الأحد 25 / ربيع الأوّل / 1446 - 29 / سبتمبر 2024
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِۦ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِىٓ أَنفُسِكُمْ ۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُوا۟ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ۚ وَلَا تَعْزِمُوا۟ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَٰبُ أَجَلَهُۥ ۚ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ ۚ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة البقرة:235].
يقول تعالى: ولا جناح عليكم أن تعرضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزوجهن من غير تصريح، قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس - ا - في قوله: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء قال: "التعريض أن يقول: إني أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها، ومن أمرها - يعرض لها بالقول بالمعروف -، وفي رواية: وددت أن الله رزقني امرأة، ونحو هذا، ولا ينتصب للخطبة".
ورواه البخاري تعليقاً عن ابن عباس - ا -: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء هو أن يقول: "إني أريد التزويج، وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أن ييسر لي امرأة صالحة".
وهكذا قال مجاهد وطاوس، وعكرمة وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي والشعبي، والحسن وقتادة، والزهري ويزيد بن قصيد، ومقاتل بن حيان والقاسم بن محمد وغير واحد من السلف والأئمة في التعريض: إنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها بالخطبة، وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها كما قال النبي ﷺ لفاطمة بنت قيس - ا - حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات، فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال لها: فإذا حللتِ فآذنيني فلما حلت خطب عليها أسامة بن زيد - ا - مولاه فزوجها إياه.
فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها، ولا التعريض لها، والله أعلم".

هذا الخطاب في الآية يفهم منه رفع الجناح - وهو الإثم - فيما يعرض به الإنسان من خطبة النساء اللاتي توفي عنهن أزواجهن، بأن يقول: أنا أبحث عن امرأة، أو مثلك يُرغب فيها كثيراً، ونحو ذلك من العبارات التي تشعر بأن رغبته متجهة إليها، وعبارات أهل العلم في التمثيل على التعريض متفاوتة، وقد يختلفون في بعض الألفاظ هل هي من قبيل التصريح أو التعريض، فمثلاً لو قال لها: لا تسبقيني بنفسك، فبعض أهل العلم عده تعريضاً، وعده آخرون تصريحاً، إلا أنه إن لم يكن من قبيل التصريح فهو قريب منه غاية القرب؛ لأن فيه إشعاراً بالحجز، فالمقصود أنه يجوز أن يقول لها كلاماً يشعرها برغبته فيها دون أن يصرح، ومثلها المطلقة المبتوتة - بمعنى أنها طلقت ثلاثاً - فيجوز للرجل أن يعرض لخطبتها، بخلاف المرأة التي طلقت طلاقاً رجعياً، وما زالت في عدتها بعد الطلقة أو بعد الطلقة الثانية، فلا يجوز لأحد أن يصرح بخطبتها، أو يعرض بذلك؛ لأنها ما زالت في عصمة الزوج، ولا تخرج من عصمته إلا بانقضاء العدة، ولا يجوز لها أن تخرج من بيته أو يخرجها كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [سورة الطلاق:1].
وأما مراد ابن كثير في قوله: "فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها، ولا التعريض بها" فإنه يقصد المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً، لا المرأة التي طلقت قبل الدخول ولا عدة عليها، أو المرأة التي بتّ في طلاقها ولو كانت في عدتها كالمطلقة ثلاثاً.
"وقوله: أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ أي: أضمرتم في أنفسكم من خطبتهن، وهذا كقوله تعالى: وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة القصص:69]، وكقوله: وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ [سورة الممتحنة:1]".
والمعنى أنه يبيت في نفسه تزوجها بمجرد انقضاء العدة فهذا لا مؤاخذة فيه، وإنما المؤاخذة فيما إذا تحدث به صراحةً، والله أعلم.
"ولهذا قال: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي: في أنفسكم، فرفع الحرج عنكم في ذلك، ثم قال: وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: "وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا لا تقل لها: إني عاشق، وعاهديني ألا تتزوجي غيري ونحو هذا"".
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ الذكر باللسان، لكن من غير تصريح بالخطبة، وذلك راجع إلى قلة صبره، وخشيته أن تفوته هذه المرأة، والأمر لا يستغرب فقد كان الناس قديماً يتسابقون على المرأة المفارقة لزوجها إما بطلاق، أو وفاة زوج؛ فينتظرون متى تنقضي العدة ليتقدموا لخطبتها، فهذا الذكر جائز بشرطه وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا، وبعضهم يذكر في التعريض عند الولي ما سبق كأن يقول: إذا انقضت عدتها فآذني، أو أخبرني، أو أعلمني، أو لا تسبقني بتزويجها أو نحو ذلك؛ فهذا من ذكرها، والله أعلم.
ولقد اختلف أهل التأويل في معنى "السر" الذي نهى الله - تعالى - عباده عن مواعدة المعتدات به على أقوال:
فقال بعضهم: معنى ذلك: ولا تنكحوهن في عدتهن سراً.
وقال آخرون: بل معنى ذلك لا تأخذوا ميثاقهن، وعهودهن في عددهن أن لا ينكحن غيركم كأن يقول لها الرجل: "لا تسبقيني بنفسك".
وقال غيرهم: إن كلمة السر في الآية تطلق على الجماع، والمعنى لا يذكر لها قدرته على الجماع وقوته على ذلك، وما قد يرغبها فيه، ويدعوها إليه، وسماه سراً لأن الجماع لا يكون إلا في السر.
وقال بعضهم: هو الزنا، وهذا المعنى اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وعلل ذلك بأن العرب تسمي الجماع وغشيان الرجل المرأة "سراً"؛ لأن ذلك مما يكون بين الرجال والنساء في خفاء غير ظاهر مطَّلع عليه، فيسمى لخفائه "سراً"، ثم لا معنى لذكر السر بمعنى الخفاء وما يقابل العلانية إذا كان التصريح بالخطبة لا يجوز علانية ولا سراً، وكذا لو أنه أخبر أو عرض بخطبتها فلم يعد ذلك من قبيل السر؛ ويمكن القول إن المراد من المواعدة سراً أن لا يكون ذلك من دون علم الناس، أو اطلاعهم، ثم السر يمكن أن يكون بين اثنين، أو ثلاثة، أوأكثر إذا قصدوا به الحفظ، واحترزوا من فشوه، وظهوره.
والخلاصة أن المعنى الأول - أي لا تبرموا اتفاقاً معهن لا يطلع عليه أحد - هو الأقرب، ويبعد أن يكون المراد بالمواعدة الجماع؛ لأنه ليس له أي شبهة إطلاقاً، لا عقد ولا نكاح...، وكذا المعنى الذي اختاره ابن جرير؛ لأنه لو كان المراد أنه يريد أن يزني بها بحجة أنه سيتزوجها بعد انقضاء العدة لما قال: لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا، ولقال: ولا تزنوا بهن، أو لا تجامعوهن لهذه الحجة.
فالخطاب في الآية مفهومه النهي عن مواعدة المعتدات سراً؛ إذ الرجل لشدة ما يوجد في نفسه أحياناً من حرصه على أمر خشية أن يفوته فإنه قد يتأول لنفسه، أو تحمله العجلة على الاتفاق مع هذه المرأة من دون سائر الناس، وهذا لا يجوز، والله أعلم.
"وكذا روي عن سعيد بن جبير والشعبي، وعكرمة وأبي الضحى، والضحاك والزهري، ومجاهد والثوري: "هو أن يأخذ ميثاقها ألا تتزوج غيره"
وقوله: إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا...."

هذا المقطع من الآية يضعف ما ذهب إليه ابن جرير من أن المراد من المواعدة سراً أن يطلب منها الزنا؛ إلا إذا جعل هذا الاستثناء منقطعاً، وذلك لأن الزنا ليس فيه قول معروف، وما عرف هذا القول عن أحد، والله أعلم.
"قال ابن عباس - ا - ومجاهد، وسعيد بن جبير والسدي، والثوري وابن زيد: يعني به ما تقدم من إباحة التعريض، كقوله: إني فيك لراغب، ونحو ذلك.
وقال محمد بن سيرين: قلت لعبيدة: ما معنى قوله: إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا، قال: يقول لوليها: لا تسبقني بها - يعني لا تزوجها - حتى تعلمني، رواه ابن أبي حاتم".

هذه العبارات في الحقيقة قريبة من التصريح، ولقد ذكرها العلماء من باب التمثيل ليس غير، وبعضهم أدرج ما ليس بتصريح في حقيقته في التعريض وإن كان قريباً من التصريح، ومثال التصريح بالخطبة أن يقول لها: أنا أتقدم لخطبتك...
"وقوله: وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ يعني ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة".
هذا القول قال به أيضاً جمع من أهل اللغة كالنحاس، ولعل علة النهي عن العزم مع أن المحظور هو إيقاع العقد في فترة العدة هو من باب المبالغة، وإذا ورد النهي عن التصريح بالخطبة في عدة المطلقة طلاقاً رجعياً فما بالك بالعزم الذي هو أبلغ من مجرد الخطبة، وقال بعضهم: العزم والعقد شيء واحد، وهذا الكلام بناء على تعريف العزم بأنه: عقد القلب المصمم، والمعنى: لا تعقدوا عقد النكاح في قلوبكم، ولا يفسر العقد في الآية إلا بمعناه الشرعي وهو: ما يحصل به الإيجاب والقبول بين الزوجين الذي يترتب عليه أحكام استحلال البضع ونحو ذلك.
قال ابن عباس - ا - ومجاهد، والشعبي وقتادة، والربيع بن أنس وأبو مالك، وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان، والزهري وعطاء الخرساني، والسدي والثوري والضحاك: "حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ يعني: ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة".
سمي الكتاب كتاباً لأنه محدود بحد، وكل محدد بأجل معلوم فهو كتاب، والعدة المحددة هي أربعة أشهر وعشرة أيام في غير ذات الحمل، وأما في الحامل فالعدة بوضع الحمل، ولهذا قال الله : إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [سورة النساء:103] أي: مكتوباً محدود الأوقات مقدراً.
"وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة.
وقوله: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يؤيسهم من رحمته، ولم يقنطهم من عائدته فقال: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.

مرات الإستماع: 0

"وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ الآية، إباحة التعريض بخطبة المرأة المعتدّة، ويقتضي ذلك النهي عن التصريح."

 وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ التعريض هو الإيماء، والتلميح من غير تصريح، جاء عن ابن عباس - ا - ما يوضحه، يعني كأن يقول: إني أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها، ومن أمرها[1].

وفي رواية: ودت لو أن الله رزقني امرأة من أمرها كذا، وكذا[2].

ونحو هذا من العبارات، ويدل على ذلك فاطمة بنت قيس، قالت: إن زوجها طلقها ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول الله ﷺ سكنى، ولا نفقة، قالت: قال لي رسول الله ﷺ إذا حللت فآذنيني فآذنته، فخطبها معاوية، وأبو جهم، وأسامة بن زيد، فقال رسول الله ﷺ أما معاوية فرجل ترب، لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، ولكن أسامة بن زيد فقالت بيدها هكذا: أسامة، أسامة، فقال لها رسول الله ﷺ طاعة الله، وطاعة رسوله خير لك، قالت: فتزوجته، فاغتبطت[3].

فيمكن أن يقول الرجل للمرأة إذا حللت - انقضت العدة - فأخبريني، أشعريني بذلك فقط، لا يواعدها يقول: سأتزوجك.

ولا يخطبها، وإنما يُعرض إما أن يقول: أخبريني، آذنيني، أعلميني. أو أن يقول: أنا أبحث عن زوجة، ولعل الله ييسر لي، أنا أبحث عن زوجة تكون ثيبًا، أنا أبحث عن امرأة من صفاتها كذا، وكذا مما ينطبق عليها، مثلك يرغب فيه الأزواج. مما قد تفهم منه بطريق التعريض لا التصريح، فهذا لا إشكال فيه.

"أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ​​​​​"

يعني سترتم، وأضمرتم كما قال الله - تبارك، وتعالى -: وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ [القصص:69]، يعني: ما تخفيه، فهذا الذي يكتمه في نفسه من العزم على التزوج بهذه المرأة لا يؤاخذ عليه، لكنه لا يُصرح لها بذلك، ولا يواعدها.

عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي: تذكروهن في أنفسكم، وبألسنتكم لمن يخفي عليكم، وقيل: أي ستخطبونهن إن لم تنهوا عن ذلك." 

 عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله: أي في أنفسكم[4].

يعني الإنسان لا يستطيع أن يدفع مثل هذه الواردات عن نفسه، فعفى الله - تبارك، وتعالى - عنها، ولم يؤاخذ بها أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ قال: أي تذكرون ما في أنفسكم بألسنتكم. هنا أعم - يعني ما ذكره ابن جزي أنه يذكرها - يتكلم بلسانه عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ لمن يخفي عليكم.

يعني: يتكلم مع صاحبه مثلًا بشأنها، يقول: أنا أريد أن أتزوج فلانه. لكن هذا لا يذهب إليها، ويقول: فلان سيتزوجك. وهي في العدة، يعني هذا يمكن أن يتجه أما إذا كانت العبارة: لم يخف عليكم. فهذا ليس معنى، المعاني الآن صارت عندنا ثلاثة:

المعنى الأول: (ستذكرونهن) ابن كثير يقول: في قلوبكم، فأنتم غير مؤاخذين على هذا.

المعنى الثاني: (ستذكرونهن) بألسنتكم - على هذه النسخة الأخرى لابن جزي - لمن يخفي عليكم.

يعني: يكتم ذلك، ولا يوصله إلى هذه المرأة، ولا يصرح لها، وقيل: أي ستخطبونهن إن لم تنهو عن ذلك. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ فأنتم بحاجة إلى منع، وإلا بادرتم إلى التصريح بالخطبة، وعلى كل حال الآية تحتمل هذا، قال: وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا لاحظ الآن يعني مثل هذا النهي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ الذي يسمع الآن مثل هذا قد يتساءل، وبتعجب إن المرأة إذا طُلقت، أو مات عنها زوجها لا يكاد يتقدم لها أحد! لكن من عرف عادة العرب قبل هذا الوقت، وذلك أنهم كانوا ينظرون إلى مواصفات المرأة دون النظر إلى كونها ثيبًا، أو بكرًا، فيتسابقون عليها، فيتقدم لها الخطاب فتتحير أحيانًا من تقبل، فما كانت المرأة تبور، ولذلك حينما تنظرون في التراجم مثلًا بعض الصحابيات  كأسماء بن عميس - ا - تزوجها مجموع بمجرد ما يُستشهد زوجها، وتنقضي العدة، أو يموت، تتزوج مباشرة، ويتزوجها الكبار، وهكذا، لو تتبعت تجد من هذا كثير، فمن عرف تلك الحال التي كانوا عليها يفهم مثل هذا الخطاب.

وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا أي: لا تواعدوهنّ في العدة خفية بأن تتزوّجوهن بعد العدة، وقال مالك فيمن يخطب في العدّة، ثم يتزوّج بعدها: فراقها أحب إليّ، ثم يكون خاطبًا من الخطاب، وقال ابن القاسم: يجب فراقها.

 وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا حمله ابن جرير على الزنا[5]، والسياق إنما هو في الخطبة، والتزوج، ولهذا قال: أي لا تواعدوهن في العدة خفية بأن تتزوجوهن بعد العدة.

جاء عن ابن عباس: لا تقل لها إني عاشق، وعاهديني ألا تتزوجي غيري[6].

وجاء عن سعيد بن جبير، والشعبي، وعكرمة، وأبي الضحى، والضحاك، والزهري، ومجاهد، وسفيان الثوري: هو أن يأخذ ميثاقها ألا تتزوج غيره[7].

أن يأخذ عليها عهدًا ألا تتزوج أحدًا غيره وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا يكفي من غير أخذ ميثاق أن يواعدها يقول لها: إذا انتهت العدة تزوجنا. وتوافقه على ذلك فهذه مواعدة من الطرفين، يتفق معها على التزوج بعد انقضاء العدة، هذا لا يجوز، ومن قال: بأنه يجب فراقها. كقول ابن القاسم، يمكن أن يوجه هذا باعتبار أن النهي يقتضي الفساد، إذا واعدها في العدة، لكن هذا النهي إنما هو عن المواعدة، وهو لم ينكح، ولم يتزوج، فتزوجها بعد العدة في وقت قد حلت فيه للأزواج، فقاعدة النهي يقتضي الفساد قد لا تنطبق على هذا بصورة دقيقة.

إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا استثناء منقطع، والقول المعروف هنا: هو ما أبيح من التعريض: كقوله: إنكم لأكفاء كرام، وقوله: إن الله سيفعل معك خيرًا، وشبه ذلك."

القول المعروف هنا قال: الاستثناء المنقطع. باعتبار أنه نهى عن المواعدة لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا فالقول المعروف ليس من قبيل المواعدة؛ لأنها منهي عنها، فكان بذلك الاستثناء منقطعًا، والاستثناء المنقطع ما كان فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه، وهذا الذي قاله ابن جرير - رحمه الله، قال:، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض. هذا كما سبق، وبه قال: مجاهد، وسعيد بن جبير، والسدي، والثوري، وابن زيد، كقوله: إنكم لأكفاء كرام، وقوله: إن الله سيفعل معك خيرًا، ونحو ذلك. هذا القول المعروف يعني من غير تصريح، يكون بالتعريض.

وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ الآية، نهي عن عقد النكاح قبل تمام العدّة، و(الكتاب) هنا: القدر الذي شرع من العدة، ومن تزوّج امرأة في عدّتها يفرق بينهما اتفاقًا، فإن دخل بها حرمت عليه على التأبيد عند مالك خلافًا للشافعي، وأبي حنيفة، واختلف عن مالك في تأبيد التحريم إذا لم يدخل بها، وإذا دخل بها، ولم يطأها."

في قوله: وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ العقدة اسم لما يُعقد من نكاح، أو يمين، أو غير ذلك، وعقدة كل أمر هي إيجابه، وتوثيقه، تقول: عقد البيع، عقد الصفقة.، ونحو ذلك فأصله الشّد، وشدة الوثوق وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ يقول الحافظ ابن كثير: يعني لا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة[8]. جاء هذا المعنى عن جماعة: كابن عباس - ا - ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والربيع، وزيد بن أسلم، ومقاتل، والزهري، وعطاء الخرساني، والسدي، وسفيان الثوري، والضحاك: لا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ يعني على عقده، والتزوج، يقول: و الْكِتَابُ هنا: القدر الذي شرع من المدة. وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَه المدة المضروبة، يقول: ومن تزوّج امرأة في عدّتها يفرق بينهما اتفاقًا.

وهذا نقل عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - الإجماع، تزوج امرأة في العدة، عدة الوفاة مثلًا، وكذلك أيضًا لو أنها عدة طلاق ثلاث، يفرق بينهما، ومن باب أولى لو كانت الطلقة رجعية فلا زالت في حبال الزوج، وعصمته، فهذا النكاح وقع على نكاح، وعلى عقد، فهذا لا يصح بحال من الأحوال.

يقول: فإن دخل بها حرمت عليه على التأبيد عند مالك. لكن هذا لا دليل عليه خلافًا للشافعي، وأبي حنيفة، واختلف عن مالك في تأبيد التحريم إذا لم يدخل بها، وإذا دخل بها، ولم يطأها.

على كل حال وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ هنا سماه كتابًا لكونه مفروضًا محدودًا كقوله: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء: 103] فالشيء المفروض المحدود يقال له: كتاب. فهذه المدة في العدة أربعة أشهر، وعشرة أيام، أو الحامل بانقضاء الحمل، هي أمر مفروض محدد من الله - تبارك، وتعالى -.

  1. تفسير الطبري (5/95).
  2.  المصدر السابق (5/96).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها، رقم: (1480).
  4.  تفسير ابن كثير (1/639).
  5.  تفسير الطبري (5/105).
  6.  المصدر السابق (5/107).
  7.  تفسير ابن كثير (1/640).
  8.  المصدر السابق.

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- عدة المتوفى عنها زوجها، ذكر بعد ذلك بعض ما يتصل بها من الأحكام، مما له تعلق بخطبتها، أو مواعدتها، أو التزوج منها، فقال الله تعالى: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة البقرة:235].

وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ يعني: لا إثم عليكم، ولا حرج، فيما تُلمحون به من غير تصريح، من طلب التزوج بالنساء المتوفى عنهن أزواجهن، فهذا دلَّ عليه هذا السياق؛ لأن الحديث عن المتوفى عنها زوجها، ولكن المرأة المُطلقة ثلاثًا، تكون بائنة، فتبقى العدة، لكن بعيدًا عن زوجها؛ لأنها لا تحل له إلا من بعد زوج، فهي في عدتها أيضًا لا يجوز أن تواعد بالنكاح، ولا يجوز أن تُخطب، ولكن لا بأس أن يُعرَّض بذلك، وهكذا لا حرج على الرجل فيما أضمر في نفسه من نية التزوج بأولئك النسوة بعد انقضاء العدة، وقد لا يصبر، فيبدر منه شيء مما وقر في قلبه، فيتحدث؛ وذلك لضعف الإنسان، فأُبيح له التلميح دون المواعدة والتصريح.

عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ لضعفكم وعجلتكم وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا لا يواعدها على التزوج، فضلاً عن غيره من السِفاح والزنا والفجور، فكل ذلك مُحرم -كما هو معلوم، لكن لو أنه قال قولاً يُعرَّض فيه، يُفهمها أنه يرغب في نكاحها من غير تصريح ولا مواعدة، كأن يقول: أنا أبحث عن امرأة، أو يقول: مثلك يرغب فيه الرجال، ونحو ذلك من العبارات، فهذا لا إشكال فيه، لكن من غير عزم ومواعدة في مدة العِدة، حتى تنقضي.

ثم ذكَّر بما يُذكر به عادة من تنمية المراقبة لله -تبارك وتعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ فهو يعلم ما في النفوس من الاستجابة من عدمها، والعزم، وما يقع من النيات والإرادات، فكيف بما يصدر عن الأفواه، أو تُترجم عنه الجوارح؟! فكل ذلك يعلمه الله -تبارك وتعالى، وإن خفي على الناس، فهذا يوجب الحذر، فاحذروه، واعلموا أن الله غفور لمن تاب وأناب، كثير الغفر للعباد على كثرة الذنوب والمقارفات، وعلى كثرة العباد المقارفين، حليم لا يُؤاخذ بالعقوبة.

فيُؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ أن الخواطر والوساوس التي تقع في القلوب لا يُؤاخذ الإنسان عليها إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم[1]، فقيده بهذا القيد ما لم تعمل أو تتكلم ما لم يُترجم ذلك بكلام يقوله الإنسان، أو فعل يفعله.

كما يُؤخذ من هذه الآية: فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ أن ما يقع في القلب من النيات، وما يُضمره الإنسان في نفسه من التزوج بهذه المرأة التي مات عنها زوجها، أو لا زالت في عدة الطلاق البائن الثلاث، فهذا أمر قد لا يستطيع الإنسان دفعه عن نفسه، فهو غير مؤاخذ عليه؛ وذلك من رحمة الله -تبارك وتعالى- بالناس، وإلا فإن العزم على فعل الطاعة يُؤجر الإنسان عليه، كما لو فعلها، و(العزم) من الأعمال القلبية، وهو أقوى المراتب، وليس بعده إلا حصول الشيء في الخارج، ودون ذلك: (الهم) في الحسنات من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة[2]، فكيف بالعزم الذي هو أقوى، وهو توجه القلب المُصمم على الفعل، أو الترك، فذلك جازم، والهم دونه، وأقل منه.

فالعزم فعل من الأفعال، كما ذكرنا في بعض المناسبات، والنبي ﷺ قال: القاتل والمقتول في النار قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه[3]، فصار في النار؛ لأنه عزم، فالعزم يُؤاخذ عليه الإنسان، فلو أن أحدًا من الناس عزم على الفجور بامرأة مثلاً، وواعدها، وخرج، لكنه في الطريق حصل له حادث، أو جاء فما وجدها، فهذا يُؤاخذ كما لو أنه قد واقع بالفعل؛ لأنه إنما تخلف عن هذا الفعل لأمر خارج عن يده، وإلا فقد عزم عليه، فالعزم هو فعل من جملة الأفعال، فيُؤجر الإنسان عليه، كما لو فعل الطاعة، فإذا حال بينه وبينها مانع كُتب له، أو عليه.

وأيضًا فالله -تبارك وتعالى- يأجر الإنسان بما عزم عليه وقصده، فالنبي ﷺ قال: إن بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر[4]، فبلغوا مبلغ من فعل، وهكذا أيضًا في جانب المعصية، لكن هنا في ما يُكنه الإنسان في نفسه، مما يتعلق بالتزوج بفلانة أو فلانة، ممن لا يحل له أن يُبادرها بذلك لكونها في عدة الوفاة، أو الطلاق البائن الثلاث، فهذا لا يُؤاخذ الإنسان عليه، لكن ليس له أن يُصرح ولا يواعد.

وفي قوله: فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ أخر ما يُكنه الإنسان في نفسه بالذكر للتنبيه على أنه أفضل وأبقى على ما للعدة من حرمة، مع التنبيه على أنه نادر الوقوع وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ فذلك يحصل به أيضًا الإخبار عن علم الله -تبارك وتعالى- بالظواهر والبواطن، يعني: ما يُكنه الإنسان، وما يُعرض به، أو ما يتكلم به.

ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ هذا نهي عن العزم، وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ هذا لكون المواعدة والاتفاق يسبقها العزم، فيكون ذلك من قبيل المُبالغة في النهي عن الفعل، فلا تناقض ولا تعارض، وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ هناك عازم أن يتزوج، لكن هنا هو منهي عن إيقاع هذا العقد، أو المواعدة، فقال: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ يعني: العدة، أن تبلغ المدة التي قرّرها الله -تبارك وتعالى.

ولاحظ هنا في قوله -تبارك وتعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا هذا من علم الله -تبارك وتعالى- بالشيء قبل أن يقع، فهو يعلم ما كان وما يكون، ويعلم ضعف الإنسان، فخفَّف عنه؛ ولهذا جاء هذا الختم للآية بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ فهو كثير الغفر؛ ولذلك تجاوز عنكم فيما يتعلق بالتعريض، وما يقع في النفوس من النيات والمقاصد في هذا الباب وليس في كل شيء، وإلا فالنيات مُعتبرة، إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى[5]، إنما الذي لا يؤاخذ عليه الإنسان هو الخواطر ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة[6]، هذا إذا كان تركها خوفًا من الله -تبارك وتعالى، لكن لو أنه همّ بها ثم بعد ذلك فاتته الفرصة، ولو تحقق له ذلك لما فوتها، فمثل هذا لا تُكتب له حسنة، يعني في السيئة، بل تُكتب عليه سيئة.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ يعلم ما في أنفسكم، من الإيمان والكفر والنفاق؛ لأن ذلك عام، والسياق هنا فيما يتعلق بما يُكنه الإنسان بهذا الأمر، أو بهذا الجانب، لكن لا شك أن الله -تبارك وتعالى- يعلم ما تُكنه النفوس من إيمان وكفر ونفاق وخوف ورجاء ومحبة وتوبة وإنابة، ونحو ذلك، فيُراقب الإنسان هذه الخواطر والإيرادات، وينظر ويُفتش في قلبه، إلى أين يتوجه؟ وبمن يتعلق؟ وهكذا، والناس إنما يرون ظاهره، ولا يطلع على البواطن إلا الله، حتى النبي ﷺ قال: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم[7].

وفي قوله -تبارك وتعالى: فَاحْذَرُوهُ الحذر من الله -تبارك وتعالى- بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى، وقوله في الموضعين: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ هذا للإيقاظ والتنبيه، وهز النفوس من أجل أن تتبصر في ذلك، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ولو يؤاخذهم بما كسبوا من جنايات لما ترك على ظهرها من دابة، ولكنه كثير الغفر، وهو حليم، لا يُعاجل بالعقوبة. 

  1. أخرجه البخاري في كتاب الطلاق باب الطلاق في الإغلاق والكره، والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره برقم: (5269) ومسلم في كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر برقم: (127).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب برقم: (130).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [سورة الحجرات:9] برقم: (31) ومسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفهما برقم: (2888).
  4. أخرجه البخاري في كتاب المغازي برقم: (4423) ومسلم في كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر برقم: (1911).
  5. أخرجه البخاري في باب بدء الوحي، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ؟ برقم: (1) ومسلم في كتاب الإمارة بقوله قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنية برقم: (1907).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة برقم: (6491) ومسلم في الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت... برقم: (131).
  7. أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب ، وخالد بن الوليد ، إلى اليمن قبل حجة الوداع برقم: (4351) ومسلم في الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم برقم: (1064).