الأحد 25 / ربيع الأوّل / 1446 - 29 / سبتمبر 2024
وَٱلْوَٰلِدَٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُۥ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةٌۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦ ۚ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ۗ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوٓا۟ أَوْلَٰدَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ ءَاتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ ۗ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة:233].
هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك.
الخطاب في الآية جاء بصيغة خبرية مضمنة معنى الأمر، فهو أمر بصيغة الخبر وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ، ومن أهل العلم من يرى أن الخطاب في الآية خبر محض، وهذا القول فيه نظر.
والآية خاصة بالمطلقات فقط كما قال به جماعة من المفسرين، والفقهاء، واختار هذا القول ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وقالوا: إن المرأة تعطى أجرة مقابل الرضاع يعطيها الزوج أو وارث الزوج في حال وفاته، أو يؤخذ من تركة الصبي، فإن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر.
ولهذا قال: لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ فلا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين.ظاهر الآية واضح في تحديد أمد الرضاع إلى الحولين لمن أراد أن يتم الرضاع ويجوز فطامه قبل ذلك، وبعض أهل العلم يرى أن المراد بيان الرضاع التام لمن أراد أن يكمله، وإلا فإن الرضاع قد يحصل بعد ذلك وهذا فيه نظر؛ لأن الرضاعة المؤثرة التي يكون بها نبات العظم واللحم تنتهي في الحولين.
ومن أهل العلم من قال: إن الله يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [سورة الأحقاف:15] فلا يبقى إذا حذفنا مدة الرضاع - حولين - إلا ستة أشهر للحمل، فلو كان الحمل تسعة أشهر فلا يبقى للرضاع من الثلاثين شهراً إلا واحداً وعشرين شهراً، وهذا يعني أنه رضع أقل من أربع وعشرين شهراً، ولهذا بعض أهل العلم ذكر أن هذا يتفاوت بحسب مدة الحمل، فإذا كان الحمل ستة أشهر فالرضاع يكون في سنتين، وإذا كان الحمل في تسعة أشهر فينقص من الثلاثين قدراً؛ لأن الله ذكر المجموع بالثلاثين، ولكن هذا فيه نظر؛ والصواب أن الرضاع يكون في عامين لقوله  سبحانه -: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [سورة لقمان:14]، وأما تحديد الثلاثين شهراً للحمل والرضاع في الآية فالمراد به التنويه على أدنى مدة الحمل، والعلم عند الله .
وهذه المسألة يترتب عليها أحكام، إذا رضع بعد الحولين هل يؤثر فيه أو ما يؤثر؟ لكن ما ذكره أهل العلم في هذا أن الرضاع بعد الحولين يضر الولد في عقله، وبدنه.
وأما مسألة رضاع الكبير في قصة رضاعة سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة وهو كبير عندما تبناه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كما تبنى رسول الله ﷺ زيد بن حارثة، وأنكح أبو حذيفة سالماً - وهو يرى أنه ابنه - أنكحه بنت أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهي يومئذ من المهاجرات الأول، ومن أفضل أيامى قريش، فلما أنزل الله - تعالى - في زيد بن حارثة ما أنزل فقال: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [سورة الأحزاب:5] رُد كل واحد من أولئك إلى أبيه، فمن لم يُعلم له أب رد إلى مولاه، فجاءت سهلة بنت سهيل - ا - امرأة أبي حذيفة من بني عامر بن لؤي إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله ﷺ إنا كنا نرى سالماً ولداً، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فُضْلاً، وقد أنزل فيه ما علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال لها رسول الله ﷺ: أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة، فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة[1] وقد ذهب عامة علماء المسلمين من الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة إلى أن رضاع الكبير وهو من تجاوز السنتين - سن الرضاع - لا أثر له في ثبوت المحرمية، وحملوا هذا الحديث على الخصوصية، أو أنه قد نسخ حكمه بما ثبت من أدلة أخرى.
وأما عائشة - ا - وقد وافقها بعض السلف فكانت ترى بأن رضاع الكبير يؤثر في المحرمية أخذاً من هذا الحديث، ولهذا كانت تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها، ويدخل عليها، وإن كان كبيراً؛ خمس رضعات ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أمهات المؤمنين أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى يرضع في المهد، وقلن لعائشة: "والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي ﷺ لسالم دون الناس".
وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - توسط في هذه المسألة، فهو يرى أن رضاع الكبير يجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم للحاجة، وتعقب ذلك بقوله: وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها، وهذا الكلام فيه نظر، والله أعلم بالصواب.
"قال المفسر - رحمه الله تعالى -: هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ولهذا قال: لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [سورة البقرة:233]، فلا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم.
قال الترمذي: باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين.
ثم روى عن أم سلمة - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام[2]، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله ﷺ وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئاً.
قلت: تفرد الترمذي برواية هذا الحديث، ورجاله على شرط الصحيحين.
ومعنى قوله: إلا ما كان في الثدي أي: في محل الرضاعة قبل الحولين كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن البراء بن عازب قال: لما مات إبراهيم ابن النبي ﷺ قال: إن ابني مات في الثدي، إن له مرضعاً في الجنة[3]".
فقد مضى الكلام على قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وما يتعلق به من مسائل، مما يغنينا عن الإعادة.
لكن ينبغي أن نفهم أن مراده ﷺ في قوله: ما كان في الثدي أي: ما كان في فترة الرضاع، وهي في العامين الأولين من حياة الطفل، ولذا إذا قيل: فلان لازال في الثدي؛ فإنهم يعنون بذلك أنه لم يتجاوز فترة الرضاع، والله أعلم.
"ويؤيده ما رواه الدارقطني عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين[4].
قلت: وقد رواه الإمام مالك في الموطأ عن ثور بن زيد عن ابن عباس - ا - مرفوعاً.
ورواه الدراوردي عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس - ا - وزاد: وكان بعد الحولين فليس بشيء[5] وهذا أصح.
وقد روي في الصحيح عن عائشة - ا -: أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم، وهو قول عطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وكانت عائشة - ا - تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه، وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة : حيث أمر النبي ﷺ امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيراً، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، وأبى ذلك سائر أزواج النبي ﷺ، ورأين ذلك من الخصائص وهو قول الجمهور".
وهذا جاء صريحاً في بعض الروايات عن أم سلمة - ا - أنها أنكرت ذلك على عائشة - ا -، ورأت أن ذلك مختص بسالم مولى أبي حذيفة ، وهذا الذي سار عليه جماهير العلماء سلفاً وخلفاً أن رضاع الكبير لا يؤثر في المحرمية، إلا أن شيخ الإسلام يرى جواز ذلك للحاجة، وأن الواقعة ليس فيها دليل على اختصاصها بسالم، والعلم عند الله.
"وقوله: وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات، وكسوتهن بالمعروف".قيل: الآية عامة في عموم النساء، وبعض أهل العلم يرى أن الآية خاصة بالمطلقات، والأصل أنه لا يلزمها إرضاع ولدها في حال الخيار، ولها الحق أن تأخذ أجرة مقابل هذا الإرضاع، وتطالب بالكسوة والنفقة، وأوجب العلماء عليها إرضاع ابنها في صور معدودة منها:
- إذا لم يقبل الرضاع إلا من ثدي أمه.
- إذا كان الأب معدماً فقيراً لا يملك نفقة المرضعة.
- إذا فقدت المرضعات في البلد بعد البحث والتحري.
وهنا مسألة: إن ثبت أن الأب موسر، والمراضع حاضرات؛ فهل يجب على المرأة غير المطلقة أن ترضع الولد، وأن تطالب بالنفقة؟ أم أن هذا يختلف من امرأة لامرأة؟ كأن يقال الشريفة لا يجب عليها الإرضاع، والمرأة التي دونها في الشرف والمرتبة يجب عليها الإرضاع، فيفرق بين النساء بهذا الاعتبار، هذه مسائل معروفة محلها الفقه.
لكن من رأى عموم الآية في المطلقات وغيرهن كالإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه ومن وافقهم؛ فإنهم لا يوجبون على المرأة أن ترضع الولد إلا في الحالات المذكورة، وبعضهم يخص الوجوب في أول الولادة حيث يكون لبن الأم اللِّبَأ؛ إذ يرون أنه لا غنى للصبي عنه أو للمولود بحال.
وبعضهم قال بالنسخ كما ينقل ابن عطية، ويرويه عن قتادة أنه نزل أولاً: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ...، ثم نسخت بقوله تعالى: لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، إلا أن هذا القول متداع وضعيف؛ لأن الشيء إنما ينسخ بنقيضه، وما محمله هنا إلا أنّه نسخ في الأخف.
وآية سورة الطلاق واضحة الدلالة: وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [سورة الطلاق:6] فهي تدل على أن المطلقة لا شك أنها تستحق أجر الرضاعة، وأما غير المطلقة فهذا محل خلاف، ولعل الأقرب - والله أعلم - أن المرأة لا يجب عليها إرضاع الولد، ومن حقها أن تطالب بالنفقة، والأجرة، والله أعلم.
"وقوله: وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات، وكسوتهن بالمعروف أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف، ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره، وتوسطه، وإقتاره كما قال تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [سورة الطلاق:7]".في القرآن أشياء كثيرة أحال فيها على العرف منها هذه الصورة، والعرف يختلف بحسب الزمان، والمكان، وحال الرجل، وحال المرأة؛ من الإعسار والإيسار، ويختلف من وقت إلى آخر، ومن بلد إلى بلد غيره، والعلماء تكلموا في المقدار الذي تعطاه الأم المرضعة فقالوا: ما اعتادت عليه في بيت أهلها من اللباس، والطعام، والسكنى فإن ذلك يطلب منه.
"قال الضحاك: إذا طلق زوجته وله منها ولد فأرضعت له ولده؛ وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف".وكلام الضحاك يعني به المرأة المطلقة.
"وقوله: لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا أي: بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته، ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللِّبَأ الذي لا يعيش بدون تناوله غالباً، ثم بعد هذا لها دفعه عنها إن شاءت، ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضِّرار لها، ولهذا قال: وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ".قوله - تبارك وتعالى -: لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا يحتمل معنيين من جهة التصريف:
الأول: لا تُضارِرُ بالرفع، ويكون ذلك على سبيل الإخبار، ويمكن أن تتضمن معنى النهي.
الثاني: لا تُضارِرَ بالنصب، ويكون ذلك على سبيل النهي، وكل واحد من هذين المعنيين تشهد له قراءة غير متواترة يمكن حمل معنى الآية عليها، وهذا الحمل يعتبر من قبيل المشترك اللفظي السائر على طريقة القرآن في التعبير عن الشيء بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فالأم منهية أن تضار والد الصبي، وكذا والده منهي عن مضارة الأم، وهذا القول ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، والله أعلم.
"وقوله تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ قيل: في عدم الضرار لقريبه، قاله: مجاهد والشعبي والضحاك، وقيل: عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها، وعدم الإضرار بها، وهو قول الجمهور، وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره".فيُحتمل في المراد بقوله سبحانه: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ شيئان:
الأول: وارث الصبي إذا مات الوالد مثل ذلك: يعني في عدم المضارة، والمعنى أنها مأمورة بأن لا تلحق الضرر بالولد، ووالد الصبي ووارثه - في حال موت والده - مأموران بأن لا يلحقا الضرر بهذه المرأة بسبب الصبي، فهذا الجزء من الآية يتحدث عما قبله مباشرة لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ أي: في عدم المضارة.
الثاني: يحتمل أن يكون المراد من قوله: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ أي: من النفقة والأجرة التي تكون بسبب هذا الرضاع، سواء قلنا بأن الورثة هم الذين تولوا أمر هذا الصبي بعد موت الأب، أو وارث والد الصبي، أو وارث الصبي نفسه من أحد الأبوين، أو أن المقصود وارث المرضعة فهذه احتمالات وأقوال في المراد بالآية، وخلاصة القول: إن من تولى الصبي في تصريف شئونه فعليه ألا يلحق الضرر بالآخر، وعليه أن يدفع النفقة للأم المرضعة.
وهذا الاحتمال باعتبار أن الإشارة ترجع إلى المعنى الذي سيقت الآية من أجله، وهو ما يتعلق بالرضاع، وأجرته، ونفقته، لا إلى الأقرب من المذكورات وهو عدم الضرر.
وأما إذا جعلنا الإشارة في الآية إلى أقرب المذكورات فيكون المراد من الآية عدم الضرر، وهذا أحد المعنيين اللذين نقلهما ابن كثير قال: قيل: في عدم الضرار لقريبه قاله مجاهد والشعبي، والضحاك، واختاره القرطبي - رحمه الله -.
ويمكن أن تحمل الإشارة على المعنيين، وهو ما نقله ابن كثير عن الجمهور بقوله: وقيل: عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها، وعدم الإضرار بها، فهذا القول بناءً على جمع المعنيين، كأنه جعل الآية سيقت لتقرير هذا المعنى أن الأم ترضع الولد، ويتحمل النفقة الأب، ولا يحق لأحدهما أن يلحق الضرر بالآخر، وهذا من أحسن ما يكون في التفسير أن يجمع بين المعاني.
ومثل ما يمكن أن تحمل الإشارة فيه على المعنيين ما جاء في قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [سورة البقرة:255] فالآية تحتمل المعنيين: بعلم الله، أو بعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وبين المعنيين ملازمة مفادها: أنهم إذا كانوا لا يحيطون بشيء من علم الله، ومن علم ما بين أيدهم، وما خلفهم؛ فالإحاطة بعلم الله من باب أولى، والأمثلة في هذا الباب كثيرة.
وبعض أهل العلم يقول: الآية منسوخة، والقاعدة الأصولية أن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
وبعضهم يقول: هذه الآية في المطلقة، والصواب خلافه؛ لأن الله يقول: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، ويقول في نفس الآية: وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [سورة الطلاق:6].
وهذه الآية - بالمناسبة - يحتج بها بعض الفقهاء - رحمهم الله - على جواز دفع النفقة للقريب كالأب، والأم، والمسألة فيها تفصيل:
فإذا كانت الزكاة للأصول والفروع فالإجماع منعقد على أنها لا تعطى للأصول والفروع، وإن علوا أو نزلوا.
وأما إذا كانت للحواشي كالأخ والأخت فالتفصيل قائم عند طائفة من أهل العلم، وأن ذلك بحسب حال هذا المعطى، فإن كان المعطي يرثه فإنه لا يعطيه، مثل مسألة هلك هالك عن أخ وأب فيجوز أن يعطى الأخ من الزكاة؛ لأنه محجوب بالأب، بخلاف لو هلك هالك عن أخ وبنت فإنه يرث في هذه الصورة فلا يعطى من الزكاة، واستدلوا على هذا بقوله: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ بناءً على تفسير هذه الآية بالنفقة، إذ لو فسرناها بعدم الضرر فلا وجه للاستدلال، قالوا: فجعل ذلك حقاً على الوارث - يعني أجرة ونفقة المرضعة أو الأم -.
"وقد ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما في بدنه، أو عقله، وقال سفيان الثوري: عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه رأى امرأة ترضع بعد الحولين فقال: "لا ترضعيه".لأنها رضاعة في غير محلها، وهذا ليس محل اتفاق بين أهل العلم فقد خالف ابن القيم - رحمه الله - وذكر بأن الطفل ينتفع بالرضاع بعد الحولين، ويحسن على الأقل أن يرضع إلى منتصف السنة الثالثة، وأحسن ما يكون الفطام في وقت الاعتدال - الخريف أو الربيع -، أما الربيع فلأنه يستقبل الصيف، وأما الخريف فلأنه يستقبل الشتاء، فيكون نهمه للطعام أكثر منه في الصيف فتكون الحرارة الغريزية أوفر، والناس بحاجة إلى الطعام في الشتاء أكثر من حاجتهم إليه في الصيف، وكذلك أيضاً في الجماع عندهم من القدرة عليه، والنهم به؛ أعظم ما يكون في الصيف، وذلك لوفور الحرارة الغريزية.
"وقوله تعالى: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [سورة البقرة:233] أي: فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه؛ فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر قاله الثوري وغيره، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من - رحمة الله - بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما، وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه كما قال في سورة الطلاق: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [سورة الطلاق:6].
وقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ أي: إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد إما لعذر منها، أو لعذر له؛ فلا جناح عليها في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف، قاله غير واحد".
ويحتمل أن يكون المراد بالتسليم من المسالمة ،والتراضي بينهما بإرضاع الولد من مرضعة غير الأم، وهذا القول فيه بعد؛ لأن دلالة الآية واضحة في ثبوت أجرة الإرضاع للأم إذا أبته إلا بمقابل، ولذلك جاءت نسبة الولد في الآية للأب لتقرير أحقية الأم في مطالبة ولي الولد بأجرة الإرضاع قال سبحانه: وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ والأكمل، والأحسن؛ أن لا تأخذ الأجرة مقابل إرضاعه إكراماً لولدها، وإحساناً للعشرة مع زوجها، والله أعلم.
"وقوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ أي: في جميع أحوالكم، وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم، وأقوالكم".ويدخل في طلب تقواه ما يتصل بإرضاع الولد، وعدم إلحاق الضرر بأمه، أو بوالد الصبي، أو وارثه، وهذا التفسير جارٍ على عادة السلف في ربط المعنى بأقرب مذكور، والمعنى واتقوا الله فيما ذكر من الأمور السالفة.
  1. رواه البخاري في كتاب النكاح - باب الأكفاء في الدين برقم (4800) (5/1957)، ورواه مسلم بلفظ مقارب في كتاب الرضاع - باب رضاعة الكبير برقم (1453) (2/1076).
  2. رواه الترمذي برقم (1152) (3/458)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (13591).
  3. رواه أحمد في مسنده برقم (18686) (4/300)، ورواه البخاري عن البراء عن النبي ﷺ قال - لما مات إبراهيم -: إن له مرضعاً في الجنة في كتاب بدء الخلق –باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة برقم (3082) (3/1188).
  4. رواه الدارقطني بلفظ لا رضاع إلا ما كان... (10) (4/174).
  5. رواه البيهقي في السنن الكبرى برقم (15445) (7/426).

مرات الإستماع: 0

"وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ خبر بمعنى الأمر، وتقتضي الآية حكمين؛ الحكم الأول: من يرضع الولد؟ فمذهب مالك: أن المرأة يجب عليها إرضاع ولدها ما دامت في عصمة والده، إلا أن تكون شريفة لا يرضع مثلها فلا يلزمها ذلك، وإن كان والده قد مات، وليس للولد مال لزمها إرضاعه في المشهور، وقيل: أجرة رضاعه على بيت المال، وإن كانت مطلقة بائنًا لم يلزمها إرضاعه، لقوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6] إلا أن تشاء هي، فهي أحق به بأجرة المثل، فإن لم يقبل الطفل غيرها، وجب عليها إرضاعه، ومذهب الشافعي[1] وأبي حنيفة[2]: أنها لا يلزمها إرضاعه أصلًا، والأمر في هذه الآية عندهما على الندب، وقال أبو ثور: يلزمها على الإطلاق لظاهر الآية، وحملها على الوجوب[3] وأما مالك فحملها في موضع على الوجوب، وفي موضع على الندب، وفي موضع على التخيير، حسبما ما ذكر من التقسيم في المذهب."

 وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ هذه الآية هل هي في المطلقات خاصة؟ باعتبار أن غير المطلقة يجب عليها إرضاع الولد، أو هي مطالبة به، ومأمورة به؟ أو أن ذلك لعموم الوالدات؟

بعض أهل العلم يقول: هذه الآية أصلًا في المطلقات وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ قالوا: هذا في المطلقة.

وهذا قال به جماعة من السلف كثير: كمجاهد، والزهري، والربيع بن أنس، وسعيد بن جبير، والسدي، والضحاك، وهو قول الجمهور: أن هذه الآية في المطلقات، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - كما قال في سورة الطلاق: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [الطلاق:6]، هذا في المطلقات[4].

وبعضهم يقول: هذه الآية عامة في المطلقات، وغير المطلقات، وعلى كل حال هذا خبر وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ بمعنى الإنشاء، يعني: بمعنى الأمر، ومجيء الأمر بصيغة الخبر بعض أهل العلم يقول: هذا أقوى بحيث يكون ذلك كأنه قد فُرغ منه، وحُسم، فيكفي الإخبار عنه، وما على المكلف إلا الامتثال، والتطبيق لمقتضاه.

الحكم الثاني: مدة الرضاع، وقد ذكرها في قوله: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وإنما وصفهما بكاملين؛ لأنه يجوز أن يقال في حول، وبعض آخر حولان، فرفع ذلك الاحتمال، وأباح الفطام قبل تمام الحولين بقوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ

الحول أصله تحرك في دور، وقيل: للعام حول؛ لأنه يحول، يعني: يدور، ولهذا لازال العامة يستعملون ذلك يقولون: هذا حويل. يقصدون الذي أتى عليه عام من التمر مثلًا، ويؤخذ من هذا، يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ هذه مدة الإرضاع أن يتم الرضاعة حولين كاملين، فهذا يدل على أن الرضاع المحرم ما كان في الحولين، يعني: لو أرضعته بعد السنتين هذا لا يترتب عليه أثر، ولا حكم للحديث: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام[5].

 حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ فهذا يدل على أنه لا يجب أن يكون ذلك في تمام حولين، يمكن أن يكون بأقل من هذا، ابن عباس - ا - له قول في هذه المسألة، وهو يرى أن الحولين لمن وُلد لستة أشهر، فَهِم ذلك من قوله - تبارك، وتعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، قال: فذكر المجموع في ثلاثين.

فإذا كان للرضاع أربعة، وعشرون شهرًا فللحمل ستة أشهر، فإذا ولد لستة أشهر فالرضاع يكون لحولين، إذا ولد لسبعة أشهر يكون سنة، وتسعة أشهر الرضاع، فإذا ولد لثمانية، وهكذا ينقص، فإذا وُلد لتسعة يكون سنة، وسبعة أشهر، لكن الجمهور على خلاف ذلك - والله أعلم - لكن لو أُرضع بعد السنتين لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ يعني بعض الأطفال يستمر يرضع إلى أربع سنوات، وخمس، هل هذا حرام؟

الجواب: لا، لكن لا يترتب عليه حكم لو أرضعت غير ولدها بعد الحولين، يعني: تجاوز الحولين، فهذا لا يحرم لا يكون ولدًا لها من الرضاع، لكن لو أنها أرضعته هكذا من باب التغذية، أو التسلية، أو لتعلقه بذلك فهذا لا يقال: إنه حرام. لكنه لا يترتب عليه أثر بالنسبة لغير ولدها.

إذا كان اللبن من المرأة فقط مثل أن تأخذ شيئًا يدر الحليب، وقد تكون غير متزوجة، وقد تكون مطلقة، فالأقرب أن مثل هذا يؤثر، فهو لبنها، ونبت منه العظم ما كان في الحولين فتكون أمًا له، وليس له أب من الرضاع، فتكون هذه إحدى الصور في وجود أم من الرضاع من غير أب، كذلك لو كان لها زوج، فأرضعت هذا الصبي في مدة الحولين أرضعته ثلاث رضعات، ثم طلقها هذا الزوج، وانتهت العدة، وتزوجها زوج آخر، فأرضعت هذا الولد من حمل من هذا الزوج باقي الرضعات الخمس أرضعته رضعتين فتكون أمًا له، أرضعت خمس رضعات متفرقة في الحولين، وليس له أب من الرضاع؛ لأنه من الزوج الأول ثلاث، ومن الثاني: اثنتين فقط. فلا أب له من الرضاع، وإلا فالأصل أن الرضاع على الأرجح يحصل به الانتشار، التحريم من الجهتين: من جهة الأب، ومن جهة الأم، بحيث لو أرضعت من زوج لبنه خمس رضعات مشبعات فيكون هذا الرجل أبًا له، وأخوه عمًا له، وأبوه جدًا له، وابنه أخًا له، وهكذا من جهة الزوج، ومن جهة الزوجة كذلك أخوها خاله، وأمها جدته، وبنتها أخته، ونحو ذلك.

"واشترط أن يكون الفطام عن تراضي الأبوين بقوله: فَإِنْ أَرادا فِصالًا الآية."

هنا المقصود بالفصال التفريق بين الصبي، والرضاع، الفطام، ومنه قيل: لولد الناقة إذا قُطع عن الرضاع فصيل؛ لأنه فُصل عن أمه.

"فإن لم يكن على الولد ضرر في الفطام فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ومن دعا منهما إلى تمام الحولين فذلك له، وأما بعد الحولين فمن دعا منهما إلى الفطام فذلك له."

يعني: مَن الذي يُقدم قوله، ويُعتبر، ويؤخذ به، في الحولين من أراد الإتمام، قال لها الزوج: أكملي الرضاع. مثلًا، وبعد الحولين قال لها الزوج: لا ترضعيه. مثلًا.

"وقال ابن العباس: إنما يرضع حولين من مكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة، وعشرون شهرًا، وإن مكث تسعة فرضاعه إحدى، وعشرون؛ لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15][6].

 وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ في هذه النفقة، والكسوة: قولان؛ أحدهما: أنها أجرة رضاع الولد، أوجبها الله للأم على الوالد، وهو قول الزمخشري[7] وابن العربي[8].

الثاني: أنها نفقة الزوجات على الإطلاق، وقال منذر ابن سعيد البلوطي: هذه الآية نص في وجوب نفقة الرجل على زوجته، وعلى ذلك حملها ابن الفرس.

قوله: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ المولود له: هو الوالد كما في قوله - تبارك، وتعالى -: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6]، وهذا الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله -[9] وعُبر بـ(المولود له) كأن ذلك - والله تعالى أعلم - من أجل أن ذلك فيه إشعار بأن الأب عليه أن ينفق؛ لأن الولد له، ويحمل اسمه، يُنسب إليه فهو ولده فلا منة له في ذلك، ولا فضل فعليه أن يبذل ذلك طيبة نفسه بهذه النفقة وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ فلا يشعر أنه متفضل عليها، أو يتمنع من النفقة، أو يماطل فيها؛ لأن الولد له وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ هذا بعضهم يقول: خاص بالمطلقات. كما سبق، وجاء عن الضحاك: إذا طلق زوجته، وله منها ولد فأرضعت له ولده، وجب على الوالد نفقتها، وكسوتها بالمعروف، أما إذا كانت في عصمته فهو ينفق عليها، ولو لم يكن لها ولد أصلًا، ولا تستحق المرأة على الأرجح أجرة على الرضاع إذا كانت في عصمة الرجل، إنما ذلك في المطلقة، فهذا ولده فإذا أرضعت فلها أجرة الرضاع، فهنا قال: في هذه النفقة، والكسوة: قولان؛ أحدهما: أنها أجرة رضاع الولد، قال: وهو قول الزمخشري. الزمخشري لا عبرة بقوله في مثل هذا، في الأحكام الفقهية فهو ليس في عداد المجتهدين، والفقهاء.

الثاني: أنها نفقة الزوجات على الإطلاق. هذا بأي اعتبار؟ نفقة الزوجة وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ يعني الزوجات، لكن السياق إنما هو في الإرضاع، فهذه الآية - والله أعلم - فيمن أرضعت له، والأقرب كما سبق أن ذلك في المطلقات منهن، قاله منذر بن سعيد البلوطي، وهو من أئمة المالكية، وكان على اعتقاد السلف، له كتاب في الفِرَق مطبوع، وابن الفرس له كتاب في أحكام القرآن.

بِالْمَعْرُوفِ أي: على قدر حال الزوج في ماله، والزوجة في منصبها، وقد بين ذلك بقوله: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا

المعروف بحسب حاله، والعلماء - رحمهم الله - يتكلمون في النفقات على الزوجات، هل يراعى فيها حال الزوج، أو يراعى فيها حال المرأة لو كانت من أسرة غنية، فهل يطالب الزوج بأن يوفر لها نفس المستوى الذي كانت تعيش فيه، إذا كان عندها خدم يوفر لها من يخدمها مثلًا، ونحو ذلك؟ أو المعتبر في ذلك هو حال الزوج؟

كذلك لو كان الزوج غنيًا، والمرأة فقيرة، فهل يوفر لها من النفقة ما يصلح لمثلها فيما يكون من جنس حالها عند أهلها؟ فما هو المعتبر؟ الفقهاء مختلفون في ذلك، فبعضهم يقول: المعتبر حال الزوجة، وبعضهم يقول: المعتبر حال الزوج، بصرف النظر عن الزوجة كونها فقيرة، أو غنية، والله أحال إلى المعروف، والنفقة تكون بحسب حال الزوج من عُسر، ويسر لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7]، ويكون ذلك بحسب الحال، والزمان، والمكان الذي يعيشون فيه فأحاله إلى المعروف، المعروف في بلد غير المعروف في بلد آخر، المعروف في القرن الماضي غير المعروف في هذا الوقت، وهكذا.

لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها قرئ بفتح الراء لالتقاء الساكنين على النهي، وبرفعهما على الخبر، ومعناها النهي، ويحتمل على كل واحد من الوجهين أن يكون الفعل مسندًا إلى الفاعل، فيكون ما قبل الآخر مكسورًا قبل الإدغام، أو يكون مسندًا إلى المفعول، فيكون مفتوحًا، والمعنى على الوجهين: النهي عن إضرار أحد الوالدين بالآخر بسبب الولد، ويدخل في عموم النهي: وجوه الضرر كلها، والباء في قوله: بِوَلَدِهَا و بِوَلَدِهِ سببية."

 لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا قرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وكذلك هو رواية عن عاصم برفع الراء: (لا تضارُ والدة بولدها)[10] وقرأه الباقون بالفتح لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا قوله هنا: بفتح الراء لالتقاء الساكنين على النهي. يعني: تكون (لا) ناهية جازمة، وسُكنت الراء الأخيرة للجزم، وقبلها راء ساكنة مدغمة فيها فالتقى ساكنان فتحركت الثانية بالفتح للألف قبلها، حركة الفتح هذه ليست حركة إعراب لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا بفتح الراء لالتقاء الساكنين على النهي، وبرفعها على الخبر، يعني: تكون (لا) نافية لا عمل لها فيبقى مرفوعًا، يقول: ومعناه النهي. يعني: أنه خبر بمعنى الإنشاء بمعنى النهي (لا تضار) نهي عن المضارة، يقول: ويحتمل على كل واحد من الوجهين أن يكون الفعل مسندًا إلى الفاعل، فيكون ما قبل الآخر مكسورًا قبل الإدغام. يعني: لا تضارِر والدة بولدها، لا تضارِر ولادة زوجها بسبب ولدها باعتبار أن الباء للسببية، كأن ترفض هذا الولد، وتلقي بذلك على الزوج من أجل مضارة هذا الزوج بتربية هذا الولد إذا كان لا يتأتى له ذلك، يتعلم مثلًا، ليس عنده من يقوم به، ولما حصل الطلاق أرادت أن تلحق الضرر بهذا الزوج فقالت: خذ أولادك، خذ ولدك.

هذا الولد حديث، ولادة مثلًا، أو قد يكون مضى على، ولادته مدة لكنه لا يستطيع القيام بشؤونه، ليس عنده من يراعاه فيبقى هذا الزوج في حال من الحيرة، كيف يصنع بهذا الولد؟! فهذا لا يجوز، وقد تُضار بغير ذلك من أجل النكاية بهذا الزوج، يحصل منها مطالبات، واشتراطات، ولربما دعاوى كيدية على هذا الزوج هنا، وهناك في المحاكم، وفي الشرط، وغيرها بدعاوى كاذبة من أجل ألا يرى هذا الولد، أو ألا يأخذ هذا الولد، أو أن تضغط عليه بسبب هذا الولد، أحيانًا تشتكي باعتبار أن هذا الرجل يمثل خطرًا على الولد، فبعض النساء لجهلها تقول: أريد أن يُبرأ منه. كيف يُبرأ منه؟! يعني هذا ولد ملاعنة أم ماذا؟! يعني يصدر من المحكمة حكم بتبرئة هذا الزوج من هذا الولد، هذا لا يكون إلا في الملاعنة، يعني أنه ولد زنا، فهذه لشدة العداوة، والبغض لهذا الزوج تريد وثيقة من المحكمة بتبرئته من أبيه، وأحيانًا يكون الأمر بغير هذا، تطالب بمطالبات أنه لا ينفق، تريد نفقة لهذا الولد، تريد نفقة لنفسها، وهي مطلقة بائن، تريد سكنى، ولا تفتأ من رفع الدعاوى، والشكاوى في كل ناحية تطالب بمثل هذه الأمور، فصار هذا الولد سببًا لعناء كثير لهذا الزوج، ودعاوى غير حقيقية، دعاوى كاذبة فيبقى في شقاء بسبب هذا الولد، فيكون الولد هذا هو الضحية، كذلك أيضًا ولا يضارِر مولود له - الزوج - زوجته بسبب هذا الولد، كأن ينزع الولد الصغير منها، تريد تربيته، رضيع تريد إرضاعه؛ انتقامًا منها، ونكاية بها فيأخذ هذا الولد، أو يمنعها من رؤيته أصلًا فيحصل لها بسبب ذلك ما الله به عليم، وهكذا، فهذا لا يجوز، ولا يصح أن يضغط أحد الزوجين على الآخر بسبب الولد فيكون الولد هذا هو وسيلة الضغط، والأذى، والمضارة بين الزوجين، إنما ينظر الأصلح له هذا هو الواجب.

يقول: ويحتمل على كل واحد من الوجهين أن يكون الفعل مسندًا إلى الفاعل فيكون ما قبل الآخر مكسورًا قبل الإدغام. لا تضارِر، أو يكون مسندًا إلى المفعول فيكون مفتوحًا. لا تُضَارَر والدة بولدها، والمعنى على الوجهين النهي عن إضرار أحد الوالدين بالآخر بسبب الولد.

وقد حملها ابن جرير على المعنيين[11] باعتبار أن القرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ [البقرة:282].

كذلك فيكون النهي عن المضارة في حق كل واحد من الزوجين، فالزوج لا يحق له أن يضارر المرأة، والمرأة لا يحق لها أن تضارر الرجل، فلا يضار الرجل لا يضارَر هو، ولا يضارِر أيضًا، ولا تضارر الزوجة الزوج، فكل ذلك صحيح، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، ولا دليل على تعين أحد المعنيين، والآية تحتمل ذلك جميعًا فتحمل عليه - والله أعلم - فيكون الضرر هنا مرادًا به هذا، وهذا، هذا النوع من الوجوه، والمعاني يكون من جهة التصريف، وبعضهم يدخله بنوع من المشترك: لفظ واحد يحتمل من جهة التصريف معنيين. فبعضهم يدخله في بعض السور المشترك.

"والمراد بقوله: وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ الوالد، وإنما ذكره بهذا اللفظ إعلامًا بأن الولد ينسب له لا للأم."

هذه القضية التي أشرت إليها سابقًا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ما قال: ولا والد. وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ فهو ينسب إلى أبيه.

وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ اختلف في الْوَارِثِ فقيل: وارث المولود له، وقيل: وارث الصبي لو مات، وقيل: هو الصبي نفسه، وقيل: من بقي من أبويه."

 وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ يعني: وارث الصبي وارث الطفل الذي مات أبوه مثل ما على الأب من النفقة لما قال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ [البقرة:233] الزوج رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233]، وإذا مات؟ فعلى الوارث مثل ذلك، فهو وارث هذا الطفل الذي مات أبوه فعليه مثل ما على الأب من النفقة، والكسوة لوالدته، وعدم الإضرار بها، هذا الذي ذهب إليه الجمهور في هذا المعنى وَعَلَى الْوَارِثِ وارث الطفل من النفقة، نجمع المعاني: النفقة، وعدم الإضرار، وكذلك أيضًا القرطبي حمل هذا وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ يعني: في عدم الإضرار لقريبه، وبهذا قال مجاهد، والشعبي، والضحاك[12].

يقول: اختلف في الْوَارِثِ فقيل: وارث المولود له. يعني الأب، وقيل: وارث الصبي لو مات، وقيل: هو الصبي. هذا اختيار ابن جرير: أن الوارث هو الصبي[13] وقيل: من بقي من أبويه.، وقيل: وارث المرضعة، وبعضهم يقول: هذه الآية منسوخة.، ولا دليل على النسخ، لكن على كل حال، والذي يظهر - والله أعلم - أن قوله: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ أي: وارث الصبي، وارث الطفل الذي مات أبوه، هذا قول الجمهور.

"واختلف في المراد بقوله: مِثْلُ ذَلِكَ فقال مالك، وأصحابه: عدم المضارة، وذلك يجري مع كل قول في الْوَارِثِ لأن ترك الضرر واجب على كل أحد، وقيل: المراد أجرة الرضاع من النفقة، والكسوة، ويختلف هذا القول بحسب الاختلاف في الوارث، فأما على القول بأن الوارث هو الصبي فلا إشكال؛ لأن أجرة رضاعه في ماله."

 هذا على قول ابن جرير، على الوارث يعني الصبي فيؤخذ من مال الصبي الأجرة، أجرة الرضاع.

وأما على سائر الأقوال، فقيل: إن الآية منسوخة فلا تجب أجرة الرضاع على أحد غير الوالد.

يعني: فيما لو كان مثلًا الذي كان وارثًا لما مات، والد هذا الصبي فكان الوارث مثلًا هو أخوه فهل عليه أجرة الرضاع؟ بعضهم يقول: منسوخة؛ لأنه لا يجب عليه هذه النفقة. لكن لا دليل على النسخ، قلنا: بأن المعنى وارث الصبي، فهنا يجب عليه الإنفاق إذا لم يوجد من يقوم بذلك، يعني: إن لم يكن هو الولد فيجب على غيره من الوارثين أن ينفق عليه، بعض أهل العلم يأخذ من هذه الآية: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ أن الزكاة لا تُعطى لمن كان المعطي وارثًا له لو مات؛ لأنه يجب عليه أن ينفق عليه، قالوا هنا وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ يعني النفقة، وارث الصبي يجب عليه النفقة، فكل صاحب زكاة فإنه لا يعطي من قرابته ممن يرثه هذا المعطي لو مات، يعني: لو كان له أخ مثلًا هل يعطي الزكاة لأخيه، أو لا؟ على هذا القول فيه تفصيل، فإذا كان هذا الأخ له أب فسيرثه أبوه، لو كان هذا الأخ له ابن سيرثه الابن دون الأخ، فهنا يعطيه من الزكاة إن كان فقيرًا، لكن لو فُرض أن هذا الأخ ليس له أب، وليس له ابن من سيرث؟ الأخ، ففي هذه الحالة قال هؤلاء: يجب عليه أن ينفق عليه فهو وارث، والله يقول: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ

هذا وإن كان في الرضاع فاستنبطوا منه هذا الحكم: إن الوارث يجب عليه أن ينفق، فإذا كان يجب عليه أن ينفق كيف يعطيه من الزكاة؟! هكذا قال بعض أهل العلم، وبعضهم كما هو معلوم يقول: الزكاة لا تُعطى للأصول، ولا الفروع، وتعطى لمن عدا ذلك سواء كان المعطي، وارثًا له أم لم يكن، وكأن هذا القول - والله أعلم - أقرب إلا ما كان من قبيل الدين؛ لأنه لو كان على الأب دين فيمكن أن يُعطيه الولد لسداد الدين، قضاء الدين؛ لأنه لا يجب على الولد أن يقضي هذا الدين بهذا الاعتبار، وهكذا الوالد يمكن أن يدفع الزكاة للولد لقضاء الدين، أما في النفقة فلا؛ لأنها واجبة عليه.

"وقيل: إنها محكمة فتجب أجرة الرضاع على وارث الصبي لو مات، أو على وارث الوالد، وهو قول قتادة[14] والحسن البصري[15]." 

هنا نقل تعليقًا عن ابن العربي يقول: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ قال ابن القاسم - يعني من المالكية - عن مالك: هي منسوخة. يقول ابن العربي: وهذا كلام تشمئز منه قلوب الغافلين فتحار فيه ألباب الشادين، والأمر فيه قريب؛ لأنا نقول لو ثبتت ما نسخها إلا ما كان في مرتبتها - عند من يقول مثلًا: لا ينسخ القرآن إلا قرآن كما يقول الشافعي - رحمه الله - أو من يقول مثلًا: بأن المتواتر لا ينسخه إلا متواتر، والأقرب أوسع من ذلك - لكن بصرف النظر - وجهه أن علماء المتقدمين من الفقهاء، والمفسرين كانوا يسمون التخصيص نسخًا؛ لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم مسامحة، فجرى ذلك في ألسنتهم، وهذا يظهر عند من ارتاض بكلام المتقدمين كثيرا[16].

يعني: يريد أن يوجه القول المروي عن مالك - رحمه الله - بأنها منسوخة، بأن المقصود بذلك التخصيص، وأن المتقدمين يطلقون النسخ على كل ما يعرض للنص من تخصيص العام، وتقييد المطلق، وبيان المجمل، والقسم الرابع: وهو الرفع الذي شاع عند المتأخرين بإطلاق النسخ عليه، وهو المتبادر، لكن قد لا يكون هذا هو المراد - والله أعلم - عند من قال بأنها منسوخة، يعني هل هذه مخصصة، أو لا؟ هل المقصود التخصيص، أم الرفع؟ قد لا يُراد هذا - والله أعلم - يعني قد يقصد القائل به الرفع باعتبار أن ذلك لا يجب عليه أصلًا - والله أعلم -.

وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا إباحة لاتخاذ الضئر."

المقصود بالضئر: هي المرضعة لغير ولدها، سواء كان ذلك من الآدميين، وغالب ما يقال ذلك للناقة التي تُضيْر فترضع غير ولدها، يكون هذا قد ماتت أمه مثلًا، وهذا معروف عند أهل الإبل، فيعملون لها أشياء صعبة جدًا من أجل أن تتوهم أنه ولدها فتعطف عليه، وترضعه فيقال: ضئر. ترضع ولدًا غير ولدها، قوله: إباحة لاتخاذ الضئر. هذا لا إشكال فيه يعني يُتخذ له مرضع.

إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ أي: دفعتم أجرة الرضاع."

حمله ابن كثير على استلام الأب للولد إذا اتفقا مع أمه لعذر[17] إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع له غيرها، فيعطيها أجرة الرضاع، يعطيها الأم إذا أخذ الولد ليرضع من أخرى، وبعضهم يقول: إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعني: للمرضع المستأجرة، يُعطى لها الأجرة.

وبعضهم حمله على التراضي الذي يكون بين الزوجين، وعلى كل حال هو مطالب بأن يعطي الأم المطلقة أجرة الرضاع إن كانت قد أرضعت، ثم ينتقل إلى أخرى، وتلك أيضًا تُعطى الأجرة بالمعروف - والله أعلم -.

  1.  المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي (3/162).
  2.  مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/497).
  3.  أحكام القرآن لابن العربي (4/288).
  4. تفسير الطبري (5/38).
  5.  أخرجه الترمذي، أبواب الرضاع عن رسول الله ﷺ باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين، رقم: (1152).
  6.  تفسير الطبري (5/34)، رقم: (4950).
  7.  تفسير الزمخشري (1/280).
  8.  أحكام القرآن لابن العربي (1/274).
  9.  تفسير ابن كثير (1/634).
  10.  تفسير الطبري (5/46).
  11.  المصدر السابق (5/48).
  12.  تفسير ابن كثير (1/635).
  13.  تفسير الطبري (5/54).
  14.  مصنف عبد الرزاق الصنعاني (6/167)، رقم: (10372).
  15.  تفسير الطبري (5/55)، رقم: (4990).
  16.  أحكام القرآن لابن العربي (1/276).
  17.  تفسير ابن كثير (1/635).

مرات الإستماع: 0

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة:233].

علاقة هذه الآية بآيات الطلاق أن ذلك على قول طائفة من السلف فمن بعدهم في المطلقات، بمعنى: أن هذه الآية تتصل بالمطلقة من النساء، أن ترضع الولد، وعلى الأب الذي هو زوجها، والد هذا الطفل أن يُنفق عليها، وعليه الكسوة، وأيضًا نهى عن المُضارة بين الزوجين بسبب هذا الولد، وهكذا إذا أردوا الفِطام.

فقوله -تبارك وتعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ والوالدات يرضعن أولادهن، هذا خبر، ولكن المعنى هو الأمر، فهو خبر مُضمن معنى الأمر، وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ يعني: عليهن الإرضاع للأولاد، حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ والحول هو السنة، فدل على أن مُدة الرضاع عامان لمن أراد أن يُتم الرضاعة، ولا يجب أن يكون الرضاع تمام الحولين، وإنما ذهب بعض أهل العلم إلى أن القدر الواجب هو الذي يكون فيه اللبا، وهو أول ما يكون من الحليب بعد الولادة، ليومين، أو ثلاثة، أو نحو ذلك، وهو معروف، يقولون: هذا الذي يكون به قِوام هذا المولود، فإنه إن مُنع منه، فإنه قد لا يعيش، هكذا قال بعض أهل العلم.

وهنا قال: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وجاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن الحولين هو بحسب مدة الحمل؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قال: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [سورة الأحقاف:15] فابن عباس -رضي الله عنهما- فهم أن الرضاع في سنتين، إذا كان الحمل في ستة أشهر؛ فإذا أخرجت أربعة وعشرين شهرًا التي هي مدة الرضاع، يبقى من الثلاثين ستة أشهر، هي مدة الحمل في أقل تقدير، يمكن أن يعيش معه هذا المولود، وإذا كان الحمل تسعة أشهر، فابن عباس -رضي الله عنهما- يرى أن الرضاع يكون في سنة وسبعة أشهر، فتنقص من مدة الرضاع بحسب الحمل [1] لكن الذي عليه عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا أن الرضاع يكون في حولين بصرف النظر عن مدة الحمل، فمدة الحمل قد تزيد على التسعة أشهر، وقد تنقص، فقد تلد المرأة لعامين، فيكون مدة الحمل لسنتين، وقد يكون لأكثر من هذا، وفي تراجم بعض السلف أشياء من هذا القبيل.

فالمقصود أن الله -تبارك وتعالى- قال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ والمولود له هو الزوج، عليه رزق هذه المرأة، يعني: النفقة عليها، والكسوة، ومن هنا فهم بعض أهل العلم أن المقصود المُطلقات، وإلا فإن المرأة التي قد ولدت، والتي لم تلد، يجب على الزوج أن يُنفق عليها بالمعروف، وأن يوفر لها ما تحتاج إليه من الكسوة، ونحو ذلك، فلماذا خص الوالدات هنا؟ قال ربنا -تبارك وتعالى: بِالمَعْرُوفِ وذكرنا من قبل بأن ذلك يختلف باختلاف الأزمان والأحوال والأشخاص والأمكنة، فيُحيل إلى المعروف، فلا يتقيد بقدر معين من المال؛ لأن ذلك يتفاوت، فالذي يكون بالمعروف الآن غير الذي يكون بالمعروف قبل خمسين سنة، والذي يكون بالمعروف في مدينة ليس كالمعروف في قرية، أو في البادية، أو نحو ذلك.

قال: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا وهذا من رحمة الله بعباده، فهذا الإنسان الذي لا يستطيع أن يُنفق لكونه فقيرًا، فإنه يُنفق بحسب حاله، بخلاف الغني، فإنه يُطالب من النفقة بما هو أكثر من ذلك، فنفقة الغني غير نفقة الفقير، سواء كان ذلك على الزوجات، أو على الأولاد، أو كان ذلك على هؤلاء في حال الطلاق والفراق، قال الله -تبارك وتعالى: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ لا تُضارَّ، وفي القراءة الأخرى: (لا تُضارُ) [2] فهذه من جهة التصريف (تُضار) يمكن أن يكون المعنى (لا تُضارر) المرأة هذا الزوج، فتُلحق الضرر به، ويمكن أن يكون المعنى: لا تُضارَّ أي: المرأة لا يُلحق الزوج بها الضرر، بسبب هذا المولود، وكلاهما صحيح، والله تعالى أعلم، والقرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فلا يجوز للمرأة أن تُضار بهذا الولد، وصور المُضارة متنوعة، كأن تترك عنده هذا الولد، ولا يجد من يُربيه، ومن يقوم عليه، ونحو ذلك من أجل الضغط على هذا الأب بهذا الولد، فيكون الضحية هو الولد، وأحيانًا قد تمنع الزوج إذا كانت حاضنة لهذا الولد من رؤيته بدعاوى مختلفة، وقد تُضار الزوج فترفض الإرضاع إلا بأجرة أكثر من أُجرة المثل، فتبتز هذا الزوج بهذا الولد.

وقد يكون ذلك من قِبل الزوج فيُضار المرأة بهذا الولد، كأن يمنع المرأة من رؤية ولدها، أو من إرضاعه، وهي تريد الإرضاع، ثم بعد ذلك يُطالبها بالتنازل عن حقوقها من النفقة مثلاً، أو غير ذلك مما يطلبه منها، أو لإغاظتها والانتقام منها؛ لسوء العلاقة التي آلت إليها الأحوال بينهما، فهذا لا يجوز، ولا يليق، ولا يحسُن أن يكون هذا الطفل هو الضحية، فالأب يجذبه من هنا، والأم تجذبه من هنا، وقد تصير الأمور إلى حال ربما لا يُتمكن من رؤية هذا الطفل إلا في مراكز الشرطة، وهذا يحصل أحيانًا لشدة العداوة بين الزوجين، فلا يفصل بينهما إلا السلطة والمحاكم، فيأتي الأب ليرى هذا الطفل في مركز الشرطة، أو يستلم هذا الطفل ساعات، أو يوم، ثم يُعيده في مركز الشرطة، وتأتي الأم وتستلمه، فتصل الأمور إلى هذا الحد، فلا يجوز المضارة بهؤلاء الأطفال، وأن يكونوا هم الضحية، لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ لا يُلحق بها الضرر، ولا تُلحق هي الضرر أيضًا بالزوج بسبب هذا الولد، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ والوارث اختلفوا فيه، فبعضهم يقول: بأن المقصود وارث الطفل، يعني: إذا لم يوجد الأب، فالطفل يكون عند الجد مثلاً، فينبغي على الجد هذا ألا يُضار، وأن يُنفق بالمعروف، وبعضهم يقول: في الوراث غير ذلك.

وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فإذا كان يجب على الوارث أن يُنفق، ونحو ذلك، فأخذ أهل العلم من هذا الموضع أن الوارث لا يُعطى من الزكاة، وهذا ليس محل اتفاق، فالزكاة لا تُعطى للأصول ولا للفروع، الآباء وإن علوا والأمهات وكذلك أيضًا الأبناء والبنات، هؤلاء لا يعطون من الزكاة، إلا إذا كان عليه دين، فيمكن أن يُقضى دينه من الزكاة، يعني من قِبل الولد، لكن غير الدين فيجب عليه أن يُنفق عليه، لكن غير الأصول والفروع هل يعطون الزكاة؟ كالأخ والأخت إذا كانوا فقراء، هل يعطون الزكاة؟

بعض أهل العلم أطلق القول بالجواز، وأنه لا إشكال؛ لأنه لا يجب النفقة عليهم، وبعضهم فهم من هذه الآية، وإن كانت في الرضاع والنفقة على الزوجات، إذا كان المُعطي (المُزكي) يرث هذا المُعطى لو مات، فإنه لا يُعطيه من الزكاة، وإنما يُنفق عليه وجوبًا إن كان فقيرًا، يعني: على سبيل المثال: لو توفي أخ وليس له أبناء، وليس له أب، ولا جد، لو مات من سيرثه؟ الإخوة، إن كان له بنات، إن كانت بنت فلها النصف، وإن كانت أكثر فلهما الثلثان، والباقي لأولى رجل ذكر، تعصيبًا، إذًا هذا الأخ الذي عنده زكاة سيرث أخاه لو مات، فبعض أهل العلم يقول: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ يعني: النفقة وجوبًا، إذًا لا يعطيه الزكاة إذا كان سيرثه لو مات، فإن كان لا يرثه، كما لو كان هذا الأخ عنده أبناء، أو له أب، فإن الذي سيرث هو الأب والأبناء، ففي هذه الحال إن كان فقيرًا يجوز أن يُعطيه من الزكاة، هذه مسألة فُهمت من هذا.

فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا يعني: إن أراد فصالاً يعني الفِطام، عن تراضٍ منهما وتشاور، إذا اقتضت المصلحة ذلك، وسيأتي ما فيه من الفوائد والهدايات، فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أي: لا حرج.

وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعني: إذا أراد أن يسترضع الولد عند غير أمه، عند مُرضع تُرضع بأُجرة، فلا حرج، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يُذكرهم بتقوى الله  في ذلك كله، من أجل أن لا يحصل التضييع والتفريط والمُضارة، ثم يُذكرهم بما يبعث على المراقبة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ نافذ البصر فيكم، ولا يخفى عليه من أموركم شيء، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، وهذه المرتبة أعظم ما يبعث عليها النظر في معاني الأسماء الحسنى، المتعلقة بذلك، كالسميع، والعليم، والرقيب، والشهيد، ونحو ذلك.

ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: ما استنبطه بعض أهل العلم، حيث جاء ذلك عن علي : "أن أقل مدة الحمل ستة أشهر"[3] وذلك من آية الأحقاف التي ذكرتها وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [سورة الأحقاف:15] ومن الآية الأخرى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [سورة لقمان:14]، وهنا وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [سورة البقرة:233] فتبيَّن من هذا أن مدة الرضاع في عامين؛ لأنه يبقى من الثلاثين شهرًا ستة أشهر، وهذا النوع من الدِلالة يسميه الأصوليون بدلالة الإشارة، غير التفسير الإشاري عند الصوفية، يُسمى دلالة الإشارة، وهي إشارة اللفظ لمعنى، أو حكم، لم يكن مقصودًا للمتكلم، حينما ساق هذا النص، أو الخطاب.

فهذه الآية إنما جاءت لتُبين قضية تتعلق بالرضاع، وهو أنه ينبغي أن يكون الرضاع في حولين، ولا بأس أن يكون إذا وجد التشاور بين الزوجين في مدة أقل من هذا، والآية التي في الأحقاف في الحمل والفصال، وأنها في ثلاثين شهرًا، يعني: لم يُسق شيء من هذه الآيات من أجل بيان أقل مدة الحمل، فهذا النوع من دلالة الإشارة يُؤخذ من مجموع نصين، وهذا لا يُستنبط إلا بدقة، ونظر ثاقب، وأحيانًا قد يُستخرج المعنى الدقيق بهذا النوع من أنواع الدلالة (دلالة الإشارة) ولكن من دليل واحد، مثل ما ذكرنا في قوله -تبارك وتعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ إلى أن قال: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة:187] فإذا جاز الجماع إلى آخر جُزء من الليل، فمعنى ذلك أن الاغتسال سيكون بعد طلوع الفجر، فالآية هذه يؤخذ منها بدلالة الإشارة أنه يجوز أن يُصبح الإنسان جُنبًا من غير احتلام، ويكون صومه صحيحًا، لكن هل الآية سيقت لبيان هذا الحكم؟ الجواب: لا، وإنما أشارت إليه، فهذه دلالة الإشارة من دليل واحد، وهذا النوع الثاني من طُرق استخراجها.

ويُؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ أنه قد يُخرج الأمر بصيغة الخبر، ويكون ذلك آكد، كما ذكرنا في بعض المناسبات، ليدل على أنه أمر محسوم، قد أُنجز وقُضي، ولا مجال للمراجعة فيه، فجاء به على سبيل الإخبار وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ فلم يقل: يا معاشر الوالدات أرضعن أولادكن، وإنما قال: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ فيكون إخبار، فعليهن فقط الامتثال لمضمون ذلك، فهذا آكد في الدلالة على الأمر، وهكذا في قوله: كَامِلَيْنِ معروف أن الحولين سنتان.

لكن العرب قد تذكر هذه المدة العام والعامين ونحو ذلك، وتجبر الكسر، يعني: قد يكون سنة وستة شهور، كما قلنا في قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [سورة البقرة:197] قال: أشهر، وهو شهران وعشرة أيام، فهذا على أحد الوجوه في تفسيره أنه جُبر الكسر، فهنا أكده، وأن القضية ليست جبر كسر، وإنما في عامين، أربعة وعشرين شهر، كما في قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [سورة البقرة:196] من غير زيادة ولا نقصان، فهذا لرفع التوهم أنه قد يكون أقل من ذلك فجُبر، فهذا يكون فيه رفع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع إذا حصل بينهما النزاع، كأن تقول المرأة: يكفي أن نُرضعه سنة وبضعة أشهر، أو نحو ذلك، فهنا لا بد من التشاور والتراضي، وإلا فالحق التمام والكمال في حولين.

وذكر الحولين يدل كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: أن هذا هو الرضاع المُعتبر شرعًا[4] والذي يحصل به بناء الجسد، وينبت العظم واللحم، فيؤثر التحريم إذا أرضعته امرأة فهو ولدها، وأولادها إخوته، لكن ما بعد الحولين هو غذاء من الأغذية، كالطعام الذي يُعطى له، ونحو ذلك، ولا يُؤثر التحريم.

وفي قوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ صرح بالمفعول، ولم يقل: والوالدات يُرضعن حولين، ومعروف الوالدات تُرضع من؟ ترضع الولد، فقال: يُرضعن أولادهن حولين، فهذا يؤخذ منه أولاً: أحقية الوالدات في الإرضاع من المُرضعة الأجنبية، فلو قال الزوج: نريد أن تُرضعه امرأة أخرى، والمرأة تقول: أنا أُرضع الولد، فيُحكم به للأم، كذلك يُؤخذ منه: ترغيب الوالدات بالإرضاع، فهي لم ترضع ولد الناس، وإنما أرضعت ولدها، وفي هذا ترقيق لقلوب الوالدات، فإنه في الطلاق تحدم النفوس، فيقول لها: هذا ولدكِ، دعيكِ من هذا الزوج، الذي خاصمك وخاصمتيه، فهذا الولد هو ولدك، فأرضعيه، فهذا يُؤخذ منه ما يجمل ويحسُن من استعطاف المخاطب، بما يقتضي القبول يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ فأضاف الأولاد إلى المُرضعات.

ويُؤخذ من يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ أمر الأم أن تُرضع ولدها، فهل هناك أرحم من الأم؟ نعم، الله أرحم بعباده من الأم بولدها، فهو يأمر الأم أن تُرضع ولدها، وينهى الآباء عن قتل الأولاد وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ [سورة الأنعام:151] فالله أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا وقد يبتلي الله  العبد ليرفعه ويُمحصه، لا ليكسره، فيطمئن العبد إلى ربه، ويثق به، ويُحسن الظن بالله -جل جلاله وتقدست أسماؤه؛ ولهذا يقول الله : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [سورة النساء:11] يوصينا في أولادنا، وهؤلاء الناس الذين يعملون ويكدحون ويجمعون الدنيا من هنا وهناك، ويواصلون الليل والنهار، لو سألت الواحد منهم لماذا؟ كان يكفيك قطعة خبز في اليوم؟ قال: من أجل هؤلاء الأولاد، ومع هذا فالله أرحم بنا وبهم من الوالد والوالدة بأولادهم. 

 

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [سورة البقرة:233] فإضافة إلى ما سبق من الهدايات التي كان آخرها في الليلة الماضية: أن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها، فالله -تبارك وتعالى- يوصينا في أولادنا، ويوصي الوالدة ويأمرها أن تُرضع ولدها.

ويُؤخذ أيضًا من قوله: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ المولود له هو والد الطفل، وهذا معروف، لكنه عُبر بهذا وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ولم يقل: وعلى أبيه مثلاً، وإنما قال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ للدلالة على أن الوالدات يلدن للآباء، فالأولاد يُنسبون إليهم، وليس إلى الأمهات، ومن هنا كان عليهم الإنفاق على هؤلاء الوالدات في حال الحمل، وفي حال الإرضاع إذا كانت مُطلقة، كما أنه يجب عليه أن يُنفق عليها إذا كانت في عصمته، سواء كان ذلك في حال حملها، أو كانت قد ولدت له، أو لم تلد، ولم تحمل، فإذا أرضعت له هذا الولد بعد الطلاق، فإنه يُنفق عليها؛ لأن هذا الولد له، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ومن هنا وجب عليه الإنفاق في حال إرضاع الأم لهذا الولد، ومن قال بأن هذه الآية في المُطلقات لم يفهم منها أن الإرضاع لا يجب على الأمهات، يعني: إذا كانت في عصمة الزوج غير مُطلقة، وأنها لا تستحق أجرة على ذلك، ومن قال بأن هذه الآية في عموم النساء (الزوجات)، ولا يتقيد ذلك بالمُطلقة، فإنهم فهموا من ذلك أن الإرضاع لا يجب عليها، وأنها لو اشترطت الأجرة فلها ذلك، لكن ظاهر السياق -والله تعالى أعلم- وما ذُكر قبله وبعده، يدل على أن ذلك في المُطلقات، والله تعالى أعلم.

فالمقصود: أن هذا الولد يُنسب إلى أبيه، ويُلحق به؛ لأنه ولد على فراشه، وكان ذلك أليق بالتعبير بهذه العبارة وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ فاللام هذه تدل على التمليك، أنت ومالك لأبيك [5] فالولد للأب، ومن هنا كان الأب أحق بالتسمية من الأم، وإن كان يمكن للأم أن تُسمي إذا رضي الأب، فامرأة عمران قالت: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [سورة آل عمران:36] فالتي سمتها بذلك هي أمها.

كذلك أيضًا فيه تذكير الآباء بما يجب عليهم من مراعاة الأولاد، في تهيئة ما يحتاجون إليه، يعني: إذا كان يجب عليه أن يُنفق على من أرضعته، سواء كانت الأم المُطلقة، أو أنه استرضع أخرى، فيجب عليه أن يدفع أُجرة الرضاع، إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ فإذا كان هذا في رضاعه، فهكذا في سائر حاجات الولد، من العلاج، والطعام، واللباس، وما يحتاج إليه في حياته من مطالبه الدراسية مثلاً، ونحو هذا فيجب على الأب أن يوفر ذلك بالمعروف، فهذه النفقة من النفقات الواجبات، وتكون لدفع الحاجة، ومن هنا لا يُطلب التساوي فيها بين الأولاد، فنفقات البنت غير نفقات الابن، والابن الصغير الذي في مرحلة الرضاع غير الابن الذي في مرحلة الدراسة الابتدائية مثلاً، والذي في المرحلة الابتدائية ليس كالذي في المرحلة الجامعية في نفقته.

ولهذا لا يُطالب الأب بالتسوية في النفقات، أو ما يُعطيهم من مصروفات يومية، من أجل دراستهم، أو نحو ذلك، فالذي يُعطى للطفل الصغير في الروضة، أو في التمهيدي، أو في الابتدائي غير المصروف الذي يُعطى للطالب الجامعي، فلا يسوى بينهم في ذلك؛ لأن هذا لدفع الحاجة، فيكون بحسب الحاجة، أما النفقات التي يمكن أن تُدفع الحاجة ذات قيمة من غير تمليك، فهذه ينبغي أن يُراعى فيها ذلك، كأن يتزوج أحد الأولاد، ويحتاج إلى مكان يسكنه، والأب عنده مال، أو عنده دور، فأسكنه أحد هذه الدور فلا يُملكه إياه، ولكن كل من يحتاج من الأولاد يمكن أن يُمكنه من دار يسكنها، من غير مُحاباة لأحد، لكن لا يعوض الآخرين من الأولاد، فهذه الدار تساوي مثلاً أربعين ألف، فيُعطي في رصيد كل واحد في كل سنة أربعين ألفًا، هذا غير صحيح، لكن المشكلة هي في التملك والهبة، فإذا وهبه فهنا يجب أن يعدل بين أولاده من المحتاجين وغير المحتاجين، الذكور والإناث، يعدل بينهم في هذا، وكذلك النفقات ذات الشأن مثل السيارات، فيمكن أن يُمكنه منها من غير أن يملكها، فتكون باسم الأب، ولكن يستعملها الولد، وينتفع بها، فالحاجة تندفع بمثل هذا، وكذلك الوارث يعني كما قلنا: إذا مات والد هذا المولود، فالوارث هو الجد مثلاً، أو الأخ الأكبر، أو نحو ذلك، فعليه أن يُنفق على مُرضعته، سواء كانت هي الأم المُطلقة، أو أُرضع عند غيرها، فهذا يقوم مقام الأب.

لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا بُني الفعل هنا للمجهول لا تُكلف لإفادة العموم من جهة الفاعلين، لَا تُكَلَف أي: لا يُطالبه الشارع فوق طاقته، ولا يُطالبه الحاكم والقاضي فوق طاقته، كأن يفرض عليه نفقة أكثر مما يُطيق، وهو فقير.

وكذلك النفس هنا جاءت مُنكرة، في سياق النفي، لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ لتعم كل النفوس، فالرجل لا يُكلف بمُطالبات ونفقات باهظة، وأمور لا يُطيقها، وكذلك هذه الأم لا تُطالب بما لا تُطيق، وإنما يُنظر إلى إمكانيات كل طرف، ويُنظر إلى مصلحة هذا الولد، ويحصل التراضي والتشاور، وتغليب مصلحة الأولاد؛ ولهذا قال الله : فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا يعني: إن أرادا الفطام، وهذا يدل على أنه ليس لأحد الطرفين يعني الأب أو الأم أن يُبادر بقرار الفطام من غير مشورة، مع الطرف الآخر، فكيف إذا كان يقصد بذلك التخفف من الأعباء كالنفقة التي يُعطيها، فيقول: لا حاجة لهذا الرضاع، يُفطم هذا الطفل، لا، يُنظر في مصلحته، فإن رأوا أن المصلحة هي الفِطام فلا بأس؛ لأن المقصود هو مصلحة المولود؛ لأن هذا الرضاع لا شك أنه مصلحة له، فهو يبني عظامه ولحمه، ويزيد أيضًا في مداركه وعقله وسمعه وبصره، فذلك أكمل لحاله.

فالمقصود أن لا يُظلم هذا الصبي، ويكون موضع شد وجذب بين الطرفين، وهذا في حال صبي في المهد، فكيف بما هو أعظم من ذلك وأعلى من مصالح الأسرة، حينما يستبد الأب مثلاً بالقرارات المصيرية، كما ذكرت في الليلة الماضية، ويحرم هؤلاء البنات من الزواج؛ لأنه لا يعجبه أحد، أو لأنه يريد أن يستحوذ على ما عند هؤلاء البنات من مال، أو لأنه بزعمه لا يريد أن تذهب أموالهم وثرواتهم -إن كان غنيًا- للأجانب، كما يقول، يعني: هو لا يزوج إلا أبناء العم مثلاً؛ لئلا تذهب هذه الثروة، طيب أبناء العم ليس فيهم أكفاء، وقد لا يتقدمون، وقد تكون الفُرص معدومة، والطريق مسدود، فتبقى هؤلاء البنات في حسرة، وتنقضي الأعمار، ويصلن إلى سن اليأس، ثم بعد ذلك يكن ضحايا لهذا الجور من قِبل هذا المُستبد، الذي لا يُعجبه أحد، ولا يقبل من أحد، فهنا في فِطام هذا الصبي التشاور، لا بأس إن كان عن تراضٍ وتشاور، طيب في تزويج البنات وفي قرارات لها ما بعدها؟!

وكذلك أيضًا يدل هذا على عناية الله -تبارك وتعالى- بخلقه وعباده، فهذا الرضيع يأمر الله  بإرضاعه، ولا يكون فطامه إلا عن اتفاق وتشاور وتراضٍ من غير استبداد، وهذا إذا كان قبل الحولين.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً هذا في الغائب، ثم بعد ذلك قال: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ تحول الخطاب إلى المُخاطب، وهذا الذي يسمونه بالالتفات، فهنا لما أراد أن يوجه ذلك لهم وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ من أجل تحريك النفوس والأذهان، وإيقاظ المخاطب لما يوجه إليه من الحكم ليمتثل.

وكذلك جاء هنا بالتثنية: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً يعني الأب والأم، وأما قوله: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ المراد كذلك الآباء والأمهات، ولكن الخطاب للمُذكر، فكأنه غلب جانب الأب، أو المولود له، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ يعني: عند غير الأم، فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ لأنه هو الذي يدفع، وهو الذي يستأجر المُرضعة، فغُلّب الخطاب للمُذكر، وهنا في قوله -تبارك وتعالى: فِصَالاً جاء مُنكرًا، كأنه يُشعر بأن هذا الفصال غير مُعتاد، يعني: أنه لم يصل إلى حد تمام الحولين، فصالاً قبل ذلك.

ومن الهدايات التي تؤخذ أيضًا من هذه الآية وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلم يقل: واعلموا أنه، بالضمير، مع أنه مضى لفظ الجلالة قريبًا قبله، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ فأظهر في موضع يصح فيه الإضمار، والعرب تذكر الضمائر اختصارًا، فإذا أُظهر فهنا يُقال لتربية المهابة في هذا الموضع وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ وجاء كل موضع في جملة مستقلة، فمثل هذا حسن في الخطاب والكلام والبلاغة، ومن أجل تربية المهابة في نفوسهم، فهذا أفخم، ووقعه أعظم. 

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (5/ 34).
  2. السبعة في القراءات (ص:183) وحجة القراءات (ص:136).
  3. تفسير السمعاني (5/ 154).
  4. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 170).
  5. أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده برقم: (2291) وصححه الألباني.