الأحد 25 / ربيع الأوّل / 1446 - 29 / سبتمبر 2024
ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا۟ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْـًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِۦ ۗ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۝ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:229-230].
هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات؛ قصرهم الله إلى ثلاث طلقات، وأباح الرجعة في المرة، والثنتين، وأبانها بالكلية في الثلاثة فقال: الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.
من أهل العلم من استنبط من التعبير بقوله: الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ملمحاً دقيقاً وهو أن الطلاق لا يقع حتى يكون مرة بعد مرة، فلا يطلق الإنسان تطليقاً مجتمعاً بلفظ واحد كأن يقول: أنت طالق ثلاثاً، أو يقول لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، أو يقول لها: أنت طالق وطالق في مرة واحدة سواء بلفظ واحد أو بالتكرار، ولو كان ذلك متفرقاً في العدة الواحدة، والله أعلم.
قال أبو داود - رحمه الله - في سننه: باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث، ثم روى عن ابن عباس - ا -: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً، فنسخ ذلك فقال: الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ الآية، ورواه النسائي.إذا اعتبرنا هذا الأمر مما كان عليه الناس في الجاهلية، ولم ينزل حكم يتعلق به، فهذا يعتبر ابتداء حكم جديد وهو ما يعرف عند الأصوليين بمسألة البراءة الأصلية فلا يعتبر نسخاً.
وأما إذا أقرهم الشارع على هذا الأمر حتى صار الناس يطلقون بعدد لا حصر له، ثم بعد ذلك حُد بالثلاث فيكون ذلك من قبيل النسخ، والله أعلم.
وروى ابن أبي حاتم عن عروة أن رجلاً قال لامرأته: لا أطلقك أبداً، ولا آويك أبداً، قالت: وكيف ذلك، قال: أطلقك حتى إذا دنى أجلك راجعتك، فأتت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له، فأنزل الله : الطلاق مرتان ... وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره.
وقوله: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [سورة البقرة:229] أي: إذا طلقتها واحدة، أو اثنتين؛ فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية بين أن تردها إليك ناوياً الإصلاح بها، والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك، وتطلق سراحها محسناً إليها لا تظلمها من حقها شيئاً، ولا تضار بها.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - قال: "إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في ذلك - أي في الثلاثة -، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئاً".
ما ذكره ابن كثير في تفسير الجملة من الآية هو المعنى القريب والمتبادر، وبعض أهل العلم يقول: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ بأن يطلقها الثالثة قاله جماعة من السلف، وابن جرير - رحمه الله - ساق في تفسيره معنى للآية لكن فيه غرابة وبُعد.
فقوله: وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [سورة البقرة:229] أي: لا يحل لكم أن تضاجروهن، وتضيقوا عليهن؛ ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه كما قال تعالى: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [سورة النساء:19]، فأما إن وهبته المرأة شيئاً عن طيب نفس منها فقد قال تعالى: فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا [سورة النساء:4].قوله سبحانه: وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا أي: لا يحل لكم أيها الأزواج أن تأخذوا مما أعطيتم نساءكم من المهور أو غير المهور، مما اعتاد الناس في بعض أحوالهم على إعطائه للنساء وإن لم يعد ذلك من قبيل المهر، إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله.
يقول: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ يعني لا يضايقها ويضارها حتى يرغمها على طلب الطلاق، فتفتدي نفسها، فترجع إليه المهر أو بعض المهر؛ فهذا لا يحل، لكن إن تعذرت المعاشرة بين الزوجين، وكانت المرأة غير مطيقة للرجل؛ فعندئذ لا جناح عليها أن تفتدي منه.
وأما تحديد الصداق المرجوع فمن أهل العلم من يقول: إن ذلك يكون بأقل من الصداق الذي أعطاه؛ وبما لا يزيد عليه، ومنهم من يقول: إن ذلك لم يحد بحد كما قال الله : وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا فيجوز لها أن تفتدي بأقل، أو بأكثر، أو بالمهر الذي دفعه لها، ولا يعلم دليل على تحديد شيء من ذلك، واستدل القائلون بالتحديد بقول النبي ﷺ لامرأة ثابت بن قيس: أتردين عليه حديقته[1]، والصواب أن دلالة الحديث ليس فيها ما يدل على عدم مشروعية أخذ أكثر من المهر المسمى بينهما، لكنه دليل على جواز الافتداء بالمهر وما دونه من باب أولى، والله أعلم.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: وأما إذا تشاقق الزوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل، وأبغضته، ولم تقدر على معاشرته؛ فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها له، ولا حرج عليه في قبول ذلك منها، ولهذا قال تعالى: وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [سورة البقرة:229] الآية.المراد بحدود الله هو: ما أوجبه الله من الحقوق بين الزوجين، فإذا كانت المرأة كارهة للرجل، نافرة منه، مبغضة له، تخشى أن تضيع حقوقه، أو يصدر منها عقوق تجاهه؛ مما مؤداه أن يعاملها بنفس المعاملة فيقع التقصير والتضييع من كل واحد من الطرفين؛ فحينئذ لها أن تفتدي منه بما أعطاها، وهذا ما يسمى بالخلع وهو: ما كان بعوض عند عامة أهل العلم.
وأما إذا كان الرجل هو الذي لم يعد له رغبة في المرأة، وأبغض عشرتها، فينبغي عليه أن يطلق إذا ترجحت المصلحة في ذلك، ولا يجوز له أن يطالبها بأن تفتدي منه، أو أن يضيق عليها من أجل أن تطلب الطلاق، وتفتدي نفسها.
قوله سبحانه: إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ في بعض القراءات: بُنِي الفعل خاف على المجهول يُخافا وهي قراءة متواترة قرأ بها حمزة من السبعة، وعليه فيكون هذا الخوف مبهم الجهة إما صادراً من الزوجين، أو صادراً من أهل الإيمان المحتفين بهم، والمطلعين على أمرهم من أهل وقرابة، أو عقلاء الناس، أو يكون ذلك التخوف من قبل الولاة كالقاضي إذا عُرض عليه ذلك، ورأى أن الحياة بهذه الطريقة قد تتعذر، فعند ذلك يحصل الخلع، ولأهل العلم كلام في إيقاع الخلع هل يكون عن طريق القاضي أو الحاكم، أو أنه يقع بين الزوجين ولو لم يوقعه حاكم؟ فمن ذهب إلى أن الخلع ليس بيد الزوجين قالوا: لأن الله قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ولم يقل: فإن خافا، كما في جاء في الجملة قبلها للدلالة على أن المراد الحاكم أو العصبة المؤمنة، والمعنى فإن خفتم أيها الحكام، أو أيها المؤمنون...، وابن جرير - رحمه الله - يجعل الخطاب في الآية متوجهاً لأهل الإيمان، ويدخل فيهم القاضي ومن في معناه، والله أعلم.
ومن أهل العلم من يرى أنها منسوخة بالآية الأخرى وهي قوله - تبارك وتعالى -: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً [سورة النساء:20]، إلا أن النسخ لا يثبت بالاحتمال كما هي القاعدة المعروفة، ويمكن الجمع بين الآيتين بالقول بأنه لا يجوز للرجل أن يأخذ مما أعطاها، ونحلها من المهر مقابل ما استحل من بضعها شيئاً، إلا أنه يستثنى من ذلك إذا هي فرطت في حقوقه، وكرهت مقامها عنده، أو طلبت الطلاق ابتداء؛ فعندئذ له أن يأخذ منها ما تفتدي منه نفسها، وكذا إذا أعطته بمحض إرادتها، وطيب نفسها دون إكراه وتخوف، والله أعلم.
فأما إذا لم يكن لها عذر، وسألت الافتداء منه؛ فقد روى ابن جرير عن ثوبان أن رسول الله ﷺ قال: أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة[2]، وهكذا رواه الترمذي وقال حسن.وقد جاء عند الترمذي من حديث ثوبان مرفوعاً إلى النبي ﷺ: المختلعات هن المنافقات[3]، وفي بعض الروايات: المختلعات والمنتزعات[4]، فالمختلعات: يعني التي تطلب الخلع، وفسرت المنافقات بأنها المطيعة ظاهراً لا باطناً، ويحمل الحديث على المرأة التي تطلب الطلاق من غير مبرر معتبر، أما إذا لم توافقه، ولم يحصل بينهما ملائمة، أو إذا رأته أصابها جذام القلب، والقذى في عينها كما يقال؛ فهذه أعذار تجعل للمرأة الحق في أن تطالب بالطلاق؛ لأنها ليست مكلفة ولا مطالبة بأن تمتحن وتعذب مع إنسان تبغضه، والإسلام ما جاء بالحرج على الناس، والتضييق عليهم، فمثل هذه لا يلحقها الوعيد إذا طلبت الطلاق، لكن إذا كان له رغبة فيها فإنها تفتدي نفسها منه بالخلع كما أسلفنا.
وقد ذكر ابن جرير - رحمه الله تعالى - أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شماس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول - ا -.
وروى الإمام مالك في موطئه عن حبيبة بنت سهل الأنصارية - ا -: أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس.
اختلف في اسم امرأة ثابت بن قيس هل هي حبيبة بنت عبد الله، أو حبيبة بنت سهل الأنصارية؟ والله أعلم بالصواب.
وأن رسول الله ﷺ خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله ﷺ: من هذه قالت: أنا حبيبة بنت سهل يا رسول الله ﷺ، قال: ما شأنك؟ فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس - لزوجها -....يعني لا نجتمع بحال من الأحوال.
فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله ﷺ: هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر فقالت حبيبة: يا رسول الله ﷺ كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله ﷺ: خذ منها، فأخذ منها، وجلست في بيت أهلها"[5]، وهكذا رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.هذه الرواية دليل لمن رأى جواز أن تفتدي المرأة بالمهر كاملاً؛ لأنها قالت: كل ما أعطاني عندي، ويدعم هذا القول ما جاء في الرواية الأخرى عند البخاري ونصها:
وروى البخاري عن ابن عباس - ا -: أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله ﷺ ما أعتب عليه في خلق، ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: أتردين عليه حديقته؟، قالت: نعم، قال رسول الله ﷺ: اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة[6]، وكذا رواه النسائي.فالمرأة لم تذكر مبرراً لطلبها الطلاق إلا أمراً يتصل بمشاعرها، ومعنى قولها: إنها تكره الكفر في الإسلام محمول على كفران العشير كما قال النبي ﷺ عن النساء: وتكفرن العشير والمعنى أنها تبغضه، وتخشى أن يؤدي بغضها له إلى ضياع حقوقه، وهذا مبرر لقبول عذرها، والحديث حجة لمن قال بأن الخلع طلاق، وأن المختلعة تعتد عدة المطلقة.
روى الترمذي عن الرُبّيع بنت معوذ بن عفراء - ا -: أنها اختلعت على عهد رسول الله ﷺ فأمرها، أو أمرت أن تعتد بحيضة[7].حديث الربيع ثابت صحيح، وهو صريح في دلالته على أن المختلعة تعتد بحيضة، وجاء عند الترمذي وغيره أن النبي ﷺ أمر امرأة ثابت بن قيس أن تعتد بحيضة، فهذان دليلان صحيحان مرفوعان على أن من خالعت زوجها تعتد بحيضة، والمسألة فيها خلاف معروف، والله أعلم بالصواب.
وقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة البقرة:229] أي: هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده فلا تتجاوزوها، كما ثبت في الحديث الصحيح: إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها[8].فلا يجوز للرجل أن يأخذ مما أعطاها شيئاً إلا بهذا القيد أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وإلا صار معتدياً، ومتجاوزاً، وهذه حدوده قد بيَّنها فيما يتعلق بالعشرة بين الزوجين، وما يحل له أخذه، وما لا يحل، وكيف يتم الخلاص من هذا النكاح الذي لم يتلاءم فيه الطرفان.
وقد استدل بهذه الآية على أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام، ويدل له حديث محمود بن لبيد  الذي رواه النسائي في سننه أنه قال: أخبر رسول الله ﷺعن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!، حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله"[9].وموضع الدلالة في تحريم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد في الآية هو قوله سبحانه: الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ [سورة البقرة:229] وذلك لأن التعبير جاء بلفظ مرتان ولم يقل: طلقتان، كأنه يعني أن الطلاق يكون مرة بعد مرة، ثم بعدها إما إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ؛ لأن المقصود إما أن يراجع في العدة، أو تنقضي العدة، فإذا انقضت العدة حصل الافتراق عندها لاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [سورة البقرة:230].
  1. رواه البخاري في كتاب الطلاق - باب الخلع وكيفية الطلاق فيه برقم (4971) (5/2021).
  2. رواه الترمذي  بدون قوله: زوجها برقم (1187) (3/493)، وأبو داود برقم (2228) (2/235)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1187).
  3. رواه الترمذي برقم (1186) (3/492)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (11627).
  4. رواه أحمد في مسنده برقم (9347) (2/414)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لانقطاعه.
  5. رواه أبو داود برقم (2229) (2/236)، والنسائي برقم (3462) (6/169)، وأحمد برقم (27484) (6/433)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (3462)، وسنن أبي داود برقم (2227).
  6. رواه البخاري في كتاب الطلاق - باب الخلع وكيفية الطلاق فيه برقم (4971) (5/2021)،  والنسائي برقم (3463) (6/169)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (3436).
  7. رواه الترمذي برقم (1185) (3/491)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1185).
  8. رواه الحاكم في المستدرك برقم (7114) (4/129)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (3520).
  9. رواه النسائي برقم (3401) (6/124)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (3401).

مرات الإستماع: 0

"الطَّلاقُ مَرَّتانِ بيان لعدد الطلاق الذي يرتجع منه دون زوج آخر، وقيل: بيان لعدد الطلاق الذي يجوز إيقاعه، وهو طلاق السنة."

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ لم يقل هنا: الطلاق طلقتان لإفادة أن الطلاق يكون مرة بعد مرة، لا يكون دفعة واحدة، وهذا عدد الطلاق الذي يملك الرجل فيه الرجعة، ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن هذه الآية رافعة لما كان في أول الإسلام من أحقيته برجعتها، وإن طلقها مائة طلقة إذا كان ذلك في العدة[1].

"فَإِمْساكٌ ارتجاع، وهو مرفوع بالابتداء، أو بالخبر."

فَإِمْسَاكٌ يعني: ارتجاع أن يراجعها إذا طلقها (فإمساك بمعروف) فالواجب إمساك مثلًا بمعروف، أو تسريح بإحسان، فالحكم إمساك إذا قلنا: بأنه خبر لمبتدأ محذوف، أو فإمساك واجب، أو نحو ذلك.

"بِمَعْرُوفٍ حسن المعاشرة، وتوفية الحقوق."

يعني: لا يمسك من أجل المضارة، التضيق، والأذى.

أَوْ تَسْرِيحٌ هو تركها حتى تنقضي العدّة فتبين منه."

التسريح يدل في معناه: الأصل على الانطلاق، يقال: أمر سريح. إذا لم يكن فيه تعويق، ولا مطل، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: أن يطلق سراحها محسنًا إليها، لا يظلمها من حقها شيئًا[2].

غير مصادر لحقوقها، إن كان يجب لها المتعة يعطيها المتعة، لا يفارق هذه المرأة، ويأخذ حقوقها، لها مقتنيات، لها أشياء خاصة بها، لا يجوز له أن يصادرها، وكذلك البعض قد يطلق بأذى، وضرب، وشتم، ولعن لها، ولأهلها، ومشاجرات، هذا لا يليق، فالإنسان كما دخل أول مرة يخطب ابنتهم، فينبغي أن يخرج بهذا الوجه، يخرج كريمًا، رافعًا رأسه، محسنًا إليها يعطيها متعة ويتكلم بأجمل الكلام، ويتلطف، ويقول كما دخلنا مدخل الكرام نخرج مخرج الكرام، أما أن يكون النهاية مظلمة، وإن كان بينهما ولد فلربما لا تتم رؤيته، أو استلامه إلا في قسم الشرطة، هذا موجود، وشدة الخصومة، والشجار لا يسلم الولد إلا في اليوم الذي يذهب لأبيه، أو العكس إلا في قسم الشرطة؛ لأنهم لو تقابلوا في أي مكان آخر يمكن أن يقتتلوا، نسأل الله العافية، هذه ليست حياة.

"بِإِحْسانٍ المتعة، وقيل: التسريح هنا الطلقة الثالثة بعد الاثنتين، وروي في ذلك حديث ضعيف، وهو بعيد؛ لأن قوله تعالى بعد ذلك: فَإِنْ طَلَّقَهاهو الطلقة الثالثة، وعلى ذلك يكون تكرارًا، والطلقة الرابعة لا معنى لها." 

 

أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ هنا قال: المتعة. هي من جملة الإحسان، ولذلك قال الله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 236]، وفي الموضع الآخر: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة: 241]، فهي من الإحسان، وإن اختلفوا فيه هل هو واجب، أو غير واجب؟ أو هو مخصوص بالمطلقة التي طلقت قبل الدخول، ومن غير أن يسمي لها صداقًا؟ خصه بعضهم بهذا، وعممه ابن جرير في كل مطلقة لعموم قوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 241]، فهنا يقول: الإحسان المتعة، وقيل: التسريح هنا الطلقة الثالثة بعد الاثنتين.، وهذا لا يظهر - والله أعلم - يعني الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ يعني: في كل مرة إما أن يمسك بمعروف، وإما أن يفارق بإحسان، هذا في الطلاق الرجعي، وأما في الثالثة فإنه لا سبيل له عليها، يقول: وروي في ذلك حديث ضعيف.

وهو عن أبي رزين الأسدي - وهذا تابعي - قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، يقول الله: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فأين الثالثة؟ قال: (التسريح بإحسان)[3] فهذا مرسل لا يصح، ولو صح لكان تفسيرًا للآية، والواقع أن الثالثة هي قوله: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ فهنا يتحدث عن الطلاق الرجعي الذي يملك فيه الرجعة يمسك بإحسان، يراجع بإحسان، أو تنقضي العدة، ويمسك بمعروف، أو تنقضي العدة، ويكون ذلك فراقًا يفارق بإحسان، يعطيها المتعة، ويعاملها بما يليق. 

"وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا الآية، نزلت بسبب ثابت بن قيس: اشتكت منه امرأته لرسول الله ﷺ فقال لها: أتردّين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فدعاه فطلقها على ذلك[4] وحكمها على العموم."

هذا لا يصح أنه سبب النزول، وخبر ثابت بن قيس مع امرأته ثابت في الصحيح، لكن ليس فيه أنه سبب النزول، الذي في البخاري ليس فيه ما يدل على أنه سبب النزول، لكن ذلك جاء عند ابن جرير - رحمه الله -  وبإسناد معضل لا يصح، ومن، ثم فذلك باق على العموم أصلًا، ولا يقال: إنه مما نزل على سبب - والله أعلم - ولو كان نزل بسبب ثابت بن قيس فكما قال المؤلف: أن العبرة بعموم اللفظ والمعنى، لا بخصوص السبب.

"وهو خطاب للأزواج في حكم الفدية، وهي الخلع."

الخلع الطلاق الذي يكون على عوض تبذله الزوجة يكون خلعًا هكذا دائمًا.

"وظاهرها أنه: لا يجوز الخلع إلا إذا خاف الزوجان أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وذلك إذا ساء ما بينهما، وقبحت معاشرتهما."

لا يجوز إلا إذا خاف الزوجان إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فجاء بهذا الاستثناء فيكون ذلك مقيدًا به، وذكر الأحوال، وهذه الحالات الأربع هي استقرائية.

"ثم إن المخالعة على أربعة أحوال؛ الأول: أن تكون من غير ضرر من الزوج، ولا من الزوجة؛ فأجازها مالك، وغيره لقوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا الآية [النساء:4] ومنعها قوم لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:229]."

وفي قراءة حمزة بضم الياء (إلا أن يُخافا ألا يقيما حدود الله)[5] يعني: أن الخوف يكون صادرًا من غيرهما من غير الزوجين، فيكون ذلك مثلًا من قِبَل الحاكم، أو القاضي، ونحو ذلك، وحمله ابن جرير على هذه القراءة على المؤمنين، إلا أن يُخاف أهل الإيمان ألا يقيما حدود الله، هذه الحالة إذا كانت من غير ضرر من الزوج، ولا من الزوجة يمكن أن يُستدل لها بحديث: أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة[6] لم يصدر من الزوج شيء، وإذا لم يصدر منها هي شيء فلا يجوز للزوج أن يأخذ منها العوض على أن يطلقها، والمقصود بالخوف إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ هنا إقامة حدود الله - تبارك، وتعالى - بأن تسيء الخلق معه مثلًا، تتغير أخلاقها، ومعاملاتها لهذا الزوج فتتصرف معه بما لا يليق، أو أن تتكلم، وتتخاطب معه بما لا يحسن، ولا يجمل، تُعلمه - كما يقول بعضهم - بكراهتها له، تقول: أنا أكرهك، أنا لا أطيقك، أنا لا أرغب في البقاء معك، أنا أبغضك، أجد نفورًا منك، ونحو ذلك، أو ألا تطيع الزوج تكون ناشزًا، تترفع عن طاعته، وبعضهم يقول: بأن تكون الكراهة من الطرفين إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ينفر كل طرف من الآخر، ويكرهه، ويكره البقاء معه، هذه الكراهة، والبغض إذا وجد، والنفور، ونحو ذلك، يكون عذرًا لمثل هذه الحالة، فقد يصل الحال بالزوج، والزوجة أنه قد يكره الحي بكامله الذي تسكن فيه هذه المرأة مثلًا، فهذه الحال الأولى: أن تكون من غير ضرر من الزوج، ولا من الزوجة.

"والثاني: أن يكون الضرر منهما جميعًا فمنعه مالك في المشهور؛ لقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19] وأجازه الشافعي[7]؛ لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ

والثالث: أن يكون الضرر من الزوجة خاصة، فأجازه الجمهور لظاهر هذه الآية. 

والرابع: أن يكون الضرر من الزوج خاصة؛ فمنعه الجمهور؛ لقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الآية [النساء:20] وقد منع بعضهم الخلع مطلقاً لقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الآية [النساء:20] وأجازه أبو حنيفة مطلقًا[8] وقوله في ذلك مخالف للكتاب، والسنة."

الخلع يجوز إذا كان طلب الطلاق صادرًا من الزوجة بحيث تكون هذه الزوجة لا ترغب البقاء، والاستمرار مع هذا الزوج، فجعل الله لها مخرجًا، وجعل للزوج عوضًا، هذا الزوج بذل المهر، ثم بعد ذلك يُقابل بتفويت مصلحته، فتطلب الطلاق منه، فإذا كان الزوج يرغب بهذه المرأة، والبقاء معها فله أن يأخذ العوض، والمخرج بالنسبة للمرأة أن تبذل العوض أتردين عليه حديقته؟ قال: خذ الحديقة، وطلقها تطليقة الحديقة هذه كانت مهرًا فصار ذلك مصلحة للطرفين، لكن إذا كان الزوج لا رغبة له فيها أصلًا، هو لا يريدها ففي هذه الحال يطلق مجانًا، لا يجوز له أن يأخذ العوض، فيكون طلاقًا من غير خُلع إذا كان لا يريدها، وهو لا يتمكن من أخذ العوض إذا كان لا يطيقها، أو لا يريدها، أو لا رغبة له فيها إلا بالعضل، ولهذا قال الله : وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ بحيث أنه لا يريد هذه المرأة، فماذا يصنع؟ يؤذيها، ولا يطلقها حتى يضيق عليها فتلجأ إلى طلب الطلاق منه، هذا لا يجوز، يعاملها معاملة سيئة، يمنع حقوقها، ويقول: لا أطلق حتى تبذلي لي المهر. هذا لا يحل، كيف يأخذ ذلك، ويسترده، والله يقول: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21] فذلك بما استحل من بُضعها، فاستحقت المهر، فذكره في القول الرابع: أن يكون الضرر من الزوج خاصة. هذا لا يحل، قال: لقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النساء:20] وبعضهم يقول: إن آية البقرة هذه إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ منسوخة بآية النساء، ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فآية النساء وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا إلا إذا كانت الرغبة من قِبَل الزوج، وآية البقرة هذه إذا كان ذلك من قِبَل المرأة، فلا تعارض - والله أعلم -. 

فَإِنْ خِفْتُمْ خطاب للحكام، والمتوسطين في هذا الأمر."

ذكرت قول ابن جرير - رحمه الله - (إلا أن يُخافا) القراءة الأخرى قراءة حمزة، باعتبار أن الخوف صادر من المؤمنين فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ لاحظ هنا ما قال: فإن خافا ألا يقيما حدود الله. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فيكون هذا في الحكام، قول ابن جرير: في المؤمنين، يعني: بمعنى المتوسطين هنا يعني الذي دخلوا في هذا الأمر للإصلاح بين الزوجين، وحل الإشكال فيكون ذلك خطابًا لهم كالحكمين مثلًا.

فَإِنْ طَلَّقَها هذه هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين المذكورتين في قوله: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ

 حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ أجمعت الأمة على أن النكاح هنا هو العقد مع الدخول، والوطء، لقوله ﷺ للمطلقة ثلاثًا حين أرادت الرجوع إلى مطلقها قبل أن يمسها الزوج الآخر: لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك[9] وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد يحلها دون وطء[10] وهو قول مرفوض لمخالفته للحديث، وخرقه للإجماع، وإنما تحل عند مالك إذا كان النكاح صحيحًا لا شبهة فيه، والوطء مباحًا في غير حيض، ولا إحرام، ولا اعتكاف، ولا صيام، خلافًا لابن الماجشون في الوطء غير المباح، وأما نكاح المحلل فحرام، ولا يحل الزوجة لزوجها عند مالك، خلافًا لأبي حنيفة[11] والمعتبر في ذلك نية المحلل لا نية المرأة، ولا المحلل له، وقال قوم: من نوى التحليل منهم أفسد."

 حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ذكر هنا أن المقصود العقد مع الدخول، هذه أكمل إطلاقات النكاح في كتاب الله - تبارك، وتعالى - فالنكاح يأتي بمعنى مجموع الوطء، والعقد فهذا أوضح مثال له، ويأتي النكاح بمعنى الوطء خاصة، وهذا لم يأت صريحًا في كتاب الله ولكنه أحد الأقوال في قوله - تبارك، وتعالى -: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]، فُسر بالوطء، وهذا ليس محل اتفاق، يعني: بعضهم فسره بالعقد، والتزوج وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3] فعلى أحد القولين في آية النور يكون ذلك مثالًا على هذا الإطلاق الثاني، إطلاق النكاح على الوطء خاصة من غير عقد، يعني: لا يزني إلا بزانية تُقر بحكم الزنا، ولكنها لا تمتثل، أو مشركة تُنكر الحكم رأسًا، الإطلاق الثالث للنكاح: هو إطلاقه على العقد خاصة، يعني: من غير وطء، ومثاله: إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، فهذا صريح في هذا الإطلاق الثالث الذي هو مجرد العقد، فهذه إطلاقات النكاح الثلاثة، وهنا ما ذكره من المعتبر في ذلك من جهة القصد، والنية في التحليل بالإجماع أن نية الزوج الجديد معتبرة، يعني: إذا قصد التحليل فالنكاح باطل، ولا يحل لها أن ترجع إلى زوجها الأول، وأوضح من هذا لو كان التوافق بين الثلاثة: هذا المحلل، والزوج القديم، والزوجة، ويمكن أن يجتمع مع هؤلاء الرابع وهو الولي، فهذا لا شك أنه لا يحل للمرأة أن ترجع إلى زوجها الأول، تبقى نية غير الزوج الجديد فيما لو كان ذلك بنية المرأة، قبلت الزواج منه، وهي تقصد الرجوع إلى زوجها الأول، هل يؤثر، أو لا يؤثر؟ أو كان ذلك في نية الزوج القديم، جاء برجل ليتزوجها، ولم يخبره، ولم يتواطأ معه على ذلك فهل هذا يؤثر؟ كذلك الولي لو كان يريد بهذا النكاح هذا المعنى، هل نيته تؤثر، أو لا تؤثر؟ الذين قالوا: إنها لا تؤثر، قالوا: باعتبار أن هؤلاء لا يملكون عقدة النكاح، ولا يملكون الطلاق فهو بيد الزوج فنيتهم لا قيمة لها، ولا اعتبار.

يمكن أن تنوي المرأة هذا، ولكن الزوج الجديد يأبى، ولا يطلق، ويمكن أن يقصد هذا الزوج القديم، ولكن الزوج الجديد يرفضه، ويمسكها، قالوا: فلما كانت نية هؤلاء لا تؤثر إنما الذي يؤثر هو نية المحلل إن قصد التحليل، قالوا: المعتبر هو نية الزوج الجديد فقط، ولا قيمة لما نواه غيره.

وبعضهم اعتبر نية هؤلاء، ورأى أن ذلك، وإن لم يكن معه مواطأة من قِبَل الزوج الجديد، يعني كونه لا يعلم مثلًا لكن المرأة نوت هذا بأن ذلك يكون حرامًا، ولا تحل للزوج الأول، والأعمال بالنيات، وأنها قصدت التحايل بذلك للرجوع إلى زوجها الأول فعوقبت بضدة، وبعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قيد ذلك بما إذا صدر عنها مثلًا ما يقلق هذا الزوج الجديد، ويزعجه، أو نحو ذلك من المطالبة بالطلاق، ونحو هذا.

فالمقصود أن المعتبر نية المحلل، أما نية المرأة فبعضهم يقول: لا تؤثر؛ لأنها لا تملك الفُرقة. وهذا قول الحنفية[12] والمالكية[13] والحنابلة[14] قالوا: لا عبرة بنية المرأة.، وهو أحد الأقوال للشافعي - رحمه الله - وبعضهم - كما سبق - يقولون: بأن ذلك يؤثر في الحكم، وهذا مروي عن بعض السلف: كالنخعي، والحسن البصري[15] وسووا الثلاثة في ذلك، قالوا: لو نوى الزوج القديم كذلك أيضًا، أو الزوج الجديد، أو المرأة، فإذا وجدت النية من واحد من هؤلاء فإن ذلك يكون من قبيل نكاح التحليل.

وشيخ الإسلام يوجه كلام هؤلاء الذين قالوا: بأن نية المرأة لا تؤثر، أو تؤثر بما سبق أنها إذا كانت مجرد نية فقط فهذا لا يؤثر، وأما إذا صدر عنها عمل، أو قول، أو نحو ذلك مما يكون سببًا للطلاق فهنا تكون نيتها مؤثرة، ويكون تحليلًا، كأن تقول له: أنا ما تزوجتك إلا لأرجع للزوج الأول، أنا أحبه. أو أن تقول: أنا أحب رجلًا غيرك، أو تفتعل مشكلة من أجل أن يطلقها، أو أن تلح عليه، أو تضجره، أو أن تقول له: أبذل لك المال على أن تطلق، أو تحتال عليه بأنواع الحيل من أجل الطلاق كما يقول بعضهن مثلًا في بعض الأعراف، ونحو ذلك: طلبت، فإذا قال: أعطيتك. يشعر بأن ذلك من قبيل اللازم له، فتقول له: طلقني. فبعض الناس يرى أن هذا يلزمه، ولو كان يحبها، ولا يستغني عنها، يطلق مضطرًا، ومن المعاصرين الشيخ محمد صالح العثيمين - رحمه الله - يقول: بأن نية الثلاثة تؤثر سواء كان ذلك من قِبَل المحلل، أو المرأة، أو الزوج السابق[16].

والذي قال: نية المرأة غير مؤثرة. لكن هل هي تأثم على هذه النية؟ هي تأثم على هذه النية؛ لأن ليس لها ذلك أن تتزوج بقصد الرجوع إلى الأول؛ لأن الأصل في الزواج البقاء، والدوام، فهذه النية لن تجعل هذه المرأة في حال من الملائمة مع زوجها الجديد، فإن رأت أنه قد رغب فيها فذلك يحملها على أن تكون على الأقل في حال من السلبية كما يقال لهذا الزوج فلا تبدي له من المشاعر، أو تؤدي من الحقوق ما يكون بين الزوجين، وإنما الواجب عليها أن تتزوج باعتبار أنه زواج دائم لا لقصد الرجوع إلى الأول.

لكن على كل حال القول المروي عن سعيد بن المسيب هذا قول شاذ، وغريب، وقد لا يثبت أصلًا عنه، ونقل محقق الكتاب في الحاشية: قال ابن كثير في تفسيره: في صحته عنه نظر[17] ثم ساق روايات عنه عن ابن عمر بخلاف هذه، ثم علق بقوله: فبعيد أن يخالف ما رواه بغير سند.

فَإِنْ طَلَّقَها يعني هذا الزوج الثاني.

 فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي: على الزوجة، والزوج الأول.

 أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أي: أوامره فيما يجب من حقوق الزوجية."

  1. تفسير ابن كثير (1/610).
  2. المصدر السابق (1/611).
  3. المصدر السابق (1/612).
  4.  أخرجه الطبري في تفسيره (4/557)، وأصل هذه القصة ثابت بدون سبب النزول عند البخاري، وغيره من حديث ابن عباس ا أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق، ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله ﷺ أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال رسول الله ﷺ اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة.
  5.  تفسير القرطبي (3/137).
  6.  أخرجه أبو داود، باب في الخلع، رقم: (2226)، والترمذي، باب ما جاء في المختلعات، رقم: (1187)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب كراهية الخلع للمرأة، رقم: (2055).
  7.  الحاوي الكبير (10/7).
  8.  الدر المختار، وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (3/57)
  9.  أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب إذا طلقها ثلاثا، ثم تزوجت بعد العدة زوجا غيره، فلم يمسها، رقم: (5317)، ومسلم، كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، ويطأها، ثم يفارقها، وتنقضي عدتها، رقم: (1433).
  10.  ذكره ابن عبد البر في كتابه الاستذكار، كما في تفسير ابن كثير (1/622)، وقال ابن كثير:، واشتهر بين كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب، رحمه الله، أنه يقول: يحصل المقصود من تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني.، وفي صحته عنه نظر، على أن الشيخ أبا عمر بن عبد البر قد حكاه عنه في الاستذكار.
  11.  النتف في الفتاوى للسغدي (1/257).
  12. بدائع الصنائع (3/188).
  13.  حاشية الدسوقي (2/258)
  14.  المغني (7/139)، كشاف القناع (5/96).
  15.  الفتاوى الكبرى (6/298).
  16. الشرح الممتع على زاد المستقنع (12/178).
  17.  تفسير ابن كثير (1/622).

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- وبين ما على المطلقات من التربص ثلاثة قروء، وما للأزواج من الأحقية في الرجعة إذا أرادوا الإصلاح، بين بعد ذلك أحكامًا أخرى للطلاق من حيث العدد، وكذلك أيضًا الخُلع، فالطلاق يكون من قِبل الرجل فهو الذي يملكه، ولكن إذا لم يكن بالرجل رغبة في الطلاق، وهو يرغب في المرأة، ولكنها لا تُريد البقاء معه فلها مخرج، وذلك بأن تطلب الخُلع.

والخُلع المقصود به الطلاق بعِوض، الطلاق بمقابل، ومن هنا قال الله -تبارك وتعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة البقرة:229].

الطلاق مرتان، بمعنى الطلاق الذي تحصل به الرجعة مرتان، يملك به الزوج المراجعة، فهو في مرتين، في عدتين واحدة بعد الأخرى، كما قال الله -تبارك وتعالى: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [سورة الطلاق:1]، يعني: العدة التي أمر الله أن تُطلق النساء لها، وذلك أن تُطلق وهي حامل، أو في طُهر لم يُجامعها فيه، ولم يُسبق بطلاق في حيض، وأن يكون طلاقًا طلقة واحدة، فتبقى بهذه العدة بهذه الطلقة، فإما أن يُراجع، وإما أن تكون المفارقة بالمعروف والإحسان، فلا يجمع الطلاق لا بلفظ واحد، ولا يجمع الطلاق في عدة واحدة.

بلفظ واحد كأن يقول: أنتِ طالق ثلاثًا، أو أن يقول: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق، أو أن يُطلق اليوم ثم يُطلق غدًا ثم يُطلق بعد غد، أو يُطلق في الطُهر الأول، ثم يُطلق في الطُهر الثاني، ثم يُطلق في الطُهر الثالث، فهذا لا يجمع الطلاق في عدة واحد؛ لتكون الفُرص له أكثر.

الطَّلاقُ مَرَّتَانِ، وحكم الشرع في كل طلقة هو أن يُمسك بمعروف من حُسن العشرة إذا راجع، أو أن يُخلي سبيلها مع حُسن المعاملة بأداء حقوقها، فتنصرف مُكرمة مُعززة، من غير جرح مشاعر، ولا مصادرة حقوق، ولا شتم، ولا أذى ويُحسن إليها بالمُتعة جبرًا لخاطرها إزاء هذا الطلاق، ولا يذكرها بعد ذلك بسوء، تطوى هذه الصفحة، ويبقى الذكر الجميل، أو كف الأذى.

قال الله: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ، يعني: معاشر الأزواج أن تأخذوا شيئًا مما أعطيتموهن من المهر ونحوه، إذا الرجل لا رغبة له في المرأة وطلقها، فليس له أن يقول: أعيدي لي المهر فذلك بما استحل من بُضعها، لا يحل له أخذه، لكن الله -تبارك وتعالى- ذكر حالة قال: إِلَّا أَنْ يَخَافَا، يعني: الزوجان، أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، يعني: القيام: بالحقوق الزوجية، فهنا يمكن للمرأة إذا كانت لا تريد البقاء مع الرجل فهي رأت منه ما لا يُحتمل، أو أنها كرهته، فخافت أن تُضيع حقوقه، ففي هذه الحال يمكن أن تفتدي.

فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، وهذا الخطاب قيل: هو موجه للقضاة والولاة، وقيل: هو موجه لعموم الأمة، وقيل: موجه لأولياء هؤلاء، أهل المرأة، وأهل الرجل، فإذا خافوا عدم إقامة الحقوق، خافوا نشوز المرأة على زوجها أن تترفع عن طاعته، ففي هذه الحال لا حرج على الزوجة، ولا على الزوج بأن تبذل مالاً في مُقابل طلاقها، لكن هذا بشرط أن يكون الرجل يرغب فيها، إذا كان الرجل لا يريدها فيُطلقها، لكن إذا كان الرجل يريدها، وهي تقول لا أُريد الاستمرار معك، فتكون قد فوتت عليه مصلحة النكاح، وما يتبعه في هذه الحال له أن يأخذ منها، على خلاف بين أهل العلم فيما يؤخذ، هل يؤخذ المهر فقط، أو بما يتفقان عليه، هل له أن يزيد على المهر فيما يطلب أو لا؟

هذا ليس محل اتفاق، لكن الله -تبارك وتعالى- أطلق ذلك فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، والنبي ﷺ قال لامرأة ثابت بن قيس بن شماس لما ذكرت للنبي ﷺ أنها تخاف الكفر بعد الإسلام، يعني: كفران العشير، فقال النبي ﷺ: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال رسول الله ﷺ: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة[1]، يعني: كان أعطاها مهرًا حديقة، والحديقة المقصود بها البستان الذي له سور، فهذا يُقال له حائط وحديقة، أحدق به هذا السور، فهنا أعادت إليه المهر، والآية هنا ذكر الله ذلك بإطلاق فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، ولهذا جوز بعض أهل العلم أن يطلب أكثر مما دفع.

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا، هي حدوده الفاصلة بين الحلال والحرام، فلا تتجاوزوها، ومن يتجاوز حدود الله -تبارك وتعالى- فأولئك هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها لعذاب الله وسخطه.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات: أن الله -تبارك وتعالى- قال: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ، ما قال الطلاق طلقتان، قال: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ، إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة، لا أن يُطلق طلقتين هكذا دفعة واحدة، فيقول مثلاً: أنتِ طالق طلقتين، وإنما الطلاق مرتان مرة بعد مرة، يعني: هو يُطلقها واحدة، يقول لها: أنتِ طالق ثم تستأنف العدة، وله أن يُراجع قبل نهاية العدة، وعرفنا أن هذه العدة إن كانت المرأة ممن لا تحيض لصغرها، أو لتقدم العمر آيسة فثلاثة أشهر، وإن كانت حاملاً فبوضع الحمل، ولو طال، وإن كانت ممن يحيض فثلاثة قروء، قيل: ثلاث حيض، وقيل ثلاثة أطهار.

فهنا يُطلق في العدة الواحدة طلقة واحدة لا يزيد، ولابد أن يكون في طُهر لما يُجامع فيه، أو وهي حامل، فلا يحق له أن يُطلق متى ما عنّ له، أو إذا غضب ألقى عليها الطلاق، أو إذا طلبت منه الطلاق ألقى عليها الطلاق، لا، وإنما ينظر في حالها أن تكون طاهرًا، وهذا الطُهر لم يُجامعها فيها، ولا يجوز أن يُطلق في حال الحيض، ولا أن يُطلق في طُهر وقع فيه الجماع.

وكذلك أيضًا الطَّلاقُ مَرَّتَانِ، يعني: بعد كل مرة إما أن يُمسك بمعروف فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، والإمساك بالمعروف بمعنى أنه يُمسك من أجل أن يُبقيها معه مع العِشرة بالمعروف، وأحال ذلك إلى المعروف كما ذكرنا في الليلة الماضية بأن ذلك يختلف باختلاف الأزمان والبلاد والأحوال والأشخاص.

فيكون ذلك على وجه لائق من حيث المعاملة، والنفقة والكسوة، والسُكنى، ونحو ذلك، بحسب ما يليق بمثله ومثلها، في زمانهم ومكانهم.

فهنا أحال ذلك إلى المعروف فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، التسريح بمعنى التطليق أن لا تبقى في عصمته، فيُسرح بإحسان، فهذا هو اللائق بأهل الإيمان، وأهل المروءات، عشرة، وأخذها بعهد موثق غليظ، فينبغي أن يُفارق بمعروف، أو أن يُمسك بمعروف، أما أن تتحول العلاقة بين الزوجين إلى حرب ورمي بأقبح الأوصاف، وشتائم توجه إليها، وإلى أهلها، وجرح للمشاعر، ومصادرة للحقوق، فهذا لا يليق بأهل الإيمان، ولا يليق بذي مروءة، وإنما يكون التعامل على أكمل الوجوه فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.

وهذا يؤخذ منه قاعدة عامة في التعامل مع الناس، إذا كان الإنسان لربما يصحب بعض من لا يروق له، يصحب أحدًا من الناس، ويتأذى بصُحبته بعبارات يسمعها منه مؤذية، أو تصرفات وحماقات توقع هذا الإنسان في شيء من الحرج، أو نحو ذلك، فمثل هذا يمكن أن يُفارق بإحسان، من غير أذى، ومن غير مقاطعة، ومن غير جرح للمشاعر، ينسحب بإحسان، ويذكره بالجميل، لكن ينأى بنفسه عنه.

قد يعمل الإنسان مع آخرين، في مكان، في مؤسسة، في شركة، في مدرسة، في جامعة، ثم بعد ذلك ينتقل، أو يُنهى التعاقد معه انتهت الحاجة، أو رأوا أن غيره أفضل منه، أو رأوا أنه لا يصلح لهم، أو لأي سبب من الأسباب، فلا ينبغي أن تتحول القضية إلى مقاطعة ومُهاجرة، وتتحول الأمور إلى شيء من المخاصمة، ويعتبر ذلك من العدوان والإساءة إليه، ليس هذا بلائق، بقي في هذا المكان وعمل فيه مدة سنوات، أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك رأوا أنه لا حاجة لبقائه في هذا الموقع، انتقل إلى موضع آخر، أو نحو ذلك، فمن الناس من يتخذ هذا لونًا من المعاداة والمخاصمة، فيصدر منه ما لا يليق، هذا لا يصح، أو يصدر منهم تجاهه ما لا يليق، تسريح بإحسان، إما أن يُمسك بمعروف، قد يكون الإنسان عنده سائق، عنده أجير، عنده عامل، عنده خادمة فيؤذيه، فنقول له: إمساك بمعروف، وإن كانت هذه الآية في الطلاق، أو تسريح بإحسان.

لكن بعض الناس القاعدة عنده: "إذا كنت رايح كثر الفضايح"، هذا الكلام غير صحيح، وإنما يذهب بحال من التجمل والإحسان، وكذلك الطرف الآخر يمكن أن يودع هذا بإكرام وإحسان إليه ونحو ذلك، أما دواعي الانتقام والمصادرة والمفاجآت بما لا يحتسب، فهذا لا يصح، ولا يجوز، البعض لربما كان مُعلمًا مثلاً، فيأتيه الخبر أنه قد استغني عن خدماته قبل نهاية السنة من أجل أن يستعد، ويُرتب أحواله إذا سافر، أو انتقل قبل نهاية الدراسة بشهر أو شهرين، أو ثلاثة أشهر، فماذا يفعل؟ يُسيء إلى من حوله جميعًا، ولا يد لهم في الموضوع، وينتقم من هؤلاء المساكين الطلاب، فيضع لهم أسئلة لا يمكن الإجابة عنها مثلاً، أو حتى من أجاب حتى من المتفوقين لربما يُفاجئون أن نتائجهم هي الرسوب، ويتضررون من هذا، وبعضهم لا يستطيع المواصلة في الدراسات العليا، وبعضهم يكون في مرحلة الماجستير، فلا يستطيع أن يُسجل رسالة؛ لأن معدله قد فقد شرطًا من أجل التسجيل، أو القبول في هذه المرحلة والمواصلة فيها بسبب الانتقام، فهذا لا يصح ولا يليق.

كذلك هنا قال الله -تبارك وتعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، يعني: يا معاشر الأولياء أو الولاة، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا، يعني: الرجل في الأخذ، والمرأة في الدفع، فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، فهذا يدل على اعتبار المفاسد، وأن يُرتكب أخف الضررين لدفع أعلاهما، فتُدفع المفاسد الأشد، ما هي المفاسد الأشد؟ النشوز، تترفع الزوجة عن طاعته، تحصل أمور تتفاقم.

فهنا يقال: خذ منها هذا المهر، ثم بعد ذلك يكون خُلعًا، يعني طلق بعوض فهذا أسهل من تضييع حدود الله -تبارك وتعالى، والقضية ليست بالشيء السهل، فالله -تبارك وتعالى- قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فهذا أمر يجب مراعاته وحفظه، فحدود الله في التعامل بين الزوجين يجب أن تُضبط وتُحفظ، وليس للرجل أن يفعل ما شاء، أو المرأة أن تفعل ما شاءت، وإنما على الجميع أن يتقي الله -تبارك وتعالى.

وقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا، أحكام الطلاق، الطلاق مرتان، فيُمسك بمعروف أو يُفارق بمعروف، ويجوز له الأخذ في حال ما إذا كانت المرأة لا تريده، وهو يريدها في هذه الحال يجوز له الأخذ، أما إذا كان لا يريدها فلا يجوز له أن يأخذ العوض، هذه حدود الله، قال: فَلا تَعْتَدُوهَا، هنا.

في آيات الصيام التي مضت أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، إلى أن قال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [سورة البقرة:187]، هنا في الصيام تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا، وهنا في الطلاق: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا، فلا تقربوها، فلا تعتدوها، ما الفرق؟ ذكر بعض أهل العلم أن الأولى جاءت بعد نواهٍ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [سورة البقرة:187]، هذه النواهي هذه الممنوعات، لا تقربها ابتعد عنها غاية البعد.

لكن هنا جاءت بعد أوامر أن يُطلق مرتين فقط، وكل واحدة في عدة، وكذلك أيضًا أن يُعاشر بمعروف، أو يُفارق بمعروف، أو نحو ذلك، فجاء النهي عن تعديها وعن تجاوزها، فيوقف عندها، الأوامر هذه يوقف عندها، لا تُتخطى، لا تُتجاوز، ولهذا قال العلماء: إذا كانت الحدود مما يجب فعله قال: فَلا تَعْتَدُوهَا، الحدود مرسومة أمر الله بكذا، وأمر بكذا، وأمر بكذا، تقف عند أمره لا تتعداه، وإذا كانت نواهي فلا تقترب ابتعد، إذا كان المحظورات فابتعد، والنهي عن القرب منها أبلغ من النهي عن مواقعتها، لما أقول لا تقترب من هذا الشيء فهذا أبلغ من مواقعته، يعني: كن بعيدًا حذرًا، دع كل الأسباب التي توصل إليه، وإلى مُلابسته ومُقارفته، ففي المحرمات يقول: فَلا تَقْرَبُوهَا، في المأمورات فَلا تَعْتَدُوهَا، هذا فرق ذكره بعض أهل العلم.

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ، ما قال ومن يتعدها، واكتفى بالضمير، إنما أبرز ذلك بالمُظهر تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، هنا إبرازها بالاسم المُظهر يدل على الاهتمام والعناية بحدود الله -تبارك وتعالى- وتعظيم هذه الحدود، وإضافة ذلك إلى الله حُدُودُ اللَّهِ، مرتين، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ، هذا كله لتربية المهابة، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، لاحظ الإشارة بالبعيد، فَأُوْلَئِكَ، وجاء بضمير الفصل هُمُ، ودخول أل على الخبر فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يعني: هذا يُفيد يُشعر بالحصر، كأنه لا ظالم إلا هؤلاء، هؤلاء الذين بلغوا الغاية في الظلم، كأنه لا ظالم إلا هم، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يعني: الذين يتعدون حدود الله -تبارك وتعالى، فهذا يدل على أن تعدي حدود الله، سواء في الطلاق أو في غيره كما قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في القواعد الحِسان: بأن الله قد يذكر أمورًا خاصة كما هنا في قضية الطلاق، ثم يأتي بالحكم عام[2]، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [سورة البقرة: 229] ، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [سورة البقرة: 187].

هنا قال: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، في الطلاق وفي غير الطلاق، فينبغي الحذر من ذلك، وهذا الذي يزيد على الاثنتين مثلاً على الطلقتين، فهو مُجترئ على المحرم، متعدي لحدود الله ، فليس له ذلك وهو من الظالمين، هذا الذي يُطلق بالثلاث مع بعض هذا من الظالمين، متعدي لحدود الله ، هذا الذي يضر المرأة ويُضار ويُعيدها ويُمسكها من أجل أن تفتدي، بعضهم يصل الأمر أنه يقطع الماء، ويقطع الكهرباء عن البيت، ويحرمها من كل شيء من الطعام والشراب، من أجل أن تُضطر أن تدفع له أن تُعيد المهر، هذا لا يفعله إنسان عنده تقوى لله وخوف منه، ومراقبة، أو عنده أدنى مروءة، هذا لا يليق، وكل ذلك يدل على عناية الشارع بانضباط أحوال الناس، وهذه النواة في المجتمع وهي الأسرة، وأن يقوم ذلك على أحوال من الكمال، وحفظ الحقوق، فتبقى هذه الأسرة على وئام، يعرف الرجل ما له وما عليه، وتعرف المرأة ما لها وما عليها، فيؤدي كل واحد منهم حق صاحبه، ويحفظ حدود الله -تبارك وتعالى، فالمسألة ليست مجرد اختيار، أو تشهي، وإنما ذلك شرع مُطهر، هذا والله تعالى أعلم. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق فيه، رقم: (5273).
  2. القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص:74).