"لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ... [البقرة:236] الآية. قال: قيل: إنها إباحة للطلاق قبل الدخول، ولمَّا نهى عن التزويج بمعنى: الذوق، وأمر بالتزويج؛ طلب العصمة، ودوام الصحبة، ظنّ قومٌ أنّ من طلق قبل البناء وقع في المنهي عنه، فنزلت الآيةُ رافعةً للجناح في ذلك.
وقيل: إنها في بيان ما يلزم من الصداق، والمتعة في الطلاق قبل الدخول؛ وذلك أنّ من طلق قبل الدخول، فإن كان لم يَفرِض لها صداقًا؛ وذلك في نكاح التفويض: فلا شيء عليه من الصداق؛ لقوله: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ... الآية، والمعنى: لا طلب عليكم بشيءٍ من الصداق، ويؤمر بالمتعة؛ لقوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ وإن كان قد فرض لها: فعليه نصف الصداق، لقوله تعالى: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237] ولا متعة عليه؛ لأنّ المتعة إنما ذُكِرَت لمن لم يفرض لها"
فقوله: "لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ" قيل: إنه إباحة للطلاق قبل الدخول، وهذا ظاهر من الآية.
يقول: "ولما نهى عن التزويج بمعنى: الذوق، وأمر بالتزويج طلب العصمة، ودوام الصحبة، ظنّ قومٌ أنّ من طلق قبل البناء وقع في المنهي عنه، فنزلت الآية رافعةً للحرج في ذلك" هذا لا دليل عليه؛ لأن ذلك لم يثبت في حديثٍ صحيح، أنها نزلت بسبب هذا الوهم، أو هذا الالتباس الذي وقع لهم.
"وقيل: إنها في بيان ما يلزم من الصداق، والمتعة في الطلاق قبل الدخول" هي متضمنةٌ لهذا، فإن الله ذكره، وصرح به بعد ذلك، بمعنى: أنها لم تنزل لهذا السبب الذي ذُكِر.
يقول: "وذلك أنّ من طلق قبل الدخول فإن كان لم يَفرِض لها صداقًا، وذلك في نكاح التفويض" ونكاح التفويض يقع على صورتين:
الصورة الأولى: أن يكون العقد على غير مهر، ويسمى: تفويض بضع.
الصورة الثانية: أن ترد المهر إلى وليها، فهذا تفويض مهرٍ.
يقول: "فلا شيء عليه من الصداق لقوله: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً".
قال: "والمعنى: لا طلب عليكم بشيء من الصداق" معنى "لَا جُنَاحَ" أي: لا حرج، ونفي الجناح بمعنى: نفي الحرج، والإثم.
يقول: "ويؤمر بالمتعة" وهذا نُقِلَ عليه الإجماع وهذه المتعة واجبة، وإن قال الله : حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فإن هذا من الإحسان الواجب، الذي يقابله: ترك الإحسان، ويكون ذلك بالإساءة، والتقصير في الحقوق الواجبة.
فهذه المتعة ثابتة للمرأة التي طُلِّقت قبل الدخول، ولم يسمَّ لها الصداق، فهذه تجب لها المتعة؛ لأنه لا مهر لها، فيكون ذلك كسرًا لقلبها بالطلاق، فتذهب من غير شيء، وهذه الشريعة جاءت بالإحسان، وجبر القلوب المنكسرة، والرحمة، لذلك فرض لها المتعة.
فهنا قال: "وَمَتِّعُوهُنَّ" وهذه المتعة لم تحدد في الآية، وقد جاء عن جماعة من السلف تحديد أعلى ذلك، وأدناه، لكن هذا التحديد لم يرد في شيءٍ من نصوص الكتاب، والسنة - والله تعالى أعلم -.
لكن جاء عن بعض الصحابة : كابن عباس، وغيره: أن أعلاه الخادم وذكر بعضهم: الثوب، والملحفة ونحو ذلك مما يكون من الكسوة، واللباس، الذي تصلي فيه، أو يستر المرأة، ونحو ذلك.
والله - تبارك، وتعالى - قال: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:236] فهذا يختلف باختلاف الأزمان، والأمكنة، والأحوال، وتكلموا فيمن يُراعى فيه ذلك، يعني: هل يُراعى فيه حال الزوج من الغنى، والفقر؟ أو يُراعى فيه حال أسرة المرأة من الغنى، والفقر، فيعطيها ما يليق بها؟ فلهم كلامٌ في هذا، في المتعة، وفي النفقة، فحينما يقال: بِالْمَعْرُوفِ بالنظر إلى من؟ أو إليهما؟ لكن من أهل العلم من قال: إنه هنا في المتعة يُنظر إلى حال الزوج؛ لأن الله قال: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ يعني: بحسب حاله من الغنى، والفقر.
ولهذا قال: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ والزيادة في الإحسان لا تُحد، لكن الكلام في القدر الواجب، والقدر الواجب لم يُحدد، وإنما أُحيل إلى العرف؛ لأن ذلك يتغير، فقد يكون الشيء كثيرًا في وقت، أو في ناحية، ولكنه قليل في ناحيةٍ أخرى، وقد يكون كثيرًا بالنسبة إلى بعض الأزواج؛ لقلة ما في يده، ويكون قليلًا بالنسبة لبعضهم؛ لكثرة ما في يده.
وقد تزوج النبي ﷺ أميمة بنت شُراحيل، فلما أُدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أُسيد أن يُجهزها، ويكسوها ثوبين رازقيين والثوب الرازقي: ثياب بيضاء من الكتان، وقيل: يُخالط بياضها زرقة، يعني: كأنه كما نسميه نحن: النيلي، فهذه المرأة طلقها النبي ﷺ قبل الدخول، فأمر لها بالمتعة، ثوبين رازقيين، لكن هذا لا يدل على أن ذلك حد في أعلى المتعة، أو في أدناها.
يقول: "وإن كان قد فرض لها" فهذه الحالة الثانية: إذا طلقها بعد أن فرض لها صداقًا، يعني: سمى الصداق، سواء أعطاها إياه، أو لم يُعطها، يعني اتفقوا على أن يتزوج هذه المرأة على خمسين ألف من المهر، أعطاها، أو لم يعطها، وصل إليها هذا المهر، أو لم يصل، ففي هذه الحالة: عليه نصف الصداق، وهذا بالإجماع لقوله تعالى: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فإن كانت قد قبضت المهر كله، فتعيد إليه النصف، وإن كانت لم تقبض، فإنه يدفع إليها النصف.
قال: "ولا متعة عليه؛ لأنّ المتعة إنما ذُكِرَت لمن لم يُفرض لها" كما قال: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وهذا الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله -.
وقال: "أو فيه بمعنى الواو" يعني: ما لم تمسوهن، وتفرضوا لهن فريضة، فهنا صار ذلك مقيدًا بقيدين:
الأول: أنه طلاقٌ قبل الدخول.
والأمر الثاني: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً الحالة الأولى: لم يسمِّ لها صداقًا، في الحالة الثانية: بقيدين: لم يمس، وقد فرض لها فريضة - سمى لها الصداق - فهنا نصف ما فرض، في الحالة الأولى: المتعة، وليس لها شيء من المهر، والمقصود بالمسيس هنا في قوله: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ الجماع، كما قال ابن عباس، وطاووس، وإبراهيم النخعي، والحسن وذهب الجمهور، والذي عليه عامة السلف من الصحابة، فمن بعدهم: إلى أن الخَلوة تقوم مقام الدخول، فإذا أغلق بابًا، أو أرخى سِترًا، ولو لم يجامع، فيكون في ذلك حكم الدخول، فتستحق به نصف المهر - تنزيلًا للمظنة منزلة المئنة - فقالوا: هذا مظنة للدخول، وهذا قال به الخلفاء الراشدون.
وهنا يقول: "أو فيه بمعنى الواو" وابن جرير - رحمه الله - فسر الآية هكذا: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ المفروض لهن من نسائكم الصداق قبل أن تمسوهن، وغير المفروض لهن قبل الفرض وبناءً عليه اعتبر أن الآية بعدها، وهي: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ في نفس المذكورات في الآية قبلها.
يعني هذه الآية تشمل الصورتين عند ابن جرير لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً والآية التي بعدها: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً هي في نفس المذكورات، لكنها تفصيل لما سبق.
لكن قد يكون ظاهر الآية يُنبئ عن غير هذا مما ذهب إليه عامة المفسرين: أن هذه فيمن طُلقت قبل الدخول، وقبل المسيس فقط، والآية الثانية: فيمن طُلقت قبل الدخول، ولكن بعد أن يفرض لها فريضة.
"قوله: وَمَتِّعُوهُنَّ أي أحسنوا إليهنّ، وأعطوهنّ شيئًا عند الطلاق، والأمر بالمتعة مندوبٌ عند مالك وواجبٌ عند الشافعي".
متعة المرأة المطلقة قبل المسيس، إن كانت لم يُفرض لها فريضة، فهي واجبة بالإجماع لكن الكلام هنا فيمن فُرِضَ لها فريضة، فهنا يكون لها نصف المهر، فبعض أهل العلم يقولون بأن هذا المهر الذي أخذته، وهو الشطر يُغني عن المتعة، فيحصل لها بذلك من الانتفاع بهذا المهر.
وأما الحالة الأولى: فإن ذلك باعتبار أنها لم تخرج بشيء، لم يسمَّ لها مهرًا، فجاء الشرع بما يكون فيه الجبر لقلبها، وكشرها، فشُرِعَت المتعة، فهنا يقول: "والأمر بالمتعة مندوبٌ عند مالك، وواجبٌ عند الشافعي" وهو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله-.
سؤال: أحسن الله إليكم، في قول ابن جرير - رحمه الله - كأنه يريد أن المتعة واجبة للمدخول بها، والمفروض لها؟
الجواب: المتعة واجبة للجميع، غير من سمى الله - تبارك، وتعالى -: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236] هذه في نص الآية، فلا إشكال فيه، لكن الخلاف وقع بين أهل العلم في المرأة التي طُلقت قبل الدخول، وقد سُميَّ لها الصداق، فهل يكفي شطر المهر عن المتعة؟
وكذلك المدخول بها: هل لها متعة، أو لا؟ وسيأتي مزيد إيضاح لهذا، فمثل هذه هل لها متعة، أو لا؟ فبعض أهل العلم يقول: لا متعة لها، وإنما كان لها الصداق، أو شطر الصداق، إن كان قبل المسيس، وبعضهم يقول: لها المتعة، لكن على سبيل الندب، لا الوجوب، وبعضهم يقول: بأن المتعة واجبة لكل مطلقة، كما قال الله : وَلِلْمُطَلَّقَاتِ [البقرة:241] وسيأتي الكلام عند هذا - إن شاء الله؛ لأنه قال: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241] وفي الموضع السابق قال: عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] وسيأتي - إن شاء الله - ما يوضحه.
"قوله: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ [البقرة:236] أي: يمتع كل واحد على قدر ما يجد، والموسع: الغني، والْمُقْتِرِ الضّيق الحال، وقُرِأَ بإسكان دال قدره، وفتحها، وهما بمعنى".
"وهما بمعنى" يعني أن القراءتين بمعنًى واحد: قَدْرُهُ، وقَدَرُهُ، ففي قراءة حمزة، والكسائي، وحفص: بفتح الدال، وعند الباقين بالإسكان قَدْرُهُ، قَدَرُهُ، والمعنى واحد.
"وبالمعروف هنا أي: لا حمل فيه، ولا تكلف على أحد الجانبين".
فهذه من المواضع التي أُحيل فيها إلى المعروف، المعاشرة بالمعروف، والنفقة بالمعروف، والمتعة بالمعروف، ونحو ذلك، فهذه الإحالة إلى المعروف غير مقيدة بقدرٍ معين من المال، أو النفقة، أو صفةٍ معينة محددة في المعاشرة؛ لأن ذلك يختلف كما سبق باختلاف الأحوال، والأزمان، والأشخاص، ففي مثل هذه الأمور التي لا تنضبط، وتختلف من وقت إلى وقت، يُحيل الشارع فيها إلى المعروف، وقد مضى الكلام على مثل هذا في الفوائد المنقولة التي جمعها الشيخ: عبد الرحمن بن سعدي في كتابه: "طريق الوصول إلى العلم المأمول في معرفة القواعد، وضوابط الأصول" وذكر هذه القاعدة أيضًا في كتابه: "القواعد الفقهية" وكذلك أيضًا في كتابه: "القواعد الحسان" وذكر أمثلةً لذلك، يمكن أن يُراجع كلامه، لكن هذا حاصله: أن الأمور التي لا تنضبط، وتختلف من وقت إلى آخر بحسب ما ذُكِر يُحال فيها إلى المعروف.
"قوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ تعلق الشافعي في وجوب المتعة بقوله: حَقًّا وتعلق مالك بالندب في قوله: عَلَى الْمُحْسِنِينَ لأنّ الإحسان تطوّعٌ بما لا يلزم".
"وتعلق مالكٌ في الندب" أو "بالندب" لا إشكال؛ لأن حروف الجر تتناوب، فقوله: عَلَى الْمُحْسِنِينَ لأنّ الإحسان تطوّع بما لا يلزم، ومضى نقل الإجماع فيما يتعلق بالمطلقة قبل الدخول، وقبل تسمية المهر أنه يجب لها المتعة.
لكن قوله - تبارك، وتعالى -: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ تمسك به الشافعي - رحمه الله - على الوجوب، باعتبار أنه قال: حَقًّا والحق: هو الشيء الثابت؛ وذلك يدل على الوجوب، ومالك - رحمه الله - نظر إلى ما بعده، وهو قوله: عَلَى الْمُحْسِنِينَ يعني أن ذلك من باب الإحسان فلا يجب، فهو من الكمالات، فهذا نظر إلى لفظة حَقًّا وذاك نظر إلى لفظة الْمُحْسِنِينَ وسيأتي قول بعض أهل العلم في قوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فإن منهم من قال: هذه تشمل ما سبق، لكنه ذكر هذه الصورة، ونصَّ عليها، وهي إحدى الصور، والأفراد الداخلة تحت العموم في قوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فقالوا: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ هو بإزاء حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فكل ذلك في المطلقات، فلهنَّ المتعة، سواءً كانت من المدخول بهن، أو بغير المدخول بهن، وسواء سمى لها الصداق، أو لم يسمِّ لها الصداق، فلها المتعة، لكنه نصَّ على هذه الحالة قبل الدخول، وقبل تسمية الصداق للحاجة إلى ذلك؛ لأنها تخرج بلا شيء، فنصَّ عليها، يعني أنها آكد.