الأحد 25 / ربيع الأوّل / 1446 - 29 / سبتمبر 2024
وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَٰجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِىٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [سورة البقرة:234].
هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال، وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن، وغير المدخول بهن بالإجماع، ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة.

ينص الفقهاء - رحمهم الله - على حكمة العدة للمتوفى عنها زوجها، فيذكرون في كثير من الأحيان قضية استبراء الرحم، والملاحظ أن العدة ليست فقط لمجرد استبراء الرحم؛ لأن المرأة قد يتوفى عنها زوجها قبل الدخول بها، ويذكر الفقهاء لذلك صوراً عديدة منها: لو تزوج مشرقي بمغربية ما رآها قط، ثم مات عنها، فيوجبون عليها العدة لأمرين:
الأول: لاستبراء الرحم.
وثانياً: مراعاة لحق الزوج، وحرمته، وهذه القضية ليست في كل الحالات، بدليل أن المرأة إذا مات عنها زوجها ثم وضعت الحمل تنتهي عدتها بمجرد وضع الحمل، ولو كان بعد الوفاة بلحظة على قول الجمهور.
"وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها، فترددوا إليه مراراً في ذلك فقال: أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، لها الصَداق كاملاً، وفي لفظ: لها صَداق مثلها، لا وكس، ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله ﷺ قضى به في بَرْوَع - ا -، ففرح عبد الله بذلك فرحاً شديداً[1]، وفي رواية فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله ﷺ قضى به في بَرْوَع بنت واشق[2]".
ومعنى قوله: "لا وكس" يعني لا ينقص من حقها الذي يكون لمثيلاتها، وقوله: "شطط" أي لا يزاد عليه بالإجحاف، فيفرض لها أكثر مما تستحق، ويحمّل أكثر مما ينبغي أن يعطيه لمثلها.
بروع: إما بالفتح "بَروع"، أو بالكسر كسر الباء.
"ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل، فإن عدتها بوضع الحمل، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة؛ لعموم قوله تعالى: وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [سورة الطلاق:4]، ولما ثبتت به السنة في حديث سُبيعة الأسلمية - ا - المخرج في الصحيحين من غير وجه: أنه توفي عنها زوجها سعد بن خولة وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته.
وفي رواية فوضعت حملها بعده بليال، فلما تَعَلّت من نفاسها..."

يعني ارتفعت من النفاس، وذهب عنها أثره.
"تجملت للخُطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، فقال لها: ما لي أراك متجملة، لعلك ترجين النكاح، والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله ﷺ فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي[3]".
وخالف بعض السلف في عدة الحامل إذا توفي عنها زوجها كعليٍّ فقال: إنها تعتد بأطول الأجلين، ومستندهم قوله تعالى: وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [سورة الطلاق:4] مع قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [سورة البقرة:234] فأراد أن يجمع بين الآيتين، ويحتاط للعدة، فقال: إنها تبقى الأجلين بحسب حالها، فإن كان الأكثر هو مدة الحمل بقيت، أو الأشهر الأربعة بقيت، ورد على حديث معقل بن يسار الأشجعي بقوله: لا نترك كتاب الله لقول أعرابي، كأنه لم يثبت عنده، ولم يتوثق منه؛ لأجل ذلك رده.
وأما الجمهور فعلى خلافه فهم يجعلون الأول من باب العام، والثاني من باب الخاص، ويقولون: العام وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، يحمل على الخاص وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، فالحامل سواء طال أو قصر حملها فإنها تبقى مدة الحمل - تسعة أشهر أو أكثر أو أقل -، ثم تنقضي عدتها، وتُستبرأ رحمها.
"وقد ذكر سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً؛ لاحتمال اشتمال الرحم على حمل".
هذه الحكمة مراعاة في كل حالة على حسب كما سبق، فمثلاً من مات عنها زوجها قبل الدخول بها فلا مجال للاحتياط للرحم قطعاً في هذه الصورة؛ بدليل أنه لو طلقها زوجها فليس عليها عدة، وإنما العدة لها من باب أن حرمة الزوج مرعية، واستثنى من ذلك الحمل إذا وضعت بعد وفاته.
"فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجوداً كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح[4] فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه، والله أعلم".
هذا تعليل لاعتبار هذه المدة في عدة المتوفى عنها زوجها، ووجهه ظاهر.
"ومن هنا ذهب من ذهب إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة ها هنا، ويؤيدهم ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن العاص أنه قال: "لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشر" رواه أبو داود وابن ماجه".
هذا الأثر عن عمرو بن العاص ضعفه بعض أهل العلم كالإمام أحمد، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وصححه بعض أهل العلم كالعلامة الألباني - رحمه الله - من المعاصرين، وقول الصحابي إذا خالفه غيره فإنه يفقد حجيته، ويصار حينها إلى الترجيح، ولذا بعضهم ذهب إلى أنها تعتد نصف عدة الحرة، وقيل: تعتد ثلاث حيضات.
والذي عليه الجمهور- ومنهم الأئمة الثلاثة سوى الأحناف - أنها تعتد بحيضة، فإن كانت لا تحيض لصغر سنها، أو يأسها؛ فإنها تبقى شهراً واحداً.
وأما المراد بأم الولد فهي الجارية التي لها ولد، وهي على العكس من الجارية التي لا ولد لها فإن عدتها إذا توفى عنها سيدها نصف عدة الحرة، فتعتد شهرين وخمسة أيام، وهذا نقل عليه بعض أهل العلم كابن العربي - صاحب أحكام القرآن - الإجماع، والله أعلم.
"وقوله تعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [سورة البقرة:234].
يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها؛ لما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمي المؤمنين - ا - أن رسول الله ﷺ قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً[5].
وفي الصحيحين أيضاً عن أم سلمة - ا -: أن امرأة قالت: يا رسول الله ﷺ إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها؛ أفنكحلها؟، فقال: لا، كل ذلك يقول: لا مرتين أو ثلاثاً[6]""

مع أن الكحل قد يكون لحاجة العلاج، وقد يكون من نوع الإثمد الأحمر الذي لا لون، ومع ذلك منعها النبي ﷺ منه، لكنه علل.
"ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة..."
وجه الاستدلال على وجوب الإحداد من الحديث أنه منعها من الكحل مع حاجتها إليه، وكذا يجب أن تجتنب المرأة في العدة الزينة، وكل ما يرغب الرجال بها، ولا تتزوج، ولا تخطب؛ لعموم الآية: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وهذا خبر مضمن معنى الأمر، والأمر الأصل فيه الوجوب إلا لصارف، فيجب على المرأة أن تبقى هذه المدة في بيتها لا تخرج إلا لحاجة لا يقوم غيرها مقامها فيها، وخروجها بالنهار أسهل من خروجها بالليل، أما الأمور الأخرى فلا تمنع منها كالاغتسال، والتنظف، ومكالمة الرجال بالمعروف.
"قالت زينب بنت أم سلمة - ا -: "كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً.."
الحفش: بيت صغير ضيق نازل السقف، والمقصود أنها تبحث عن أضيق مكان في البيت، وتكتن به، ولا تغتسل سنة كاملة، فهذه الهيئة التي كانت عليها المعتدة في وفاة زوجها في الجاهلية.
"ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بَعْرة".
هذه إشارة لانتهاء العدة، والخروج منها.
"فترمي بها، ثم تؤتى بدابة حمار، أو شاة، أو طير؛ فتفتض به..."
بمعنى أنها تمسح بهذا الطائر أو الحيوان فرجها.
"فقلما تفتض بشيء إلا مات".
وذلك لشدة ما علق بها من الأذى والقذر.
"والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب، وحلي وغير ذلك، وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً، ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن سواء في ذلك الصغيرة، والآيسة، والحرة، والأمة، والمسلمة، والكافرة لعموم الآية.
وقوله: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ أي: انقضت عدتهن، قاله الضحاك والربيع بن أنس فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ قال الزهري: أي على أوليائها، فِيمَا فَعَلْنَ يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن، وقال العوفي عن ابن عباس  : "إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين، وتتصنع، وتتعرض للتزويج، فذلك المعروف"، وروي عن مقاتل بن حيان نحوه، وقال ابن جُريج عن مجاهد: فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ قال: النكاح الحلال الطيب، وروي عن الحسن، والزهري، والسدي نحو ذلك".

فأباح الله للمعتدة عدة الوفاة أن تتهيأ للخطاب في المعروف - فتتحاشى ما لا يليق من مكارم الأخلاق، أو مشين المروءات؛ كالتبرج، وإظهار الزينة أمام الرجال الأجانب ونحوه فهذا ليس من المعروف -، ولا يلحقها في ذلك معرة، ولا إثم.
  1. رواه أبو داود برقم (2118) (2/202)، وسنن الترمذي (1145) (3/450)، والنسائي برقم (3354) (6/121)، وأحمد برقم (4276) (7/308)، وصححه الألباني في مختصر إرواء الغليل برقم (1939).
  2. رواها أبو داود برقم (2118) (2/202)، وأحمد برقم (4276) (7/308).
  3. رواه البخاري في كتاب المغازي - باب فضل من شهد بدرا برقم (3770) (4/1466)، ومسلم في كتاب الطلاق - باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل برقم (1484) (2/1122).
  4. رواه البخاري في كتاب التوحيد - باب وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ [سورة الصافات:171] برقم (7016) (6/2713)، ومسلم في كتاب القدر - باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته برقم (2643) (4/2036).
  5. رواه البخاري في كتاب الجنائز - باب حد المرأة على غير زوجها برقم (1221) (1/430)، ومسلم في كتاب الطلاق – باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام برقم (1486) (2/1123).
  6. رواه البخاري في كتاب الطلاق - باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا برقم (5024) (5/2024)، ومسلم في كتاب الطلاق - باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام  برقم (1488) (2/1124).

مرات الإستماع: 0

"وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً الآية، عموم في كل متوفى عنها، سواء توفي زوجها قبل الدخول، أو بعده، إلا الحامل فعدتها وضع حملها سواء، وضعته قبل الأربعة الأشهر، والعشرة، أو بعدها عند مالك، والشافعي، وجمهور العلماء، وقال عليّ بن أبي طالب: عدتها أبعد الأجلين[1] وخص مالك من ذلك الأمة فعدّتها في الوفاة شهران، وخمس ليال."

قوله: عموم في كل متوفى عنها - يعني الزوج - هذا نقل عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - الإجماع، أنها عامة[2] كما نقل أيضًا ابن العربي المالكي الإجماع على أن عدة الأمة نصف عدة الحرة[3] يعني يكون ذلك في شهرين، وخمسة أيام، قال: إلا الحامل فعدتها وضع حملها سواء وضعته قبل الأربعة أشهر، وعشراً، أو بعدها. لكن العموم في كل متوفى عنها، يعني لو كانت الوفاة قبل الدخول - يعني عقد عليها، ثم توفي - فيجب عليها أن تعتد، هذا معنى العموم الذي عليه الإجماع يعني سواء كان مدخول بها، أو لا - يعني قد مات قبل الدخول، أو بعد الدخول - ويدل عليه حديث معقل بن يسار في أن النبي ﷺ قضى في المرأة بنت واشق أنها لما توفي عنها زوجها قبل الدخول[4].

فهذه المرأة يثبت لها المهر، فسمى لها من المهر، وعليها العدة، ولها الميراث، ثلاثة أشياء.

هنا يقول: سواء وضعته قبل الأربعة الأشهر، وعشراً، أو بعدها. يعني: أن العدة بوضع الحمل بالنسبة للحامل، ولو وضعته بعد وفاته بساعة فإن عدتها تنقضي، ويدل على هذا حديث سُبيعة الأسلمية: لما توفي عنها زوجها، فوضعت بعده بليال، وأنكر عليها أبو السنابل لما رآها قد تهيأت، وتزينت، فسألت النبي ﷺ فأفتاها بأنها قد حلّت حين، وضعت حملها، وأمرها أن تتزوج إن بدا لها ذلك[5].

فهذا صريح في أن الحامل تكون عدتها بوضع الحمل، وهذا الذي عليه الجمهور، علي يقول: بأنها تعتد بأبعد الأجلين. لو فرضنا أن الحمل في الشهر الأول فهنا يقال العدة بوضع الحمل تسعة أشهر، لكن لو أنها أسقطت بعد تمام الشهر الرابع هنا تجلس أربعة أشهر، وعشرة أيام، لو أنها ولدت بعد شهر، فتجلس أربعة أشهر، وعشرة أيام أطول الأجلين، فإن كان الأطول هو الحمل بقيت مدة الحمل، وإن كان الأطول هو عدة الوفاة الأربعة أشهر، وعشرًا فهذا تطالب بالبقاء بالأطول منهما، هذا على قول علي  والأول قول الجمهور، فهذه الآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مخصصة بالحامل، مخصصة بعضهم كما سبق نقل عليها ابن العربي الإجماع خصصوا الأمة.

"و(يتربصن) معناه: عن التزوج، وقيل: عن الزينة، فيكون أمرًا بالإحداد."

جاء عن سعيد بن المسيب، وأبي العالية: أن الحكمة في هذه العدة لاحتمال اشتمال الرحم على الحمل[6].

وذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن حديث: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي، أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح[7] فدل على أن الأربعة أشهر هي المدة التي يحصل بها نفخ الروح كما في الحديث المشار إليه، إن كان له تمام الأربعة أشهر ففي ذلك الحين تُنفخ فيه الروح[8].

فهنا يقولون: يتحرك في البطن، ويتبين الحمل تمامًا. وعشرة أيام؟ قالوا: العشرة احتياطًا لذلك. يعني عشرة أيام يستبين بها الحمل، عشرة أيام قالوا: احتياطًا بحيث إن ذلك يكون في غاية الجلاء.

قال بعضهم: بأن ذلك الاحتياط من جهة ما قد يحصل من نقص في بعض الشهور. الاعتداد بالأشهر، فقد يكون الشهر تسع وعشرين، الشهر الآخر تسع، وعشرين، ونحو ذلك، فقالوا: قد يحصل نقص في بعض الشهور فيكون ذلك يعني من أجل التحقق من الحمل - والله أعلم -.

"وإعراب (الذين) مبتدأ، وخبره (يتربصن) على تقدير أزواجهم يتربصن، وقيل التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، وقال الكوفيون: الخبر عن (الذين) متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم."

 وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا والذين يتوفون منكم ما بهم؟ يذرون أزواجًا، جاء الإخبار عن الزوجات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ والكوفيون يقولون: الخبر لم يذكر. الخبر عن (الذين)، والقول الذي قبله بأن (الذين) مبتدأ، والخبر (يتربصن) وجيء به بصيغة الخبر، ومعناه الإنشاء - يعني: معناه الأمر - يعني عليهن أن يتربصن، ليتربصن، والتربص، بمعنى: الانتظار، فإذا كانت تنتظر لا تتزوج، ولا تُخطب فدواعي النكاح أيضًا تمتنع منها، الزينة سواء كان ذلك بالأصباغ كالحناء، والكحل، ونحو ذلك، أو كان بالحلي، أو كان باللباس، ما ظاهره الزينة، تترك ذلك إيذانًا بإعراضها عن النكاح، فهذا من دواعيه، فالمرأة تكون في حال من الحداد باعتبار أنها لا التفات لها إلى الأزواج في هذه المدة فلا تتهيأ، ولا تتزين، ولا تتجمل.

فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزويج، والزينة.

 بِالْمَعْرُوفِ هنا: إذا كان غير منكر، وقيل: معناه الإشهاد."

إذا كان غير منكر، يعني: هذا الفعل، والتصرف الذي يصدر عنها إذا كان غير منكر، يعني: لا تتبرج مثلًا، فالأولياء كما قال النبي ﷺ كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته[9] فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ مفهوم المخالفة أن عليكم الجناح - يعني: الحرج، والإثم - إذا فعلن في أنفسهن غير معروف، يعني تصرفن بما يكون من قبيل المنكر كالتبرج، والاختلاط بالرجال، ونحو ذلك، ويدخل في هذا المنكر فيما لو تزوجت من غير ولي، وقول من قال هنا: الإشهاد.

يقصد الإشهاد على النكاح فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ يعني: الإشهاد، فهذا يكون من قبيل التفسير بالمثال، وإلا فالمعنى أوسع من هذا، فتتزوج بولي، وكذلك أيضًا بشهود، ولا تزوج نفسها بحال من الأحوال، جاء عن ابن عباس - ا - قال: أن تتزين، وتتصنع، وتتعرض للتزويج فذلك المعروف[10].

ليست تتزين للرجال، وإنما بحضرة النساء فيمكن أن تحضر مجالس النساء، ومجامع النساء العامة، والخاصة متزينة علها أن تُخطب، هذا هو المقصود، بعض النساء اليوم يسألن عن حضور حفلات الزواج اللاتي لم يدعين إليها أصلًا، يعني: هي لا تعرفهم، أو ما دعيت، هي تذهب لصالات الأفراح، وتدخل مع الناس متزينة في غاية الزينة، لماذا تفعلين هذا؟ هي تسأل عن الحرج في الأكل، ونحو ذلك من باب التطفل، وأكل طعام ما دعيت إليه، فهي تسأل عن هذا فلماذا إذن تذهبين؟ تقول: لعلي أُوفق. يعني: يراها من يُعجب بها فتخطب.

فعلى كل حال بِالْمَعْرُوفِ وهذا أيضًا نحوه عن مقاتل بن حيان، وجاء عن مجاهد بأن المقصود بذلك النكاح الحلال الطيب فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ وعلى ما أذن الله فيه، وأباحه لهن. يعني: بالولي، والشهود، وجاء نحو هذا عن الحسن، والزهري، والسدي[11].

  1.  السنن الكبرى للبيهقي (7/706)، رقم: (15474).
  2.  تفسير ابن كثير (1/635).
  3. أحكام القرآن لابن العربي (1/283).
  4.  أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب فيمن تزوج، ولم يسم صداقا حتى مات، رقم: (2114).
  5.  أخرجه البخاري، كتاب المغازي، رقم: (3991)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها بوضع الحمل، رقم: (1484).
  6. تفسير ابن كثير (1/636).
  7.  أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم: (3208)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته، وسعادته، رقم: (2643).
  8.  تفسير ابن كثير (1/636 - 637).
  9.  أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب قوا أنفسكم، وأهليكم نارا [التحريم:6]، رقم: (5188)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، (1829).
  10.  تفسير ابن كثير (1/638).
  11.  انظر: تفسير ابن كثير (1/638).

مرات الإستماع: 0

في هذه الآيات من سورة البقرة جاء بيان أحكام العِدد للمُطلقات، ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- عِدد المُتوفى عنهن، فالمرأة التي توفي عنها زوجها عدتها تختلف عن عدة المُطلقة، فالمُطلقة إذا كانت ممن يحيض فثلاثة قروء، وإن كانت صغيرة، أو آيسة، فثلاثة أشهر، وإن كانت حاملاً فبوضع الحمل، أما التي قد توفي عنها زوجها فإنها تتربص أربعة وعشرًا، وعلى قول الجمهور إن كانت حاملاً فبوضع الحمل، ولو أنها وضعت الحمل في اليوم الذي توفي فيه زوجها بعد وفاته بساعة، أو نحو ذلك، تكون قد انقضت عدتها.

فقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ أي: يموتون ويتركون الزوجات، فعليهن أن يتربصن، أي: أنهن مأمورات بأن يتربصن، بمعنى ينتظرن، فالتربص هو الانتظار هذه المدة، وهي أربعة أشهر، وعشرة أيام، فتلزم الموضع الذي بلغها وفاة زوجها، وهي فيه، ولا تُفارق هذا المكان هذه المدة، وتترك الزينة بأنواعها، من اللباس، والأصباغ، والحُلي، هذه الأنواع الثلاثة في الزينة، يعني: لا تلبس ثيابًا مُزينة، وكذلك أيضًا الزينة بالأصباغ، كالحناء، والكُحل، وما يُسمى اليوم بالمكياج، وكذلك أيضًا الحُلي بأنواعه من الذهب والفضة، وغير ذلك مما تتزين به المرأة، كل ذلك يُترك هذه المدة، ولا تتزوج، ولا تُخطب، ولا تواعد على النكاح.

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ المقصود: انقضاء المدة، وليست مقاربة الانتهاء، كما في الطلاق فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ هناك إذا قاربن انقضاء العدة، أما هنا إذا انقضت العدة تمامًا، فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ يعني: من الزينة، والخروج، وإذا أردت أن تتزوج، على أن الذي يتولى التزويج هو الولي، كما هو معلوم.

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ والله خبير بما يعمله العباد، فالخبير هو الذي يعلم خفايا الأشياء، وبواطن الأمور، و(ما) تفيد العموم، أي: كل ما تعملون، والعمل يصدق على ما يكون من عمل القلب، وعمل الجوارح، وأقوال اللسان، فكل ذلك من العمل، وكذلك الترك هو من جُملة الأعمال؛ ولهذا جاء ختم هذه الآية: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني: يعلم الخفايا والبواطن، وبالنسبة لهؤلاء النساء اللاتي توفي عنهن أزواجهن، فهو يعلم فعلهن، وما يحصل من مواعيد مع الرجال كأن يتزوجها فلان سرًا، أو ما كان من قبيل المُقارفات المحرمة من الفواحش، أو ما كان من الخروج عن حدود الله من التزين، والخروج للتنزه، والزيارات، ونحو هذا، أو كان ذلك من قبيل الولي، فإنه ربما يصدر عنه تسلط عليها في هذه المدة، بغير حق، أو بعد انقضاء مدة العدة.

فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ فإذا انقضت عدتها لا ينبغي له أن يمنعها من التزين، ويقول: ينبغي أن تلزمي الحداد على هذا الزوج، أو كيف تتزينين؟ أو كيف تلبسين الجميل وتخرجين وقد مات زوجكِ؟! وربما يُطالبها بذلك أهل الزوج، فهذا كله لا يسوغ.

وقد كانت المرأة في الجاهلية -أيها الأحبة- إذا مات زوجها بقيت حولاً كاملاً، في حجرة قذرة صغيرة نائية لا تواكل، ولا تُجالس ولا تغتسل، ولا تُغير الثوب الذي عليها، فضلاً عن الزينة، وما إلى ذلك، فتبقى بنفس الثوب ولا تغتسل، ولا تمس الماء سنة كاملة، وهي مدة الحِداد فإذا انقضت هذه المدة كانت في حال يُرثى لها، من الأذى والقذر والوسخ، والحالة النفسية السيئة، حتى ذكروا في أخبار العرب، وذكر هذا بعض المفسرين: أنهم كانوا إذا انقضت مدة السنة، يأتون بطائر ويُدلك به جسدها، فيموت من شدة القذر والأذى والنتن، هكذا كانت المرأة في الجاهلية.

وليس ذلك فحسب، بل إنها حين تنقضي العدة يأتي أحد هؤلاء من ذوي الزوج، أخوه، أو أبوه، أو نحو ذلك من عصابته، ثم يُلقي عليها ثوبًا، فإذا ألقى عليها ثوبًا، فمعنى ذلك أنه ملكها، وأنه أولى بها، فلا تتزوج، وليس لها حق أن تتصرف في نفسها، ولا لأهلها حق في أن يزوجوها، فكأنه قد سبق إليها، هكذا كانت المرأة مُبتذلة، مُمتهنة، فجاءت هذه الشريعة بهذه الأحكام والشرائع الكاملة التي جاء فيها حفظ المصالح، ودرء المفاسد، وإذا كانت المرأة في حال من الحمل، فإنها تبقى مُدة حملها طالت أو قصُرت، لكن لها أن تغتسل إن شاءت كل ساعة، وتُغير ثيابها، وإذا احتاجت إلى عِلاج فإنها تذهب إلى المستشفى، وإذا كانت بحال تتطلب أن تخرج لطلب الرزق، إذا كان لا يقوم غيرها مقامها في ذلك، فإنها تخرج مُحتشمة مُستترة، وهكذا تجلس مع من يزورها من النساء، وتجلس مع محارمها، وتجلس مع أهل بيتها، ولا تبقى في حال من العُزلة.

فقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ هذه الآية مثل قوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ جاء بصيغة الخبر، وهو مُضمن معنى الأمر، يعني: يجب عليهن أن يتربصن، لكن الصيغة ليست صيغة أمر، وإنما هي صيغة خبرية، ومثل هذه -كما قلنا- تدل على مُبالغة في تأكيد التربص والأمر به، كأنه أمر قد قُضي وحُسم، فأخبر عنه إخبارًا، فما على المرأة إلا أن تستجيب وتمتثل.

ثم أيضًا لاحظ هذه العبارة يَتَرَبَّصْنَ تدل على بذل جهد وتصبر؛ وذلك أن المرأة في حال الحِداد ربما تتطلع إلى الخروج، وربما تتطلع إلى شيء من الترفيه، وإلى شيء من التنفيس والإجمام، بل ربما تتطلع إلى أن تتزوج بعد هذا الزوج الذي توفي، فجاء التعبير بهذه الصيغة يَتَرَبَّصْنَ مما يدل على أن ذلك يحتاج إلى شيء من توطين النفس، والتصبير لها على هذا البقاء والانتظار هذه المدة، وهي مدة الحِداد التي قُصدت بقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وذلك حفظًا لحق الزوج وحرمته، واستبراءً للرحم.

وقد جاء عن سعيد بن المسيب -رحمه الله، وهو من فقهاء التابعين في الحكمة من هذه المدة، وهي أربعة أشهر وعشرًا: أن فيها يُنفخ الروح في الولد في الجنين، ويتبين ويتأكد الحمل[1]، فقالوا: بأن الولد يرتكض في البطن ويتحرك ويضطرب إذا بلغ هذه المدة أربعة أشهر وعشرة أيام، وتشعر بالحركة، وهنا لا يبقى لبس في موضوع الحمل، فيصير هذا الأمر في غاية الجلاء والوضوح، ومن ثَم فإنها لا تتزوج، وهي حامل، وقد مثَّل النبي ﷺ ذلك بالذي يسقي زرع غيره[2]، وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله- عن الوطء في حال الحمل: بأنه يزيد في سمعه وبصره وعقله[3] يعني الجنين، وطء المرأة الحامل سواء كان الذي يطأها هو زوجها، فذلك يزيد في سمعه وبصره وعقله، خلافًا لما كان يعتقده أهل الجاهلية، حيث كانوا يعتقدون بأن وطء المرأة في حال الحمل يجعل الولد ضعيفًا، ينبوا السيف في يده عن الضريبة؛ ولهذا كانوا يمدحون الشجعان الأقوياء من المقاتلين فيقولون:

فوارس لم يُغالوا في رضاعٍ فتنبوا في أكفهم السيوف[4]

يقول: هؤلاء لم يُغالوا في رضاع، يعني: أن آباءهم لم يطأوا الأمهات، وهن في حال الإرضاع، فهذا في حال الإرضاع، فكيف وهو حمل في بطن أمه، فكانوا يعتقدون هذا، وقد همَّ النبي ﷺ أن يمنع من وطء النساء في حال الإرضاع، اجتهادًا منه ﷺ بسبب ما كان شائعًا من ثقافة في ذلك الوقت، وهذا من الأمور الدنيوية، والنبي ﷺ قد يجتهد في الأمور الدنيوية، فهمَّ أن يمنع من هذا، من أجل أن لا يُخرج الولد ضعيفًا، فأُخبر أن فارس والروم يفعلونه، ولا يضر أولادهم، يعني: أن الواحد منهم يطأ المرأة في حال الإرضاع، ولا يضر الولد، وهم أقوياء لا يتأثرون بذلك، فتركه النبي ﷺ.

ويُؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ فلا جناح عليكم، يدل على أنه إن فعلن شيئًا من الزينة، أو المُخالفة في هذا الباب، قبل انقضاء العدة، فإن الأولياء يُسألون عن ذلك، هذا مفهوم المخالفة، فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فإذًا إن فعلنه قبل انقضاء العدة، فعليكم جُناح، يعني حرج، فدلَّ ذلك على أن الولي يجب عليه أن ينظر فيما ولاه الله -تبارك وتعالى، ويمنع المرأة مما لا يجوز فعله، وأن يحملها على ما يجب فعله، فهو مُخاطب بذلك، فالبنت أو الزوجة التي ترفض الحجاب الشرعي، وتريد أن تخرج متزينة، أو تخرج بحجاب لا يفي بمقصود الشارع، ثم بعد ذلك يقول هذا الزوج: هي تأبى، وتمتنع، فيُقال: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [سورة النساء:34] فيجب عليك أن تقوم عليها بما أمرك الله به، وأن تحملها على ذلك، فإن أبت فامنعها من الخروج، ولا يجوز أن تُمكنها من الخروج بهذه الألبسة الفاتنة، وبهذه العباءات التي لا تبرأ الذمة بها، أو أن تخرج المرأة سافرة عن وجهها، أو نحو ذلك، فهذا كله من دواعي الافتتان بها.

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ هكذا يُربي القرآن المُراقبة في نفوس أهل الإيمان، فهناك أشياء قد تخفى على الناس، فهذه المرأة قد تتزوج سرًا، وقد تواعد أحدًا من الخُطاب، وقد يُرسل لها رسالة في هاتفها يواعدها بالزواج، ثم بعد ذلك ترد عليها بالإيجاب وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فهذا يجب حفظ حدود الله به، هناك أشياء لا يطلع عليها الولي، ولا يطلع عليها الناس، وقد سهُل مثل هذا في مثل هذه الأوقات، عبر هذه الوسائل في التواصل.

ففي هذه الآية، ورد فيها التعريض في خطبة النساء، وهذا يدل على ما كان عليه الناس قبل هذا العصر، فقد كان يُنظر إلى ما يُرغب في المرأة من الجمال، ونحو ذلك من دواعي التزوج بها، ولا ينظرون إلى كون هذه المرأة من قبيل البكر، أو الثيب، وإنما ينظرون إلى أوصافها، فيتسابق الخطاب إلى خطبتها، وهنا جاء الأمر بالتربص، والنهي في الآية التي بعدها عن التصريح والمواعدة، وأذن لهم بالتعريض، فمن لم يعرف تلك البيئة يتعجب من مثل هذا، والمرأة اليوم إذا مات زوجها، أو طُلقت لا يكاد يتقدم لها أحد للأسف، أما في السابق فالأمر بخلاف ذلك، يتسابق إليها الرجال، ولو نظرتم في التراجم والسير في النساء تجد المرأة ربما تزوجت أربعة، أو خمسة، كلما مات زوج، أو اسُتشهد في غزوة، تقدم لها الثاني، والثالث، والرابع، ولا تبقى كاسدة. 

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (5/ 92).
  2. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم: (11146) والبيهقي في السنن الكبرى برقم: (18304).
  3. حكى هذا القول في المبدع في شرح المقنع (6/ 73) لكن ليس لأحمد.
  4. البيت بدون قائل في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 506).