المطلقة لا تخلو حكمها من إحدى ثلاث:
إما أن تكون غير حامل فهذه عدتها بنص الآية ثلاثة قروء، والقرء على الراجح من كلام أهل العلم أنه الطهر بين الحيضتين.
وإما أن تكون حاملاً، والحامل لا تحيض بإطلاق عند كثير من أهل العلم، وعند بعضهم أنها تحيض وهذا نادر، فعدتها كما قال الله : وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [سورة الطلاق:4] فهي مخصصة لهذا الآية.
وأما أن تكون كبيرة وهي التي وصلت إلى سن اليأس فلا تحيض، فهذه عدتها ثلاثة أشهر، ومثلها الصغيرة التي لم تحض بعد كما قال الله : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [سورة الطلاق:4].
وقوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ جملة اعتراضية سيقت من أجل رفع اللبس في التي لا تحيض لكبر سنها، أو لصغره.
"روى الثوري عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب فجاءته امرأة فقالت: "إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين، فجاءني وقد وضعت مائي، ونزعت ثيابي، وأغلقت بابي.تقصد أن مدة عدتها بالإقراء انتهت فوضعت الماء، ونزعت الثياب؛ لأجل أن تغتسل حين انقطع عنها الدم.
فقال عمر لعبد الله بن مسعود: ما ترى؟، قال: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة.لأن الصلاة لا تحل لها إلا إذا اغتسلت بعد ما تنتهي من حيضها، هذا تفسير الرواية.
"قال عمر: وأنا أرى ذلك.
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وابن مسعود، ومعاذ، وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس أجمعين، وسعيد بن المسيب وعلقمة، والأسود وإبراهيم، ومجاهد وعطاء، وطاووس وسعيد بن جبير، وعكرمة ومحمد بن سيرين، والحسن وقتادة، والشعبي والربيع، ومقاتل بن حيان والسدي، ومكحول والضحاك، وعطاء الخرساني أنهم قالوا: الأقراء: الحيض".وهذا هو مذهب الإمام أحمد - رحمه الله -، وعليه كثير من أهل العلم، ويؤيد تفسيرهم للقرء بالحيض الرواية السابقة للمرأة التي وضعت ماء الاغتسال لتغتسل، فهي تدل أن القرء يفسر بالحيض لا بالطهر.
والطلاق على أربعة أوجه:
الأول: طلاق سنة، ويقع في صورتين.
الثاني: طلاق بدعة، ويقع في صورتين كذلك.
فطلاق السنة إما أن يطلق في طهر لم يجامعها فيه، أو يطلق وهي حامل.
وطلاق البدعة إما أن يطلق في طهر قد جامعها فيه، أو يطلق وهي حائض أو نفساء، وبعض أهل العلم يرى أن الطلاق البدعي لا يقع لقوله ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[1] وحديث ابن عمر: مره فليراجعها[2]، والخلاف في تفسير الحديث معروف.
لكن المقصود أننا إذا فسرنا الأقراء بالحيض فمعنى ذلك أنها تنتظر حتى تحيض، ثم تطهر ثم تحيض، ثم تطهر ثم تحيض، فإذا حاضت الثالثة وانقطع دمها فإن ذلك يعني انقضاء العدة، وهذا مما يبعد الاحتمال به؛ لأنه لم يتأت على مقاصد الشرع من احتساب المدة.
وعلى القول بأن المراد من القرء الطهر فتحسب العدة بزمن الأطهار - من أول طهر لم يجامع فيه -، وتنتهي العدة بانتهاء الحيضة الثالثة، فإذا رأت الطهر بعد الحيضة اغتسلت، وانتهت عدتها بهذا الاعتبار، وتفسير القرء بالطهر هو الذي دل عليه الأثر، وأختاره كثير من أهل العلم.
وأصل القرء: الوقت، ويطلق على الشيء المؤقت مجيئه، وإدباره، فهذا يقال له: قرء في أصل كلام العرب، ولفظ القرء من قبيل المشترك اللفظي: وهو اللفظ الواحد الذي يدل على أكثر من معنى، فالقرء بهذا الاعتبار صار يدل على معنيين متناقضين الطهر وغير الطهر، ولا يمكن أن يرتفع عنها الطهر والحيض وما في معناه مثل النفاس، فيقال: لا حائض ولا طاهر، فإذا كان لا يمكن أن يرتفع الوصفان، ولا يمكن أن يجتمع؛ فمعنى ذلك التناقض، فهذا نوع من المشترك، وبالتالي فلا يمكن حمل المراد إلا على أحد المعنيين وهو المعنى الذي رجحه كثير من أهل العلم والمفسرين.
ومن أمثلة المشترك اللفظي قوله سبحانه: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [سورة التكوير:17]، فعسس كما يقول المفسرون مترددة بين إقبال الليل وإدباره، ولا يمكن إن يجتمعان في وقت واحد، لكن يجوز حمله على المعنيين إذا كان يتأتي في تفسير الآية وهو الراجح، فالمراد بعسعس: أن الله أقسم بالليل في حال إقباله، وفي حال إدباره، وهذا مظهر تتجلى فيه العظمة، وما يدعم هذا أن الله أقسم به في الحالتين في مواضع أخرى كما قال سبحانه: وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [سورة الضحى:2] أي: سكن وأظلم وأدلهم، وقال: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [سورة المدثر:33]، أقسم به في هذا وفي هذا، فنحمل الآية على المعنيين.
وأما في لفظ القرء فلا يمكن حملها على المعنيين فنقول: يعني الحيض والطهر في وقت واحد؛ لان التناقض كبير وواضح، ويصعب معه الجمع أو التوافق، والعجيب أن يوجد بعض المتأخرين من المفسرين من يقول: لا مانع من حمل الآية على المعنيين، باعتبار أن المشترك يمكن أن يحمل على معنييه. والله أعلم.
ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي عن فاطمة بنت أبي حبيش - ا -: أن رسول الله ﷺ قال لها: دعي الصلاة أيام أقرائك[3]، فهذا لو صح لكان صريحاً في أن القرء هو الحيض، ولكن المنذر أحد رواته، قال فيه أبو حاتم: مجهول ليس بمشهور، وذكره ابن حبان في الثقات.المنذر بن المغيرة المدني قال عنه الحافظ بن حجر - رحمه الله - في "التقريب": مقبول، وهذا المصطلح يعني به كما هو معروف من طريقته - رحمه الله - أنه من لم يرو عنه إلا القليل، لكنه لم ينقل عنه ما يوجب رد روايته، أو القدح فيه؛ فإن توبع وإلا فهو لين الحديث، لكن عند التأمل يتضح لنا أن الحديث الذي كان أحد رواته المنذر هو غير الذي أورده ابن كثير - رحمه الله - ولفظه: إذا أتى قرؤك فلا تصلي فإذا مر قرؤك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء[4] فهو لفظ آخر رواه أبو داود والنسائي، والعلامة ناصر الدين الألباني - رحمه الله - يصححه، ويصحح الحديث الآخر الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وهو من حديث عائشة - ا - من رواية الزهري، وسهيل بن أبي صالح الذي رواه عن الزهري لم يرو هذه اللفظة: دعي الصلاة أيام أقرائك، وهكذا رواه عامة من رووه من الثقات عن الزهري خالفهم أحد الرواة وهو إمام معروف كبير سفيان بن عيينة، فرواه بهذه اللفظة فقالوا: هذه اللفظة غير محفوظة بل هي شاذة، وجاء من غير حديث عائشة - ا - مرسلاً: دعي الصلاة أيام أقرائك إلا أن هذا المرسل يعتضد بمثل هذه الرواية عن سفيان بن عيينة، وقد يتقوى، ولهذا العلامة الألباني - رحمه الله - يصحح رواية ابن عيينة عن الزهري عن عمرة عن عائشة قالت: "إن أم حبيبة كانت تستحاض، فسألت النبي ﷺ فأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها"، وأما أبو داود بعد ما ذكره قال: هذا وهم من ابن عيينة ليس هذا في حديث الحفاظ عن الزهري إلا ذكر سهيل بن صالح، فالمنذر إنما جاء ذكره في الرواية الأخرى، وإذا صححت هذه الرواية فمعنى ذلك صحة احتجاج من يقول: بأن القرء هو الحيض، والمعنى من الحديث أمرها أن تصلي من القرء إلى القرء، أي: من الحيضة إلى الحيضة، وجعلوا المراد من قوله سبحانه: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ أي ثلاثة حيضات.
وكذا احتجوا القائلون بأن القرء هو الحيض من نفس الآية، ووجه احتجاجهم أن المفسرين ذكروا أن الآية قد تحتمل معنيين، فما يمنع حملها على معنى الحيض؟ وقرينة ترجيحه أن العدد في الآية مؤنث ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ، والقرء إذا فسر بالحيضة فهو مؤنث، والصواب في هذه جريها على القاعدة النحوية: أن العدد يخالف المعدود، تقول: ثلاث نسوة، وتقول: ثلاثة رجال، فهنا قال: ثلاثة قروء، ففسروه بالطهر، لأن الطهر مذكر فيحسن تنزيل القاعدة عليه، وبالتالي لا ممسك لهم من الآية.
وكذا احتج القائلون بأن معنى القرء الحيض بحديث عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان[5]، فلو صح هذا الحديث لكان نصاً في الموضوع لكنه ضعيف، بغض النظر عن المدة وكونها للأمة.
ويحتجون بدليل من النظر يقولون: بأن المقصود من العدة استبراء الرحم، ولا يعلم استبراءه إلا إذا خرج الدم، وحاضت، حينها يعلم أنه ليس هناك حمل، ويمكن أن يرد قولهم: بأن الحامل قد يحصل منها حيض، فالحاصل أن المسألة فيها كلام لأهل العلم معروف في محله، لكن ما ينبغي التأكيد عليه أن أكثر المفسرين على القول بأن القرء هو الطهر، وهو مذهب عائشة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، والزهري، والشافعي، ويحتجون بمثل قول النبي ﷺ لابن عمر: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر فتلك العدة[6] والله أعلم.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: وقوله: وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [سورة البقرة:228] أي: من حبل، أو حيض، قاله ابن عباس وابن عمر ، ومجاهد والشعبي، والحكم بن عتيبة والربيع بن أنس، والضحاك وغير واحد.
وقوله: إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تهديد لهن على قول خلاف الحق، ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن؛ لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن، وتتعذر إقامة البينة غالباً على ذلك؛ فَرُد الأمر إليهن، وتُوُعِّدن فيه؛ لئلا يخبرن بغير الحق، إما استعجالاً منها لانقضاء العدة، أو رغبة منها في تطويلها؛ لما لها في ذلك من المقاصد، فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة، ولا نقصان.فما ذكره ابن كثير - رحمه الله - بأن المراد من قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ أي: من حبل أو حيض، هو المعنى المتبادر من الآية، ولذا اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، ولا يمكن اختصاص اللفظة بأحد المعنيين دون الآخر.
ومرجع الأمر إليهن؛ فإذا ادعت المرأة شيئاً مما يتعلق بالحبل أو عدمه، والحيض أو الطهر قُبل قولها، إلا إذا قامت القرائن أو نحو ذلك على خلافه، ولا يجوز لها أن تكتم شيئاً مما خلقه الله في رحمها، وهن متوعدات إن أخبرن بغير الحق إما استعجالاً منهن لانقضاء العدة، أو رغبة منهن في تطويلها لكونها تريد أن تبقى مع زوجها فتدعي أنها ما رأت الطهر، أو ما رأت الحيض؛ بحسب تفسير القرء لتطول المدة، أو تدعي الحمل وليست بحامل فتجلس تسعة أشهر، وقد تدعي أنها رأت الطهر، أو الحيض، أو أنها حاضت مراراً في شهر واحد، من أجل أن تقطع الطريق علي زوجها؛ لئلا يراجعها، أو لغرض آخر فتشعر أنها تورطت بهذا الحمل الذي قد يكون مانعاً للزوج من التطليق، أو سبباً للشقاق بين الزوجين، وهي تريد أن تأخذ هذا الولد، أو تخشى أن يتشتت هذا الولد بين الأبوين في حال الفراق، فتسكت، ولا تخبر بالحمل، وتدعي أنها تحيض وتطهر، ثم بعد ذلك تتزوج، وتضيف هذا الولد إلى زوج آخر، وإذا وضعت ادعت على الزوج الآخر أن الحمل لستة أشهر...، فهذه كلها من الحيل الداخلة تحت قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ.
وقوله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا [سورة البقرة:228] أي: وزوجها الذي طلقها أحق بردها ما دامت في عدتها إذا كان مراده بردها الإصلاح والخير، وهذا في الرجعيات.فلا يحق للمطلقة طلاقاً رجعياً أن تمتنع، أو لوليها أن يقف دون عودتها، أو يرجع إلى رأيها في حال أراد زوجها إرجاعها، والواجب أن تعتد في بيت زوجها، ولا غضاضة عليها إذا تزينت وتجملت له، فذلك أدعى لمراجعته لها، وأما خروجها فالأصل أن لا تخرج إلا لحاجة، لا يقوم غيرها مقامها، أو في حال اقترافها فاحشة مبينة كما نص القرآن على ذلك قال : وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [سورة الطلاق:1]، والفاحشة المبينة قيل: الزنا، وقيل: عقوق الزوج وأحمائه.
فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن، وإنما صار ذلك لما حصروا في الطلقات الثلاث، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن، وغير بائن.هذه الآية تقرر أحكام الطلاق، وأن للبعل - الزوج - الحق في إرجاع زوجته المطلقة في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة كما قال سبحانه: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا بخلاف المطلقة البائن كما في الآية التي بعدها: الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [سورة البقرة:229] فليس له الحق بعد الطلقات الثلاث أن يراجعها إلا بعد زواجها من رجل آخر، وكذا لو طلقها قبل الدخول بها صارت امرأة أجنبية بمجرد التلفظ بهذه الكلمة، ولا يلزمها عدة، وإذا أراد أن يرجعها فبعقد جديد، ومهر جديد.
وقوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله ﷺ قال في خطبته في حجة الوداع: فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف[7] وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت[8]
وقال وكيع: عن بشير بن سليمان عن عكرمة عن ابن عباس - ا - قال: "إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ" رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.دلت هذه المعاني المذكورة في تفسير الآية على أن للرجل والمرأة حقوقاً حيال بعضهما، وليس الحق متوجهاً إلى أحدهما دون الآخر، فكما أن الرجل مطالب بتقوى الله في زوجته، وملزم بأداء حقوقها من نفقة وسكنى ...، فكذا المرأة مطالبة برعاية حقوقه، والقيام على مصالحه المنوطة بها التي ذكرت في الحديث.
ويدخل فيه ما ذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - وهو حق الجماع لكليهما، وفسر به الآية.
وأيضاً يدخل فيه ما اختاره ابن جرير الطبري - رحمه الله - بأن الرجل لا يرجع إلا إذا أراد الإصلاح كما قال سبحانه: إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا، فكذلك المرأة لا تكتم ما خلق الله في رحمها، فابن جرير خص المعروف بأمر يتعلق بالطلاق والرجعة اللذين هما محور خطاب الآية.
وكذلك ما ذكره ابن عباس من أنه يحب أن يتزين لامرأته كما يحب أن تتزين له، فيضع نفسه مكانها في هذه الأمور، فإنها يعجبها منه ما يعجبه منها، وتكره منه ما يكرهه منها، فهذه المعاني جميعها تفسر المراد بقوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
وقوله: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أي: في الفضيلة في الخَلق، والخُلق، والمنزلة، وطاعة الأمر، والإنفاق، والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ [سورة النساء:34]، وقوله: وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ أي: عزيز في انتقامه ممن عصاه، وخالف أمره، حكيم في أمره، وشرعه، وقدره.اختلف أهل التأويل في المراد بهذه الدرجة في الآية وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ؛ لأنها جاءت مبهمة فقيل: هي القوامة، وقيل: ما فضل به الرجل من كمال العقل، وبعد النظر، وحسن التدبير وما إلى ذلك.
وبعضهم نظر إلى معنىً آخر يختص بالرجل فقال: إنه يلي الإمارة، والنساء لا ولاية لهن من الولايات العامة، وقيل: بل المراد أن الرجل له لحية، والمرأة ليس لها لحية، وقيل: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ بما فضل عليها من الميراث، ودية المرأة نصف دية الرجل.
وابن جرير الطبري - رحمه الله - سرد في معنى الدرجة أقوال جمع من المفسرين، ثم قال: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس: "ما أحب أن أستنزف جميع حقي عليها؛ لأن الله - تعالى ذكره - يقول: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ"، والدرجة في هذا الموضع الصفحُ من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وأداء كل الواجب لها عليه.
ولذلك جاءت عَقب قوله سبحانه: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ فكأنه إخبار منه - تعالى ذكره - أن على الرجل مِن ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها، وحُقوقها، مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهنّ، وغير ذلك من حقوقه.
ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهن بالفضل إذا تركن أداءَ بعض ما أوجب الله لهم عليهن فقال - تعالى ذكره -: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة بتفضّلهم عليهن، وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن، وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس ، وهذا القول وإن كان ظاهرُه الخبر إلا أنه يفهم من معناه ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل؛ ليكون لهم عليهن فضل درَجة، وهذا الوجه في تفسير الآية جيد، ومعناه قريب.
ومن أولى ما يدخل في هذه الدرجة المذكورة ما فضل به الرجل على المرأة حساً ومعنى من كمال العقل، وقوة البدن، والأطباء يقولون: إن تلافيف عقل الرجل تختلف عن تلافيف عقل المرأة، فتركيبة المخ مختلفة، ولذا فإن الرجل أكثر، وأوفر، وأقدر على التفكير الصحيح من المرأة، وكذا ما ينتج ويترتب عليه مما رتبه الشارع عليه من كونه أهلاً للولاية، ويملك القوامة على المرأة، فكل ذلك راجع إلى هذا المعنى، وقد يوجد في النساء من هي بمثابة الرجل في جسارتها؛ لكن العبرة بالغالب، وهذا الأمر مشاهد في أحوال الرجال، وأحوال النساء، فالمرأة تبع للرجل فطرةً، وشرعاً، ولا تستقل بأمرها، بل يرعاها وليها، ويتولى شئونها، ويحوطها، ويحفظها، ولا تسافر إلا مع ذي محرم ولو كان إلى حج بيت الله الحرام، ولا يخلوا بها الرجل الأجنبي، ولا يتركها القائم بأمرها عرضة لكل أسر، وكاسر، والحاصل من هذا كله أن المرأة أضعف من الرجال في تفكيرها، وعقلها؛ كما أخبر الصادق المصدوق من لا ينطق عن الهوى أنهن ناقصات عقل، ودين[9]، ولذلك كانت هذه الرفعة والمنزلة في الدرجة لحكمة، وملمح عجيب.
- رواه البخاري في كتاب الصلح - باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود برقم (2550) (2/959)، ومسلم في كتاب الأقضية - باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718) (3/1343).
- رواه مسلم في كتاب الطلاق - باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها برقم (1471) (2/1093).
- رواه الدارقطني برقم (36) (1/212).
- رواه أبو داود برقم (620) (1/203)، والنسائي برقم (211) (1/121)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (4128).
- رواه أبو داود برقم (2191) (2/223)، ورواه الترمذي برقم (1182) (3/488)، وابن ماجه برقم (2079) (1/672)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2189).
- سبق تخريجه في الحاشية رقم (3).
- رواه مسلم في كتاب الحج - باب حجة النبي ﷺ برقم (1218) (2/886).
- رواه أبو داود برقم (2144) (2/210)، وأحمد في مسنده برقم (20011) (33/213)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2142).
- رواه البخاري في كتاب الحيض - باب ترك الحيض الصوم برقم (298) (1/116)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله ككفر النعمة والحقوق برقم (79) (1/86).