هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال، وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن، وغير المدخول بهن بالإجماع، ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة.
ينص الفقهاء - رحمهم الله - على حكمة العدة للمتوفى عنها زوجها، فيذكرون في كثير من الأحيان قضية استبراء الرحم، والملاحظ أن العدة ليست فقط لمجرد استبراء الرحم؛ لأن المرأة قد يتوفى عنها زوجها قبل الدخول بها، ويذكر الفقهاء لذلك صوراً عديدة منها: لو تزوج مشرقي بمغربية ما رآها قط، ثم مات عنها، فيوجبون عليها العدة لأمرين:
الأول: لاستبراء الرحم.
وثانياً: مراعاة لحق الزوج، وحرمته، وهذه القضية ليست في كل الحالات، بدليل أن المرأة إذا مات عنها زوجها ثم وضعت الحمل تنتهي عدتها بمجرد وضع الحمل، ولو كان بعد الوفاة بلحظة على قول الجمهور.
"وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها، فترددوا إليه مراراً في ذلك فقال: أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، لها الصَداق كاملاً، وفي لفظ: لها صَداق مثلها، لا وكس، ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله ﷺ قضى به في بَرْوَع - ا -، ففرح عبد الله بذلك فرحاً شديداً[1]، وفي رواية فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله ﷺ قضى به في بَرْوَع بنت واشق[2]".
ومعنى قوله: "لا وكس" يعني لا ينقص من حقها الذي يكون لمثيلاتها، وقوله: "شطط" أي لا يزاد عليه بالإجحاف، فيفرض لها أكثر مما تستحق، ويحمّل أكثر مما ينبغي أن يعطيه لمثلها.
بروع: إما بالفتح "بَروع"، أو بالكسر كسر الباء.
"ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل، فإن عدتها بوضع الحمل، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة؛ لعموم قوله تعالى: وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [سورة الطلاق:4]، ولما ثبتت به السنة في حديث سُبيعة الأسلمية - ا - المخرج في الصحيحين من غير وجه: أنه توفي عنها زوجها سعد بن خولة وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته.
وفي رواية فوضعت حملها بعده بليال، فلما تَعَلّت من نفاسها..."
يعني ارتفعت من النفاس، وذهب عنها أثره.
"تجملت للخُطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، فقال لها: ما لي أراك متجملة، لعلك ترجين النكاح، والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله ﷺ فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي[3]".
وخالف بعض السلف في عدة الحامل إذا توفي عنها زوجها كعليٍّ فقال: إنها تعتد بأطول الأجلين، ومستندهم قوله تعالى: وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [سورة الطلاق:4] مع قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [سورة البقرة:234] فأراد أن يجمع بين الآيتين، ويحتاط للعدة، فقال: إنها تبقى الأجلين بحسب حالها، فإن كان الأكثر هو مدة الحمل بقيت، أو الأشهر الأربعة بقيت، ورد على حديث معقل بن يسار الأشجعي بقوله: لا نترك كتاب الله لقول أعرابي، كأنه لم يثبت عنده، ولم يتوثق منه؛ لأجل ذلك رده.
وأما الجمهور فعلى خلافه فهم يجعلون الأول من باب العام، والثاني من باب الخاص، ويقولون: العام وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، يحمل على الخاص وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، فالحامل سواء طال أو قصر حملها فإنها تبقى مدة الحمل - تسعة أشهر أو أكثر أو أقل -، ثم تنقضي عدتها، وتُستبرأ رحمها.
"وقد ذكر سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً؛ لاحتمال اشتمال الرحم على حمل".
هذه الحكمة مراعاة في كل حالة على حسب كما سبق، فمثلاً من مات عنها زوجها قبل الدخول بها فلا مجال للاحتياط للرحم قطعاً في هذه الصورة؛ بدليل أنه لو طلقها زوجها فليس عليها عدة، وإنما العدة لها من باب أن حرمة الزوج مرعية، واستثنى من ذلك الحمل إذا وضعت بعد وفاته.
"فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجوداً كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح[4] فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه، والله أعلم".
هذا تعليل لاعتبار هذه المدة في عدة المتوفى عنها زوجها، ووجهه ظاهر.
"ومن هنا ذهب من ذهب إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة ها هنا، ويؤيدهم ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن العاص أنه قال: "لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشر" رواه أبو داود وابن ماجه".
هذا الأثر عن عمرو بن العاص ضعفه بعض أهل العلم كالإمام أحمد، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وصححه بعض أهل العلم كالعلامة الألباني - رحمه الله - من المعاصرين، وقول الصحابي إذا خالفه غيره فإنه يفقد حجيته، ويصار حينها إلى الترجيح، ولذا بعضهم ذهب إلى أنها تعتد نصف عدة الحرة، وقيل: تعتد ثلاث حيضات.
والذي عليه الجمهور- ومنهم الأئمة الثلاثة سوى الأحناف - أنها تعتد بحيضة، فإن كانت لا تحيض لصغر سنها، أو يأسها؛ فإنها تبقى شهراً واحداً.
وأما المراد بأم الولد فهي الجارية التي لها ولد، وهي على العكس من الجارية التي لا ولد لها فإن عدتها إذا توفى عنها سيدها نصف عدة الحرة، فتعتد شهرين وخمسة أيام، وهذا نقل عليه بعض أهل العلم كابن العربي - صاحب أحكام القرآن - الإجماع، والله أعلم.
"وقوله تعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [سورة البقرة:234].
يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها؛ لما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمي المؤمنين - ا - أن رسول الله ﷺ قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً[5].
وفي الصحيحين أيضاً عن أم سلمة - ا -: أن امرأة قالت: يا رسول الله ﷺ إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها؛ أفنكحلها؟، فقال: لا، كل ذلك يقول: لا مرتين أو ثلاثاً[6]""
مع أن الكحل قد يكون لحاجة العلاج، وقد يكون من نوع الإثمد الأحمر الذي لا لون، ومع ذلك منعها النبي ﷺ منه، لكنه علل.
"ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة..."
وجه الاستدلال على وجوب الإحداد من الحديث أنه منعها من الكحل مع حاجتها إليه، وكذا يجب أن تجتنب المرأة في العدة الزينة، وكل ما يرغب الرجال بها، ولا تتزوج، ولا تخطب؛ لعموم الآية: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وهذا خبر مضمن معنى الأمر، والأمر الأصل فيه الوجوب إلا لصارف، فيجب على المرأة أن تبقى هذه المدة في بيتها لا تخرج إلا لحاجة لا يقوم غيرها مقامها فيها، وخروجها بالنهار أسهل من خروجها بالليل، أما الأمور الأخرى فلا تمنع منها كالاغتسال، والتنظف، ومكالمة الرجال بالمعروف.
"قالت زينب بنت أم سلمة - ا -: "كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً.."
الحفش: بيت صغير ضيق نازل السقف، والمقصود أنها تبحث عن أضيق مكان في البيت، وتكتن به، ولا تغتسل سنة كاملة، فهذه الهيئة التي كانت عليها المعتدة في وفاة زوجها في الجاهلية.
"ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بَعْرة".
هذه إشارة لانتهاء العدة، والخروج منها.
"فترمي بها، ثم تؤتى بدابة حمار، أو شاة، أو طير؛ فتفتض به..."
بمعنى أنها تمسح بهذا الطائر أو الحيوان فرجها.
"فقلما تفتض بشيء إلا مات".
وذلك لشدة ما علق بها من الأذى والقذر.
"والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب، وحلي وغير ذلك، وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً، ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن سواء في ذلك الصغيرة، والآيسة، والحرة، والأمة، والمسلمة، والكافرة لعموم الآية.
وقوله: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ أي: انقضت عدتهن، قاله الضحاك والربيع بن أنس فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ قال الزهري: أي على أوليائها، فِيمَا فَعَلْنَ يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن، وقال العوفي عن ابن عباس : "إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين، وتتصنع، وتتعرض للتزويج، فذلك المعروف"، وروي عن مقاتل بن حيان نحوه، وقال ابن جُريج عن مجاهد: فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ قال: النكاح الحلال الطيب، وروي عن الحسن، والزهري، والسدي نحو ذلك".
فأباح الله للمعتدة عدة الوفاة أن تتهيأ للخطاب في المعروف - فتتحاشى ما لا يليق من مكارم الأخلاق، أو مشين المروءات؛ كالتبرج، وإظهار الزينة أمام الرجال الأجانب ونحوه فهذا ليس من المعروف -، ولا يلحقها في ذلك معرة، ولا إثم.
- رواه أبو داود برقم (2118) (2/202)، وسنن الترمذي (1145) (3/450)، والنسائي برقم (3354) (6/121)، وأحمد برقم (4276) (7/308)، وصححه الألباني في مختصر إرواء الغليل برقم (1939).
- رواها أبو داود برقم (2118) (2/202)، وأحمد برقم (4276) (7/308).
- رواه البخاري في كتاب المغازي - باب فضل من شهد بدرا برقم (3770) (4/1466)، ومسلم في كتاب الطلاق - باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل برقم (1484) (2/1122).
- رواه البخاري في كتاب التوحيد - باب وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ [سورة الصافات:171] برقم (7016) (6/2713)، ومسلم في كتاب القدر - باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته برقم (2643) (4/2036).
- رواه البخاري في كتاب الجنائز - باب حد المرأة على غير زوجها برقم (1221) (1/430)، ومسلم في كتاب الطلاق – باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام برقم (1486) (2/1123).
- رواه البخاري في كتاب الطلاق - باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا برقم (5024) (5/2024)، ومسلم في كتاب الطلاق - باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام برقم (1488) (2/1124).