يقول تعالى: ولا جناح عليكم أن تعرضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزوجهن من غير تصريح، قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس - ا - في قوله: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء قال: "التعريض أن يقول: إني أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها، ومن أمرها - يعرض لها بالقول بالمعروف -، وفي رواية: وددت أن الله رزقني امرأة، ونحو هذا، ولا ينتصب للخطبة".
ورواه البخاري تعليقاً عن ابن عباس - ا -: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء هو أن يقول: "إني أريد التزويج، وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أن ييسر لي امرأة صالحة".
وهكذا قال مجاهد وطاوس، وعكرمة وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي والشعبي، والحسن وقتادة، والزهري ويزيد بن قصيد، ومقاتل بن حيان والقاسم بن محمد وغير واحد من السلف والأئمة في التعريض: إنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها بالخطبة، وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها كما قال النبي ﷺ لفاطمة بنت قيس - ا - حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات، فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال لها: فإذا حللتِ فآذنيني فلما حلت خطب عليها أسامة بن زيد - ا - مولاه فزوجها إياه.
فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها، ولا التعريض لها، والله أعلم".
هذا الخطاب في الآية يفهم منه رفع الجناح - وهو الإثم - فيما يعرض به الإنسان من خطبة النساء اللاتي توفي عنهن أزواجهن، بأن يقول: أنا أبحث عن امرأة، أو مثلك يُرغب فيها كثيراً، ونحو ذلك من العبارات التي تشعر بأن رغبته متجهة إليها، وعبارات أهل العلم في التمثيل على التعريض متفاوتة، وقد يختلفون في بعض الألفاظ هل هي من قبيل التصريح أو التعريض، فمثلاً لو قال لها: لا تسبقيني بنفسك، فبعض أهل العلم عده تعريضاً، وعده آخرون تصريحاً، إلا أنه إن لم يكن من قبيل التصريح فهو قريب منه غاية القرب؛ لأن فيه إشعاراً بالحجز، فالمقصود أنه يجوز أن يقول لها كلاماً يشعرها برغبته فيها دون أن يصرح، ومثلها المطلقة المبتوتة - بمعنى أنها طلقت ثلاثاً - فيجوز للرجل أن يعرض لخطبتها، بخلاف المرأة التي طلقت طلاقاً رجعياً، وما زالت في عدتها بعد الطلقة أو بعد الطلقة الثانية، فلا يجوز لأحد أن يصرح بخطبتها، أو يعرض بذلك؛ لأنها ما زالت في عصمة الزوج، ولا تخرج من عصمته إلا بانقضاء العدة، ولا يجوز لها أن تخرج من بيته أو يخرجها كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [سورة الطلاق:1].
وأما مراد ابن كثير في قوله: "فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها، ولا التعريض بها" فإنه يقصد المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً، لا المرأة التي طلقت قبل الدخول ولا عدة عليها، أو المرأة التي بتّ في طلاقها ولو كانت في عدتها كالمطلقة ثلاثاً.
"وقوله: أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ أي: أضمرتم في أنفسكم من خطبتهن، وهذا كقوله تعالى: وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة القصص:69]، وكقوله: وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ [سورة الممتحنة:1]".
والمعنى أنه يبيت في نفسه تزوجها بمجرد انقضاء العدة فهذا لا مؤاخذة فيه، وإنما المؤاخذة فيما إذا تحدث به صراحةً، والله أعلم.
"ولهذا قال: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي: في أنفسكم، فرفع الحرج عنكم في ذلك، ثم قال: وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: "وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا لا تقل لها: إني عاشق، وعاهديني ألا تتزوجي غيري ونحو هذا"".
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ الذكر باللسان، لكن من غير تصريح بالخطبة، وذلك راجع إلى قلة صبره، وخشيته أن تفوته هذه المرأة، والأمر لا يستغرب فقد كان الناس قديماً يتسابقون على المرأة المفارقة لزوجها إما بطلاق، أو وفاة زوج؛ فينتظرون متى تنقضي العدة ليتقدموا لخطبتها، فهذا الذكر جائز بشرطه وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا، وبعضهم يذكر في التعريض عند الولي ما سبق كأن يقول: إذا انقضت عدتها فآذني، أو أخبرني، أو أعلمني، أو لا تسبقني بتزويجها أو نحو ذلك؛ فهذا من ذكرها، والله أعلم.
ولقد اختلف أهل التأويل في معنى "السر" الذي نهى الله - تعالى - عباده عن مواعدة المعتدات به على أقوال:
فقال بعضهم: معنى ذلك: ولا تنكحوهن في عدتهن سراً.
وقال آخرون: بل معنى ذلك لا تأخذوا ميثاقهن، وعهودهن في عددهن أن لا ينكحن غيركم كأن يقول لها الرجل: "لا تسبقيني بنفسك".
وقال غيرهم: إن كلمة السر في الآية تطلق على الجماع، والمعنى لا يذكر لها قدرته على الجماع وقوته على ذلك، وما قد يرغبها فيه، ويدعوها إليه، وسماه سراً لأن الجماع لا يكون إلا في السر.
وقال بعضهم: هو الزنا، وهذا المعنى اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وعلل ذلك بأن العرب تسمي الجماع وغشيان الرجل المرأة "سراً"؛ لأن ذلك مما يكون بين الرجال والنساء في خفاء غير ظاهر مطَّلع عليه، فيسمى لخفائه "سراً"، ثم لا معنى لذكر السر بمعنى الخفاء وما يقابل العلانية إذا كان التصريح بالخطبة لا يجوز علانية ولا سراً، وكذا لو أنه أخبر أو عرض بخطبتها فلم يعد ذلك من قبيل السر؛ ويمكن القول إن المراد من المواعدة سراً أن لا يكون ذلك من دون علم الناس، أو اطلاعهم، ثم السر يمكن أن يكون بين اثنين، أو ثلاثة، أوأكثر إذا قصدوا به الحفظ، واحترزوا من فشوه، وظهوره.
والخلاصة أن المعنى الأول - أي لا تبرموا اتفاقاً معهن لا يطلع عليه أحد - هو الأقرب، ويبعد أن يكون المراد بالمواعدة الجماع؛ لأنه ليس له أي شبهة إطلاقاً، لا عقد ولا نكاح...، وكذا المعنى الذي اختاره ابن جرير؛ لأنه لو كان المراد أنه يريد أن يزني بها بحجة أنه سيتزوجها بعد انقضاء العدة لما قال: لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا، ولقال: ولا تزنوا بهن، أو لا تجامعوهن لهذه الحجة.
فالخطاب في الآية مفهومه النهي عن مواعدة المعتدات سراً؛ إذ الرجل لشدة ما يوجد في نفسه أحياناً من حرصه على أمر خشية أن يفوته فإنه قد يتأول لنفسه، أو تحمله العجلة على الاتفاق مع هذه المرأة من دون سائر الناس، وهذا لا يجوز، والله أعلم.
"وكذا روي عن سعيد بن جبير والشعبي، وعكرمة وأبي الضحى، والضحاك والزهري، ومجاهد والثوري: "هو أن يأخذ ميثاقها ألا تتزوج غيره"
وقوله: إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا...."
هذا المقطع من الآية يضعف ما ذهب إليه ابن جرير من أن المراد من المواعدة سراً أن يطلب منها الزنا؛ إلا إذا جعل هذا الاستثناء منقطعاً، وذلك لأن الزنا ليس فيه قول معروف، وما عرف هذا القول عن أحد، والله أعلم.
"قال ابن عباس - ا - ومجاهد، وسعيد بن جبير والسدي، والثوري وابن زيد: يعني به ما تقدم من إباحة التعريض، كقوله: إني فيك لراغب، ونحو ذلك.
وقال محمد بن سيرين: قلت لعبيدة: ما معنى قوله: إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا، قال: يقول لوليها: لا تسبقني بها - يعني لا تزوجها - حتى تعلمني، رواه ابن أبي حاتم".
هذه العبارات في الحقيقة قريبة من التصريح، ولقد ذكرها العلماء من باب التمثيل ليس غير، وبعضهم أدرج ما ليس بتصريح في حقيقته في التعريض وإن كان قريباً من التصريح، ومثال التصريح بالخطبة أن يقول لها: أنا أتقدم لخطبتك...
"وقوله: وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ يعني ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة".
هذا القول قال به أيضاً جمع من أهل اللغة كالنحاس، ولعل علة النهي عن العزم مع أن المحظور هو إيقاع العقد في فترة العدة هو من باب المبالغة، وإذا ورد النهي عن التصريح بالخطبة في عدة المطلقة طلاقاً رجعياً فما بالك بالعزم الذي هو أبلغ من مجرد الخطبة، وقال بعضهم: العزم والعقد شيء واحد، وهذا الكلام بناء على تعريف العزم بأنه: عقد القلب المصمم، والمعنى: لا تعقدوا عقد النكاح في قلوبكم، ولا يفسر العقد في الآية إلا بمعناه الشرعي وهو: ما يحصل به الإيجاب والقبول بين الزوجين الذي يترتب عليه أحكام استحلال البضع ونحو ذلك.
قال ابن عباس - ا - ومجاهد، والشعبي وقتادة، والربيع بن أنس وأبو مالك، وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان، والزهري وعطاء الخرساني، والسدي والثوري والضحاك: "حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ يعني: ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة".
سمي الكتاب كتاباً لأنه محدود بحد، وكل محدد بأجل معلوم فهو كتاب، والعدة المحددة هي أربعة أشهر وعشرة أيام في غير ذات الحمل، وأما في الحامل فالعدة بوضع الحمل، ولهذا قال الله : إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [سورة النساء:103] أي: مكتوباً محدود الأوقات مقدراً.
"وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة.
وقوله: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يؤيسهم من رحمته، ولم يقنطهم من عائدته فقال: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.