يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يحلفون على ترك وطئهن، وإنما تعدى بـ (من) لأنه تضمن معنى البعد منهن، ويدخل في عموم قوله: (الذين) كل حالف حرًا كان أو عبدًا، إلا أن مالكًا جعل مدة إيلاء العبد شهرين، خلافًا للشافعي، ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم، خلافًا للشافعي في قصره الإيلاء على الحلف بالله، ووجهه أنها اليمين الشرعية، ولا يكون موليًا عند مالك، والشافعي، إلا إذا حلف على مدة أكثر من أربعة أشهر، وعند أبي حنيفة أربعة أشهر فصاعدًا، فإذا انقضت الأربعة الأشهر، وقف المولي عند مالك، والشافعي، فإما فاء، وإلا طلّق، فإن أبى الطلاق طلق عليه الحاكم، وقال أبو حنيفة: إذا انقضت الأربعة الأشهر وقع الطلاق دون توقيف، ولفظ الآية يحتمل القولين."
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ الإيلاء في اللغة هو بمعنى الامتناع باليمين، فالألية هي الحلف وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور: 22] يعني ولا يحلف، تقول: آليت ألا أفعل كذا. يعني حلفت، لكنه في الشرع أخص من مطلق الحلف فهو الامتناع باليمين عن وطء الزوجة، فهو حلف خاص.
يقول: يحلفون على ترك وطئهن يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وإنما تعدى بـ (من) لأنه تضمن معنى البعد منهن. ويمكن أن يقال: تضمينًا له بمعنى يمتنعون.
تكلمنا عن التضمين في بعض المناسبات، وأن معاني الأفعال تُعرف بما تتعدى به، وأن مذهب الكوفيين هو القول بتضمين الحرف معنى الحرف، وقول فقهاء النحاة كما يقول ابن القيم -رحمه الله- قول البصريين: هو تضمين الفعل معنى الفعل، وهذا أكثر في المعنى وأدق فيكون المعنى أوفر، وذكرنا له أمثلة في بعض المناسبات.
فهنا الإيلاء يُؤْلُونَ مضمن معنى الامتناع، فالامتناع يتعدى بـ (من) يمتنعون من نسائهم، المؤلف هنا يقول: تضمن معنى البعد يُؤْلُونَ مِنْ يبتعدون من فهو حلف وامتناع، حلف وبعُد، يعني هذا التضمين التعدية بحرف "من" أفاد أن الفعل المذكور يؤلون مضمن معنى فعل آخر يصح أن يُعدى بمن فدل على معنى البعد أيضًا أو الامتناع، والامتناع أليق بذلك.
يقول: ويدخل في عموم قوله: (الذين) كل حالف حرًا كان، أو عبدًا. يعني المملوك إذا آلى من امرأته، له زوجة وآلى منها، وهذا ظاهر من العموم في الآية، إلا أن مالكًا جعل مدة إيلاء العبد شهرين، خلافًا للشافعي.
جعلها شهرين قياسًا على ما جاء منصوصًا في بعض أحكام الأمة مثلًا فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء: 25] وقاسوا عليه العبد المملوك، وكذلك قالوا فيما يتعلق في عدة الأمة أنها ليست كعدة الحرة، قالوا في عدة الوفاة، وعدة الطلاق.
يقول: ويدخل في إطلاق. يعني خصص العموم بالقياس، يقول: ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم، خلافًا للشافعي في قصره الإيلاء على الحلف بالله، ووجهه أنها اليمين الشرعية.
يعني لو أنه حلف بأن قال: عليه الحرام ألا يطأها مدة كذا. هذا حلف لا يجوز له أن يحلف بهذا، لكن هل يترتب عليه حكم بالنسبة للإيلاء؟
فهنا ما ذكره المؤلف: ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم. لو أنه حلف بالطلاق ألا يطأها هل يكون هذا إيلاء أو يقال لا يُعتبر؟
يقول: "فالشافعي قصره على الحلف بالله، ووجهه أنها اليمين الشرعية ولا يكون موليًا عند مالك والشافعي إلا إذا حلف على مدة أكثر من أربعة أشهر، وعند أبي حنيفة أربعة أشهر فصاعدًا، فإذا انقضت الأربعة الأشهر وقف المولي عند مالك، والشافعي، فإما فاء وإلا طلّق، فإن أبى الطلاق طلق عليه الحاكم، وقال أبو حنيفة: إذا انقضت الأربعة الأشهر وقع الطلاق دون توقيف، ولفظ الآية يحتمل القولين".
الحافظ ابن القيم - رحمه الله - نقل عن الجمهور: أن أقل من أربعة أشهر لا يكون إيلاء، وهكذا أربعة أشهر.
هي الصورة صورة حلف لكن هنا: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ المقصود به ما كان زائدًا على الأربعة أشهر، إما أن يكون محددًا بمدة: كأن يقول: لا يطأها سنة مثلًا. أو كان مفتوحًا يعني حلف ألا يطأ امرأته فهنا يُتربص أربعة أشهر، لو حلف أقل من أربعة أشهر؟ حلف ألا يطأ امرأته، آلى ألا يطأ نساءه شهرًا، كما فعل النبي ﷺ وجلس في عُلية، غرفة في الأعلى واعتزل نساءه ﷺ فلما كان من الشهر تسع وعشرون ليلة نزل، فلما سئل عن هذا أخبر أن الشهر يكون تسع وعشرين، فهذا إذا بقي الإنسان هذه المدة حلف أن يطأ شهرًا ففي هذه الحال إذا بقي الشهر فلا شيء، حلف ألا يطأ ثلاثة أشهر وجلس ثلاثة أشهر؟ لا إشكال، لكن لو أنه حلف ألا يطأ شهرًا فبقي أسبوعًا ثم حصل منه الوطء فعليه كفارة يمين، لكن الكلام هنا تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فهذا فيما كان مفتوحًا، أو زيادة على أربعة أشهر؛ لأن ذلك تضييع لحق المرأة، وتحديد الأربعة أشهر هنا لحكمة، والله تعالى أعلم بها، لكن الذي يظهر أن المرأة قد تصبر إلى أربعة أشهر عن زوجها، ولهذا عمر لما سمع تلك المرأة التي تردد بيتين وتذكر تطاول الليل عليها: تطاول هذا الليل واسود جانبه، وتتأسف أنه ليس بجوارها خليل تلاعبه وتقول: فوالله لولا خشية الله وحده لحرك من هذا السرير جوانبه.
فسأل عنها، وعن زوجها فكان في الغزو في الجهاد في سبيل الله، فسأل ابنته حفصة كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فاستحت من ذلك، ثم بعد ذلك أخبرته أنها تصبر إلى أربعة أشهر.
ولهذا مثل الشافعي - رحمه الله - يرى أن هذا النوع من الكفارة مثل كفارة الظهار، يرى أن كفارة الظهار يُحبس عليها، لو امتنع أن يكفر وقال: ظاهرت منها. وبقي هكذا فهذا حق للغير، ما يقال هذا بينه وبين الله . فهنا في كفارة الإيلاء، إيلاء أربعة أشهر فإن فاءوا يعني رجعوا فإن الله غفور رحيم، فهو يوقف بعد الأربعة أشهر ويقال له: إما أن تطأ ترجع عن هذه اليمين، وإما أن تطلق.
طبعًا المقصود هنا يقال له: ترجع أن تطأ قد لا تكون المرأة قريبة منه، قد يكون في سفر، قد يكون مريضًا، قد تكون المرأة مريضة، قد تكون المرأة مسافرة، لكن بعد تمام الأربعة أشهر إذا انقضت هذه المدة يقال له: إما أن ترجع وإما أن تطلق. فيرجع بالنية وإن لم يحصل منه وطء لعذر، وإما أن يطلق، فإن أبى أن يطلق طلق عليه الحاكم دفعًا للضرر.
يقول: ولفظ الآية يحتمل القولين. يعني قول أبي حنيفة: أنه يحصل الطلاق بمجرد انقضاء الأربعة أشهر، وقول مالك، والشافعي: أنه يؤمر بالطلاق إيقاع الطلاق، ولا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة. وهذا هو الأقرب: أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي المدة.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: هذا من الأيمان الخاصة بالزوجة في أمر خاص وهو حلف الزوج على ترك وطء زوجته مطلقًا، أو مقيدًا بأقل من أربعة أشهر، أو أكثر....
الجمهور يقولون: لا يكون بأقل من أربعة أشهر، هو الواقع أن الصورة صورة إيلاء لكن الكلام فيما يترتب عليه هذا الحكم المذكور في الآية أن يوقف.
يقول: فمن آلى من زوجته خاصة فإن كان لدون أربعة أشهر، فهذا مثل سائر الأيمان، إن حنث كفر، وإن أتم يمينه، فلا شيء عليه.
يقول: وإن كان آلى أبدًا - يعني مطلقًا هكذا من غير تحديد - أو مدة تزيد على أربعة أشهر، ضربت له مدة أربعة أشهر من يمينه، إذا طلبت زوجته ذلك؛ لأنه حق لها، فإذا تمت أُمر بالفيئة وهو الوطء، فإن وطئ، فلا شيء عليه إلا كفارة اليمين، وإن امتنع أجبر على الطلاق، فإن امتنع، طلق عليه الحاكم.
وجاء في الصحيحين عن عائشة - ا - أن النبي ﷺ: آلى من نسائه شهرًا... الحديث الذي أشرت إليه.
وعلى كل حال الجمهور: على أن الإيلاء يختص بالزوجات ولا يكون في كل يمين، والقرينة في الآية: يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ.
"فَإِنْ فَاءُوا رجعوا إلى الوطء وكفّروا عن اليمين."
الفيئة بمعنى الرجوع، فاء إلى كذا بمعنى رجع، والمقصود هنا رجع عن يمينه، وقد جاء عن ابن عباس، ومسروق، والشعبي، وسعيد بن جبير مثل هذا المعنى فَإِنْ فَاءُوا يعني: رجعوا إلى الوطء، وكفروا عن اليمين، وهذا المعنى هو الذي اختاره أيضًا أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - والحافظ ابن كثير، والعلماء مختلفون في ذلك بناء على اختلافهم في معنى اليمين الإيلاء هنا، فمن قال: إنه الحلف ألا يجامعها، فالرجوع بالجماع، أو النية إذا عجز، ومن قال: بأن الفيء لا يكون إلا بمجامعتها لم يعتبر عذره.
ومن قال: بأن الإيلاء قد يكون عن الكلام، أو غيره فهو بحسبه.
يعني: أعم من موضوع المعاشرة، والجماع والوطء، حلف ألا يكلمها مثلًا، ونحو ذلك فَإِنْ فَاءُوا رجعوا، رجع إلى مكالمتها، لكن ما ذكرنا من قول الجمهور: أن ذلك المقصود به الجماع، حلف ألا يجامع فإن فاءوا أي: رجعوا، لكن رجع إلى ماذا؟ رجع إلى الجماع، بالجماع إن كان ذلك ممكنًا، أو بالنية، والعزم فذلك قد لا يتأتى له - والله أعلم - لكن لو قالت المرأة: أنا متنازلة، أو كانت المرأة أصلًا لا ترغب فيه، أو كانت تريد الإبقاء على نفسها عنده فقط ولو لم يحصل وطء ينفق عليها، وتبقى في كنفه تربي أولادها، أو كانت المرأة كبيرة لا رغبة لها في المعاشرة، أو مريضة، أو نحو ذلك، فالأمر سيان عندها ففي هذه الحال لا يلزم بالرجوع.
"غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: يغفر ما في الإيلاء من الإضرار بالمرأة.
وفي نسخة: أي: يغفر ما في الأيمان من إضرار المرأة."
يعني: أنه لو حلف هذه المدة وأوقف أربعة أشهر، ثم رجع، يعني: بعد مضي الأربعة أشهر أوقف، ثم رجع، فالمرأة تضررت في هذه المدة فالله غفور رحيم، يبقى عليه الكفارة، ومن رحمته - تبارك وتعالى - أنه أوجب له بقاء امرأته.
يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: غفور رحيم لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين.
هذا مثل ما ذكر ابن جزي، وأبو جعفر ابن جرير يقول: بما حنثوا من أيمانهم، وما شُرع لهم من الكفارة.
يعني: غفور بما وقع من الحنث، ورحيم حيث شرع لهم الكفارة وأبقى على نسائهم في عصمتهم، يعني أوجد لهم المخرج، وعلى كل حال كل هذا يحتمل - والله تعالى أعلم -.