الأحد 25 / ربيع الأوّل / 1446 - 29 / سبتمبر 2024
فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُۥ ۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ۗ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [سورة البقرة:230] أي: إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعدما أرسل عليها الطلاق مرتين فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، أي: حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح، فلو وطئها واطئ في غير نكاح ولو في ملك اليمين؛ لم تحل للأول؛ لأنه ليس بزوج.كأن تكون هذه المرأة مملوكة فتزوجها إنسان ثم طلقها طلاقاً بائناً، فلما بانت منه حل لسيدها وطؤها، فإن هذا الوطء لا يحلها لزوجها إذا أراد أن يراجعها، بل لا بد من اعتبار نكاح صحيح حتى يحل له نكاحها.
والنكاح في كتاب الله يأتي لثلاثة معانٍ:
الأول: الوطء وهو أحد التفسيرات المشهورة لآية النور: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [سورة النور:3]، ومال إليه جمع من أهل العلم سلفاً وخلفاً، وأما إذا فسرنا النكاح في آية النور بمعنى العقد فسيستشكل علينا كيف يجوز للزاني المسلم أن يتزوج مشركة، وكيف يجوز للمسلمة الزانية أن تتزوج مشركاً؟ ولذا بعض المفسرين جعل لفظ الشرك في الآية محمول على النكران لهذا الحكم، وهذا القول اختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، ولكن إذا كان مقراً به، معترفاً له، إنما خالفه من الناحية العملية فتزوج زانية؛ فإن هذا العقد يكون محرماً، ولا يصح زواجه؛ لأنه خالف شرط الكفاءة في العفاف، وهذا عليه جمع من أهل العلم، وهو مذهب الإمام أحمد وغيره.
وبعض أهل العلم يوجه الآية بتوجيه أبلغ منه، فيقول: إن الزواج أعظم المعاشرة، ولذلك يقال للزوج عشير، وإذا كانت المرأة تعلم أن زوجها يزني أو العكس، ثم بقيا على هذه العشرة دون انفصال؛ التصق بأحدهما ما عرف به الآخر؛ لأن الله يقول: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [سورة النساء:140]، مع كونه لا يؤمن عليه أو عليها أن تقع في الزنا نكاية به، أو لفرط دياثته؛ لأن الزاني في الغالب تموت عنده الغيرة، وإذا وقعت امرأته في شيء من ذلك فتجده قد لا يحرك ساكناً.
الثاني: يطلق على مجرد العقد، وأوضح دليل على هذا قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ [سورة الأحزاب:49] فسمى العقد نكاحاً مع أنه لم يدخل بها، وهذا لا إشكال فيه.
الثالث: يطلق على مجموع الأمرين العقد والوطء؛ لأن النبي ﷺ قال: حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك[1] والمقصود بالعسيلة لذة الجماع وهو أكمل إطلاقات النكاح.
وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول.فلا بد من شرطين لزواج الرجل من مطلقته بعد الثالثة:
أولاً: أن يكون العقد صحيحاً، في وطء صحيح لا تشوبه أدنى شبهة زنا، أو شبهه.
ثانياً: أن يكون نكاح رغبة لا تحليل، فقد لعن الله المحلِّل وهو من يسميه الفقهاء: "التيس المستعار"، والمحتال كما هي القاعدة يعامل بخلاف قصده، ولعل حكمة الشارع في بينونته منها بعد الثلاث ليحصل له شيئ من التوبيخ والتقريع جراء تهاونه وتساهله في أمر الطلاق، ذلك أن الذين اعتادت ألسنتهم الطلاق يكثرون من إيقاعه، ولا يقفون عند حد.
"روى مسلم في صحيحه عن عائشة - ا - أن رسول الله ﷺ سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها، فتتزوج رجلاً فيطلقها قبل أن يدخل بها، أتحل لزوجها الأول؟ قال: لا، حتى يذوق عسيلتها[2]، ورواه البخاري أيضاً[3].
وروى الإمام أحمد عن عائشة - ا - قالت: دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي ﷺ، فقالت: إن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني، وإن ما عنده مثل الهدبة وأخذت هدبة من جلبابها، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له، فقال: يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله ﷺ، فما زاد رسول اللهﷺ على التبسم، فقال رسول الله ﷺ: كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك[4]، وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي، وعند مسلم أن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات.
والمراد بالعسيلة: الجماع لما رواه الإمام أحمد والنسائي عن عائشة - ا -: أن رسول الله ﷺ قال: ألا إن العسيلة: الجماع[5].
فصل: والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغباً في المرأة، قاصداً لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج، فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول؛ فهذا هو المُحلِّل الذي وردت الأحاديث بذمه، ولعنه، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة.
روى الإمام أحمد عن عبد الله قال: لعن رسول الله ﷺ الواشمة والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة، والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا وموكله[6].
ورواه الترمذي والنسائي، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة منهم: عمر وعثمان، وابن عمر وهو قول الفقهاء من التابعين، ويروى ذلك عن علي وابن مسعود، وابن عباس أجمعين.
وروى الحاكم في مستدركه عن نافع أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر - ا - فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ فقال: "لا، إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله ﷺ"، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهذه الصيغة مشعرة بالرفع".
لأنه قال: "كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله ﷺ" فأضاف ذلك إلى زمن النبي ﷺ، وهذه قرينة على الرفع، وهناك صورة أخرى يفعلها بعض الناس لتحلليها للزوج الأول، وذلك أن تعمد المرأة إلى رجل فتعرض عليه نفسها بمهر ضئيل، ثم بعد البناء بها، والدخول عليها، والوطء؛ يأتي أحد أقاربها ويعرض على الرجل عرضاً مغرياً مقابل أن يطلق، وهذه صورة من صور التحليل المبطنة لا تجوز في الشرع.
"وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة، والجوزجاني، وحرب الكرماني، وأبو بكر الأثرم عن قبيصة بن جابر عن عمر أنه قال: "لا أُوتى بِِمُحلِّل ولا مُحَلَّل له إلا رجمتهما
.
وقوله: فَإِن طَلَّقَهَا أي الزوج الثاني بعد الدخول بها، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا أي: المرأة والزوج الأول، إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ أي: يتعاشرا بالمعروف، قال مجاهد: إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة، وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ أي: شرائعه، وأحكامه، يُبَيِّنُهَا أي: يوضحها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ".
فالمعاشرة بالمعروف قيد مهم عند نية إرجاع الرجل المرأة إلى عصمته بعد طلاقها من الزوج الآخر غير المحلل، وبغير هذا القيد لا يحق له أن يرجع إليها، أو يتزوجها؛ لأن الراجح أن من تزوجها بعد زوج فكأنه استأنف نكاحها من جديد، فيرجع إليها بثلاث طلقات شرعية، فقد يرجع إلى صنيعه الأول فيطلق، ثم يطلق، ثم يطلق، فيخالف مقصد الشرع من استدامة الحياة بينهما.
  1. رواه البخاري في كتاب الأدب - باب التبسم والضحك برقم (5734) (5/2258)، ومسلم في كتاب النكاح - باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره ويطأها ثم يفارقها وتنقضي عدتها برقم (1433) (2/1055).
  2. رواه مسلم في كتاب النكاح - باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره ويطأها ثم يفارقها وتنقضي عدتها برقم (1433) (2/1055).
  3. رواه البخاري في كتاب الطلاق - باب من أجاز طلاق الثلاث برقم (4961) (5/2014).
  4. رواه البخاري في كتاب الأدب - باب التبسم والضحك برقم (5734) (5/2258)، ومسلم في كتاب النكاح - باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره ويطأها ثم يفارقها وتنقضي عدتها برقم (1433) (2/1055)، والترمذي  برقم (1118) (3/426)، والنسائي برقم (3409) (6/146)، وأحمد برقم (24104) (6/34).
  5. رواه أحمد في مسنده برقم (24376) (6/62)، قال شعيب الأرنؤوط معلقاً على هذا الحديث: إسناده ضعيف.
  6. رواه النسائي برقم (3416) (6/149)، وأحمد برقم (4283) (1/448)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (5104).

مرات الإستماع: 0

"الطَّلاقُ مَرَّتانِ بيان لعدد الطلاق الذي يرتجع منه دون زوج آخر، وقيل: بيان لعدد الطلاق الذي يجوز إيقاعه، وهو طلاق السنة."

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ لم يقل هنا: الطلاق طلقتان لإفادة أن الطلاق يكون مرة بعد مرة، لا يكون دفعة واحدة، وهذا عدد الطلاق الذي يملك الرجل فيه الرجعة، ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن هذه الآية رافعة لما كان في أول الإسلام من أحقيته برجعتها، وإن طلقها مائة طلقة إذا كان ذلك في العدة[1].

"فَإِمْساكٌ ارتجاع، وهو مرفوع بالابتداء، أو بالخبر."

فَإِمْسَاكٌ يعني: ارتجاع أن يراجعها إذا طلقها (فإمساك بمعروف) فالواجب إمساك مثلًا بمعروف، أو تسريح بإحسان، فالحكم إمساك إذا قلنا: بأنه خبر لمبتدأ محذوف، أو فإمساك واجب، أو نحو ذلك.

"بِمَعْرُوفٍ حسن المعاشرة، وتوفية الحقوق."

يعني: لا يمسك من أجل المضارة، التضيق، والأذى.

أَوْ تَسْرِيحٌ هو تركها حتى تنقضي العدّة فتبين منه."

التسريح يدل في معناه: الأصل على الانطلاق، يقال: أمر سريح. إذا لم يكن فيه تعويق، ولا مطل، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: أن يطلق سراحها محسنًا إليها، لا يظلمها من حقها شيئًا[2].

غير مصادر لحقوقها، إن كان يجب لها المتعة يعطيها المتعة، لا يفارق هذه المرأة، ويأخذ حقوقها، لها مقتنيات، لها أشياء خاصة بها، لا يجوز له أن يصادرها، وكذلك البعض قد يطلق بأذى، وضرب، وشتم، ولعن لها، ولأهلها، ومشاجرات، هذا لا يليق، فالإنسان كما دخل أول مرة يخطب ابنتهم، فينبغي أن يخرج بهذا الوجه، يخرج كريمًا، رافعًا رأسه، محسنًا إليها يعطيها متعة ويتكلم بأجمل الكلام، ويتلطف، ويقول كما دخلنا مدخل الكرام نخرج مخرج الكرام، أما أن يكون النهاية مظلمة، وإن كان بينهما ولد فلربما لا تتم رؤيته، أو استلامه إلا في قسم الشرطة، هذا موجود، وشدة الخصومة، والشجار لا يسلم الولد إلا في اليوم الذي يذهب لأبيه، أو العكس إلا في قسم الشرطة؛ لأنهم لو تقابلوا في أي مكان آخر يمكن أن يقتتلوا، نسأل الله العافية، هذه ليست حياة.

"بِإِحْسانٍ المتعة، وقيل: التسريح هنا الطلقة الثالثة بعد الاثنتين، وروي في ذلك حديث ضعيف، وهو بعيد؛ لأن قوله تعالى بعد ذلك: فَإِنْ طَلَّقَهاهو الطلقة الثالثة، وعلى ذلك يكون تكرارًا، والطلقة الرابعة لا معنى لها." 

 

أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ هنا قال: المتعة. هي من جملة الإحسان، ولذلك قال الله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 236]، وفي الموضع الآخر: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة: 241]، فهي من الإحسان، وإن اختلفوا فيه هل هو واجب، أو غير واجب؟ أو هو مخصوص بالمطلقة التي طلقت قبل الدخول، ومن غير أن يسمي لها صداقًا؟ خصه بعضهم بهذا، وعممه ابن جرير في كل مطلقة لعموم قوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 241]، فهنا يقول: الإحسان المتعة، وقيل: التسريح هنا الطلقة الثالثة بعد الاثنتين.، وهذا لا يظهر - والله أعلم - يعني الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ يعني: في كل مرة إما أن يمسك بمعروف، وإما أن يفارق بإحسان، هذا في الطلاق الرجعي، وأما في الثالثة فإنه لا سبيل له عليها، يقول: وروي في ذلك حديث ضعيف.

وهو عن أبي رزين الأسدي - وهذا تابعي - قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، يقول الله: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فأين الثالثة؟ قال: (التسريح بإحسان)[3] فهذا مرسل لا يصح، ولو صح لكان تفسيرًا للآية، والواقع أن الثالثة هي قوله: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ فهنا يتحدث عن الطلاق الرجعي الذي يملك فيه الرجعة يمسك بإحسان، يراجع بإحسان، أو تنقضي العدة، ويمسك بمعروف، أو تنقضي العدة، ويكون ذلك فراقًا يفارق بإحسان، يعطيها المتعة، ويعاملها بما يليق. 

"وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا الآية، نزلت بسبب ثابت بن قيس: اشتكت منه امرأته لرسول الله ﷺ فقال لها: أتردّين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فدعاه فطلقها على ذلك[4] وحكمها على العموم."

هذا لا يصح أنه سبب النزول، وخبر ثابت بن قيس مع امرأته ثابت في الصحيح، لكن ليس فيه أنه سبب النزول، الذي في البخاري ليس فيه ما يدل على أنه سبب النزول، لكن ذلك جاء عند ابن جرير - رحمه الله -  وبإسناد معضل لا يصح، ومن، ثم فذلك باق على العموم أصلًا، ولا يقال: إنه مما نزل على سبب - والله أعلم - ولو كان نزل بسبب ثابت بن قيس فكما قال المؤلف: أن العبرة بعموم اللفظ والمعنى، لا بخصوص السبب.

"وهو خطاب للأزواج في حكم الفدية، وهي الخلع."

الخلع الطلاق الذي يكون على عوض تبذله الزوجة يكون خلعًا هكذا دائمًا.

"وظاهرها أنه: لا يجوز الخلع إلا إذا خاف الزوجان أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وذلك إذا ساء ما بينهما، وقبحت معاشرتهما."

لا يجوز إلا إذا خاف الزوجان إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فجاء بهذا الاستثناء فيكون ذلك مقيدًا به، وذكر الأحوال، وهذه الحالات الأربع هي استقرائية.

"ثم إن المخالعة على أربعة أحوال؛ الأول: أن تكون من غير ضرر من الزوج، ولا من الزوجة؛ فأجازها مالك، وغيره لقوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا الآية [النساء:4] ومنعها قوم لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:229]."

وفي قراءة حمزة بضم الياء (إلا أن يُخافا ألا يقيما حدود الله)[5] يعني: أن الخوف يكون صادرًا من غيرهما من غير الزوجين، فيكون ذلك مثلًا من قِبَل الحاكم، أو القاضي، ونحو ذلك، وحمله ابن جرير على هذه القراءة على المؤمنين، إلا أن يُخاف أهل الإيمان ألا يقيما حدود الله، هذه الحالة إذا كانت من غير ضرر من الزوج، ولا من الزوجة يمكن أن يُستدل لها بحديث: أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة[6] لم يصدر من الزوج شيء، وإذا لم يصدر منها هي شيء فلا يجوز للزوج أن يأخذ منها العوض على أن يطلقها، والمقصود بالخوف إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ هنا إقامة حدود الله - تبارك، وتعالى - بأن تسيء الخلق معه مثلًا، تتغير أخلاقها، ومعاملاتها لهذا الزوج فتتصرف معه بما لا يليق، أو أن تتكلم، وتتخاطب معه بما لا يحسن، ولا يجمل، تُعلمه - كما يقول بعضهم - بكراهتها له، تقول: أنا أكرهك، أنا لا أطيقك، أنا لا أرغب في البقاء معك، أنا أبغضك، أجد نفورًا منك، ونحو ذلك، أو ألا تطيع الزوج تكون ناشزًا، تترفع عن طاعته، وبعضهم يقول: بأن تكون الكراهة من الطرفين إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ينفر كل طرف من الآخر، ويكرهه، ويكره البقاء معه، هذه الكراهة، والبغض إذا وجد، والنفور، ونحو ذلك، يكون عذرًا لمثل هذه الحالة، فقد يصل الحال بالزوج، والزوجة أنه قد يكره الحي بكامله الذي تسكن فيه هذه المرأة مثلًا، فهذه الحال الأولى: أن تكون من غير ضرر من الزوج، ولا من الزوجة.

"والثاني: أن يكون الضرر منهما جميعًا فمنعه مالك في المشهور؛ لقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19] وأجازه الشافعي[7]؛ لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ

والثالث: أن يكون الضرر من الزوجة خاصة، فأجازه الجمهور لظاهر هذه الآية. 

والرابع: أن يكون الضرر من الزوج خاصة؛ فمنعه الجمهور؛ لقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الآية [النساء:20] وقد منع بعضهم الخلع مطلقاً لقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الآية [النساء:20] وأجازه أبو حنيفة مطلقًا[8] وقوله في ذلك مخالف للكتاب، والسنة."

الخلع يجوز إذا كان طلب الطلاق صادرًا من الزوجة بحيث تكون هذه الزوجة لا ترغب البقاء، والاستمرار مع هذا الزوج، فجعل الله لها مخرجًا، وجعل للزوج عوضًا، هذا الزوج بذل المهر، ثم بعد ذلك يُقابل بتفويت مصلحته، فتطلب الطلاق منه، فإذا كان الزوج يرغب بهذه المرأة، والبقاء معها فله أن يأخذ العوض، والمخرج بالنسبة للمرأة أن تبذل العوض أتردين عليه حديقته؟ قال: خذ الحديقة، وطلقها تطليقة الحديقة هذه كانت مهرًا فصار ذلك مصلحة للطرفين، لكن إذا كان الزوج لا رغبة له فيها أصلًا، هو لا يريدها ففي هذه الحال يطلق مجانًا، لا يجوز له أن يأخذ العوض، فيكون طلاقًا من غير خُلع إذا كان لا يريدها، وهو لا يتمكن من أخذ العوض إذا كان لا يطيقها، أو لا يريدها، أو لا رغبة له فيها إلا بالعضل، ولهذا قال الله : وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ بحيث أنه لا يريد هذه المرأة، فماذا يصنع؟ يؤذيها، ولا يطلقها حتى يضيق عليها فتلجأ إلى طلب الطلاق منه، هذا لا يجوز، يعاملها معاملة سيئة، يمنع حقوقها، ويقول: لا أطلق حتى تبذلي لي المهر. هذا لا يحل، كيف يأخذ ذلك، ويسترده، والله يقول: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21] فذلك بما استحل من بُضعها، فاستحقت المهر، فذكره في القول الرابع: أن يكون الضرر من الزوج خاصة. هذا لا يحل، قال: لقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النساء:20] وبعضهم يقول: إن آية البقرة هذه إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ منسوخة بآية النساء، ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فآية النساء وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا إلا إذا كانت الرغبة من قِبَل الزوج، وآية البقرة هذه إذا كان ذلك من قِبَل المرأة، فلا تعارض - والله أعلم -. 

فَإِنْ خِفْتُمْ خطاب للحكام، والمتوسطين في هذا الأمر."

ذكرت قول ابن جرير - رحمه الله - (إلا أن يُخافا) القراءة الأخرى قراءة حمزة، باعتبار أن الخوف صادر من المؤمنين فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ لاحظ هنا ما قال: فإن خافا ألا يقيما حدود الله. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فيكون هذا في الحكام، قول ابن جرير: في المؤمنين، يعني: بمعنى المتوسطين هنا يعني الذي دخلوا في هذا الأمر للإصلاح بين الزوجين، وحل الإشكال فيكون ذلك خطابًا لهم كالحكمين مثلًا.

فَإِنْ طَلَّقَها هذه هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين المذكورتين في قوله: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ

 حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ أجمعت الأمة على أن النكاح هنا هو العقد مع الدخول، والوطء، لقوله ﷺ للمطلقة ثلاثًا حين أرادت الرجوع إلى مطلقها قبل أن يمسها الزوج الآخر: لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك[9] وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد يحلها دون وطء[10] وهو قول مرفوض لمخالفته للحديث، وخرقه للإجماع، وإنما تحل عند مالك إذا كان النكاح صحيحًا لا شبهة فيه، والوطء مباحًا في غير حيض، ولا إحرام، ولا اعتكاف، ولا صيام، خلافًا لابن الماجشون في الوطء غير المباح، وأما نكاح المحلل فحرام، ولا يحل الزوجة لزوجها عند مالك، خلافًا لأبي حنيفة[11] والمعتبر في ذلك نية المحلل لا نية المرأة، ولا المحلل له، وقال قوم: من نوى التحليل منهم أفسد."

 حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ذكر هنا أن المقصود العقد مع الدخول، هذه أكمل إطلاقات النكاح في كتاب الله - تبارك، وتعالى - فالنكاح يأتي بمعنى مجموع الوطء، والعقد فهذا أوضح مثال له، ويأتي النكاح بمعنى الوطء خاصة، وهذا لم يأت صريحًا في كتاب الله ولكنه أحد الأقوال في قوله - تبارك، وتعالى -: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]، فُسر بالوطء، وهذا ليس محل اتفاق، يعني: بعضهم فسره بالعقد، والتزوج وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3] فعلى أحد القولين في آية النور يكون ذلك مثالًا على هذا الإطلاق الثاني، إطلاق النكاح على الوطء خاصة من غير عقد، يعني: لا يزني إلا بزانية تُقر بحكم الزنا، ولكنها لا تمتثل، أو مشركة تُنكر الحكم رأسًا، الإطلاق الثالث للنكاح: هو إطلاقه على العقد خاصة، يعني: من غير وطء، ومثاله: إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، فهذا صريح في هذا الإطلاق الثالث الذي هو مجرد العقد، فهذه إطلاقات النكاح الثلاثة، وهنا ما ذكره من المعتبر في ذلك من جهة القصد، والنية في التحليل بالإجماع أن نية الزوج الجديد معتبرة، يعني: إذا قصد التحليل فالنكاح باطل، ولا يحل لها أن ترجع إلى زوجها الأول، وأوضح من هذا لو كان التوافق بين الثلاثة: هذا المحلل، والزوج القديم، والزوجة، ويمكن أن يجتمع مع هؤلاء الرابع وهو الولي، فهذا لا شك أنه لا يحل للمرأة أن ترجع إلى زوجها الأول، تبقى نية غير الزوج الجديد فيما لو كان ذلك بنية المرأة، قبلت الزواج منه، وهي تقصد الرجوع إلى زوجها الأول، هل يؤثر، أو لا يؤثر؟ أو كان ذلك في نية الزوج القديم، جاء برجل ليتزوجها، ولم يخبره، ولم يتواطأ معه على ذلك فهل هذا يؤثر؟ كذلك الولي لو كان يريد بهذا النكاح هذا المعنى، هل نيته تؤثر، أو لا تؤثر؟ الذين قالوا: إنها لا تؤثر، قالوا: باعتبار أن هؤلاء لا يملكون عقدة النكاح، ولا يملكون الطلاق فهو بيد الزوج فنيتهم لا قيمة لها، ولا اعتبار.

يمكن أن تنوي المرأة هذا، ولكن الزوج الجديد يأبى، ولا يطلق، ويمكن أن يقصد هذا الزوج القديم، ولكن الزوج الجديد يرفضه، ويمسكها، قالوا: فلما كانت نية هؤلاء لا تؤثر إنما الذي يؤثر هو نية المحلل إن قصد التحليل، قالوا: المعتبر هو نية الزوج الجديد فقط، ولا قيمة لما نواه غيره.

وبعضهم اعتبر نية هؤلاء، ورأى أن ذلك، وإن لم يكن معه مواطأة من قِبَل الزوج الجديد، يعني كونه لا يعلم مثلًا لكن المرأة نوت هذا بأن ذلك يكون حرامًا، ولا تحل للزوج الأول، والأعمال بالنيات، وأنها قصدت التحايل بذلك للرجوع إلى زوجها الأول فعوقبت بضدة، وبعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قيد ذلك بما إذا صدر عنها مثلًا ما يقلق هذا الزوج الجديد، ويزعجه، أو نحو ذلك من المطالبة بالطلاق، ونحو هذا.

فالمقصود أن المعتبر نية المحلل، أما نية المرأة فبعضهم يقول: لا تؤثر؛ لأنها لا تملك الفُرقة. وهذا قول الحنفية[12] والمالكية[13] والحنابلة[14] قالوا: لا عبرة بنية المرأة.، وهو أحد الأقوال للشافعي - رحمه الله - وبعضهم - كما سبق - يقولون: بأن ذلك يؤثر في الحكم، وهذا مروي عن بعض السلف: كالنخعي، والحسن البصري[15] وسووا الثلاثة في ذلك، قالوا: لو نوى الزوج القديم كذلك أيضًا، أو الزوج الجديد، أو المرأة، فإذا وجدت النية من واحد من هؤلاء فإن ذلك يكون من قبيل نكاح التحليل.

وشيخ الإسلام يوجه كلام هؤلاء الذين قالوا: بأن نية المرأة لا تؤثر، أو تؤثر بما سبق أنها إذا كانت مجرد نية فقط فهذا لا يؤثر، وأما إذا صدر عنها عمل، أو قول، أو نحو ذلك مما يكون سببًا للطلاق فهنا تكون نيتها مؤثرة، ويكون تحليلًا، كأن تقول له: أنا ما تزوجتك إلا لأرجع للزوج الأول، أنا أحبه. أو أن تقول: أنا أحب رجلًا غيرك، أو تفتعل مشكلة من أجل أن يطلقها، أو أن تلح عليه، أو تضجره، أو أن تقول له: أبذل لك المال على أن تطلق، أو تحتال عليه بأنواع الحيل من أجل الطلاق كما يقول بعضهن مثلًا في بعض الأعراف، ونحو ذلك: طلبت، فإذا قال: أعطيتك. يشعر بأن ذلك من قبيل اللازم له، فتقول له: طلقني. فبعض الناس يرى أن هذا يلزمه، ولو كان يحبها، ولا يستغني عنها، يطلق مضطرًا، ومن المعاصرين الشيخ محمد صالح العثيمين - رحمه الله - يقول: بأن نية الثلاثة تؤثر سواء كان ذلك من قِبَل المحلل، أو المرأة، أو الزوج السابق[16].

والذي قال: نية المرأة غير مؤثرة. لكن هل هي تأثم على هذه النية؟ هي تأثم على هذه النية؛ لأن ليس لها ذلك أن تتزوج بقصد الرجوع إلى الأول؛ لأن الأصل في الزواج البقاء، والدوام، فهذه النية لن تجعل هذه المرأة في حال من الملائمة مع زوجها الجديد، فإن رأت أنه قد رغب فيها فذلك يحملها على أن تكون على الأقل في حال من السلبية كما يقال لهذا الزوج فلا تبدي له من المشاعر، أو تؤدي من الحقوق ما يكون بين الزوجين، وإنما الواجب عليها أن تتزوج باعتبار أنه زواج دائم لا لقصد الرجوع إلى الأول.

لكن على كل حال القول المروي عن سعيد بن المسيب هذا قول شاذ، وغريب، وقد لا يثبت أصلًا عنه، ونقل محقق الكتاب في الحاشية: قال ابن كثير في تفسيره: في صحته عنه نظر[17] ثم ساق روايات عنه عن ابن عمر بخلاف هذه، ثم علق بقوله: فبعيد أن يخالف ما رواه بغير سند.

فَإِنْ طَلَّقَها يعني هذا الزوج الثاني.

 فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي: على الزوجة، والزوج الأول.

 أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أي: أوامره فيما يجب من حقوق الزوجية."

  1. تفسير ابن كثير (1/610).
  2. المصدر السابق (1/611).
  3. المصدر السابق (1/612).
  4.  أخرجه الطبري في تفسيره (4/557)، وأصل هذه القصة ثابت بدون سبب النزول عند البخاري، وغيره من حديث ابن عباس ا أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق، ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله ﷺ أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال رسول الله ﷺ اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة.
  5.  تفسير القرطبي (3/137).
  6.  أخرجه أبو داود، باب في الخلع، رقم: (2226)، والترمذي، باب ما جاء في المختلعات، رقم: (1187)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب كراهية الخلع للمرأة، رقم: (2055).
  7.  الحاوي الكبير (10/7).
  8.  الدر المختار، وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (3/57)
  9.  أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب إذا طلقها ثلاثا، ثم تزوجت بعد العدة زوجا غيره، فلم يمسها، رقم: (5317)، ومسلم، كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، ويطأها، ثم يفارقها، وتنقضي عدتها، رقم: (1433).
  10.  ذكره ابن عبد البر في كتابه الاستذكار، كما في تفسير ابن كثير (1/622)، وقال ابن كثير:، واشتهر بين كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب، رحمه الله، أنه يقول: يحصل المقصود من تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني.، وفي صحته عنه نظر، على أن الشيخ أبا عمر بن عبد البر قد حكاه عنه في الاستذكار.
  11.  النتف في الفتاوى للسغدي (1/257).
  12. بدائع الصنائع (3/188).
  13.  حاشية الدسوقي (2/258)
  14.  المغني (7/139)، كشاف القناع (5/96).
  15.  الفتاوى الكبرى (6/298).
  16. الشرح الممتع على زاد المستقنع (12/178).
  17.  تفسير ابن كثير (1/622).

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- الطلاق الذي يملك فيه الرجل الرجعة: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [سورة البقرة:229]، ذكر بعد ذلك ما يكون بعد الطلقة الثالثة، فقال الله -تبارك وتعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:230].

فإن طلقها، يعني: الزوج بعد الطلقتين طلقة ثالثة فعندئذ لا تحل له لا يملك المراجعة، حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، يعني: حتى تتزوج زوجًا غيره، والنكاح المراد به في هذا الموضع خاصة بصورة صريحة هو مجموع العقد الصحيح، إضافة إلى الوطء هذا أكمل إطلاقات النكاح.

النكاح في القرآن أُطلق بهذا الإطلاق على أكمل معانيه في هذا الموضع، وأُطلق مرادًا به العقد فقط، كما قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [سورة الأحزاب:49]، فهذا صريح بأن المراد بالنكاح مجرد العقد، الثالث وهو إطلاق النكاح مرادًا به الوطء فقط، وهذا لا يوجد له مثال في كتاب الله يدل على هذا المعنى دلالة واضحة صريحة، وإنما هو أحد الأقوال في قوله -تبارك وتعالى- في سورة النور: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [سورة النور:3]، فقد فُسر النكاح هنا بالوطء، بمعنى أنه لا يقع إلا على موافقة له فهي زانية، أو تكون مشركة، لا تُقر بشرع الله وحكمه، وتستحل الزنا فهذه مشركة، هذا أحد الأقوال في تفسير هذا الموضع، وقد قيل: بأن النكاح المقصود به التزوج والعقد وهو قول مشهور.

على كل حال، في هذه الآية: فَإِنْ طَلَّقَهَا، طلق الرجل امرأته الطلقة الثالثة فلا تحل له إلا إذا تزوجت رجلاً آخر أن يكون نكاحًا صحيحًا، يعني: بعقد صحيح، وأن يكون معه الوطء ولابد، فلو أنه عقد عليها من غير وطء، فإن ذلك لا يُبيحها للأول، ولو أنه عقد عليها وباشرها واستمتع بها فيما دون الوطء فإن ذلك أيضًا لا يُبيحها للأول حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، ويدل على أن الوطء لابد منه قول النبي ﷺ: حتى تذوقي عُسيلته، ويذوق عُسيلتك[1]، يعني: المقصود به الاستمتاع بالجماع.

فَإِنْ طَلَّقَهَا، هذا الرجل الذي تزوجها برغبة، لابد من هذا، لا يتزوج هذه المرأة من أجل أن يُحللها للأول، ولو كان نكاحًا مستوفيًا للشروط من جهة الولي وما إلى ذلك مما يُطلب فيه والمهر والجماع، إذا كان يقصد بذلك التحليل للأول، فإنها لا تحل لزوجها السابق، حتى لو كانت المرأة غير مواطأة لهذا الزوج الجديد، وحتى لو كانت غير مواطأة، حتى لو كان الولي غير مواطأ للزوج الجديد، يعني على هذه النية ليس هناك اتفاق.

فالصور في هذا فيما لو اتفق المرأة والرجل الزوج الجديد على أن يكون هذا النكاح للتحليل، تزوجها من أجل أن يُحللها للزوج الأول، فهذا بالإجماع لا يجوز، ولا يصح، ولا تحل للأول، والصورة الثانية فيما لو كان القصد من قِبل الزوج الجديد فهي لا تحل للأول؛ لأنه هو الذي يملك عُقدة النكاح هذا الزوج الجديد، فهو تزوجها لهذا الغرض: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى[2]، فلا تصح نيته هذه ولا تحل للأول، لو أنه رأى مثلاً عنده أولاد أو شدة تعلق زوجها بها أو شدة تعلقها بالزوج، فبزعمه أراد أن يفعل خيرًا من أجل أن ترجع إلى زوجها وبيتها وأولادها، رأى أن هذه المرأة لا صبر لها عنه، أو لا صبر لها عن هؤلاء الأولاد، فتزوجها ليُحللها للأول، فهذا لا تحل معه، ولا يجوز له هذا النكاح.

تبقى صور مختلف فيها: كما لو أنه كان القصد من الزوجة، وأما الزوج الجديد لا يعلم، أو كان القصد من الولي ولي المرأة والزوج الجديد لا يعلم، فهذا فيه خلاف، وبعض أهل العلم يقول: إن وقع هذا القصد الفاسد من أحد الأطراف التي يدور عليها العقد، فإن ذلك لا يصح فهو قصد فاسد.

قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا، إن طلقها، يعني: الزوج الجديد، طيب لو مات عنها؟ كذلك، لو ما طلقها لكنه مات فحصلت الفرقة بطلاق أو بوفاة، فعندئذ إذا انقضت العدة فلا إثم على المرأة وعلى الزوج الأول أن يتراجعا بعقد جديد ومهر جديد، إن غلبا على ظنهما أن يُقيما حدود الله -تبارك وتعالى- التي شرعها للزوجين، أن تكون الحياة على حال مرضية، يؤدي كل واحد منهما حق الآخر، فإن غلب على ظنهما ذلك فلا بأس أن ينكحها الزوج الأول، وتلك أحكام الله المُحددة يُبينها لقوم يعلمون أحكامه وحدوده، ويفقهون ويفهمون عن الله؛ لأنهم المُنتفعون بذلك.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد والهدايات: أن قوله -تبارك وتعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [سورة البقرة:230]، هذا الإنسان الذي مضى عليه طلقتان أُعطي فرصتين، ثم بعد ذلك طلق الثالثة هذا يدل على أن الحياة أو على النظر هذا الرجل، أو على أن هذه الرابطة وهذه الوشيجة هشة، فتحتاج إلى لربما شيء من التأديب لهذا الزوج، أو التغيير لهذا النمط فتتزوج هذه المرأة رجلاً آخر، فقد تجد معه ما تطلبه من حياة هنية وراحة، وما إلى ذلك، وذاك الزوج حينما ينقطع السبيل إليها؛ فإنه بذلك يراجع نفسه مراجعة صحيحة، فهو لا يملك الإرجاع، وقد خرجت من يده سواء تزوجها رجل آخر أو لم يتزوجها، ثم بعد ذلك إن طلقها هذا الرجل فعند ذلك يمكنهما المراجعة.

يؤخذ من هذه الآية: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [سورة البقرة:230]، أنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يدخل في أمر من الأمور لاسيما ما يتعلق بالولايات سواء كانت من الولايات الصغار أو الكِبار، أن ينظر في نفسه هل يجد قوة على ذلك فيُقدم وإلا أحجم، فلا يدخل في أمر، ثم بعد ذلك يكون التضييع والتفريط، ولا يُقيم حدود الله -تبارك وتعالى- في هذا الأمر الذي دخل فيه إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ.

ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة الاكتفاء بالظن، المقصود بالظن هنا غلبة الظن، أن ذلك باعتبار الظن الغالب في الأمور المُستقبلية؛ لأن الإنسان لا يقطع بحصولها وتحققها، فيبني على غلبة الظن، ولا يُحمل ما لا يُطيق بالقطع بما يكون عليه في المستقبل إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، يعني: إن غلب على ظنهما إقامة حدود الله -تبارك وتعالى.

ثم أيضًا يؤخذ من هذا الموضع من هذه الآية: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، هذه الرجعة مُباحة لكن إن كان يترتب عليها التضييع لحدود الله -تبارك وتعالى- فهي محرمة، فالأمور المُباحة للإنسان أن يدخل فيها، لكن إن غلب على ظنه، أو عرف على نفسه أنه سيترتب على هذا الدخول تضييع لحدود الله ، فليس له أن يدخل في ذلك، قد يُقيم الإنسان مشروعًا، قد يدخل شريكًا مع أحد من الناس، ثم بعد ذلك يغلب على الظن أن هذا العمل لن ينضبط بالضوابط الشرعية، إما بسبب هذا الشريك، وإما بسبب طبيعة العمل، ففي هذه الحال يكون دخوله ممنوعًا.

وهكذا لو أنه أراد أن يعمل عملاً مُباحًا لكن في هذا العمل المُباح الذي يريد أن يتوظف به مُلابسة ومقارفة لشيء من المنكر والمحرم، فليس له أن يدخل فيه، مع أن أصل العمل في نفسه مُباح، لكن يترتب عليه تضييع لحدود الله .

وكذلك أيضًا فيما لو كان هذا الإنسان في طاعة، في عبادة، وليس في أمر مُباح، وقد ذكرت في بعض المناسبات أن الإمام مالك -رحمه الله- في مسألة الاعتكاف كره للإنسان أن يعتكف إذا كان يعلم أنه لن يحفظ هذا الاعتكاف، هو يعتكف هذه عبادة مشروعة، لكن هو يعلم أنه إذا اعتكف سيُضيع هذا الاعتكاف، كثرة الخروج من غير مُبرر شرعي مُعتبر.

وكذلك أيضًا بما يُقارفه ويُلابسه في هذا الاعتكاف، من نظر حرام، أو كلام حرام، أو كثرة الخلطة، أو نحو ذلك مما يُخالف مقصود الاعتكاف، ففي هذه الحالة لا يعتكف.

وهكذا من الناس من قد يذهب للحج أو العمرة، سفر مشروع في غير الفريضة، لكنه يعلم أنه إذا ذهب لن يقيم حدود الله -تبارك وتعالى- في هذا العمل، سيُضيع للعجلة مسابقة الناس، الرجوع قبل الناس، النأي بالنفس عن المشقات، فيترك ما أُمر به في أعمال الحج والعمرة ويُفرط، ويوقع بعض هذه الأعمال في غير وقتها الذي تُشرع فيه، ففي هذا الحال يقال ليس لك أن تدخل في هذا العمل، لكن كما قال الله : إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فلا تدخل في أمر إلا وقد غلب على ظنك أن تُقيم حدود الله -تبارك وتعالى- فيه على الوجه المشروع على الوجه المطلوب، قد يتعاقد الإنسان مع أحد، على عمل في تعليم، أو في غير ذلك من الأمور، وهو يعلم أنه لن يؤدي هذا العمل على الوجه الصحيح المطلوب، إذًا لا يدخل فيه.

وهكذا إذا أراد الإنسان أن يدخل في أمر من الأمور فالعاقل ينظر في المخرج منه أيضًا، فقد يدخل الإنسان في شيء ولا يستطيع الخروج منه، وهذا يكون بسبب العجلة، وقِصر النظر.

كذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، هذا فضل العلم والفقه في الدين فالجاهل لا يضبط ذلك، ولا يرفع به رأسًا، ولا يتعاهده، إنما الذي يفقه عن الله ويعلم وينتفع بهذه الحدود والأوامر والنواهي والتوجيهات الربانية هم الذين يعلمون، وهذا مما يدل على شرف العلم، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [سورة الزمر:9]، والاستفهام هنا مُضمن معنى النفي، يعني: لا يستوون.

فلا يعرف حدود الله -تبارك وتعالى- ويتبين ذلك على الوجه الصحيح إلا أهل العلم، وكلما كان هذا الوصف متحققًا في العبد بصورة أكمل، كان عقله عن الله -تبارك وتعالى- أعظم، يعقل الأوامر والنواهي، ويعرف حدوده، ويكون ذلك سبيلاً وسببًا لمزيد من الفقه والفهم والاستنباط، فيكثر بذلك العلم والفقه في الدين، فيكون بذلك في تجارة رابحة، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

  1. أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب إذا طلقها ثلاثا، ثم تزوجت بعد العدة زوجا غيره، فلم يمسها، رقم: (5317)، ومسلم، كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، ويطأها، ثم يفارقها وتنقضي عدتها، رقم: (1433).
  2. أخرجه البخاري، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ؟ رقم: (1).