قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها، وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها.
وكذا روى العوفي عنه عن ابن عباس - ا - أيضاً، وكذا قال مسروق وإبراهيم النخعي، والزهري والضحاك: إنها أنزلت في ذلك، وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية".فقوله - تبارك وتعالى -: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ بلوغ الأجل في هذه الآية غير بلوغ الأجل في الآية التي قبلها وهي قوله سبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [سورة البقرة:231] إذ معنى بلوغ الأجل في قوله سبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أي: انقضاء العدة إذا طلقها طلاقاً رجعياً، وبانت منه، ثم وجدت الرغبة بين الزوجين في أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه فلا ينبغي عضلهن عن ذلك، وهذا دليل على أن اللفظة الواحدة قد تستعمل في معانٍ متعددة.
وتباينت أقوال المفسرين في المعنيِّ بالخطاب في قوله سبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ فقيل: إن المراد إذا طلقتم أيها الأزواج النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن يعني أيها الأولياء، والسياق يدل على هذا المعنى دلالة ظاهرة، وإن اختلف المقصود بالخطاب في أوله وآخره، واختاره عامة أهل العلم بما فيهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - وهو الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا ونقله عن جماعة.
ومن أهل العلم من رأى توحيد وجهة الخطاب فحمله على الأولياء في الأول والآخر، والمعنى إذا طلقتم أيها الأولياء النساء فلا تعضلوهن، وعللوا ذلك بقولهم: إنه لما كان الطلاق ناتجاً عن عقد النكاح، ثم بعد ذلك ترتب على هذا التزويج الطلاق، أضيف الطلاق إليهم بهذا الاعتبار، وهذا نوع من التكلف حملهم على اعتباره أنهم أرادوا أن يوحدوا وجهة الخطاب.
وقيل: إن وجهة الخطاب واحدة، والمقصود بها الأزواج، والمعنى إذا طلقتم أيها الأزواج النساء فبلغن أجلهن فلا تمنعونهن من التزويج، وذلك على طريقة بعض العظماء، أو بعض من عندهم حمية الجاهلية، فإذا طلق المرأة فإنه لا يمكنها - بسلطانه - مَن ليس له سلطان، وإنما جعلوا الخطاب للزوج الأول وهي قد بانت منه باعتبار ما كان، وكذا أطلقوا على الخاطب الجديد زوجاً باعتبار ما سيكون من النتيجة والعاقبة.
والحقيقة أن سبب النزول بيَّن المقصود من الخطاب في الآية، فلذا يرجع إليه، ولقد كان من فوائد سبب النزول أنه يوضح المعنى، ويرفع الإشكال على درجات متفاوتة، فطالما هذه الاحتمالات موجودة - وإن كانت ضعيفة في نظرنا - إلا أن سبب النزول يجلي المراد، ولا يمنع هذا من تفريق الخطاب؛ لأن السياق يدل على الجميع، وليس في هذا إخلال لا من جهة اللغة، ولا من جهة البلاغة.
قوله: إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ الضمير جاء بصيغة الجمع، والمراد الرجل والمرأة إذا اصطلحوا على ما يحصل به التراضي على قدر معين يستحل به الرجل بضع المرآة، ويدخل فيه ما يختص بالمهر، وما يتعلق بسواه كالسكنى، والمعاملة، والحقوق وما أشبه ذلك كما يذكر ابن جرير - رحمه الله -، والله أعلم.
وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها، وأنه لابد في تزويجها من ولي.لأن الخطاب في قوله: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ للأولياء، مما يؤكد على أن المرأة ليس أمرها بيدها، بل لا بد في تزويجها من ولي، وإلا فلا معنى من الإشارة إليه في الآية.
كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية كما جاء في الحديث: لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها[1].
وفي الأثر الآخر: لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل"[2]أصل الحديث رواه عن النبي ﷺ جماعة من الصحابة كابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة ... وغيرهم، وهو حديث ثابت مشهور صح من وجوه متعددة.
"وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته - ا -، فقد روى البخاري - رحمه الله - في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها، فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها؛ فأبى معقل، فنزلت: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ[3]، وهكذا رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه وابن أبي حاتم، وابن جرير وابن مردويه من طرق متعددة عن الحسن عن معقل بن يسار به، وصححه الترمذي أيضاً، ولفظه عن معقل بن يسار: أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله ﷺ، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب فقال له: "يا لكع، أكرمتك بها، وزوجتك؛ فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك"، قال: فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء، إلى قوله: ... وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، فلما سمعها معقل قال: سمعاً لربي وطاعة، ثم دعاه فقال: "أزوجك، وأكرمك"[4] زاد ابن مردويه: وكفرت عن يميني.
وجاء في بعض الروايات أنها نزلت بسبب جابر بن عبد الله ، وأياً كان سبب النزول فإن الروايات تعاضدت على أن العضل غالباً ما يكون من قبل الأولياء كما نص عليه الجمهور.
وقوله: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أي: هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، يأتمر به ويتعظ به، وينفعل له من كان منكم أيها الناس يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أي: يؤمن بشرع الله، ويخاف وعيد الله، وعذابه في الدار الآخرة، وما فيها من الجزاء، ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي: اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزوجهن، وترك الحمية في ذلك أزكى لكم، وأطهر لقلوبكم، وَاللّهُ يَعْلَمُ أي: من المصالح فيما يأمر به، وينهى عنه، وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ أي: الخيرة فيما تأتون، ولا فيما تذرون".إنما كان الخطاب في قوله: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ... للأولياء للدلالة على أن الأولياء في الغالب هم من يقفون حجر عثرة، أو حاجزاً حائلاً دون رجوع المرأة إلى زوجها المطلقة منه طلاقاً بائناً، وغالباً ما يصحب هذا الطلاق تكدر الأجواء بين أهل المرأة وأهل الرجل، خاصة أن المرأة تُظهر بعد طلاقها كل ما أخفته، وما لم يطلع عليه وليها من معاملات زوجها، ومواقفه معها طيلة فترة التصاقه بها، يدفعها لذلك صدمة الطلاق، أو كون الأمور قد بلغت مداها، مما يزيد الشحناء في القلوب، ويبعث على البغضاء، ويذكي نار الغل في النفوس فتسكنها النفرة والامتعاض، ويجعل الولي يصر على الحيلولة بينه وبين رجوعه إليها، وهذا يخالف المقصد الشرعي في استدامة الحياة بينهما؛ لأن الرجل قد يرجع إلى صوابه، وكذا المرأة تعود إلى رشدها بعدما تنتهي ثورة الغضب في النفوس، فيفكرا بعودة الحياة بينهما لا سيما إذا كان لهما ذرية وأولاد، فإذا وقف الأولياء موقفاً مضاداً خالفوا أمر الشارع في ذلك؛ لأنه قال: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ثم أشار الله إلى الحكمة من رد الموليات إلى أزواجهن، وتذليل الأولياء العقبات في حال ما إذا قررا أن يجددا العشرة بينهما فقال : ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ، ولقد أشار ابن جرير إلى هذه اللفتة الرائعة بقوله: يعني - تعالى ذكره - بقوله: ذَلِكُمْ أي: نكاحهن أزواجهن، ومراجعة أزواجهن إياهن بما أباح لهن من نكاح ومهر جديد أَزْكَى لَكُمْ أيها الأولياء، والأزواج، والزوجات...، ثم قال: ويعني بقوله: أَزْكَى لَكُمْ أي: أفضل وخير عند الله من فرقتهن أزواجهن.
وأما قوله: وَأَطْهَرُ فإنه يعني بذلك: أطهر لقلوبكم، وقلوبهن، وقلوب أزواجهن من الريبة؛ وذلك أنه إذا كان في نفس كل واحد منهما - أعني الزوج والمرأة - علاقة حب لم يؤمن أن يتجاوزا ذلك إلى غير ما أحله الله لهما،... فأمر الله - تعالى ذكره - الأولياء إذا أراد الأزواج التراجع بعد البينونة بنكاح مستأنف في الحال التي أذن الله لهما بالتراجع أن لا يعضل وليته عما أرادت من ذلك وأن يزوجها؛ لأن ذلك أفضل لجميعهم، وأطهر لقلوبهم مما يخاف سبوقه إليها من المعاني المكروهة.
ثم أخبر - تعالى ذكره - عباده أنه يعلم من سرائرهم، وخفيات أمورهم ما لا يعلمه بعضهم من بعض، ودلهم بقوله لهم ذلك في هذا الموضع: إنه إنما أمر أولياء النساء بإنكاح من كانوا أولياءه من النساء إذا تراضت المرأة والزوج الخاطب بينهم بالمعروف، ونهاهم عن عضلهن عن ذلك؛ لما علم مما في قلب الخاطب والمخطوب من غلبة الهوى، والميل من كل واحد منهما إلى صاحبه بالمودة، والمحبة، فقال لهم - تعالى ذكره -: افعلوا ما أمرتكم به إن كنتم تؤمنون بي، وبثوابي، وبعقابي في معادكم في الآخرة، فإني أعلم من قلب الخاطب والمخطوبة ما لا تعلمونه من الهوى والمحبة، وفعلكم ذلك أفضل لكم عند الله ولهم، وأزكى وأطهر لقلوبكم وقلوبهن في العاجل" فهذا ملحظ جيد ذكره ابن جرير - رحمه الله -.
- رواه ابن ماجه برقم (1882) (1/606)، وصحح الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير هذا الحديث دون قوله: فإن الزانية هي التي تزوج نفسها فحكم بضعفها برقم (13254).
- رواه البيهقي في السنن الكبرى عن ابن عباس برقم (13428).
- رواه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة البقرة برقم (4255) (4/1645).
- رواه الترمذي برقم (2981) (5/216)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2981).