السبت 24 / ربيع الأوّل / 1446 - 28 / سبتمبر 2024
وَٱلْمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِىٓ أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوٓا۟ إِصْلَٰحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِى عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ [سورة البقرة:228]، هذا أمر من الله للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء بأن يتربص بأنفسهن ثلاثة قروء أي: بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء، ثم تتزوج إن شاءت.
المطلقة لا تخلو حكمها من إحدى ثلاث:
إما أن تكون غير حامل فهذه عدتها بنص الآية ثلاثة قروء، والقرء على الراجح من كلام أهل العلم أنه الطهر بين الحيضتين.
وإما أن تكون حاملاً، والحامل لا تحيض بإطلاق عند كثير من أهل العلم، وعند بعضهم أنها تحيض وهذا نادر، فعدتها كما قال الله : وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [سورة الطلاق:4] فهي مخصصة لهذا الآية.
وأما أن تكون كبيرة وهي التي وصلت إلى سن اليأس فلا تحيض، فهذه عدتها ثلاثة أشهر، ومثلها الصغيرة التي لم تحض بعد كما قال الله : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [سورة الطلاق:4].
وقوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ جملة اعتراضية سيقت من أجل رفع اللبس في التي لا تحيض لكبر سنها، أو لصغره.
"روى الثوري عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب فجاءته امرأة فقالت: "إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين، فجاءني وقد وضعت مائي، ونزعت ثيابي، وأغلقت بابي.تقصد أن مدة عدتها بالإقراء انتهت فوضعت الماء، ونزعت الثياب؛ لأجل أن تغتسل حين انقطع عنها الدم.
فقال عمر لعبد الله بن مسعود: ما ترى؟، قال: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة.لأن الصلاة لا تحل لها إلا إذا اغتسلت بعد ما تنتهي من حيضها، هذا تفسير الرواية.
"قال عمر: وأنا أرى ذلك.
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وابن مسعود، ومعاذ، وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس أجمعين، وسعيد بن المسيب وعلقمة، والأسود وإبراهيم، ومجاهد وعطاء، وطاووس وسعيد بن جبير، وعكرمة ومحمد بن سيرين، والحسن وقتادة، والشعبي والربيع، ومقاتل بن حيان والسدي، ومكحول والضحاك، وعطاء الخرساني أنهم قالوا: الأقراء: الحيض".
وهذا هو مذهب الإمام أحمد - رحمه الله -، وعليه كثير من أهل العلم، ويؤيد تفسيرهم للقرء بالحيض الرواية السابقة للمرأة التي وضعت ماء الاغتسال لتغتسل، فهي تدل أن القرء يفسر بالحيض لا بالطهر.
والطلاق على أربعة أوجه:
الأول: طلاق سنة، ويقع في صورتين.
الثاني: طلاق بدعة، ويقع في صورتين كذلك.
فطلاق السنة إما أن يطلق في طهر لم يجامعها فيه، أو يطلق وهي حامل.
وطلاق البدعة إما أن يطلق في طهر قد جامعها فيه، أو يطلق وهي حائض أو نفساء، وبعض أهل العلم يرى أن الطلاق البدعي لا يقع لقوله ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[1] وحديث ابن عمر: مره فليراجعها[2]، والخلاف في تفسير الحديث معروف.
لكن المقصود أننا إذا فسرنا الأقراء بالحيض فمعنى ذلك أنها تنتظر حتى تحيض، ثم تطهر ثم تحيض، ثم تطهر ثم تحيض، فإذا حاضت الثالثة وانقطع دمها فإن ذلك يعني انقضاء العدة، وهذا مما يبعد الاحتمال به؛ لأنه لم يتأت على مقاصد الشرع من احتساب المدة.
وعلى القول بأن المراد من القرء الطهر فتحسب العدة بزمن الأطهار - من أول طهر لم يجامع فيه -، وتنتهي العدة بانتهاء الحيضة الثالثة، فإذا رأت الطهر بعد الحيضة اغتسلت، وانتهت عدتها بهذا الاعتبار، وتفسير القرء بالطهر هو الذي دل عليه الأثر، وأختاره كثير من أهل العلم.
وأصل القرء: الوقت، ويطلق على الشيء المؤقت مجيئه، وإدباره، فهذا يقال له: قرء في أصل كلام العرب، ولفظ القرء من قبيل المشترك اللفظي: وهو اللفظ الواحد الذي يدل على أكثر من معنى، فالقرء بهذا الاعتبار صار يدل على معنيين متناقضين الطهر وغير الطهر، ولا يمكن أن يرتفع عنها الطهر والحيض وما في معناه مثل النفاس، فيقال: لا حائض ولا طاهر، فإذا كان لا يمكن أن يرتفع الوصفان، ولا يمكن أن يجتمع؛ فمعنى ذلك التناقض، فهذا نوع من المشترك، وبالتالي فلا يمكن حمل المراد إلا على أحد المعنيين وهو المعنى الذي رجحه كثير من أهل العلم والمفسرين.
ومن أمثلة المشترك اللفظي قوله سبحانه: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [سورة التكوير:17]، فعسس كما يقول المفسرون مترددة بين إقبال الليل وإدباره، ولا يمكن إن يجتمعان في وقت واحد، لكن يجوز حمله على المعنيين إذا كان يتأتي في تفسير الآية وهو الراجح،  فالمراد بعسعس: أن الله أقسم بالليل في حال إقباله، وفي حال إدباره، وهذا مظهر تتجلى فيه العظمة، وما يدعم هذا أن الله أقسم به في الحالتين في مواضع أخرى كما قال سبحانه: وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [سورة الضحى:2] أي: سكن وأظلم وأدلهم، وقال: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [سورة المدثر:33]، أقسم به في هذا وفي هذا، فنحمل الآية على المعنيين.
وأما في لفظ القرء فلا يمكن حملها على المعنيين فنقول: يعني الحيض والطهر في وقت واحد؛ لان التناقض كبير وواضح، ويصعب معه الجمع أو التوافق، والعجيب أن يوجد بعض المتأخرين من المفسرين من يقول: لا مانع من حمل الآية على المعنيين، باعتبار أن المشترك يمكن أن يحمل على معنييه. والله أعلم.
ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي عن فاطمة بنت أبي حبيش - ا -: أن رسول الله ﷺ قال لها: دعي الصلاة أيام أقرائك[3]، فهذا لو صح لكان صريحاً في أن القرء هو الحيض، ولكن المنذر أحد رواته، قال فيه أبو حاتم: مجهول ليس بمشهور، وذكره ابن حبان في الثقات.المنذر بن المغيرة المدني قال عنه الحافظ بن حجر - رحمه الله - في "التقريب": مقبول، وهذا المصطلح يعني به كما هو معروف من طريقته - رحمه الله - أنه من لم يرو عنه إلا القليل، لكنه لم ينقل عنه ما يوجب رد روايته، أو القدح فيه؛ فإن توبع وإلا فهو لين الحديث، لكن عند التأمل يتضح لنا أن الحديث الذي كان أحد رواته المنذر هو غير الذي أورده ابن كثير - رحمه الله - ولفظه: إذا أتى قرؤك فلا تصلي فإذا مر قرؤك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء[4] فهو لفظ آخر رواه أبو داود والنسائي، والعلامة ناصر الدين الألباني - رحمه الله - يصححه، ويصحح الحديث الآخر الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وهو من حديث عائشة - ا - من رواية الزهري، وسهيل بن أبي صالح الذي رواه عن الزهري لم يرو هذه اللفظة: دعي الصلاة أيام أقرائك، وهكذا رواه عامة من رووه من الثقات عن الزهري خالفهم أحد الرواة وهو إمام معروف كبير سفيان بن عيينة، فرواه بهذه اللفظة فقالوا: هذه اللفظة غير محفوظة بل هي شاذة، وجاء من غير حديث عائشة - ا - مرسلاً: دعي الصلاة أيام أقرائك إلا أن هذا المرسل يعتضد بمثل هذه الرواية عن سفيان بن عيينة، وقد يتقوى، ولهذا العلامة الألباني - رحمه الله - يصحح رواية ابن عيينة عن الزهري عن عمرة عن عائشة قالت: "إن أم حبيبة كانت تستحاض، فسألت النبي ﷺ فأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها"، وأما أبو داود بعد ما ذكره قال: هذا وهم من ابن عيينة ليس هذا في حديث الحفاظ عن الزهري إلا ذكر سهيل بن صالح، فالمنذر إنما جاء ذكره في الرواية الأخرى، وإذا صححت هذه الرواية فمعنى ذلك صحة احتجاج من يقول: بأن القرء هو الحيض، والمعنى من الحديث أمرها أن تصلي من القرء إلى القرء، أي: من الحيضة إلى الحيضة، وجعلوا المراد من قوله سبحانه: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ أي ثلاثة حيضات.
وكذا احتجوا القائلون بأن القرء هو الحيض من نفس الآية، ووجه احتجاجهم أن المفسرين ذكروا أن الآية قد تحتمل معنيين، فما يمنع حملها على معنى الحيض؟ وقرينة ترجيحه أن العدد في الآية مؤنث ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ، والقرء إذا فسر بالحيضة فهو مؤنث، والصواب في هذه جريها على القاعدة النحوية: أن العدد يخالف المعدود، تقول: ثلاث نسوة، وتقول: ثلاثة رجال، فهنا قال: ثلاثة قروء، ففسروه بالطهر، لأن الطهر مذكر فيحسن تنزيل القاعدة عليه، وبالتالي لا ممسك لهم من الآية.
وكذا احتج القائلون بأن معنى القرء الحيض بحديث عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان[5]، فلو صح هذا الحديث لكان نصاً في الموضوع لكنه ضعيف، بغض النظر عن المدة وكونها للأمة.
ويحتجون بدليل من النظر يقولون: بأن المقصود من العدة استبراء الرحم، ولا يعلم استبراءه إلا إذا خرج الدم، وحاضت، حينها يعلم أنه ليس هناك حمل، ويمكن أن يرد قولهم: بأن الحامل قد يحصل منها حيض، فالحاصل أن المسألة فيها كلام لأهل العلم معروف في محله، لكن ما ينبغي التأكيد عليه أن أكثر المفسرين على القول بأن القرء هو الطهر، وهو مذهب عائشة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، والزهري، والشافعي، ويحتجون بمثل قول النبي ﷺ لابن عمر: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر فتلك العدة[6] والله أعلم.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: وقوله: وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [سورة البقرة:228] أي: من حبل، أو حيض، قاله ابن عباس وابن عمر ، ومجاهد والشعبي، والحكم بن عتيبة والربيع بن أنس، والضحاك وغير واحد.
وقوله: إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تهديد لهن على قول خلاف الحق، ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن؛ لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن، وتتعذر إقامة البينة غالباً على ذلك؛ فَرُد الأمر إليهن، وتُوُعِّدن فيه؛ لئلا يخبرن بغير الحق، إما استعجالاً منها لانقضاء العدة، أو رغبة منها في تطويلها؛ لما لها في ذلك من المقاصد، فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة، ولا نقصان.
فما ذكره ابن كثير - رحمه الله - بأن المراد من قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ أي: من حبل أو حيض، هو المعنى المتبادر من الآية، ولذا اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، ولا يمكن اختصاص اللفظة بأحد المعنيين دون الآخر.
ومرجع الأمر إليهن؛ فإذا ادعت المرأة شيئاً مما يتعلق بالحبل أو عدمه، والحيض أو الطهر قُبل قولها، إلا إذا قامت القرائن أو نحو ذلك على خلافه، ولا يجوز لها أن تكتم شيئاً مما خلقه الله في رحمها، وهن متوعدات إن أخبرن بغير الحق إما استعجالاً منهن لانقضاء العدة، أو رغبة منهن في تطويلها لكونها تريد أن تبقى مع زوجها فتدعي أنها ما رأت الطهر، أو ما رأت الحيض؛ بحسب تفسير القرء لتطول المدة، أو تدعي الحمل وليست بحامل فتجلس تسعة أشهر، وقد تدعي أنها رأت الطهر، أو الحيض، أو أنها حاضت مراراً في شهر واحد، من أجل أن تقطع الطريق علي زوجها؛ لئلا يراجعها، أو لغرض آخر فتشعر أنها تورطت بهذا الحمل الذي قد يكون مانعاً للزوج من التطليق، أو سبباً للشقاق بين الزوجين، وهي تريد أن تأخذ هذا الولد، أو تخشى أن يتشتت هذا الولد بين الأبوين في حال الفراق، فتسكت، ولا تخبر بالحمل، وتدعي أنها تحيض وتطهر، ثم بعد ذلك تتزوج، وتضيف هذا الولد إلى زوج آخر، وإذا وضعت ادعت على الزوج الآخر أن الحمل لستة أشهر...، فهذه كلها من الحيل الداخلة تحت قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ.
وقوله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا [سورة البقرة:228] أي: وزوجها الذي طلقها أحق بردها ما دامت في عدتها إذا كان مراده بردها الإصلاح والخير، وهذا في الرجعيات.فلا يحق للمطلقة طلاقاً رجعياً أن تمتنع، أو لوليها أن يقف دون عودتها، أو يرجع إلى رأيها في حال أراد زوجها إرجاعها، والواجب أن تعتد في بيت زوجها، ولا غضاضة عليها إذا تزينت وتجملت له، فذلك أدعى لمراجعته لها، وأما خروجها فالأصل أن لا تخرج إلا لحاجة، لا يقوم غيرها مقامها، أو في حال اقترافها فاحشة مبينة كما نص القرآن على ذلك قال : وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [سورة الطلاق:1]، والفاحشة المبينة قيل: الزنا، وقيل: عقوق الزوج وأحمائه.
فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن، وإنما صار ذلك لما حصروا في الطلقات الثلاث، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن، وغير بائن.هذه الآية تقرر أحكام الطلاق، وأن للبعل - الزوج - الحق في إرجاع زوجته المطلقة في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة كما قال سبحانه: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا بخلاف المطلقة البائن كما في الآية التي بعدها: الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [سورة البقرة:229] فليس له الحق بعد الطلقات الثلاث أن يراجعها إلا بعد زواجها من رجل آخر، وكذا لو طلقها قبل الدخول بها صارت امرأة أجنبية بمجرد التلفظ بهذه الكلمة، ولا يلزمها عدة، وإذا أراد أن يرجعها فبعقد جديد، ومهر جديد.
وقوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر  أن رسول الله ﷺ قال في خطبته في حجة الوداع: فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف[7] وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده  أنه قال: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت[8]
وقال وكيع: عن بشير بن سليمان عن عكرمة عن ابن عباس - ا - قال: "إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ" رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
دلت هذه المعاني المذكورة في تفسير الآية على أن للرجل والمرأة حقوقاً حيال بعضهما، وليس الحق متوجهاً إلى أحدهما دون الآخر، فكما أن الرجل مطالب بتقوى الله في زوجته، وملزم بأداء حقوقها من نفقة وسكنى ...، فكذا المرأة مطالبة برعاية حقوقه، والقيام على مصالحه المنوطة بها التي ذكرت في الحديث.
ويدخل فيه ما ذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - وهو حق الجماع لكليهما، وفسر به الآية.
وأيضاً يدخل فيه ما اختاره ابن جرير الطبري - رحمه الله - بأن الرجل لا يرجع إلا إذا أراد الإصلاح كما قال سبحانه: إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا، فكذلك المرأة لا تكتم ما خلق الله في رحمها، فابن جرير خص المعروف بأمر يتعلق بالطلاق والرجعة اللذين هما محور خطاب الآية.
وكذلك ما ذكره ابن عباس من أنه يحب أن يتزين لامرأته كما يحب أن تتزين له، فيضع نفسه مكانها في هذه الأمور، فإنها يعجبها منه ما يعجبه منها، وتكره منه ما يكرهه منها، فهذه المعاني جميعها تفسر المراد بقوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
وقوله: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أي: في الفضيلة في الخَلق، والخُلق، والمنزلة، وطاعة الأمر، والإنفاق، والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ [سورة النساء:34]، وقوله: وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ أي: عزيز في انتقامه ممن عصاه، وخالف أمره، حكيم في أمره، وشرعه، وقدره.اختلف أهل التأويل في المراد بهذه الدرجة في الآية وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ؛ لأنها جاءت مبهمة فقيل: هي القوامة، وقيل: ما فضل به الرجل من كمال العقل، وبعد النظر، وحسن التدبير وما إلى ذلك.  
وبعضهم نظر إلى معنىً آخر يختص بالرجل فقال: إنه يلي الإمارة، والنساء لا ولاية لهن من الولايات العامة، وقيل: بل المراد أن الرجل له لحية، والمرأة ليس لها لحية، وقيل: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ بما فضل عليها من الميراث، ودية المرأة نصف دية الرجل.
وابن جرير الطبري - رحمه الله - سرد في معنى الدرجة أقوال جمع من المفسرين، ثم قال: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس: "ما أحب أن أستنزف جميع حقي عليها؛ لأن الله - تعالى ذكره - يقول: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ"، والدرجة في هذا الموضع الصفحُ من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وأداء كل الواجب لها عليه.
ولذلك جاءت عَقب قوله سبحانه: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ فكأنه إخبار منه - تعالى ذكره - أن على الرجل مِن ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها، وحُقوقها، مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهنّ، وغير ذلك من حقوقه.
ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهن بالفضل إذا تركن أداءَ بعض ما أوجب الله لهم عليهن فقال - تعالى ذكره -: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة بتفضّلهم عليهن، وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن، وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس ، وهذا القول وإن كان ظاهرُه الخبر إلا أنه يفهم من معناه ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل؛ ليكون لهم عليهن فضل درَجة، وهذا الوجه في تفسير الآية جيد، ومعناه قريب.
ومن أولى ما يدخل في هذه الدرجة المذكورة ما فضل به الرجل على المرأة حساً ومعنى من كمال العقل،  وقوة البدن، والأطباء يقولون: إن تلافيف عقل الرجل تختلف عن تلافيف عقل المرأة، فتركيبة المخ مختلفة، ولذا فإن الرجل أكثر، وأوفر، وأقدر على التفكير الصحيح من المرأة، وكذا ما ينتج ويترتب عليه مما رتبه الشارع عليه من كونه أهلاً للولاية، ويملك القوامة على المرأة، فكل ذلك راجع إلى هذا المعنى، وقد يوجد في النساء من هي بمثابة الرجل في جسارتها؛ لكن العبرة بالغالب، وهذا الأمر مشاهد في أحوال الرجال، وأحوال النساء، فالمرأة تبع للرجل فطرةً، وشرعاً، ولا تستقل بأمرها، بل يرعاها وليها، ويتولى شئونها، ويحوطها، ويحفظها، ولا تسافر إلا مع ذي محرم ولو كان إلى حج بيت الله الحرام، ولا يخلوا بها الرجل الأجنبي، ولا يتركها القائم بأمرها عرضة لكل أسر، وكاسر، والحاصل من هذا كله أن المرأة أضعف من الرجال في تفكيرها، وعقلها؛ كما أخبر الصادق المصدوق من لا ينطق عن الهوى أنهن ناقصات عقل، ودين[9]، ولذلك كانت هذه الرفعة والمنزلة في الدرجة لحكمة، وملمح عجيب.
  1. رواه البخاري في كتاب الصلح - باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود برقم (2550) (2/959)، ومسلم في كتاب الأقضية - باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718) (3/1343).
  2. رواه مسلم في كتاب الطلاق - باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها برقم (1471) (2/1093).
  3. رواه الدارقطني برقم (36) (1/212).
  4. رواه أبو داود برقم (620) (1/203)، والنسائي برقم (211) (1/121)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (4128).
  5. رواه أبو داود برقم (2191) (2/223)، ورواه الترمذي برقم (1182) (3/488)، وابن ماجه برقم (2079) (1/672)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2189).
  6. سبق تخريجه في الحاشية رقم (3).
  7. رواه مسلم في كتاب الحج - باب حجة النبي ﷺ برقم (1218) (2/886).
  8. رواه أبو داود برقم (2144) (2/210)، وأحمد في مسنده برقم (20011) (33/213)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2142).
  9. رواه البخاري في كتاب الحيض - باب ترك الحيض الصوم برقم (298) (1/116)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله ككفر النعمة والحقوق برقم (79) (1/86).

مرات الإستماع: 0

"وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بيان للعدة، وهو عموم مخصوص خرجت منه الحامل بقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4].

واليائسة، والصغيرة بقوله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية [الأحزاب: 49]، والتي لم يدخل بها بقوله: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب: 49] فيبقى حكمها في المدخول بها، وهي في سن من تحيض، وقد خص مالك منها الأمة، فجعل عدّتها قرءين. و(يتربصن) خبر بمعنى الأمر."

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فهذا كما يقول المؤلف: عام مخصوص. المطلقات الصيغة صيغة عموم دخول (أل) فيدخل فيه كل مطلقة، لكنه يخرج من ذلك الحامل وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] وكذلك من لا تحيض لصغرها، أو لكبرها وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، واللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق: 4]، واللائي لم يحضن يعني كذلك، وهنا يقول: والتي لم يدخل بها لقوله: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب: 49]، طلق المرأة من غير أن يمسها، فهذا خارج عن هذا العموم، فيبقى حكمها في المدخول بها، وهي في سن من تحيض. أخرج منه الإمام مالك الأمة بالقياس، فجعل عدتها قرءين فيتربص خبر بمعنى الأمر يعني هو خبر بمعنى الإنشاء يعني كأنه حكم مقرر ثابت على المكلف أن ينقاد لهذا الأمر الذي قد قُضي، وحُسم فجاء به بصيغة الخبر، يقولون: هذا آكد، وأقوى، وأثبت في تقرير الحكم. أبو داود - رحمه الله - قال: باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث.

وساق حديث ابن عباس - ا - في قوله: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ قال: "وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا فنُسخ ذلك، وقال:الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة: 229][1].

وعند النسائي في قوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا [البقرة: 106]، وقال: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ [النحل: 101]، وقال: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد: 39]، فأول ما نُسخ من القرآن: القبلة، وقال: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ وقال: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ فنُسخ من ذلك قال تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237][2].

والحديث له ألفاظ على كل حال عند النسائي، وغيره.

والذي يظهر - والله أعلم - أن المقصود هنا بذكر النسخ أنه التخصيص، فكانوا يسمون ما يعرض للنص من تخصيص للعام، أو تقييد للمطلق، أو بيان للمجمل كل ذلك يقولون له: تخصيص. إضافة إلى ما تقرر من معنى النسخ عند المتأخرين، وهو الرفع، فهذا كله يقال له: نسخ في كلام السلف. فهنا يقصد التخصيص، أن الآية مخصصة، وليست منسوخة.

"ثَلاثَةَ قُرُوءٍ انتصب (ثلاثة) على أنه مفعول به هكذا قال الزمخشري، و(قروء) جمع قرء، وهو مشترك في اللغة بين الطهر، والحيض، فحمله مالك، والشافعي على الطهر[3]؛ لإثبات التاء في (ثلاثة) فإن الطهر مذكر، والحيض مؤنث، ولقول عائشة: الأقراء هي الأطهار.

وحمله أبو حنيفة على الحيض[4]؛ لأنه الدليل على براءة الرحم، وذلك مقصود العدّة، فعلى قول مالك تنقضي العدة بالدخول في الحيضة الثالثة إذا طلقها في طهر لم يمسها فيه، وعند أبي حنيفة بالطهر منها."

ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ جمع قرء، وهو مشترك في اللغة بين الطهر، والحيض.

المشترك معروف هو اللفظ الذي يدل على أكثر من معنى، فحمله مالك، والشافعي على الطهر لإثبات التاء في ثلاثة فإن الطهر مذكر، والحيض مؤنث. وهذه لغة أهل الحجاز يقولون القرء يقصدون به الطهر، ووجه ما ذكره المؤلف هنا عن مالك، والشافعي - رحمهما الله - أن القاعدة في العدد، والمعدود من جهة التذكير، والتأنيث ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ إذا كان المعدود مذكرًا فإن العدد يؤنث، وإذا كان المعدود مؤنثًا فإن العدد يذكر، تقول: ثلاث نسوة، ثلاثة رجال. فهنا ثلاثة هذا مؤنث، قروء، فالحيضة مؤنثة، والطهر مذكر، قالوا: فجاء العدد مؤنثًا مما يدل على أن المقصود بالقرء الطهر؛ لأنه مذكر. هذه قرينة، ولكن الذين قالوا بأنه الحيض قالوا: جاء هنا تأنيث العدد (ثلاثة) باعتبار لفظ القرء، فلفظ القرء مذكر فروعي فيه اللفظ، لا على أن المعنى أنه الطهر، فالمعنى غير مذكور، وإنما المعتبر اللفظ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لاحظ هذا النظر يترتب عليه اختلاف الحكم يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ومن هنا فالعدة لأي شيء تنتهي؟ إذا قلنا: بأنها أطهار فتنتهي عدتها برؤية الدم، بمجرد رؤية الدم. نهاية الطهر الثالث، وإذا قلنا: بأنها حيضات فيكون ذلك بانقطاع الدم، تنتهي العدة إضافة إلى الاغتسال عند بعض أهل العلم، إذا اغتسلت من الحيضة الثالثة، فأيهما أطول على هذا الأطهار، أو الحيض؟ الحيض يكون أطول في العدة.

يقول: ولقول عائشة: الأقراء هي الأطهار.

وتفسير القرء بالطهر أيضًا مروي عن زيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عباس، إضافة إلى عائشة - ا - وسالم بن عبد الله بن عمر، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وعطاء، وقتادة، والزهري، وأبان بن عثمان، وبه قال الشافعي - رحمه الله -[5] وذكر هنا المؤلف أيضًا الإمام مالك - رحم الله الجميع - وإطلاق القرء على الحيض هذا لغة أيضًا، يقول: لقول عائشة: الأقراء هي الأطهار.

وكذلك حديث: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء[6].

يقول: حمله أبو حنيفة على الحيض؛ لأنه الدليل على براءة الرحم، وذلك مقصود العدة. فعلى قول مالك تنقضي العدة بالدخول في الحيضة الثالثة إذا طلقها في طهر لم يمسها فيه، وعند أبي حنيفة بالطهر منها.

القول بأن القرء هو الحيض هذا عند أهل العراق، وهو مروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس في رواية، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وعمرو بن دينار، وعن أصحاب النبي ﷺ يرويه عمرو بن دينار عن الصحابة، وكذلك جاء عن سعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، وعكرمة، والشعبي، وقتادة في رواية، والربيع بن أنس، ومقاتل، والسدي، وعطاء الخرساني، والضحاك، وابراهيم النخعي، وسعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود، وطاوس، وابن سيرين، ومكحول[7].

وبهذا قال الإمام أحمد - رحمه الله -: أنه الحيض[8]؛ لحديث: المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل، وتصلي[9] يعني: أيام الحيض، والواقع أن حديث: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر يدل على أي المعنيين؟ على أنه الطهر، لو كان الحيض كان تحيض ثم تطهر، وذكر ابن جرير أن أصل معنى القرء في اللغة: هو وقت مجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم وقت إدبار الشيء الموقت إدباره بوقت معلوم؛ لأنه بمعنى الوقت، ومن هنا اختلفوا في معناه، هل هو وقت الطهر أم،وقت الحيض؟ وكما ترى كل قول من هذين قال به هؤلاء الأئمة من الصحابة  فمن بعدهم.\

"ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ يعني: الحمل، والحيض."

وذلك أن ظاهره العموم مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ وهذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وبه قال ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، والشعبي، والحكم، والربيع، والضحاك[10] واختاره أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ[11].

يعني: هي قد تُخفي الحيض لتطول العدة مثلًا إذا قلنا بأنه الطهر، فلا تذكر أنها حاضت الحيضة الأخيرة التي بعد الطهر الأخير، وإذا قلنا بأنه الحيض فقد تخفي أنها طهرت، وقد يكون العكس، تزعم أنها حاضت، وهي لم تحض لتقصر عليه طريق الرجعة، هي لا تريد أن يرجع، بل قد تدعي أنها حاضت، وطهرت حصل لها ذلك ثلاثة قروء في شهر واحد، والفقهاء يتكلمون في مثل هذا فيما لو ادعت المرأة هل يُقبل قولها أو لا، أو ينظر في أخواتها، ونحو ذلك من أهل بيتها هل هذا من عادتهم أو لا؟ لأنه قليل أن توجد امرأة تحيض، وتطهر ثلاث مرات في شهر واحد، قد يوجد، فلو ادعت هذا لتقطع عليه طريق الرجعة، وقد تكون المرأة حامل، وطلقها الرجل، وهي في الشهر الأول مثلًا فتطول عليها العدة فتخفي الحمل من أجل ألا يطول عليها الاعتداد عنده، وتدعي أنها حاضت، وطهرت، فلا يجوز لها أن تكتم ما خلق الله في رحمها، لأن مثل هذه القضايا كيف يطلع الناس عليها؟! إنما ذلك يرجع إليها أنها حاضت، أو طهرت، فقد تريد تطويل المدة، وتقد تريد تقصير العدة.

"وَبُعُولَتُهُنَّ، جمع بعل، وهو هنا الزوج فِي ذلِكَ أي: في زمان العدّة.."

وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ يعني: في وقت العدة بمعنى أنها لا تملك هي الامتناع، ولا يملك، وليها ذلك.

"وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ، من الاستمتاع، وحسن المعاشرة."

الحافظ ابن القيم - رحمه الله - حمله على الاستمتاع[12]، وهو بعض معناه، وإلا فحسن المعاشرة داخل فيه، وكذلك يمكن أن يقال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ من الحقوق، فعليه حقوق، وعليها كذلك، ولهذا حمله ابن جرير - رحمه الله - على أنه كما أن الرجل لا يراجع إلا إذا أراد الإصلاح، فكذلك هي لا تكتم ما في بطنها لتفوت حقه[13].

فهذا كله داخل فيه وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ من الحقوق، وحسن الرعاية، والمعاشرة بالمعروف، وما ذُكر من الاستمتاع داخل فيه، فهي لها غريزة تزوجت من أجل أن تعف نفسها، وكذلك الرجل فلا يصح أن يلتفت إلى نفسه، ويعرض عنها، وعن حاجاتها، ومتطلبات نفسها؛ فإن ذلك يكون من قبيل الظلم، وهذا أيضًا يورثه بُغضًا عميقًا في نفسها، ونفورًا، فالكثير من النساء تنفر، وتقع مشكلات كثيرة، ومتفاقمة لأتفه الأسباب أحيانًا، يكون البيت غير مستقر، الحياة قلقة، والرجل لا يدري، وحينما تعبر المرأة أحيانًا لمن تسأله أو تستشيره أو لمن يوجه إليها السؤال لماذا تفعلين كل هذا؟.

أحيانًا تذكر أن هذا الرجل يعني: يتصف بالأنانية، فهو يقضي وطره بلحظات، ثم يتركها لا يبالي بها، وبعضهن تصرح له بذلك، ولا يبالي، فيُوجد نفورة شديدة عند المرأة من هذا الزوج، وتكرهه، وتبقى النفس في حال من التوتر، والضيق، والقلق، ودائمًا تجد المشكلات، والأصوات التي ترتفع في هذا البيت، وهذا قد يحمل بعض النساء على ركوب المراكب الصعبة، فتقع في الفاحشة، ونحو هذا باعتبار أنها مهملة، متزوجة كأنها غير متزوجة، بل حال غير المتزوجة أرفق؛ لأنها تقول بأنه يستثير غريزتها، ثم بعد ذلك لا تقضي وطرها.

"دَرَجَةٌ في الكرامة، وقيل: الإنفاق، وقيل: كون الطلاق بيده."

هذه الدرجة قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يعني: في الفضيلة، والخلق، والمنزلة، والطاعة، والأمر[14] فيجب عليها أن تطيعه فيه، والانفاق، والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا، والآخرة، يعني: الرجل له عليها درجة، مرتبة؛ لأنها يجب عليها أن تطيع الزوج، والقوامة بيده، والطلاق بيده، يعني هو صاحب القرار، وكذلك قيل: في الميراث، والجهاد أنه مفضل بذلك.

وبعضهم قال: لأن له لحية. كأن هذا أراد أن يذكر مثالًا على ما يتميز به الرجل عن المرأة؛ فإذا كان الرجل يلقي ذلك عنه، ويتخلص منه فقد أزال تلك المرتبة عند هؤلاء، وبعضهم يقول في التغاضي عن حقه التسامح، والإغضاء، والتغافل؛ ولهذا جاء عن ابن عباس - ا -: ما أحب أن أستوفي حقي منها[15].

يعني كما جاء عن الحسن: ما استوفى كريم قط[16]. هذا مثل، يعني: كان يرى الدرجة هذه هي في التفضل، والإغضاء، والتغافل، لا يستنطف حقه في كل قضية يقف عندها، ويريد مفاصل الحقوق، وهذا المعنى اختاره ابن جرير - رحمه الله -[17] فهذه الدرجة على كل حال تشمل الفضائل التي أعطاها الله للرجل، وميزه فيها الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء: 34]، فالتفضيل هذا نوعان:

النوع الأول: وهبي. هو بما منحه الله من القوى، والقُدر، والإمكانات العقلية، والبدنية، فلو تنظر إلى النخيل التي تراها في الطرق الفحل من النخل يتميز بضخامة الجذع، والكرب ضخم، والطلع ضخم، تعرف الفحل من النخل بهيئته بمجرد ما يقع عليه البصر، بخلاف النخلة غير الفحل، كذلك إذا نظرت إلى الفحل من الإبل، ومن الغنم، بل حتى الطيور، الديك، ونحو ذلك هذه خِلْقة ميزه الله في الهيئة في الخِلقة، فهذا، وهبي، والعلماء يقولون: بأن تلافيف عقل الرجل أكبر من تلافيف عقل المرأة. يعني عقل الرجل أكبر من عقل المرأة، وعندهم من رباطة الجأش، والقوة، والثبات، والقدرة على اتخاذ القرار ما لا يكون عند المرأة.

النوع الثاني: كسبي هو وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ انفاق المال، الذي ينفق فيكون سيدًا، الذي يبذل، ويتولى النفقة يكون له السيادة، فالرجل لا يصح أن يتخلى عن هذا الدور، ولو كانت امرأته كما يقال: موظفة. أو كان عندها مال، أو كانت غنية، أو نحو ذلك، لا يتخلى عن هذا الدور؛ لأنه إذا تخلى عنه معنى ذلك أنه سيتخلى عن شطر سيادته، أو سبب السيادة القيادة، ثم بعد ذلك تنازعه المرأة، فإذا قال كلمة، قالت كلمة، فهذا خطأ، لا تأخذ منها شيئًا، ولو كانت غنية، انفق. 

  1. أخرجه أبو داود، كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، رقم: (2195).
  2.  أخرجه النسائي، كتاب الطلاق، ما استثني من عدة المطلقات، رقم: (3499).
  3.  الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (2/33)، مختصر المزني (8/322).
  4.  البناية شرح الهداية (5/596).
  5.  تفسير ابن كثير (1/606)
  6.  أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، رقم: (5251)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف، وقع الطلاق، ويؤمر برجعتها، رقم: (1471).
  7.  تفسير ابن كثير (1/608).
  8.  العدة شرح العمدة (ص: 52).
  9.  أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب من قال تغتسل من طهر إلى طهر، رقم: (297)، والترمذي، باب ما جاء أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، رقم: (126).
  10.  تفسير ابن كثير (1/609).
  11.  تفسير الطبري (4/523).
  12.  روضة المحبين، ونزهة المشتاقين (ص: 215).
  13.  تفسير الطبري (4/532).
  14.  تفسير ابن كثير (1/610).
  15.  الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/661)
  16.  تفسير القرطبي (18/187).
  17.  تفسير الطبري (4/535).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:228].

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، المطلقات اللاتي هن من ذواتي الأقراء، من ذوات الحيض، يعني ليست صغيرة لم تبلغ، وليست كبيرة بلغت سن اليأس، فهذه إن لم تكن حاملاً، فإن عدتها ثلاثة قروء، فذوات القروء يخرج منهن ثلاثة أصناف: الصغيرة والآيسة وحامل.

فهنا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، يعني: هذا أمر جاء بصيغة الخبر، يَتَرَبَّصْنَ، يعني: عليهن أن يتربصن، يجب أن يتربصن، فالصيغة صيغة خبر، ولكن المعنى الأمر، وسيأتي ما فيه إن شاء الله، يتربصن يعني في مدة العدة، فلا يتزوجن ثلاثة قروء والقُرء لفظ مشترك بين معنيين متضادين، الأول: وهو الحيض، وهذا الذي عليه الجمهور من السلف فيمن بعده ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، ويستدلون على هذا بأدلة منها: قول النبي ﷺ للمستحاضة: انظري أيام أقرائكِ[1]، يعني: أيام الحيض.

والقول الآخر: قال به جماعة من الصحابة فمن بعدهم: وهو أن القُرء بمعنى الطُهر، يتربصن ثلاثة أطهار، ويتسدلون على ذلك في جملة ما يستدلون به، وهي لغة لبعض العرب، يستدلون بتأنيث العدد، ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، قالوا: فالطُهر مُذكر، وإذا كان المعدود مُذكرًا؛ فإنه يؤنث العدد، ثلاثة قروء، ثلاثة رجال، ثلاثة كتب، وإذا كان المعدود مؤنثًا فإن العدد يُذكر ثلاث نسوة، ثلاث ساعات، فقالوا: الحيضة مؤنثة والطُهر مذكر، فلو كان المقصود الحيضات لقال ثلاث قروء؛ لأن المعدود مؤنثًا، ولكنه قال: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، يعني: أطهار، فالطُهر مذكر.

لكن الأوليين، قالوا: روعي اللفظ فإن لفظ قُرء مذكر، على كل حال المسألة فيها خلاف مشهور يترتب عليه اختلاف في المدة والعدة، فمن قال: ثلاثة أطهار فتحتسب الطُهر الذي طُلقت فيه، ثم بعد ذلك تحيض، ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإذا رأت الدم يعني نهاية الطُهر الثالث تكون عدتها قد انقضت، ومن قال بأن ذلك ثلاث حيضات، قالوا هي تُطلق في طُهر لم تُجامع فيه، ثم يأتي بعده حيض هذا الأول، ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم تحيض، فإذا طهُرت من الحيض الثالث تكون العدة قد انتهت، فهذا أطول من الأول، من الأطهار.

وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ، هذه العدة بالنسبة للمُطلقة لحِكم، من هذه الحِكم: أن ذلك، يعني الاستبراء استبراء الرحم أن الرحم ليس فيه حمل، من أجل أن تتزوج بعده، فيُستبرأ الرحم بهذه المدة، المُطلقة الرجعية يُراد هذا المعنى وزيادة، وهي: أن تبقى عند الرجل هذه المدة في بيته، لا يجوز أن تخرج، وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [سورة الطلاق:1].

فلغة وداها لأهلها، هذه لغة مرفوضة شرعًا، للأسف أصبح يُعبر عن الطلاق بمثل هذا، وداها لأهلها، لا يجوز أن يوديها لأهلها كما يقولون، بل يجب أن تبقى عنده في بيته، فحينما تبقى عنده هذه المدة ثلاثة قروء في الطلاق الرجعي، تتزين له، وتنام في فراشه، ولا تخرج لسوق، ولا لغير سوق إلا لحاجة لا يقوم غيرها مقامها فيها، ففي هذه الحال يكون ذلك أدعى للرجوع، فإن كان ذلك الطلاق لغضب عارض أو نحو ذلك؛ فإن الرجل لا يصبر عن امرأته عادة هذه المدة، ثلاثة قروء، وهي عنده في البيت لا يُجامعها، تحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثلاث مرات، وهي عنده لا يقرب امرأته هذا بعيد، إلا إذا كانت نفسه قد طابت منها تمامًا، ولديه قناعة كاملة أن هذه المرأة لا تصلح له، فليست المسألة مسألة غضب عابر، فالغضب يزول في يوم أو يومين أو ثلاثة أيام، ثم لا يصبر عن امرأته فهذا من الحِكم في العدة، لكن التي لا تعتد هي التي طُلقت قبل الدخول هذه لا تعتد، بمجرد ما يُطلق تبين منه.

وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ، يعني: يحرم، أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ، يعني: سواء كان الحمل من أجل أن تُقصر المدة، مدة العدة، لأنها إذا كانت حامل في الشهر الأول مثلاً فستجلس تسعة أشهر إلى أن تضع الحمل فالعدة طويلة، فلربما تكتم المرأة هذا تريد أن تُفارق الرجل، فهذا لا يجوز أن تكتم ما خلق الله في رحمها، وكذلك قد تدعي أنها حاضت وطهُرت، وتكتم الحيض الذي خلقه الله في رحمها، يعني: من أجل أن تُنهي عليه، تفوت الفرصة لئلا يُراجع فتدعي أنها طهُرت، إذا قلنا بأن القروء هي الحيضات لتفوت عليه الرجعة، وإذا قلنا بأن القروء هي الأطهار فتدعي أنها قد حضت، يعني: انتهت العدة ذهب الطُهر الأخير، فهذا لا يجوز أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، ولاحظ تنمية الرقابة؛ لأن هذه مسألة تتعلق بالذمة والأمانة، لا يطلع عليها أحد، فقال الله -تبارك وتعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فلا يحل لهن ذلك فتُراقب ربها في هذا.

ثم قال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا، البعولة يعني الأزواج، أحق بالمراجعة في العدة، ليس لها أن تمتنع، وليس لها خيار في هذه القضية، غاية ما هنالك أنه في العدة يقول: راجعتكِ، أو يقول: راجعت فلانة أو راجعت امرأتي، أو يُجامع، أو يُقبل، أو يُباشر بنية الرجعة عند الجمهور، فليس لها خيار في هذه القضية، ليس لها فيها قرار أنها تقبل، أو ترفض، لكن اختلفوا في الإشهاد لا شك أنه يُستحب استحبابًا مؤكدًا، لكن هل يجب أو لا يجب؟ هذا موضع خلاف، لكن هذه الرجعة أيضًا وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا، بهذا القيد، يعني: لا يُراجع من أجل المُضارة، يطول عليها مدة الأذى، والإقامة معه، ويحرمها من التزوج بغير مثلاً، فإذا أوشكت العدة أن تنتهي قال راجعتكِ، ثم بعد ذلك يُطلق، ثم تستأنف عدة جديدة؛ فإذا بقي لها يوم واحد قال لها: قد راجعتكِ، دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض[2]، فلا يجوز له أن يُراجع من أجل المُضارة أن يقصد الضرر، لكن إن أراد الإصلاح في العشرة، أن يُعاشر بالمعروف، وأن يرأب الصدع، فهو أحق بذلك.

ولاحظ هذه التوجيهات الربانية، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، لها مثل الذي عليها، هو يطلب منها أن تتجمل له وأن يستمتع بها يُطالبها بحقوقه، فكذلك لها من الحقوق مثل الذي عليها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الهدايات المُستخرجة من هذه الآية.

فلا يُطالب الرجل بحقوقه فحسب، بل هي أيضًا لها حقوق يجب أن يؤديها لها، وكذلك أيضًا الرجال لهم على النساء درجة، وهذه الدرجة منزلة زائدة بما جعل الله للرجل من القوامة، فهو سيدها، والطلاق بيده، فهو صاحب القرار والمُبادرة، وكذلك أيضًا ألا يستوفي حقه وحظه منها كما سيأتي، التفضل بالتغاضي والإعراض والتغافل ونحو ذلك.

والله -تبارك وتعالى- عزيز حكيم، عزيز له العزة القاهرة، والحكمة البالغة يضع الأشياء في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، وسيأتي الكلام على هذا في الهدايات.

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ، يقول الإمام أحمد -رحمه الله: تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الرجعي، هذا نقله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن الإمام أحمد، كل طلاق في القرآن فهو الرجعي[3]، ومثل هذا يسمونه في العلوم المُتعلقة بالقرآن الكُليات، كل كذا في القرآن فهو كذا، يُقال له الكُليات.

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ، لاحظ أنه جاء بهذا الأمر بصيغة الخبر يَتَرَبَّصْنَ، وهو أمر، أمر لهن بالتربص، لكن حينما يأتي بصيغة الخبر يكون هذا آكد، كأن هذا الأمر قد فُرغ منه، وأُقر، ولا مُراجعة فيه، وليس لأحد أن يستدرك، أو ينتظر غير ذلك، فهذا أمر محسوم عليها أن تتربص هذه المدة، يعني: على المُكلف أن يتلقى ذلك بالمُبادرة والمُسارعة، ولا يتردد فهو يُخبر عنه كأنه شيء واقع موجود، مثل ما نقول في الدعاء: رحمك الله، هذا خبر،  والمقصود به السؤال والدعاء لك بالرحمة، غفر الله لك، المقصود به الدعاء، لكنه جيء به بصيغة الخبر ثقة بالاستجابة، كأنما وجدت الرحمة فهو يُخبر عنها.

وهنا وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ، قدم المُطلقات على ما يتعلق بهن من الحكم وهو التربص؛ وذلك فيه من التأكيد ما لا يخفى؛ لأن الحكم يتعلق بالمطلقات، وهي المقصودة من قام بها هذا الوصف، ولاحظ التعبير بقوله: يَتَرَبَّصْنَ، يعني: كأن المرأة يُنازعها شيء، يدفعها شيء يحثها على أن تُنهي علاقتها بهذا الزوج الذي طلقها بأقصر مدة، فعُبر بالتربص هنا الذي يحتاج إلى شيء من التثبيت النفس وقهرها، من أجل أن تستقر هذه المدة غير مُتطلعة للأزواج، وقد تعجبون من هذا في مثل هذا الوقت للأسف، الذي صارت المرأة إذا طُلقت تبقى لا يكاد يتقدم لها أحد إلا لربما من لا ترغب فيهم، كمن يكون من ذوي الزوجات، أو كبار السن، أو نحو ذلك هذا هو الغالب، لكن عند العرب الأوليين كانوا ينظرون إلى صفة المرأة، بصرف النظر عن كونها مُطلقة، أو غير مُطلقة، ما هي المواصفات، ولذلك في المتوفى عنها زوجها نهى الله -تبارك وتعالى- عن التصريح لها بالخِطبة والمواعدة، لكنه رخص أن يقولوا قولاً معروفا، التعريض، كأن يقول أنا أبحث عن امرأة هذه الأيام، مثلك يرغب فيه الرجال، ونحو ذلك من باب التلميح، لكن لا يواعدها.

الذي يقرأ مثل هذه الآية يتعجب هل يتسابق الرجال على المرأة المتوفى عنها؟ الجواب: نعم، كانوا يتسابقون بمجرد ما تنتهي من العدة يتقدم لها الخُطاب، يتقدم لها مجموعة من الناس، وعند ذلك تتخير منهم، وهذا لا زال موجودًا في بعض البيئات إلى اليوم، أعتقد أن ذلك لم يزل في مثل بلاد موريتانيا إن كانت الحال لم تتغير على ما عهدته، فهم ينظرون إلى مواصفات المرأة، ولا ينظرون إلى كون المرأة مطلقة، أو ليست مطلقة، فهنا قال: يَتَرَبَّصْنَ، يُقال لها تربصي بنفسك، يعني: انتظري لا تعجلي.

كذلك يؤخذ من هذه الآية: ما على المؤتمن الذي لا يعلم بأمانته إلا لله -تبارك وتعالى، أنه ينبغي أن يُذكر بمُراقبة الله ويخوف من عذابه إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فلا تكتم ما خلق الله في رحمها إن كانت تؤمن بالله، لا أحد يعلم أنها طهُرت، أو أنها حامل، أو غير حامل، وإنما ذلك بينها وبين الله فقد تقول إنها طهُرت من الحيض لتفوت الفرصة على هذا الزوج وتُفاجأ الزوج بذلك، بل قد تدعي أنها حاضت، وطهُرت إلى آخره ثلاثًا في شهر واحد، لكن هذه للفقهاء فيها كلام إن لم يكن لها إن ادعت هذا، ولم يكن عادة لها يُنظر في أخواتها، ومن حولها قريباتها، هل هن كذلك، يعني: يحضن في شهر ثلاثًا أو لا؟ فقد تدعي هذا في شهر واحد أنها جاءها الحيض ثلاث مرات، فمثل هذا بينها وبين الله فهذه أمانة، وهذه الشريعة فيها أمانات، وفيها شعائر، وإن كان الكل أمانة لكن الفقهاء يقسمون هذا التقسيم، فالأمانة مثل الطهارة الغُسل من الجنابة، الصوم، مثل هذه القضية التي ذكرنا، هذه أمانات لا أحد يعلم أنه مُفطر أو صائم، ولا أحد يعلم أنه اغتسل من الجنابة أو تطهر من الحدث أو لا، والشعائر مثل الأذان التكبير في الأعياد التلبية، إعفاء اللحية، ونحو ذلك من الأمور الظاهرة، صلاة الجماعة هذا كله من الشعائر.

وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما: "إني أُحب أن أتزين لامرأتي كما أُحب أن تتزين لي؛ لأن الله يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ"[4].

فابن عباس -رضي الله عنهما- جعل هذا مما يدخل فيه، قضية الزينة وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، والواقع أنه لا يكون بالزينة فقط، بل سائر الحقوق من المعاشرة بالمعروف، والاستمتاع، ونحو ذلك من أداء كل طرف للطرف الآخر حقوقه من غير مطل، ولا تكدير، ولا تنغيص، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية حينما أضاف ذلك إلى المعروف وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، المعروف يعني العُرف يختلف من بلد إلى بلد، القرية والمدينة والزمان، المعروف في زمن النبي ﷺ غير المعروف في هذا العصر، المعروف في البادية غير المعروف في الحاضرة، لو جاء هنا في هذا العصر في بلد مثل هذا، وقال: أنا أُريد أن أُسكن هذه المرأة كما يسكن أبي جدي أبوه وجده في البادية، ووضع لها بيت شعر في البلد، شاف أرض فضاء وضع بيت شعر، وقال اجلسي في هذا، هذا الكلام غير صحيح، لو أراد أن يُطعمها كما يطعم الناس في زمن النبي ﷺ يمضي الهلال والهلال والهلال في بيت النبي ﷺ، ولا يوقد نار إنما طعامهم الأسودان التمر والماء، وقال لها: لك أسوة، في هذا العصر الوضع يختلف.

لو أرد أن تسكن هنا في هذا البلد في بيت من لبن والسقف من جريد، وقال الذي يسع أو وسع أزواج النبي ﷺ يسعكِ، الوقت غير الوقت، فهذه القضايا أحال الله فيها إلى المعروف، فهو غير مُقدر، الذي كان قبل مائة سنة غير الذي الآن، الذي في البلد الفلاني غير الذي في هذا البلد، الذي في القرية ليس كالذي في المدينة، الذي في الصحراء ليس كالذي، وهكذا، فيُعاشر بالمعروف، ولها من السُكنى بالمعروف، والنفقة بالمعروف، وما إلى ذلك، الطعام والشراب، فيُرجع في ذلك إلى العُرف الغالب.

كذلك أيضًا لما قال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، قال: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، لئلا يُظن أنه يستوي الرجل والمرأة في كل الحقوق والواجبات، لا الرجل له درجة، ما هذه الدرجة التي فُضل فيها الرجل؟ يدخل فيها التفضيل الوهبي، التفضيل الوهبي مثل أن الله جعل عقل الرجل ليس كعقل المرأة، وجعل له الطلاق، جعله بيده، وجعل له من القوة البدنية ما ليس للمرأة، بدن الرجل غير بدن المرأة، وجعل له من القدرة على اتخاذ القرار والمُضي فيه ونحو ذلك ما ليس للمرأة.

وهناك تفضيل كسبي الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [سورة النساء:34]، فالنفقة فالذي يُنفق هو السيد، فلا يصح أن الرجل يطلب من المرأة أن تُنفق عليه، فالقوامة تقوم على أصلين: هذا التفضيل الوهبي، والتفضيل الكسبي، وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فهذه ينبغي أن تُعتبر وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، فهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء، والمرأة خُلقت من ضِلع كما هو معروف، ومن ثَم فإنها لا تخرج عن طاعته بالمعروف، لكن هذه الدرجة وهذا التفضيل يُراعى فيه حُسن الرعاية، وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما، وانظر إلى فهم السلف  قال: "ما أُحب أن أستوفي حقي منها"[5]، ما أُحب أن أستوفي حقي منها، يعني: يرى أن الدرجة هي التفضل بالإغضاء والتسامح والإعراض والتغافل أن لا يستنطف حقه كله.

ليست العلاقة بين الرجل والمرأة هي علاقة مُفاصلة في الحقوق، هي تريد كل حقوقها إلى آخر حد، وهو يريد حقوقه إلى آخر حد، لا، العلاقة أكبر من هذا، هو يتنازل عن بعض حقوقه، وتتنازل عن بعض حقوقها ليلتئم الشمل، أما أن الرجل لا يفوت شيئًا فهذا غير صحيح، فهذا هو التفضيل عند ابن عباس -رضي الله عنهما- وكذلك أيضًا جاء عن الحسن البصري -رحمه الله- نحو هذا: "ما استقصى كريم قط"[6].

فالكريم يتسامح، والشيخ محمود شاكر -رحمه الله- لما علق لابن جرير على أثر ابن عباس هذا علق تعليقًا أبدع فيه وأطال يحسُن مراجعته، في التكرم والتفضل.

لكن لاحظوا هذا التعقيب: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لما جعل للرجال هذه المرتبة وهذه الدرجة من القوامة والسيادة ونحو ذلك، ذكرهم أن لا يستغلوها بالعسف والقهر وابتزاز المرأة، ونحو ذلك قال: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فيد الله فوق الجميع، فإذا كان له القوامة، فيد الله فوقه، فليعلم أن الله عزيز لا يجوز له أن يستغل هذه القوامة والدرجة في التلاعب بالمرأة وتضييع حقوقها والقهر لها، والله تعالى أعلم. 

  1. أخرجه الدارقطني، كتاب الحيض، رقم: (818).
  2. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق، يقتلن في الحرم، رقم: (3318)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي، رقم: (2619).
  3. مجموع الفتاوى (32/ 293).
  4. تفسير ابن كثير (1/ 610).
  5. تفسير الطبري (2/ 462).
  6. تفسير البغوي (8/ 164).