الأحد 25 / ربيع الأوّل / 1446 - 29 / سبتمبر 2024
لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا۟ لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعًۢا بِٱلْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:236] أباح - تبارك وتعالى - طلاق المرأة بعد العقد عليها، وقبل الدخول بها.
قال ابن عباس - ا - وطاوس، وإبراهيم والحسن البصري: "المس: النكاح"
استعمال المس بمعنى الوطء معروف في كلام العرب، وقد يأتي بمعنى المباشرة، واللمس المجرد، تقول: هذا لم تمسه الأيدي، لكنه إذا قيل للمرأة فقد يراد به الوطء، بل الوطء داخل فيه قطعاً ولا شك، ولكن هل تنزل الخلوة منزلة الوطء؟ بمعنى إذا سمى للمرأة صداقاً ثم أرخى لها ستراً، وخلا بها، ثم طلقها دون مساس؛ فهل ذلك ينزل منزلة الوطء؟
معلوم أن الرجل إذا طلق امرأته بعد ما سمى لها صداقاً، وإن لم يدخل بها؛ فإنها تستحق نصف المهر، وأما إذا أرخى لها ستراً، وكشف لها وجهاً؛ فجمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على أن الخلوة بها ولو لم يطأها تنزل منزلة الوطء، فتستحق المهر كله.
وقال بعضهم: إنها لا تستحق إلا نصف المهر، وحملوا المساس في الآية على الظاهر وهو الجماع، والله أعلم.بل
"بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها، والفرض لها إن كانت مفوضة، وإن كان في هذا انكسار لقلبها، ولهذا أمر - تعالى - بإمتاعها وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ [سورة البقرة:236]".
التفويض نوعان:
مفوضة البضع: وهي المرأة التي لم يحدد لها مهر، يقال: امرأة مفوضة على بضعها.
مفوضة المهر: أن تفوض وليها في تحديد مهرها.
قوله سبحانه: لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ عند الجمهور أن هذه الآية المقصود بها صنف واحد، وهي من طلقت قبل الدخول بها، واجتمع فيها هذا الوصفان مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أي: صداقاً، فإنها تستحق المتعة بالإجماع جبراً لخاطرها، ويبقى الخلاف في الأنواع الأخرى هل تجب المتعة لكل مطلقة كما في قوله - تبارك وتعالى -: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:241] أم لا؟ وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله -.
وبالنسبة لابن جرير - رحمه الله - فيرى أن الآية جاءت لتقرر حكمين بالنسبة للنساء غير المدخول بهن:
الأول: المرأة التي سمى لها صداقاً فهذه يجوز للرجل أن يطلقها، وتعطى نصف الصداق المسمى.
الثاني: المرأة التي لم يسم لها صداقاً فيجوز له أن يطلق، ولا تستحق مهراً، وإنما تعطى شيئاً لجبر خاطرها، وهو المتعة، والله أعلم.
"وقد روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد وأبي أسِيد - ا - أنهما قالا: تزوج رسول الله ﷺ أميمة بنت شراحيل، فلما أُدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها، ويكسوها؛ ثوبين رازِقِيين"[1].
لم يأت في تحديد المتعة شيء من الكتاب، ولا من السنة، وثبت عن بعض أهل العلم تحديد أعلى المتعة وأدناها، ولكن هذا لا دليل عليه، وقال بعضهم: ينظر في المتعة إلى حال المرأة، وما يصلح لمثلها غنىً وفقراً، لكن الله  لم يربط المتعة بحال المرأة، وما يصلح لها، وإنما علق المتعة بالزوج بحسب حاله من عسر ويسر، وغنىً وفقر، مصداق ذلك ما ذكره الله بقوله: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ يعني على من وسع الله عليه رزقه، ومن ضيق عليه رزقه بحسب استطاعته، فذلك بحسب العرف.
وقوله - تبارك وتعالى -: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ المراد بالإحسان في الآية الإحسان الواجب، ومن ذلك إعطاء المتعة لهذه المطلقة غير المدخول بها، ولم يسم لها الصداق، وهذا أحسن ما يقال فيه، والله أعلم.
ومثله ما قاله الله في عموم المطلقات: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:241] فلقد فهم بعض أهل العلم أن الإمتاع لا يجب على الرجل؛ لأن الله إنما أناطه بصنف من الناس وهم المتقون، وليس كل الناس من المتقين، وهذا الكلام فيه نظر؛ لأن التقوى واجبة على الناس جميعاً، وقد خاطب  الله جميع الناس بها، فقال - جل من قائل -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ ... [سورة النساء:1].
وأما قوله: "ثوبين رازِقِيين" أي: ثوبان أبيضان من الكتان.
  1. رواه البخاري في كتاب الطلاق - باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق برقم (4957) (5/2013).

مرات الإستماع: 0

"لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ... [البقرة:236] الآية. قال: قيل: إنها إباحة للطلاق قبل الدخول، ولمَّا نهى عن التزويج بمعنى: الذوق، وأمر بالتزويج؛ طلب العصمة، ودوام الصحبة، ظنّ قومٌ أنّ من طلق قبل البناء وقع في المنهي عنه، فنزلت الآيةُ رافعةً للجناح في ذلك.

وقيل: إنها في بيان ما يلزم من الصداق، والمتعة في الطلاق قبل الدخول؛ وذلك أنّ من طلق قبل الدخول، فإن كان لم يَفرِض لها صداقًا؛ وذلك في نكاح التفويض: فلا شيء عليه من الصداق؛ لقوله: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ... الآية، والمعنى: لا طلب عليكم بشيءٍ من الصداق، ويؤمر بالمتعة؛ لقوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ وإن كان قد فرض لها: فعليه نصف الصداق، لقوله تعالى: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237] ولا متعة عليه؛ لأنّ المتعة إنما ذُكِرَت لمن لم يفرض لها"

فقوله: "لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ" قيل: إنه إباحة للطلاق قبل الدخول، وهذا ظاهر من الآية.

يقول: "ولما نهى عن التزويج بمعنى: الذوق، وأمر بالتزويج طلب العصمة، ودوام الصحبة، ظنّ قومٌ أنّ من طلق قبل البناء وقع في المنهي عنه، فنزلت الآية رافعةً للحرج في ذلك" هذا لا دليل عليه؛ لأن ذلك لم يثبت في حديثٍ صحيح، أنها نزلت بسبب هذا الوهم، أو هذا الالتباس الذي وقع لهم.

"وقيل: إنها في بيان ما يلزم من الصداق، والمتعة في الطلاق قبل الدخول" هي متضمنةٌ لهذا، فإن الله ذكره، وصرح به بعد ذلك، بمعنى: أنها لم تنزل لهذا السبب الذي ذُكِر.

يقول: "وذلك أنّ من طلق قبل الدخول فإن كان لم يَفرِض لها صداقًا، وذلك في نكاح التفويض" ونكاح التفويض يقع على صورتين:

الصورة الأولى: أن يكون العقد على غير مهر، ويسمى: تفويض بضع.

الصورة الثانية: أن ترد المهر إلى وليها، فهذا تفويض مهرٍ.

يقول: "فلا شيء عليه من الصداق لقوله: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً".

قال: "والمعنى: لا طلب عليكم بشيء من الصداق" معنى "لَا جُنَاحَ" أي: لا حرج، ونفي الجناح بمعنى: نفي الحرج، والإثم.

يقول: "ويؤمر بالمتعة" وهذا نُقِلَ عليه الإجماع[1] وهذه المتعة واجبة، وإن قال الله : حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فإن هذا من الإحسان الواجب، الذي يقابله: ترك الإحسان، ويكون ذلك بالإساءة، والتقصير في الحقوق الواجبة.

فهذه المتعة ثابتة للمرأة التي طُلِّقت قبل الدخول، ولم يسمَّ لها الصداق، فهذه تجب لها المتعة؛ لأنه لا مهر لها، فيكون ذلك كسرًا لقلبها بالطلاق، فتذهب من غير شيء، وهذه الشريعة جاءت بالإحسان، وجبر القلوب المنكسرة، والرحمة، لذلك فرض لها المتعة.

فهنا قال: "وَمَتِّعُوهُنَّ" وهذه المتعة لم تحدد في الآية، وقد جاء عن جماعة من السلف تحديد أعلى ذلك، وأدناه، لكن هذا التحديد لم يرد في شيءٍ من نصوص الكتاب، والسنة - والله تعالى أعلم -.

لكن جاء عن بعض الصحابة : كابن عباس، وغيره: أن أعلاه الخادم[2] وذكر بعضهم: الثوب، والملحفة[3] ونحو ذلك مما يكون من الكسوة، واللباس، الذي تصلي فيه، أو يستر المرأة، ونحو ذلك.

والله - تبارك، وتعالى - قال: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:236] فهذا يختلف باختلاف الأزمان، والأمكنة، والأحوال، وتكلموا فيمن يُراعى فيه ذلك، يعني: هل يُراعى فيه حال الزوج من الغنى، والفقر؟ أو يُراعى فيه حال أسرة المرأة من الغنى، والفقر، فيعطيها ما يليق بها؟ فلهم كلامٌ في هذا، في المتعة، وفي النفقة، فحينما يقال: بِالْمَعْرُوفِ بالنظر إلى من؟ أو إليهما؟ لكن من أهل العلم من قال: إنه هنا في المتعة يُنظر إلى حال الزوج؛ لأن الله قال: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ يعني: بحسب حاله من الغنى، والفقر.

ولهذا قال: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ والزيادة في الإحسان لا تُحد، لكن الكلام في القدر الواجب، والقدر الواجب لم يُحدد، وإنما أُحيل إلى العرف؛ لأن ذلك يتغير، فقد يكون الشيء كثيرًا في وقت، أو في ناحية، ولكنه قليل في ناحيةٍ أخرى، وقد يكون كثيرًا بالنسبة إلى بعض الأزواج؛ لقلة ما في يده، ويكون قليلًا بالنسبة لبعضهم؛ لكثرة ما في يده.

وقد تزوج النبي ﷺ أميمة بنت شُراحيل، فلما أُدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أُسيد أن يُجهزها، ويكسوها ثوبين رازقيين[4] والثوب الرازقي: ثياب بيضاء من الكتان، وقيل: يُخالط بياضها زرقة، يعني: كأنه كما نسميه نحن: النيلي، فهذه المرأة طلقها النبي ﷺ قبل الدخول، فأمر لها بالمتعة، ثوبين رازقيين، لكن هذا لا يدل على أن ذلك حد في أعلى المتعة، أو في أدناها.

يقول: "وإن كان قد فرض لها" فهذه الحالة الثانية: إذا طلقها بعد أن فرض لها صداقًا، يعني: سمى الصداق، سواء أعطاها إياه، أو لم يُعطها، يعني اتفقوا على أن يتزوج هذه المرأة على خمسين ألف من المهر، أعطاها، أو لم يعطها، وصل إليها هذا المهر، أو لم يصل، ففي هذه الحالة: عليه نصف الصداق، وهذا بالإجماع[5] لقوله تعالى: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فإن كانت قد قبضت المهر كله، فتعيد إليه النصف، وإن كانت لم تقبض، فإنه يدفع إليها النصف.

قال: "ولا متعة عليه؛ لأنّ المتعة إنما ذُكِرَت لمن لم يُفرض لها" كما قال: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وهذا الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله -[6].

وقال: "أو فيه بمعنى الواو" يعني: ما لم تمسوهن، وتفرضوا لهن فريضة، فهنا صار ذلك مقيدًا بقيدين:

الأول: أنه طلاقٌ قبل الدخول.

والأمر الثاني: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً الحالة الأولى: لم يسمِّ لها صداقًا، في الحالة الثانية: بقيدين: لم يمس، وقد فرض لها فريضة - سمى لها الصداق - فهنا نصف ما فرض، في الحالة الأولى: المتعة، وليس لها شيء من المهر، والمقصود بالمسيس هنا في قوله: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ الجماع، كما قال ابن عباس، وطاووس، وإبراهيم النخعي، والحسن[7] وذهب الجمهور، والذي عليه عامة السلف من الصحابة، فمن بعدهم: إلى أن الخَلوة تقوم مقام الدخول، فإذا أغلق بابًا، أو أرخى سِترًا، ولو لم يجامع، فيكون في ذلك حكم الدخول، فتستحق به نصف المهر - تنزيلًا للمظنة منزلة المئنة - فقالوا: هذا مظنة للدخول، وهذا قال به الخلفاء الراشدون[8].

وهنا يقول: "أو فيه بمعنى الواو" وابن جرير - رحمه الله - فسر الآية هكذا: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ المفروض لهن من نسائكم الصداق قبل أن تمسوهن، وغير المفروض لهن قبل الفرض[9] وبناءً عليه اعتبر أن الآية بعدها، وهي: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ في نفس المذكورات في الآية قبلها.

يعني هذه الآية تشمل الصورتين عند ابن جرير لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً والآية التي بعدها: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً هي في نفس المذكورات، لكنها تفصيل لما سبق.

لكن قد يكون ظاهر الآية يُنبئ عن غير هذا مما ذهب إليه عامة المفسرين: أن هذه فيمن طُلقت قبل الدخول، وقبل المسيس فقط، والآية الثانية: فيمن طُلقت قبل الدخول، ولكن بعد أن يفرض لها فريضة.

"قوله: وَمَتِّعُوهُنَّ أي أحسنوا إليهنّ، وأعطوهنّ شيئًا عند الطلاق، والأمر بالمتعة مندوبٌ عند مالك[10] وواجبٌ عند الشافعي[11]".

متعة المرأة المطلقة قبل المسيس، إن كانت لم يُفرض لها فريضة، فهي واجبة بالإجماع[12] لكن الكلام هنا فيمن فُرِضَ لها فريضة، فهنا يكون لها نصف المهر، فبعض أهل العلم يقولون بأن هذا المهر الذي أخذته، وهو الشطر يُغني عن المتعة، فيحصل لها بذلك من الانتفاع بهذا المهر.

وأما الحالة الأولى: فإن ذلك باعتبار أنها لم تخرج بشيء، لم يسمَّ لها مهرًا، فجاء الشرع بما يكون فيه الجبر لقلبها، وكشرها، فشُرِعَت المتعة، فهنا يقول: "والأمر بالمتعة مندوبٌ عند مالك، وواجبٌ عند الشافعي" وهو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله-[13].

سؤال: أحسن الله إليكم، في قول ابن جرير - رحمه الله - كأنه يريد أن المتعة واجبة للمدخول بها، والمفروض لها؟

الجواب: المتعة واجبة للجميع، غير من سمى الله - تبارك، وتعالى -: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236] هذه في نص الآية، فلا إشكال فيه، لكن الخلاف وقع بين أهل العلم في المرأة التي طُلقت قبل الدخول، وقد سُميَّ لها الصداق، فهل يكفي شطر المهر عن المتعة؟

وكذلك المدخول بها: هل لها متعة، أو لا؟ وسيأتي مزيد إيضاح لهذا، فمثل هذه هل لها متعة، أو لا؟ فبعض أهل العلم يقول: لا متعة لها، وإنما كان لها الصداق، أو شطر الصداق، إن كان قبل المسيس، وبعضهم يقول: لها المتعة، لكن على سبيل الندب، لا الوجوب، وبعضهم يقول: بأن المتعة واجبة لكل مطلقة، كما قال الله : وَلِلْمُطَلَّقَاتِ [البقرة:241] وسيأتي الكلام عند هذا - إن شاء الله؛ لأنه قال: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241] وفي الموضع السابق قال: عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] وسيأتي - إن شاء الله - ما يوضحه.

"قوله: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ [البقرة:236] أي: يمتع كل واحد على قدر ما يجد، والموسع: الغني، والْمُقْتِرِ الضّيق الحال، وقُرِأَ بإسكان دال قدره، وفتحها، وهما بمعنى".

"وهما بمعنى" يعني أن القراءتين بمعنًى واحد: قَدْرُهُ، وقَدَرُهُ، ففي قراءة حمزة، والكسائي، وحفص: بفتح الدال، وعند الباقين بالإسكان[14] قَدْرُهُ، قَدَرُهُ، والمعنى واحد.

"وبالمعروف هنا أي: لا حمل فيه، ولا تكلف على أحد الجانبين".

 

فهذه من المواضع التي أُحيل فيها إلى المعروف، المعاشرة بالمعروف، والنفقة بالمعروف، والمتعة بالمعروف، ونحو ذلك، فهذه الإحالة إلى المعروف غير مقيدة بقدرٍ معين من المال، أو النفقة، أو صفةٍ معينة محددة في المعاشرة؛ لأن ذلك يختلف كما سبق باختلاف الأحوال، والأزمان، والأشخاص، ففي مثل هذه الأمور التي لا تنضبط، وتختلف من وقت إلى وقت، يُحيل الشارع فيها إلى المعروف، وقد مضى الكلام على مثل هذا في الفوائد المنقولة التي جمعها الشيخ: عبد الرحمن بن سعدي في كتابه: "طريق الوصول إلى العلم المأمول في معرفة القواعد، وضوابط الأصول" وذكر هذه القاعدة أيضًا في كتابه: "القواعد الفقهية" وكذلك أيضًا في كتابه: "القواعد الحسان" وذكر أمثلةً لذلك، يمكن أن يُراجع كلامه، لكن هذا حاصله: أن الأمور التي لا تنضبط، وتختلف من وقت إلى آخر بحسب ما ذُكِر يُحال فيها إلى المعروف. 

"قوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ تعلق الشافعي في وجوب المتعة بقوله: حَقًّا وتعلق مالك بالندب في قوله: عَلَى الْمُحْسِنِينَ لأنّ الإحسان تطوّعٌ بما لا يلزم".

"وتعلق مالكٌ في الندب" أو "بالندب" لا إشكال؛ لأن حروف الجر تتناوب، فقوله: عَلَى الْمُحْسِنِينَ لأنّ الإحسان تطوّع بما لا يلزم، ومضى نقل الإجماع فيما يتعلق بالمطلقة قبل الدخول، وقبل تسمية المهر أنه يجب لها المتعة.

لكن قوله - تبارك، وتعالى -: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ تمسك به الشافعي - رحمه الله - على الوجوب، باعتبار أنه قال: حَقًّا والحق: هو الشيء الثابت؛ وذلك يدل على الوجوب، ومالك - رحمه الله - نظر إلى ما بعده، وهو قوله: عَلَى الْمُحْسِنِينَ يعني أن ذلك من باب الإحسان فلا يجب، فهو من الكمالات، فهذا نظر إلى لفظة حَقًّا وذاك نظر إلى لفظة الْمُحْسِنِينَ وسيأتي قول بعض أهل العلم في قوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فإن منهم من قال: هذه تشمل ما سبق، لكنه ذكر هذه الصورة، ونصَّ عليها، وهي إحدى الصور، والأفراد الداخلة تحت العموم في قوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فقالوا: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ هو بإزاء حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فكل ذلك في المطلقات، فلهنَّ المتعة، سواءً كانت من المدخول بهن، أو بغير المدخول بهن، وسواء سمى لها الصداق، أو لم يسمِّ لها الصداق، فلها المتعة، لكنه نصَّ على هذه الحالة قبل الدخول، وقبل تسمية الصداق للحاجة إلى ذلك؛ لأنها تخرج بلا شيء، فنصَّ عليها، يعني أنها آكد.

  1.  انظر: التفسير البسيط (4/279)، ونظم الدرر في تناسب الآيات، والسور (3/353).
  2.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/641).
  3.  المصدر السابق.
  4.  أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق برقم: (5256).
  5.  مراتب الإجماع (ص:70).
  6. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/642).
  7.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/641)، وتفسير ابن أبي حاتم (2/442).
  8.  فتح القدير للشوكاني (1/293).
  9.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/288).
  10.  المدونة (2/239)، وضوء الشموع شرح المجموع (2/459).
  11.  المجموع شرح المهذب (16/390).
  12.  نظم الدرر في تناسب الآيات، والسور (3/353).
  13.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/301).
  14.  السبعة في القراءات (ص:184)، وحجة القراءات (ص:137).

مرات الإستماع: 0

في سياق بيان أحكام الطلاق في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) ذكر الله -تبارك وتعالى- أحكام الطلاق في النساء اللاتي لم يُدخل بهن، إذا سمى لهن مهرًا، أو لم يُسم لهن، فقال الله -تبارك وتعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:236].

لا جناح عليكم أي: لا حرج عليكم ولا إثم معاشر الأزواج إن طلقتم النساء بعد العقد عليهن، وقبل الدخول، وكذلك قبل تحديد المهور، ففي هذه الحال مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ بالجماع، أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً بتقدير الصداق، ففي هذه الحال وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ففي هذه الحال تُعطى المرأة ما يجبر خاطرها، بحسب حال الزوج من عُسر ويُسر، يُعطيها شيئًا من مال، أو متاع، أو عقار، أو غير ذلك بحسب حاله، مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ على الوجه المعروف شرعًا، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فهذه المتعة واجبة؛ ولهذا جعلها من الحق، والحق هو الثابت، فدلّ ذلك -والله تعالى أعلم- على وجوبها على المحسنين إلى المطلقات، والمحسنين أيضًا في عبادتهم، وطاعتهم لله -تبارك وتعالى.

فيُؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: جواز تطليق المرأة قبل الدخول بها، وقبل تسمية الصداق؛ ولما كان هذا الأمر فيه ما فيه من كسر قلبها وخاطرها، وهذه الشريعة جاءت بالكمالات، فمن أجل ألا تذهب المرأة هكذا فيفوتها النكاح، ويفوتها الصداق؛ لأنه لم يُسم لها صداقًا، شرع الله -تبارك وتعالى- لها في هذه الحال ما يُجبر قلبها وكسرها، بإعطائها ما يحصل به إيناسها، والتخفيف من معاناتها؛ وذلك يكون بحسب حال الزوج، فالزوج الغني يكون المُتعة منه غير ما يكون من الفقير؛ ولهذا لم يُقدر الله ذلك بمقدر معين محدد، وإنما أحاله إلى المعروف.

ثم ربط ذلك بقوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ يدلّ على أن ذلك مما ينبغي أن تتوجه إليه النفوس الأبية، وأصحاب المروءات الكاملة، وأصحاب الإحسان، فمن الذي يرضى لنفسه أن يكون دونًا حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فبقدر ما يكون عنده من الإحسان يظهر أثر ذلك لأقرب الناس إليه، ومن أقرب الناس إليه هذه الزوجة التي طلقها قبل الدخول بها، وقبل أن يُسمي لها صداقًا، فهي لا تستحق المهر، ولكن تُعطى ما يعوضها عن المهر، وعن الزوج؛ وذلك أمر يتفاوت الناس فيه، فقد يكون لأصحاب الكمالات والمروءات من العطاء والبذل ما لا يكون لغيرهم، فقد يعطيها دارًا تسكنها، وقد يعطيها مالاً كثيرًا إذا كان غنيًا موسرًا محسنًا، وقد يعطيها شيئًا قليلاً إذا كان الرجل فقيرًا، فإذا كانت الشريعة جاءت بمثل هذا فكيف بمن يظلم المرأة؟! ويكون الفراق على نكد وشِقاق وحسرات، وإرغام للمرأة، وتضييق بشتى الوسائل والسُبُل من أجل أن تدفع له شيئًا حتى يُطلقها؟! فهذا يفعله بعض أصحاب النفوس الضعيفة، فالإنسان -أيها الأحبة- حينما دخل على هؤلاء، وأعطوه ابنتهم، وهي لا تُقدر بثمن كانوا واثقين به، ثم بعد ذلك يُقابلهم بالتنكر والإساءة والأذية، فتبقى هذه البنت ربما في حال من الشقاء والعناء، فهذا لا يليق، والإنسان يدخل مدخل الكِرام، ويخرج مخرج الكِرام، وكما سيأتي في الآية بعدها: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ.

وفي هذه الآية أيضًا: مراعاة الأحوال في الأحكام، فالغني ليس كالفقير، فلكل حالٍ ما يُناسبها، ويصلح لها، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ولهذا لا يصح في ذلك النظر والالتفات إلى الآخرين، فلان أعطى فلانة كذا، فأعطني كذا، ذاك غني، وهذا فقير، أو أن يلتفت الغني إلى ما أعطى الفقير لامرأته التي طلقها قبل الدخول بها، وقبل أن يُسمي لها صداقًا، فيُريد هذا الغني أن يُعطي عطاء ذلك الفقير، فهذا غير صحيح.

وهذه المُتعة التي ذكرها الله  في هذه الآية: تُذهب وحر النفوس، ووحر الصدر، وتسل السخائم من الصدور، ويكون ذلك سببًا لإطفاء العداوات، فإن هذا الطلاق قد يُسبب شيئًا من النفور، ويُذكي العداوة في النفوس، فإذا أعطاها وغمرها بالإحسان، فإن ذلك يُخفف من ذلك الجُرح الذي وقع في نفسها، والذي يُطفأ مثل هذه العداوات، ويُطفأ مثل هذه المُشكلات في كثير من الأحيان هو الإحسان بالمال، وبالقول، وبالفِعال، والإحسان بجميع صوره، وأنواعه، فلا يُقابل الإساءة بالإساءة، وإنما يُقابلها بالإحسان، فذلك الذي يقطع الطريق على الشيطان.

فهذه المرأة التي طُلقت أو لم تُطلق، ربما صدر منها تصرفات، أو ربما هو يُخطأ أو يُقصر، فتكون ردود الأفعال عندها عنيفة، فإذا داوى ذلك بالمال، ونحو ذلك، ربما اندملت الجراح، وذهب ما في النفوس، وهذا يحتاج إليه من كان معددًا في الزوجات، فإنه ينبغي أن يُرخي يده، فإذا أمسك فإن هذه الجروح والآلام التي تقع في النفوس والمنافسات والمُناكفات، وما إلى ذلك نيران تتوقد، وليس ثمة ما يُطفأها؛ ولذلك ينبغي أن يُراعى مثل هذا من أراد أن يتزوج، فلا يكون قابض اليد، وجاف المشاعر أيضًا، وإنما تكون مشاعره فياضة في قول جميل، وأن يتغاضى كثيرًا، ويبذل ويدفع من المال، بحيث يُرمم ما تكسر وتهدم في هذه النفوس.

وأيضًا يُؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الشريعة جاءت بما يدخل تحت طوق المُكلفين، والله لا يُكلفهم عنتًا وعناءً، ولا يُكلفهم ما لا يُطيقون عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ فلا يُطالب الزوج بمُطالبات تخرج عن قدرته وإمكاناته، ثم تركبه الديون، هذا إذا كان في حال الفراق، فكيف إذا كانت المرأة تحت عصمته، ثم بعد ذلك تُطالبه هذه المرأة بمُطالبات في العطاء والبذل والنفقات التي تجعل من هذا الرجل أسيرًا للدائنين، ويبقى في حياته من أولها إلى آخرها وهو يُكابد ويُعاني من هذه الديون، فهذا الكلام لا يصح بحال من الأحوال، وعلى المرأة أن تُراعي هذا الزوج، وتنظر في إمكاناته وقُدراته، وتكون عونًا له على مشاق الحياة وكبدها، ولا أن تُطالبه بمطالب لا يستطيع أن يُحققها، فتنغص عليه عيشه، وتنكد عليه حياته، والله المستعان.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة:237] فهذه هي الحالة الثانية، فإذا طلق المرأة قبل الدخول، ولكنه سمى لها صداقًا، إما أنه دفعه لها، أو أنه سماه، فيقول: أتزوج على خمسين ألف مثلاً، أو نحوه، فهي تستحق هذا المهر لو أنه دخل بها، فإذا طلقها قبل الدخول، فإن كان قد أعطاها، أو لم يُعطها لكنه سمى لها الصداق، فإنها تستحق النصف، كما قال الله : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ يعني: عقد عليها، ولم يُجامع، وقد سمى لها المهر وحدده، فيجب عليه في هذه الحال أن يُعطيها نصف المهر المُتفق عليه، إذا كان قد بذله وأعطاها إياه، فإنها تُرجع له نصف المهر، ويبقى لها نصفه، قال: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ إلا أن يعفون، يعني: هذه المرأة تُسامح هذا الزوج، وتقول: أنا مُتنازلة عن نصف المهر، فذلك إليها؛ لأن المهر في الواقع هو حق لها، وليس لوليها، فهي التي تملكه، ففي هذه الحال يمكن أن تتنازل عن حقها، فيأخذ الرجل في هذه الحال إذا طابت نفسها المهر كاملاً، أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ والأقرب أن المقصود بذلك هو الزوج، فإن عُقدة النكاح بيد الزوج، وإذا عفى بمعنى أنه يُملِّك المرأة المهر كله، ولا يأخذ شطره.

ويقول الله -تبارك وتعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى أي: أن التسامح والتنازل من قِبل أحد الطرفين للآخر أقرب إلى تقوى الله -تبارك وتعالى، فذلك مما يُقربكم إليه، ويكون رفعة في الدرجات، وأعظم أجرًا، ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- الأزواج، فقال: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا تنسوا الفضل والإحسان بينكم؛ وذلك بإعطاء ما ليس بواجب عليكم، والتسامح في الحقوق والتنازل والتغاضي إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فبصره نافذ، لا يخفى عليه شيء، ففي هذا ترغيب لهم بالمعروف، وحث على الفضل، فالله يرى العباد وأعمالهم، وما يصدر عنهم، وسيُجازيهم على ذلك، فإذا قال لهم العظيم الأعظم: بأنه بصير بما يعملون، ومُبصر لهم، فذلك يقوي النفوس على الإحسان والبذل والامتثال والترفع، وما أشبه ذلك.

ويُؤخذ من قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وفي الآية قبلها أيضًا قال: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أن الشارع يُكني عن الأمور التي قد لا يحسُن التصريح بها، فالمسيس المقصود به معلوم، وهو الجماع، فهذا من أدب الشريعة، ولو تُتبع ذلك في كتاب الله، وفي سنة رسوله ﷺ لوجد منه شيء كثير، فيحسُن أن تُستعمل مثل هذه الألفاظ التي يُكنى بها عن الأمور التي قد يُستحيا منها، أو تثقل على الأسماع، وإذا كان هذا في معرض بيان الأحكام الشريعة، وهو مقام بيان، فكيف بحديث الناس في المجالس، وما قد يتجاذبونه، فيذكرون أمورًا يستحي العاقل من ذكرها، فهذا من باب أولى لا يليق، وهكذا في سائر الشؤون ينبغي على العبد أن يتخير أحسن الألفاظ.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى تفاضل الأعمال، فالناس يتفاضلون في أعمالهم، وبناء عليه يتفاضلون في إيمانهم، فإن الإيمان قول وعمل، فهذه الأعمال تكون زيادة في الإيمان.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ الحث على كمال المروءات، وبخاصة بين الزوجين، بأن يكون الإنسان باحثًا عن الأكمل والأفضل في المعاملة والبذل والنفقة، وما إلى ذلك، ولا يكون في حال يُجاري الطرف الآخر في سوء التعامل والخلق، وكما يُقال: يُباريه في الردى، فهذا أمر لا يليق، وإنما يرفع نفسه ويُكرمها بالإحسان إلى هذه المرأة، ولو أساءت.

ففي قوله: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ هذا يمكن أن يكون قاعدة عامة، مع الناس جميعًا، وليس خاص فيما يتصل بالأزواج، وإنما يكون أيضًا بين أفراد الأسرة والقرابات والجيران والأصحاب، وما إلى ذلك، فإذا كانت هناك أيام إحسان وفضائل، وأيام جميلة بين الناس، فلا ينبغي أن تتحول إلى مرارة، وأن تتحول العلاقة إلى نار مُحرقة، وإنما يكون الفضل والإحسان هو العنوان الذي يحكم هذه العلاقات، وإن حصلت إساءة، فهذه النفوس تحتاج إلى مُجاهدات.

وهذه النصوص التي يذكرها الله -تبارك وتعالى- في هذا الموضع، وفي غيره، هي لم تُذكر في حال الالتئام والرضا والمحبة والعلاقة الودية الحميمة، وما أشبه ذلك، وإنما ذُكرت حينما تحتدم النفوس، فهذه هي التربية الحقيقية التي ينبغي أن تظهر آثارها في هذا المقام، لكن الكثيرين في مثل هذه المقامات يقول: هذه ما تستحق، وهذه ما تستاهل، فعلت كذا، وفعلت كذا، مع أن الله قال في شأن أبي بكر مع مسطح، وما وقع فيه من الإفك: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النور:22] إعطاء وعفو وصفح، أما لغة: ما يستحق، وهذه ما تستحق، ونحو ذلك، فلا ينبغي ذلك، فالقضية ليست مقايضة، والمقام ليس مقام عدل، وإنما مقام فضل وتفضل، وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وهذا كما يكون مع الأزواج يكون مع غيرهم، ونفع المؤمن يكون لعامة الناس، والأقربون أولى بالمعروف.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تأكيد النهي بالتعبير بالنسيان، وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ يعني: الإنسان يقع له النسيان من غير إرادة، والقاعدة: أن خطاب الشارع إذا توجه إلى المُكلف في أمر لا يدخل تحت طاقته، فإنه يتوجه إلى سببه، أو إلى أثره، فهنا النسيان يقع للإنسان من غير إرادة، فهنا قال: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ المقصود به أثر هذا النسيان من الإحجام والترك والمنع، ونحو ذلك، فيُعطي ويبذل.

وهنا جاء بمرتبة الإحسان والفضل الذي ينبغي أن يكون عليه أهل الكمالات، ودون ذلك هو العدل، ودون ذلك هو الظلم، بمصادرة الحقوق، والأذية، ونحو ذلك، فينبغي للإنسان أن يبحث عن الأكمل دائمًا.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: أن من حق الزوج الذي له فضل الرجولة، أن يكون هو العافي، يعني: هو أولى من المرأة بذلك، وهو أن يتنازل عن مثل هذا الحق وهو نصف المهر.