فَإِنْ فَاءُوا، رجعوا، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وعرفنا الفرق بين المغفرة والرحمة، قلنا المغفرة ستر، وأن يوق العبد شؤم المعصية وتبعة المعصية من العقوبة والمؤاخذة، والرحمة قدر زائد على ذلك، والإنسان يدخل الجنة برحمة الله، تنزل الألطاف الربانية بالعبد ونيل النعيم المُقيم، كل ذلك برحمة الله، لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته[3].

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:227]، يعني: إن عقدوا العزم على الطلاق، رفض أن يرجع في الأربعة أشهر، ومضى في يمينه تاركًا الجماع، فإن الله سميع لأقوالهم عليم بمقاصدهم.

فهنا: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ، يدل على أن الطلاق بيد الرجل وليس بيد المرأة، وَإِنْ عَزَمُوا هم يعني الذين يؤلون من نسائهم.

وكذلك أيضًا كما سبق الإيلاء، وكذلك أيضًا الظِهار على الراجح من أقوال أهل العلم؛ فإنه يكون للرجل خاصة، يعني: لو أن المرأة قالت لزوجها أنت عليّ كظهر أبي مثلاً، فهذا لا يكون ظهارًا؛ لأن المرأة لا تملك هذا وإلا لصار ذلك بيد النساء إذا غضبت على زوجها قالت اذهب أنت عليّ كظهر أبي، ثم تقول له بعد ذلك انتظر حتى أُكفر كفارة الظِهار، فليس لها ذلك.

كذلك في قوله هنا: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [سورة البقرة:226]، لو أنه آلا من امرأة أجنبية، حلف ألا يطأها فهذا ليس بشيء؛ لأنها ليست امرأته، وكذلك لو أنه تزوجها بعد ذلك، يعني: حلف كما في الظهار، فالظِهار أيضًا قُيد بهذا، يُظاهرون من نسائهم، فلو أنه ظاهر من أجنبية فليس بشيء؛ لأنه وقع على غير محل قابل.

يؤخذ من هذه الآية أيضًا أن الطلاق لا يقع بمجرد تمام مدة الإيلاء، يعني: لو أنه استتم أربعة أشهر فإذا زاد على الأربعة؛ لأن الأربعة له فالزيادة عليها يُقال له إما أن ترجع وإما أن تُطلق، فلا يكون طلاقًا بمجرد مُضي الأربعة أشهر، بل لابد من إيقاع الطلاق، لقوله: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [سورة البقرة:227]، فإما أن يُطلق، فإن رفض أن يُطلق، ولم يرجع طلق عليه الحاكم، يعني: يوقع الطلاق القاضي، فلا تبقى المرأة مُعلقة هكذا لا هي متزوجة، ولا مُطلقة، ثم بعد ذلك يتلاعب بها هذا الرجل، ويُضيع مصالحها الأصلية الأساسية، وذلك من أعظم مقاصد النكاح الوطء العفاف، وما يحصل من جراء ذلك من الولد ونحو هذا، فلا يُترك، فيُلزم إما أن يرجع، وإما أن يُطلق، فإذا رفع طلقها القاضي، الشريعة جاءت في كل قضية بحكم في غاية العدل، خلافًا لما يتصوره كثير من الناس لاسيما بعض النساء اللاتي يقع عليهن الضرر من بعض الأزواج، فتظن أنها لا تُدرك حقًا، ولا تُحصل مطلوبًا، وأنها مُضيعة الأمر ليس كذلك لو وصل إلى المحكمة فتُنصف هذه المرأة إن شاء الله.

وهنا في قوله -تبارك وتعالى: فَإِنْ فَاءُوا [سورة البقرة:226]، قدم الفيئة وأخر الطلاق وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [سورة البقرة:227]، يدل على أن الفيئة أحب إلى الله -تبارك وتعالى- وهي أحرى وأولى به، ومثل هذا الختم للآية سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:227]، وهناك: غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:226]، في الرجوع، هذا ترغيب في الرجوع، وتحذير من تضييع الحقوق، هذا الذي يُصر على أنه لا يرجع فإن قوله: سَمِيعٌ عَلِيمٌ، عظيم السمع عظيم العلم به بحاله في ظاهره وباطنه ومقاله وعمله، هذا فيه تهديد مُبطن فينبغي على العبد أن يحذر من مساخط الله ومن ظُلم العباد، لاسيما أقرب الناس إليه وهي الزوجة التي قد لا تستطيع أن تدفع عن نفسها، وقد تتحاشى الذهاب إلى المحاكم لسبب أو لآخر، كثير من الناس لا يريد أن يصل الأمر إلى المحكمة، وتتحول الخصومات إلى ذلك الحال، فلربما صبرت على ظلم كثير وبقيت سنوات لا يطأ لها فراشًا، وهي تحتمل ذلك منه، بل لربما ترك النفقة عليها، وضيع جميع الحقوق، ومع ذلك هي صابرة، فهذا شأنها، لكن الشريعة قد كفلت لها حقها، هذا والله تعالى أعلم. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ..... رقم: (4757)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، رقم: (2770).
  2. سنن سعيد بن منصور (2/ 210)، رقم: (2463).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، رقم: (5673)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، رقم: (2816).