الأحد 25 / ربيع الأوّل / 1446 - 29 / سبتمبر 2024
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوْا۟ بَيْنَهُم بِٱلْمَعْرُوفِ ۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ ۗ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:232].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها، وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها.
وكذا روى العوفي عنه عن ابن عباس - ا - أيضاً، وكذا قال مسروق وإبراهيم النخعي، والزهري والضحاك: إنها أنزلت في ذلك، وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية".
فقوله - تبارك وتعالى -: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ بلوغ الأجل في هذه الآية غير بلوغ الأجل في الآية التي قبلها وهي قوله سبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [سورة البقرة:231] إذ معنى بلوغ الأجل في قوله سبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أي: انقضاء العدة إذا طلقها طلاقاً رجعياً، وبانت منه، ثم وجدت الرغبة بين الزوجين في أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه فلا ينبغي عضلهن عن ذلك، وهذا دليل على أن اللفظة الواحدة قد تستعمل في معانٍ متعددة.
وتباينت أقوال المفسرين في المعنيِّ بالخطاب في قوله سبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ فقيل: إن المراد إذا طلقتم أيها الأزواج النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن يعني أيها الأولياء، والسياق يدل على هذا المعنى دلالة ظاهرة، وإن اختلف المقصود بالخطاب في أوله وآخره، واختاره عامة أهل العلم بما فيهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - وهو الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا ونقله عن جماعة.
ومن أهل العلم من رأى توحيد وجهة الخطاب فحمله على الأولياء في الأول والآخر، والمعنى إذا طلقتم أيها الأولياء النساء فلا تعضلوهن، وعللوا ذلك بقولهم: إنه لما كان الطلاق ناتجاً عن عقد النكاح، ثم بعد ذلك ترتب على هذا التزويج الطلاق، أضيف الطلاق إليهم بهذا الاعتبار، وهذا نوع من التكلف حملهم على اعتباره أنهم أرادوا أن يوحدوا وجهة الخطاب.
وقيل: إن وجهة الخطاب واحدة، والمقصود بها الأزواج، والمعنى إذا طلقتم أيها الأزواج النساء فبلغن أجلهن فلا تمنعونهن من التزويج، وذلك على طريقة بعض العظماء، أو بعض من عندهم حمية الجاهلية، فإذا طلق المرأة فإنه لا يمكنها - بسلطانه - مَن ليس له سلطان، وإنما جعلوا الخطاب للزوج الأول وهي قد بانت منه باعتبار ما كان، وكذا أطلقوا على الخاطب الجديد زوجاً باعتبار ما سيكون من النتيجة والعاقبة.
والحقيقة أن سبب النزول بيَّن المقصود من الخطاب في الآية، فلذا يرجع إليه، ولقد كان من فوائد سبب النزول أنه يوضح المعنى، ويرفع الإشكال على درجات متفاوتة، فطالما هذه الاحتمالات موجودة - وإن كانت ضعيفة في نظرنا - إلا أن سبب النزول يجلي المراد، ولا يمنع هذا من تفريق الخطاب؛ لأن السياق يدل على الجميع، وليس في هذا إخلال لا من جهة اللغة، ولا من جهة البلاغة.
قوله: إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ الضمير جاء بصيغة الجمع، والمراد الرجل والمرأة إذا اصطلحوا على ما يحصل به التراضي على قدر معين يستحل به الرجل بضع المرآة، ويدخل فيه ما يختص بالمهر، وما يتعلق بسواه كالسكنى، والمعاملة، والحقوق وما أشبه ذلك كما يذكر ابن جرير - رحمه الله -، والله أعلم.
وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها، وأنه لابد في تزويجها من ولي.لأن الخطاب في قوله: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ للأولياء، مما يؤكد على أن المرأة ليس أمرها بيدها، بل لا بد في تزويجها من ولي، وإلا فلا معنى من الإشارة إليه في الآية.
كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية كما جاء في الحديث: لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها[1].
وفي الأثر الآخر: لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل"[2]
أصل الحديث رواه عن النبي ﷺ جماعة من الصحابة كابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة ... وغيرهم، وهو حديث ثابت مشهور صح من وجوه متعددة.
"وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته - ا -، فقد روى البخاري - رحمه الله - في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها، فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها؛ فأبى معقل، فنزلت: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ[3]، وهكذا رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه وابن أبي حاتم، وابن جرير وابن مردويه من طرق متعددة عن الحسن عن معقل بن يسار به، وصححه الترمذي أيضاً، ولفظه عن معقل بن يسار: أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله ﷺ، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب فقال له: "يا لكع، أكرمتك بها، وزوجتك؛ فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك"، قال: فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء، إلى قوله: ... وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، فلما سمعها معقل قال: سمعاً لربي وطاعة، ثم دعاه فقال: "أزوجك، وأكرمك"[4] زاد ابن مردويه: وكفرت عن يميني.
وجاء في بعض الروايات أنها نزلت بسبب جابر بن عبد الله ، وأياً كان سبب النزول فإن الروايات تعاضدت على أن العضل غالباً ما يكون من قبل الأولياء كما نص عليه الجمهور.
وقوله: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أي: هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، يأتمر به ويتعظ به، وينفعل له من كان منكم أيها الناس يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أي: يؤمن بشرع الله، ويخاف وعيد الله، وعذابه في الدار الآخرة، وما فيها من الجزاء، ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي: اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزوجهن، وترك الحمية في ذلك أزكى لكم، وأطهر لقلوبكم، وَاللّهُ يَعْلَمُ أي: من المصالح فيما يأمر به، وينهى عنه، وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ أي: الخيرة فيما تأتون، ولا فيما تذرون".
إنما كان الخطاب في قوله: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ... للأولياء للدلالة على أن الأولياء في الغالب هم من يقفون حجر عثرة، أو حاجزاً حائلاً دون رجوع المرأة إلى زوجها المطلقة منه طلاقاً بائناً، وغالباً ما يصحب هذا الطلاق تكدر الأجواء بين أهل المرأة وأهل الرجل، خاصة أن المرأة تُظهر بعد طلاقها كل ما أخفته، وما لم يطلع عليه وليها من معاملات زوجها، ومواقفه معها طيلة فترة التصاقه بها، يدفعها لذلك صدمة الطلاق، أو كون الأمور قد بلغت مداها، مما يزيد الشحناء في القلوب، ويبعث على البغضاء، ويذكي نار الغل في النفوس فتسكنها النفرة والامتعاض، ويجعل الولي يصر على الحيلولة بينه وبين رجوعه إليها، وهذا يخالف المقصد الشرعي في استدامة الحياة بينهما؛ لأن الرجل قد يرجع إلى صوابه، وكذا المرأة تعود إلى رشدها بعدما تنتهي ثورة الغضب في النفوس، فيفكرا بعودة الحياة بينهما لا سيما إذا كان لهما ذرية وأولاد، فإذا وقف الأولياء موقفاً مضاداً خالفوا أمر الشارع في ذلك؛ لأنه قال: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ثم أشار الله إلى الحكمة من رد الموليات إلى أزواجهن، وتذليل الأولياء العقبات في حال ما إذا قررا أن يجددا العشرة بينهما فقال : ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ، ولقد أشار ابن جرير إلى هذه اللفتة الرائعة بقوله: يعني - تعالى ذكره - بقوله: ذَلِكُمْ أي: نكاحهن أزواجهن، ومراجعة أزواجهن إياهن بما أباح لهن من نكاح ومهر جديد أَزْكَى لَكُمْ أيها الأولياء، والأزواج، والزوجات...، ثم قال: ويعني بقوله: أَزْكَى لَكُمْ أي: أفضل وخير عند الله من فرقتهن أزواجهن.
وأما قوله: وَأَطْهَرُ فإنه يعني بذلك: أطهر لقلوبكم، وقلوبهن، وقلوب أزواجهن من الريبة؛ وذلك أنه إذا كان في نفس كل واحد منهما - أعني الزوج والمرأة - علاقة حب لم يؤمن أن يتجاوزا ذلك إلى غير ما أحله الله لهما،... فأمر الله - تعالى ذكره - الأولياء إذا أراد الأزواج التراجع بعد البينونة بنكاح مستأنف في الحال التي أذن الله لهما بالتراجع أن لا يعضل وليته عما أرادت من ذلك وأن يزوجها؛ لأن ذلك أفضل لجميعهم، وأطهر لقلوبهم مما يخاف سبوقه إليها من المعاني المكروهة.
ثم أخبر - تعالى ذكره - عباده أنه يعلم من سرائرهم، وخفيات أمورهم ما لا يعلمه بعضهم من بعض، ودلهم بقوله لهم ذلك في هذا الموضع: إنه إنما أمر أولياء النساء بإنكاح من كانوا أولياءه من النساء إذا تراضت المرأة والزوج الخاطب بينهم بالمعروف، ونهاهم عن عضلهن عن ذلك؛ لما علم مما في قلب الخاطب والمخطوب من غلبة الهوى، والميل من كل واحد منهما إلى صاحبه بالمودة، والمحبة، فقال لهم - تعالى ذكره -: افعلوا ما أمرتكم به إن كنتم تؤمنون بي، وبثوابي، وبعقابي في معادكم في الآخرة، فإني أعلم من قلب الخاطب والمخطوبة ما لا تعلمونه من الهوى والمحبة، وفعلكم ذلك أفضل لكم عند الله ولهم، وأزكى وأطهر لقلوبكم وقلوبهن في العاجل" فهذا ملحظ جيد ذكره ابن جرير - رحمه الله -.
  1. رواه ابن ماجه برقم (1882) (1/606)، وصحح الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير هذا الحديث دون قوله: فإن الزانية هي التي تزوج نفسها فحكم بضعفها برقم (13254).
  2. رواه البيهقي في السنن الكبرى عن ابن عباس برقم (13428).
  3. رواه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة البقرة برقم (4255) (4/1645).
  4. رواه الترمذي برقم (2981) (5/216)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2981).

مرات الإستماع: 0

"الْأَسْماءَ كُلَّها أي: أسماء بني آدم، وأسماء أجناس الأشياء كتسمية القمر، والشجر، وغير ذلك."

قال ابن جرير - رحمه الله -: بأنه علمه الأسماء كلها: أسماء الملائكة، وذرية آدم[1].

وقال ابن كثير: بأن الصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذواتها، وصفاتها، وأفعالها[2].

ونسب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - القول بأنها أسماء كل الأشياء إلى الجمهور[3] علمه أسماء كل شيء، وهذا المشهور عن ابن عباس - ا - يعني حتى علمه المصغر، قصعة، والقُصيعة، وبهذا قال كثير من السلف: كمجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة[4] علمه أسماء كل شيء وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا فهذا ظاهره العموم، ولا دليل على تخصيصه بأسماء الذرية، وأسماء الملائكة، وإنما يُحمل على عمومه.

فلاحظ هنا يقول:  الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا أي: أسماء بني آدم، أو أسماء أجناس الأشياء، ولا ندري هل ابن جزي - رحمه الله - يريد الجمع بين الأمرين، يعني يقول: بأن الأسماء هنا أسماء بني آدم، وأسماء أجناس الأشياء، أو أنه ذكر الآخر من باب الاحتمال. يحتمل أسماء أجناس الأشياء: كتسمية القمر، والشجر، إلخ، يعني أن هذا يقال له شجر، وهذا يقال له بحر، وهذا يقال له جبل، دون تسمية الجبل المعين، والشجرة المعينة، ونحو ذلك هذا معنى أجناس الأشياء.

"ثُمَّ عَرَضَهُمْ أي: عرض المسميات، وهي أشخاص بني آدم، وأجناس الأشياء."

يعني أنه أبرزها لهم في الخارج، أبرزها لهم فقال:  فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .

أَنْبِئُونِي أمر على وجه التعجيز.

 إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي: في قولكم: إن الخليفة يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، وقيل: إن كنتم صادقين في جواب السؤال، والمعرفة بالأسماء."

الحافظ ابن كثير يقول: إن كنتم صادقين في قيلكم إني إن جعلت خليفة في الأرض من غيركم عصاني، وذريته، وأفسدوا، وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني، واتبعتم أمري، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم، وأنتم تشاهدونه، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين[5].

أنتم لا تعرفون أسماء هؤلاء فكيف بما وراء ذلك من الحكم، والغايات الحميدة، فهذا المخلوق هذا آدم - عليه الصلاة، والسلام - يأتي من ذريته الأنبياء، والرسل الكرام - عليهم الصلاة، والسلام - ويحصل على أيديهم أنواع التعبد، والتقرب إلى الله والجهاد في سبيله، بذل النفوس، والمهج، وما إلى ذلك، فهذا كله مما يدخل في حكمة خلق هذا الخليفة في الأرض.

"لا عِلْمَ لَنا اعتراف." 
  1.  تفسير الطبري (1/485).
  2.  تفسير ابن كثير (1/223).
  3.  الاستقامة (1/199).
  4. تفسير ابن كثير (1/223).
  5.  تفسير ابن كثير (1/225).

مرات الإستماع: 0

"وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية، هذه الأخرى خطاب للأولياء، وبلوغ الأجل هنا: انقضاء العدة."

لاحظ الفرق الآن وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فلا شك أن بلوغ الأجل هنا يختلف عما قبله وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ هذا خطاب للأزواج فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يعني: هنا بانقضاء العدة، وليس معناه المقاربة؛ لأنه لو كان مقاربة انقضاء العدة، فالزوج أحق بها، ولا يحق لأهلها أن يمنعوا الزوج من مراجعتها، فالقرار بيده، لكن متى يحصل المنع إذا انقضت عدتها، وأراد كل واحد من الزوجين أن يرجع إلى صاحبه، يعني: بعقد جديد، فقد يمتنع الولي، ويأبى؛ لأن هذا الزوج قد طلق، فهو يرى مثلًا أنه غير كفء لا يستحق أن ترجع إليه بعد أن زوجوه، ثم طلقها فيكونون أعني هؤلاء الأولياء حائلًا، ومانعًا من رجوع هذه المرأة إلى زوجها، فبلوغ الأجل هنا غير بلوغ الأجل في الآية التي قبلها هنا: انقضاء العدة بلا إشكال، لكن قوله - تبارك، وتعالى -: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ هذا خطاب للأولياء، وقد جاء عن ابن عباس - ا -: أنه قال: نزلت في الرجل يطلق الطلاق الرجعي، فتنقضي العدة، ثم يبدو له أن يتزوجها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها[1].

وقول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا، أنه ليس سبب النزول، وإنما يقصد بذلك التفسير، والمعنى، نزلت في الرجل يطلق الطلاق الرجعي فتنقضي العدة؛ لأنه لو كان طلاق غير رجعي - يعني: طلقة ثالثة - فهنا لا يقال للأولياء: فلا تعضلوهن أن يرجعن، ثم يبدو له أن يتزوجها، وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها.

هذا قال به عامة أهل العلم: مثل مسروق، والنخعي، والزهري، والضحاك[2] وبه قال كبير المفسرين: ابن جرير[3] والحافظ ابن كثير[4] وعلى هذا يكون المراد بقوله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ هنا إذا قلنا: هذا الخطاب من أوله للأولياء، فهل هم الذين طلقوا، أم الزوج هو الذي طلق؟ الزوج هو الذي طلق، لكن وجهوه باعتبار أنهم سبب للطلاق لكونهم هم الذين زوجوها من هذا الزوج، يعني: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ إذا قلنا: إن هذا الخطاب من أوله للأولياء، وليس للزوج. فكأنه عُبر بهذا باعتبار أنهم تسببوا في هذا الزواج فالزواج يكون بطريق الولي فهو الذي زوجها - والله أعلم -.

"فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي: لا تمنعوهن."

العضل بمعنى الحبس، والمنع، يمنعها من التزوج به، وعلى كل حال يحتمل أن يكون خطابًا للأزواج، يعني أن قوله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فلا تعضلوهن أيها الأولياء، هذا يحتمل.

أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ أي: يراجعن الأزواج الذين طلقوهن، قال السهيلي: نزلت في معقل بن يسار كان له أخت، فطلقها زوجها، ثم أراد مراجعتها، وأرادت هي مراجعته، فمنعها أخوها[5]."

السهيلي له كتاب في المبهمات (مبهمات القرآن)، ومعقل بن يسار حينما زوج أخته فطلقها زوجها، فرفض معقل  وقال: زوجتك، وفرشتك، وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، فلا والله لا تعود إليك أبدًا.

يعني يقول: أنت ما تستحق ذلك.، وكان رجلًا لا بأس به - يعني الزوج - لا بأس به، يعني: لا يُعاب، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله هذه الآية: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ هذا رواه البخاري، هذا هو سبب النزول معقل بن يسار لما منع زوج أخته من الرجوع إليها.

"وقيل: نزلت في جابر بن عبد الله؛ وذلك أن رجلًا طلق أخته، وتركها حتى تمت عدتها، ثم أراد ارتجاعها فمنعها جابر، وقال: تركتها، وأنت أملك بها، لا زوجتكها أبدًا، فنزلت الآية[6].

هذه الرواية عن جابر لا تصح فبقي أن سبب النزول الصحيح الثابت هو ما وقع من معقل بن يسار .

بِالْمَعْرُوفِ هنا: العدل، وقيل: الإشهاد."

يعني: يكون الكلام وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ  بِالْمَعْرُوفِ الإشهاد هنا يمكن أن يكون من قبيل التفسير بالمثال، فالمعروف أعم من هذا، ابن جرير - رحمه الله - يقول: بأن ذلك بما يكون من العوض عن أبضاعهن من المهور إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ لاحظ هنا ذكر المهور، غيره ذكر الإشهاد، ويقال: كل هذا من المعروف. فيكون بما يجب أن يؤدي لها، وأن يكون هذا النكاح عن طريق الولي لا يتفق معها، ثم يتزوج، والولي لا يعلم، ولم يأذن، ولم يزوج، أو كان الولي يرفض ذلك فتتفق المرأة مع زوجها سرًا، وتتزوج به فهذا لا يجوز، وبعض من يبتلون بأشياء من هذا القبيل للأسف يتحولون في مثل هذه الأحوال إلى أحناف، هم ليسوا بأحناف أصلًا، ويعرفون قول النبي ﷺ لا نكاح إلا بولي[7] وأصح من هذا، وأثبت أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل[8].

ومع ذلك إذا كان للإنسان هوى فقد يتفق مع المرأة، ويتزوجها، ثم بعد ذلك يكون بينه، وبينها من العلاقة، وما يكون من قبيل المسارقة كأن ذلك بالحرام، يواعدها في مكان عام، أو نحو ذلك، ثم يأخذها ساعة، أو ساعتين، أو نحو ذلك يقضي وطره، ثم يعيدها من غير علم أهلها، هذا للأسف يوجد، ويتكرر، وحينما يُنكر على هؤلاء يقولون: هذا قال به بعض الفقهاء. هذا من باب تتبع رخص الفقهاء، وفي أمر عظيم يستحل به أبضاع النساء، وتبقى هذه المسكينة معه في نكاح باطل يطؤها.

"وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في نكاح وليته، خلافًا لأبي حنيفة."

فهو لا يرى الولي، والحديث كما سبق لا نكاح إلا بولي، وحديث: أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن، وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل وكذلك أيضًا: لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها[9].

كل هذه الأحاديث تدل على أن النكاح إنما يكون بالولي، فلا يجوز للمرأة أن تُنكح نفسها، والله - تبارك، وتعالى - قال: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221] وفي حق النساء قال: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221] من الذي ينكحها؟ الولي، ففرق بينهما، وهنا فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لو لم يكن النكاح من طريق الولي لم يكن لعضله أثر، فتستطيع أن تتزوج بعيدًا عنه، ولو كان يرفض، لو كانت هي التي تملك ذلك، لكن لما كان منعه مؤثرًا قال: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ والأحناف يتأولون لهذا بتأويلات بعيدة قوله مثلًا أيما امرأة تكحت نفسها بغير إذن، وليها الحديث، بعضهم قال: إيما امرأة يعني الصغيرة التي لا تنفرد بقرار، وإنما تكون تحت نظر الولي.، واعترض عليهم الجمهور، وقالوا: إن لفظ المرأة يأبى ذلك، كيف يقال للصغيرة، أو الطفلة! فلما رأوا ذلك قال بعضهم: إن المقصود المكاتبة إذن.

وهذا حمل للفظ على معنى بعيد، على معنى غير متبادر (أيما امرأة) هذه صيغة عموم، فكيف تُحمل على صورة قليلة كالمرأة المكاتبة فهذا تأويل بعيد.

ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ خطابًا للنبي ﷺ و لكل واحد على حدته؛ ولذلك وحد ضمير الخطاب.

 ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ خطابًا للمؤمنين، والإشارة إلى ترك العضل، ومعنى (أزكى) أطيب للنفس، ومعنى (أطهر) أي: للدين، والعرض."

لأنه إذا كان بين الزوجين مودة، وتعلق فقد يتجاوزان ذلك إلى الحرام، يمنعها الولي، وتبقى متعلقة به، ومتعلق بها، وكان بينهما ما يسقط الحواجز قبل ذلك - يعني في تزوجها منه سابقًا - فهي تجرؤ عليه، ويجرؤ عليها، وكان بينهما أيضًا من المعاشرة، والمباشرة ما يسقط معه لربما الحياء أيضًا فلا يحتاج إلى مقدمات، ولا تحتاج إلى مقدمات، فيمكن أن يقع الحرام، وبعض من لا خلاق له من الأزواج قد يبتزها بسبب الولد، فقد يكون الولد عنده، وهي تريد أن ترى هذا الولد فهو يبتزها بهذا الولد، يقول: أتركه عندك أسبوعًا كاملًا بشرط أن تمكنيني من نفسك.، وتبقى هذه الضعيفة بحجة الولد، وبشوقها لهذا الولد، ونحو ذلك فيقع المكروه.

وهكذا أيضًا أزكى لنفوس الأولياء فقد يتسلل إلى نفوسهم الشكوك، هو يرى أن هذه المرأة تريد الرجوع إليه، وهو يريد الرجوع إليها فقد يسيء الظن بهما، وأنها على علاقة معه، فقد يأتي إلى هاتفها، ويفتش الرسائل، ونحو ذلك، وهو يترقب، ولربما يحاول أن يتنصت على اتصالاتها فيبقى في قلبه الريب.

 ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ أزكى للجميع، أزكى للزوجين، وأزكى لنفوس الأولياء، أزكى للقلوب، وكذلك أيضًا أبعد من الشحناء، والعداوات، إذا كان كل واحد من الزوجين يريد أن يرجع للآخر، وبقي هذا الولي، قد يكون الأخ، ونحو ذلك يمنع من هذا فقد يقع الكراهية، والنفور، وقطعية الرحم، والعداوة، ونحو ذلك، أزكى من الذنوب، أزكى من الريب، أزكى من العداوات، أزكى من مواقعة الفواحش، فأطلقه هنا فقال: ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ فيحمل على كل هذه المعاني، ولهذا قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ دعها ترجع إليه، وتطيب نفسها بذلك، وتعف نفسها، وتنقطع السُبل على الشيطان لا يصل إلى قلبك، ولا يصل إلى قلب الزوج، أو الزوجة، ولا يقع ما حرم الله - تبارك، وتعالى - من الفواحش وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

  1. تفسير الطبري (5/22).
  2. تفسير ابن كثير (1/631).
  3. تفسير الطبري (5/23).
  4.  تفسير ابن كثير (1/631).
  5.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن [البقرة:232]، رقم: (4529)
  6.  تفسير الطبري (5/21 - 22).
  7.  أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي، رقم: (2085)، والترمذي، أبواب النكاح عن رسول الله ﷺ باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، رقم: (1101)
  8.  أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي، رقم: (2083)، والترمذي، أبواب النكاح عن رسول الله ﷺ رقم: (1102).
  9. أخرجه ابن ماجه، أبواب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، رقم: (1882).

مرات الإستماع: 0

لما بيَّن الله -تبارك وتعالى- عَدَدَ الطلاق، وما ينبغي للأزواج عند الرغبة في إمساك المرأة، أو عند الرغبة بمفارقتها، من الإمساك بالمعروف، أو التسريح بالإحسان، وما يتصل بذلك من المُضارة حال الإمساك، وإلحاق الضرر بها، وتطويل العدة عليها، بيَّن الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك حكمًا يتصل بالطلاق، فقال: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:232].

وإذا طلقتم النساء خُوطب الرجال بذلك لأنهم الذين يملكون الطلاق، فالطلاق بيد الرجل، والمقصود بهذا الطلاق هو ما دون الثلاث، إذا طلق واحدة، أو طلق طلقتين، ولكن انقضت العدة، فبانت المرأة منه، يعني: إن لم يُراجع في العدة؛ لأنه في العدة يملك الرجعة، ولا يستطيع أحد من أولياء المرأة العضل بعد ذلك، ولكن إذا بانت المرأة منه فلم يُراجع في العدة، ثم بعد ذلك وُجدت الرغبة لدى الزوجين في المراجعة، وأن يرجع كل واحد إلى صاحبه، فليس للولي أن يمنع المرأة من الرجوع إلى زوجها، لكن بعقد جديد، ومهر جديد، فهذا هو المراد بقوله -تبارك وتعالى: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ.

وبلوغ الأجل هنا المراد به تمام العدة، بخلاف الموضع السابق فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ فذاك عند مقاربة الأجل قبل انقضائه، كما ذكرنا، فصار انقضاء الأجل يُعبر به تارة عن المقاربة، فيملك الرجل الرجعة، وتارة يُعبر به عن انقضاء المدة، كما في هذا الموضع فَلا تَعْضُلُوهُنَّ والعضل المقصود به منع المرأة من العودة إلى زوجها بعقد جديد، ففي قوله: أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ يعني: التزوج بعقد جديد بزوجها السابق، وهو مُطلقها، ونجد أنه قال: أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ وهو ليس بزوج لها الآن، فقد بانت منه، ولكن أطلق عليه ذلك باعتبار استصحابًا للاسم السابق.

إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعني: إذا حصل توافق وتراضي بالمعروف، وهذا أحاله إلى المعروف، بحيث تحصل العشرة على الوجه اللائق، بأن يؤدي حقوقها التي تصلح لمثلها، ويُنفق عليها النفقة بحسب الغِنى والفقر، وكذلك تُعاشر هي بالمعروف، ثم قال الله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ يعني: ما ذُكر من بيان هذا الحكم، والنهي عن العضل يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ لأن الذي يُؤمن بالله يستسلم لأحكامه، والذي يؤمن باليوم الآخر يكون ذلك قائدًا له، ودافعًا له من أجل الامتثال؛ لأنه يعلم أنه سيوافي القيامة، وأنه سيُجازى على أعماله إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر؛ ولهذا نجد الاقتران بين الإيمان بالله واليوم الآخر، لا سيما في مقامات الحث على الامتثال، أو في بيان علة عدم الامتثال، فيُعلل ذلك بأن هؤلاء لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، فالإيمان باليوم الآخر هو الدافع والمُحرك من أجل الانقياد والامتثال وطاعة الله وطاعة رسول الله ﷺ، فترك العضل، وتمكين الأزواج من نكاح زوجاتهم، هذا كله يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الأولياء، ثم قال: ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ يعني: تمكين الأزواج من نكاح زوجاتهم إذا حصل هذا التراضي وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.

فهذه الآية في الرجل يُطلق امرأته طلقة، أو طلقتين، فتنقضي العدة، ثم يبدو له أن يُراجعها، والمرأة ترغب في ذلك، فيمنع الأولياء، فالله نهى عن ذلك، والآية صح في أسباب النزول: ما حاصله: أن من أصحاب النبي ﷺ من منع أخته من الرجوع إلى زوجها بعد أن انقضت عدتها بعد الطلاق، فنزلت هذه الآية، فكانت الاستجابة منهم سريعة، فأذنوا لهؤلاء الزوجات، ورضوا أن ترجع إلى زوجها السابق.

وفي هذا دليل على أن المرأة لا تملك نكاحها، فالله -تبارك وتعالى- هنا قال: فَلَا تَعْضُلُوهُن فهذا خطاب للأولياء، فلو كانت المرأة هي التي تملك ذلك لما كان للأولياء سلطة عليها، فهؤلاء الذين يتزوجون بمجرد موافقة المرأة، فتعرض عليها في الجامعة، أو في العمل، أو في مكان آخر مما يختلط فيه الرجال والنساء في بعض النواحي، فهذا نكاح باطل، سواء سموه بالزواج العرفي، أو بأي اسم كان؛ لأن الزواج العُرفي يُطلق على إطلاقات مُتعددة، لكن من إطلاقاته هذا، وهو أن الرجل يتفق مع المرأة، ويعقد عليها من غير ولي، فهذا لا يجوز؛ لقول النبي ﷺ: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل[1]، يعني: أنه يُعاشرها بالحرام، فلا بد من الولي، وهذا أمر ظاهر، ويدل عليه أدلة من الكتاب والسنة.

وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على قوله -تبارك وتعالى: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221] خطاب للأولياء، بينما في تزوج الرجال من المشركات، قال: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221] فالرجل هو الذي يُبادر ويتزوج، لكن المرأة لا بد من ولي، وهذا ليس نقيصة في حق المرأة، بل هو كمال؛ لأن حقيقة العقد هو بين الطرفين، الرجل والمرأة، هذه حقيقته في الزواج، ولكن حقيقة العقد هو أن المرأة تعقد على بُضعها، فصانها الإسلام، فلا تظهر في صورة المتشوفة للرجال، تُجري العقد على بُضعها، فذلك فيه ذهاب ماء الوجه، وكأن المرأة تتطلع للرجال، فشرع الإسلام الولي ليتولى ذلك، وتبقى هي بعيدة مصونة، يُحفظ لها كرامتها وصيانتها وماء وجهها، هذا هو الغرض، والذين لا يفقهون عن الله يُشنعون على شرائع الإسلام، ويظنون أن هذا احتقار للمرأة، فضلاً عن المفاسد مما قد يحصل من التلاعب بالنساء، ونسمع من هذا أشياء وأشياء، حيث تندم المرأة، ولا تستطيع الخلاص في المحاكم، ولا في غيرها، وتتورط مع رجل يلوي ذراعها، ثم بعد ذلك يبتزها غاية الابتزاز، وليس لها أي مُستندات، ولا تستطيع أن تُفاتح أهلها بذلك؛ لأنها تزوجت من ورائهم، وهذا يوجد ويتكرر للأسف عند من لا يُراعون هذه الأحكام.

وقوله -تبارك وتعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ يدل على أنه يجوز أن يُطلق على الشيء الاسم السابق إذا روعي فيه حاله الأولى أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وفيه أيضًا تشوف الشارع إلى لم شمل الأسرة، وأن ترجع المرأة إلى زوجها الأول، وفيه أيضًا أن الشارع أرحم بهؤلاء الناس من آبائهم فهو يعظهم بترك المنع لهؤلاء الزوجات، حينما يرغب الأزواج بمُراجعتهن حفظًا لمصالحهن، ومشاعرهن، وفيه أيضًا تكثير العفاف، فإن ذلك مطلوب شرعًا، وهو من مقاصد الشريعة، فإذا وجد الرغبة لدى الزوجين في المراجعة مع المحافظة على حدود الله -تبارك وتعالى- فهذا مما يدعو إليه الشارع ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ 

وهذا يدل على أنه ينبغي على الأولياء مراعاة الله ومراقبته في مولياتهم، فأحيانًا الولي ربما يتسلط على من تحت يده من البنات فيمنعها مما يكون به عفافها، ويحصل به رفعتها، ويكون من جرائه إنجاب الأولاد، فيتسلط عليها، فيرد الخُطاب الأكفاء بحُجج واهية، إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ثم أيضًا: ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فالاتعاظ بأحكام الله تزكية للنفوس، فهو يُنمي النفس، ويُنمي الإيمان، ويُنمي الأخلاق، ويُنمي الآداب، فكلما كان الإنسان أشد تطبيقًا لأحكام الله -تبارك وتعالى- ومراعاة لحدوده، فذلك أزكى له؛ لأن حقيقة التزكية هي من جانبين:

الجانب الأول: التخلي عن الرذائل من الشرك فما دونه.

والأمر الثاني: التحلي بالفضائل من الإيمان والتوحيد، فما دونه من الطاعات، فالتزكية تعني تطهير وتنقية، وتعني أيضًا نماء، فأصل كلمة زكاء فيها معنى التطهير، ومعنى النماء، فتُعمر النفوس بالإيمان بشُعبه المختلفة، وتُنقى وتُهذب الأرواح من كل دنس، ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ طاعة الله، وطاعة رسوله، وما في ذلك من تكثير العفاف، ومُجانبة التسلط والظلم، وأيضًا هذا أطهر للأولياء، وأطهر أيضًا لهؤلاء البنات والموليات، فالولي يبقى قلبه سليمًا ولا يتخوف ولا تسوء ظنونه بهذه البنت، بأنها تتواصل مع هذا الزوج السابق، الذي ترغب فيه، هي تريد الرجوع إليه، ربما يبقى هذا الولي الأب أو الأخ يترقب ويتوجس ويتوقع ويتجسس على هذه البنت، وينظر في جهازها وجوالها، هل حادثته؟ وهل راسلته؟ وهل لها علاقة معه؟ ونحو ذلك.

وهو أزكى وأطهر أيضًا لهؤلاء النساء، فإنها قد تضعف وتتواصل مع وزجها السابق، وبينهم وشيجة قوية، وقد أفضت إليه، وأفضى إليها، فقد يُذكرها ببعض ما كان بينهما، وتحن المرأة إليه، وقد لا تصبر لا سيما إذا لم يتقدم لها الأزواج، أو الأكفاء، فهي تتوق إلى ذلك الزوج، وقد يحصل ما لا تُحمد عواقبه من الفاحشة، فهذا الرجل ربما يلتقي بها ليرى الولد، يأتي في ساعة في الأسبوع مرتين، أو نحو ذلك، وربما قايضها بسبب هذا الولد، ويُهدد بأخذه، فالمسكينة ربما طاوعته وأجابته إلى ما يريد، وهذا يقع أحيانًا، وبعض هؤلاء يتوب بعد مدة طويلة، أو المرأة تندم وتتوب، ثم تسأل بعد ذلك عما كان من مواقعة زوجها القديم لها، بسبب الولد الذي كان الزوج يأتي لرؤيته، فإذا جاء ضاحكها، وربما ابتزها وهددها بهذا الولد حتى تُمكنه، وربما كانت بحاجة إلى نفقة لهذا الولد، فيساومها على عرضها، فلا يتقي الله ولا يخافه، فالله -تبارك وتعالى- هنا يقول: ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ طالما أنها تريده وهو يريدها، فترجع إليه أزكى لكم، ولا يبقى عندكم من سوء الظن، ولا يبقى عند هؤلاء من التطلع والتشوف، وربما ما وراء ذلك من الفعل الذي لا يليق، وكذلك أيضًا تطبيق الأحكام الشرعية فهو أطهر للنفوس وللقلوب والأرواح، فالأعمال الصالحة تُطهر القلب من المعاصي، وتزكو نفسه، وهذا أمر مُشاهد، فتطيب الأعراض والقلوب، والأرواح والأبدان، فإن المعصية لا شك أنها سموم وأدواء، تُصيب الأبدان والأرواح والقلوب، فهذا العضل يحصل به من المفاسد الاجتماعية والأخلاقية من والظنون الفاسدة، وما ينجر من وراء ذلك، مما يعلمه الله -تبارك وتعالى- وحده؛ ولهذا قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.

وبعض الأولياء يتحدث عن نفسه، أو يرى نفسه أنه يعرف كل شيء، وأنه أفهم من الجميع، وتسأل أحيانًا هذه المرأة المسكينة، فتقول: ما في عاقل في البيت، وأحيانًا يأتيك الجواب مسدودًا من جميع الطرق والمنافذ: ما في أحد، طيب وهذا الولي؟ قالت: هذا الولي لا يرى الناس شيئًا، ما في عالم ولا طالب علم يقتنع به، ويقبل منه؟ قالت: لا يوجد، يحتقر الجميع، طيب عندكم فلان؟ قالت: هو إذا سمع صوته في الإذاعة مُباشرة أغلق، هذا الرجل الذي يُحبه كل أحد لا يريده، ولا يُطيق يسمع صوته، قالت: ما يُطيق يسمع صوته، فإذا كان هذا لا يقبل مثل هؤلاء الذين لهم من حُسن النظر والعلم، فكيف سيقبل بغيرهم؟! طيب لا يوجد من القرابات: خال، ولا عم، ولا جد، ولا أحد؟ أحيانًا لا يوجد أحد، فتبقى هذه المرأة في حال يرثى لها، فيقال لها: تذهبين إلى المحكمة؟ قالت: لا أستطيع أذهب أشتكي أبي، فتبقى وتشيب وربما أصغر بنت عمرها سبعة وثلاثين سنة أو ثمان وثلاثين أو أربعين، ونحو ذلك، بسبب العضل، وخمس أو ست أو سبع بنات في البيت، وكل من جاء يُرد، فهذا بلاء، مثل هذا الولي لا يصلح للولاية بحال من الأحوال، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فإذا جاء الكُفء يزوج، أما أنه لا يُعجبه أحد، ولا يملأ عينه أحد، فهذا لا شك أنه مُصاب بعقله، ولكنه لا يشعر، والضحية هم هؤلاء البنات الحسرى في بيته. 

  1. أخرجه الترمذي في أبواب النكاح برقم: (1102) وأبو داود في كتاب النكاح، باب في الولي برقم: (2083) وابن ماجه في كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي برقم: (1879) وصححه الألباني.