هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك.الخطاب في الآية جاء بصيغة خبرية مضمنة معنى الأمر، فهو أمر بصيغة الخبر وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ، ومن أهل العلم من يرى أن الخطاب في الآية خبر محض، وهذا القول فيه نظر.
والآية خاصة بالمطلقات فقط كما قال به جماعة من المفسرين، والفقهاء، واختار هذا القول ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وقالوا: إن المرأة تعطى أجرة مقابل الرضاع يعطيها الزوج أو وارث الزوج في حال وفاته، أو يؤخذ من تركة الصبي، فإن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر.
ولهذا قال: لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ فلا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين.ظاهر الآية واضح في تحديد أمد الرضاع إلى الحولين لمن أراد أن يتم الرضاع ويجوز فطامه قبل ذلك، وبعض أهل العلم يرى أن المراد بيان الرضاع التام لمن أراد أن يكمله، وإلا فإن الرضاع قد يحصل بعد ذلك وهذا فيه نظر؛ لأن الرضاعة المؤثرة التي يكون بها نبات العظم واللحم تنتهي في الحولين.
ومن أهل العلم من قال: إن الله يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [سورة الأحقاف:15] فلا يبقى إذا حذفنا مدة الرضاع - حولين - إلا ستة أشهر للحمل، فلو كان الحمل تسعة أشهر فلا يبقى للرضاع من الثلاثين شهراً إلا واحداً وعشرين شهراً، وهذا يعني أنه رضع أقل من أربع وعشرين شهراً، ولهذا بعض أهل العلم ذكر أن هذا يتفاوت بحسب مدة الحمل، فإذا كان الحمل ستة أشهر فالرضاع يكون في سنتين، وإذا كان الحمل في تسعة أشهر فينقص من الثلاثين قدراً؛ لأن الله ذكر المجموع بالثلاثين، ولكن هذا فيه نظر؛ والصواب أن الرضاع يكون في عامين لقوله سبحانه -: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [سورة لقمان:14]، وأما تحديد الثلاثين شهراً للحمل والرضاع في الآية فالمراد به التنويه على أدنى مدة الحمل، والعلم عند الله .
وهذه المسألة يترتب عليها أحكام، إذا رضع بعد الحولين هل يؤثر فيه أو ما يؤثر؟ لكن ما ذكره أهل العلم في هذا أن الرضاع بعد الحولين يضر الولد في عقله، وبدنه.
وأما مسألة رضاع الكبير في قصة رضاعة سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة وهو كبير عندما تبناه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كما تبنى رسول الله ﷺ زيد بن حارثة، وأنكح أبو حذيفة سالماً - وهو يرى أنه ابنه - أنكحه بنت أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهي يومئذ من المهاجرات الأول، ومن أفضل أيامى قريش، فلما أنزل الله - تعالى - في زيد بن حارثة ما أنزل فقال: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [سورة الأحزاب:5] رُد كل واحد من أولئك إلى أبيه، فمن لم يُعلم له أب رد إلى مولاه، فجاءت سهلة بنت سهيل - ا - امرأة أبي حذيفة من بني عامر بن لؤي إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله ﷺ إنا كنا نرى سالماً ولداً، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فُضْلاً، وقد أنزل فيه ما علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال لها رسول الله ﷺ: أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة، فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة[1] وقد ذهب عامة علماء المسلمين من الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة إلى أن رضاع الكبير وهو من تجاوز السنتين - سن الرضاع - لا أثر له في ثبوت المحرمية، وحملوا هذا الحديث على الخصوصية، أو أنه قد نسخ حكمه بما ثبت من أدلة أخرى.
وأما عائشة - ا - وقد وافقها بعض السلف فكانت ترى بأن رضاع الكبير يؤثر في المحرمية أخذاً من هذا الحديث، ولهذا كانت تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها، ويدخل عليها، وإن كان كبيراً؛ خمس رضعات ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أمهات المؤمنين أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى يرضع في المهد، وقلن لعائشة: "والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي ﷺ لسالم دون الناس".
وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - توسط في هذه المسألة، فهو يرى أن رضاع الكبير يجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم للحاجة، وتعقب ذلك بقوله: وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها، وهذا الكلام فيه نظر، والله أعلم بالصواب.
"قال المفسر - رحمه الله تعالى -: هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ولهذا قال: لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [سورة البقرة:233]، فلا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم.
قال الترمذي: باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين.
ثم روى عن أم سلمة - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام[2]، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله ﷺ وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئاً.
قلت: تفرد الترمذي برواية هذا الحديث، ورجاله على شرط الصحيحين.
ومعنى قوله: إلا ما كان في الثدي أي: في محل الرضاعة قبل الحولين كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن البراء بن عازب قال: لما مات إبراهيم ابن النبي ﷺ قال: إن ابني مات في الثدي، إن له مرضعاً في الجنة[3]".فقد مضى الكلام على قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وما يتعلق به من مسائل، مما يغنينا عن الإعادة.
لكن ينبغي أن نفهم أن مراده ﷺ في قوله: ما كان في الثدي أي: ما كان في فترة الرضاع، وهي في العامين الأولين من حياة الطفل، ولذا إذا قيل: فلان لازال في الثدي؛ فإنهم يعنون بذلك أنه لم يتجاوز فترة الرضاع، والله أعلم.
"ويؤيده ما رواه الدارقطني عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين[4].
قلت: وقد رواه الإمام مالك في الموطأ عن ثور بن زيد عن ابن عباس - ا - مرفوعاً.
ورواه الدراوردي عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس - ا - وزاد: وكان بعد الحولين فليس بشيء[5] وهذا أصح.
وقد روي في الصحيح عن عائشة - ا -: أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم، وهو قول عطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وكانت عائشة - ا - تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه، وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة : حيث أمر النبي ﷺ امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيراً، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، وأبى ذلك سائر أزواج النبي ﷺ، ورأين ذلك من الخصائص وهو قول الجمهور".وهذا جاء صريحاً في بعض الروايات عن أم سلمة - ا - أنها أنكرت ذلك على عائشة - ا -، ورأت أن ذلك مختص بسالم مولى أبي حذيفة ، وهذا الذي سار عليه جماهير العلماء سلفاً وخلفاً أن رضاع الكبير لا يؤثر في المحرمية، إلا أن شيخ الإسلام يرى جواز ذلك للحاجة، وأن الواقعة ليس فيها دليل على اختصاصها بسالم، والعلم عند الله.
"وقوله: وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات، وكسوتهن بالمعروف".قيل: الآية عامة في عموم النساء، وبعض أهل العلم يرى أن الآية خاصة بالمطلقات، والأصل أنه لا يلزمها إرضاع ولدها في حال الخيار، ولها الحق أن تأخذ أجرة مقابل هذا الإرضاع، وتطالب بالكسوة والنفقة، وأوجب العلماء عليها إرضاع ابنها في صور معدودة منها:
- إذا لم يقبل الرضاع إلا من ثدي أمه.
- إذا كان الأب معدماً فقيراً لا يملك نفقة المرضعة.
- إذا فقدت المرضعات في البلد بعد البحث والتحري.
وهنا مسألة: إن ثبت أن الأب موسر، والمراضع حاضرات؛ فهل يجب على المرأة غير المطلقة أن ترضع الولد، وأن تطالب بالنفقة؟ أم أن هذا يختلف من امرأة لامرأة؟ كأن يقال الشريفة لا يجب عليها الإرضاع، والمرأة التي دونها في الشرف والمرتبة يجب عليها الإرضاع، فيفرق بين النساء بهذا الاعتبار، هذه مسائل معروفة محلها الفقه.
لكن من رأى عموم الآية في المطلقات وغيرهن كالإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه ومن وافقهم؛ فإنهم لا يوجبون على المرأة أن ترضع الولد إلا في الحالات المذكورة، وبعضهم يخص الوجوب في أول الولادة حيث يكون لبن الأم اللِّبَأ؛ إذ يرون أنه لا غنى للصبي عنه أو للمولود بحال.
وبعضهم قال بالنسخ كما ينقل ابن عطية، ويرويه عن قتادة أنه نزل أولاً: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ...، ثم نسخت بقوله تعالى: لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، إلا أن هذا القول متداع وضعيف؛ لأن الشيء إنما ينسخ بنقيضه، وما محمله هنا إلا أنّه نسخ في الأخف.
وآية سورة الطلاق واضحة الدلالة: وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [سورة الطلاق:6] فهي تدل على أن المطلقة لا شك أنها تستحق أجر الرضاعة، وأما غير المطلقة فهذا محل خلاف، ولعل الأقرب - والله أعلم - أن المرأة لا يجب عليها إرضاع الولد، ومن حقها أن تطالب بالنفقة، والأجرة، والله أعلم.
"وقوله: وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات، وكسوتهن بالمعروف أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف، ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره، وتوسطه، وإقتاره كما قال تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [سورة الطلاق:7]".في القرآن أشياء كثيرة أحال فيها على العرف منها هذه الصورة، والعرف يختلف بحسب الزمان، والمكان، وحال الرجل، وحال المرأة؛ من الإعسار والإيسار، ويختلف من وقت إلى آخر، ومن بلد إلى بلد غيره، والعلماء تكلموا في المقدار الذي تعطاه الأم المرضعة فقالوا: ما اعتادت عليه في بيت أهلها من اللباس، والطعام، والسكنى فإن ذلك يطلب منه.
"قال الضحاك: إذا طلق زوجته وله منها ولد فأرضعت له ولده؛ وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف".وكلام الضحاك يعني به المرأة المطلقة.
"وقوله: لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا أي: بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته، ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللِّبَأ الذي لا يعيش بدون تناوله غالباً، ثم بعد هذا لها دفعه عنها إن شاءت، ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضِّرار لها، ولهذا قال: وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ".قوله - تبارك وتعالى -: لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا يحتمل معنيين من جهة التصريف:
الأول: لا تُضارِرُ بالرفع، ويكون ذلك على سبيل الإخبار، ويمكن أن تتضمن معنى النهي.
الثاني: لا تُضارِرَ بالنصب، ويكون ذلك على سبيل النهي، وكل واحد من هذين المعنيين تشهد له قراءة غير متواترة يمكن حمل معنى الآية عليها، وهذا الحمل يعتبر من قبيل المشترك اللفظي السائر على طريقة القرآن في التعبير عن الشيء بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فالأم منهية أن تضار والد الصبي، وكذا والده منهي عن مضارة الأم، وهذا القول ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، والله أعلم.
"وقوله تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ قيل: في عدم الضرار لقريبه، قاله: مجاهد والشعبي والضحاك، وقيل: عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها، وعدم الإضرار بها، وهو قول الجمهور، وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره".فيُحتمل في المراد بقوله سبحانه: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ شيئان:
الأول: وارث الصبي إذا مات الوالد مثل ذلك: يعني في عدم المضارة، والمعنى أنها مأمورة بأن لا تلحق الضرر بالولد، ووالد الصبي ووارثه - في حال موت والده - مأموران بأن لا يلحقا الضرر بهذه المرأة بسبب الصبي، فهذا الجزء من الآية يتحدث عما قبله مباشرة لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ أي: في عدم المضارة.
الثاني: يحتمل أن يكون المراد من قوله: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ أي: من النفقة والأجرة التي تكون بسبب هذا الرضاع، سواء قلنا بأن الورثة هم الذين تولوا أمر هذا الصبي بعد موت الأب، أو وارث والد الصبي، أو وارث الصبي نفسه من أحد الأبوين، أو أن المقصود وارث المرضعة فهذه احتمالات وأقوال في المراد بالآية، وخلاصة القول: إن من تولى الصبي في تصريف شئونه فعليه ألا يلحق الضرر بالآخر، وعليه أن يدفع النفقة للأم المرضعة.
وهذا الاحتمال باعتبار أن الإشارة ترجع إلى المعنى الذي سيقت الآية من أجله، وهو ما يتعلق بالرضاع، وأجرته، ونفقته، لا إلى الأقرب من المذكورات وهو عدم الضرر.
وأما إذا جعلنا الإشارة في الآية إلى أقرب المذكورات فيكون المراد من الآية عدم الضرر، وهذا أحد المعنيين اللذين نقلهما ابن كثير قال: قيل: في عدم الضرار لقريبه قاله مجاهد والشعبي، والضحاك، واختاره القرطبي - رحمه الله -.
ويمكن أن تحمل الإشارة على المعنيين، وهو ما نقله ابن كثير عن الجمهور بقوله: وقيل: عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها، وعدم الإضرار بها، فهذا القول بناءً على جمع المعنيين، كأنه جعل الآية سيقت لتقرير هذا المعنى أن الأم ترضع الولد، ويتحمل النفقة الأب، ولا يحق لأحدهما أن يلحق الضرر بالآخر، وهذا من أحسن ما يكون في التفسير أن يجمع بين المعاني.
ومثل ما يمكن أن تحمل الإشارة فيه على المعنيين ما جاء في قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [سورة البقرة:255] فالآية تحتمل المعنيين: بعلم الله، أو بعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وبين المعنيين ملازمة مفادها: أنهم إذا كانوا لا يحيطون بشيء من علم الله، ومن علم ما بين أيدهم، وما خلفهم؛ فالإحاطة بعلم الله من باب أولى، والأمثلة في هذا الباب كثيرة.
وبعض أهل العلم يقول: الآية منسوخة، والقاعدة الأصولية أن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
وبعضهم يقول: هذه الآية في المطلقة، والصواب خلافه؛ لأن الله يقول: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، ويقول في نفس الآية: وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [سورة الطلاق:6].
وهذه الآية - بالمناسبة - يحتج بها بعض الفقهاء - رحمهم الله - على جواز دفع النفقة للقريب كالأب، والأم، والمسألة فيها تفصيل:
فإذا كانت الزكاة للأصول والفروع فالإجماع منعقد على أنها لا تعطى للأصول والفروع، وإن علوا أو نزلوا.
وأما إذا كانت للحواشي كالأخ والأخت فالتفصيل قائم عند طائفة من أهل العلم، وأن ذلك بحسب حال هذا المعطى، فإن كان المعطي يرثه فإنه لا يعطيه، مثل مسألة هلك هالك عن أخ وأب فيجوز أن يعطى الأخ من الزكاة؛ لأنه محجوب بالأب، بخلاف لو هلك هالك عن أخ وبنت فإنه يرث في هذه الصورة فلا يعطى من الزكاة، واستدلوا على هذا بقوله: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ بناءً على تفسير هذه الآية بالنفقة، إذ لو فسرناها بعدم الضرر فلا وجه للاستدلال، قالوا: فجعل ذلك حقاً على الوارث - يعني أجرة ونفقة المرضعة أو الأم -.
"وقد ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما في بدنه، أو عقله، وقال سفيان الثوري: عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه رأى امرأة ترضع بعد الحولين فقال: "لا ترضعيه".لأنها رضاعة في غير محلها، وهذا ليس محل اتفاق بين أهل العلم فقد خالف ابن القيم - رحمه الله - وذكر بأن الطفل ينتفع بالرضاع بعد الحولين، ويحسن على الأقل أن يرضع إلى منتصف السنة الثالثة، وأحسن ما يكون الفطام في وقت الاعتدال - الخريف أو الربيع -، أما الربيع فلأنه يستقبل الصيف، وأما الخريف فلأنه يستقبل الشتاء، فيكون نهمه للطعام أكثر منه في الصيف فتكون الحرارة الغريزية أوفر، والناس بحاجة إلى الطعام في الشتاء أكثر من حاجتهم إليه في الصيف، وكذلك أيضاً في الجماع عندهم من القدرة عليه، والنهم به؛ أعظم ما يكون في الصيف، وذلك لوفور الحرارة الغريزية.
"وقوله تعالى: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [سورة البقرة:233] أي: فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه؛ فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر قاله الثوري وغيره، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من - رحمة الله - بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما، وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه كما قال في سورة الطلاق: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [سورة الطلاق:6].
وقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ أي: إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد إما لعذر منها، أو لعذر له؛ فلا جناح عليها في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف، قاله غير واحد".ويحتمل أن يكون المراد بالتسليم من المسالمة ،والتراضي بينهما بإرضاع الولد من مرضعة غير الأم، وهذا القول فيه بعد؛ لأن دلالة الآية واضحة في ثبوت أجرة الإرضاع للأم إذا أبته إلا بمقابل، ولذلك جاءت نسبة الولد في الآية للأب لتقرير أحقية الأم في مطالبة ولي الولد بأجرة الإرضاع قال سبحانه: وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ والأكمل، والأحسن؛ أن لا تأخذ الأجرة مقابل إرضاعه إكراماً لولدها، وإحساناً للعشرة مع زوجها، والله أعلم.
"وقوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ أي: في جميع أحوالكم، وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم، وأقوالكم".ويدخل في طلب تقواه ما يتصل بإرضاع الولد، وعدم إلحاق الضرر بأمه، أو بوالد الصبي، أو وارثه، وهذا التفسير جارٍ على عادة السلف في ربط المعنى بأقرب مذكور، والمعنى واتقوا الله فيما ذكر من الأمور السالفة.
- رواه البخاري في كتاب النكاح - باب الأكفاء في الدين برقم (4800) (5/1957)، ورواه مسلم بلفظ مقارب في كتاب الرضاع - باب رضاعة الكبير برقم (1453) (2/1076).
- رواه الترمذي برقم (1152) (3/458)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (13591).
- رواه أحمد في مسنده برقم (18686) (4/300)، ورواه البخاري عن البراء عن النبي ﷺ قال - لما مات إبراهيم -: إن له مرضعاً في الجنة في كتاب بدء الخلق –باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة برقم (3082) (3/1188).
- رواه الدارقطني بلفظ لا رضاع إلا ما كان... (10) (4/174).
- رواه البيهقي في السنن الكبرى برقم (15445) (7/426).