الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا ٱهْبِطُوا۟ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [سورة البقرة:36] يصح أن يكون الضمير في قوله: عَنْهَا عائداً إلى الجنة فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم بن بَهْدلَة - وهو ابن أبي النَّجُود - فأزالهما أي: فنحاهما.
ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورَيْن وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادةُ فَأَزَلَّهُمَا أي: من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي: بسببها.
يقول: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا يصح أن يكون الضمير في قوله: عَنْهَا....إلى آخره: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي بمعنى صرفهما عن طاعة الله ، فأوقعهما في الزلة من الزلل، فالزلة تقال على الخطيئة، والذنب، والإساءة، يقال: فلان زلَّ زلة، وهذه زلة، ويقال: لا يستزلنك الشيطان، وما أشبه ذلك، فيكون بمعنى صرفهما عن طاعة الله في أمره: وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [سورة البقرة:35]، فحيث نهاهما فأكلا منها فكان ذلك زلة من آدم ﷺ وحواء، فيكون هذا الأكل، ووسوسة إبليس، أو إغواء إبليس كان سبباً لهذه الزلة التي كانت سبباً لزواله عن الجنة.
إذا قلنا ذلك نكون قد جمعنا بين القراءتين المشار إليهما - قراءة حمزة وقراءة الجمهور - فقراءة الجمهور: فَأَزَلَّهُمَا، وقراءة حمزة: فَأَزَالهُمَا، فيكون بهذا الاعتبار معنى أزالهما من الإزالة كقولك: أزلت هذا.
كيف نجمع بين القراءتين؟:
بعض العلماء يقول: معنى القراءتين واحد، وإذا قلنا بهذا فلا إشكال، ولكن المتبادر أن المعنى مختلف، فأزلهما من الزلة أي الزلل المعروف وهي: الخطيئة، والذنب، والمخالفة، وأزالهما بمعنى نحاهما، وأبعدهما عن النعيم الذي كانا يتمتعان به، فهذا معنى، وذاك معنى آخر، والقاعدة أن القراءتين إن كان لكل واحدة معنى يخصها فإنهما بمنزلة الآيتين، أي كأن عندنا آيتين إحداهما تقول: فأزلهما، والثانية تقول: فأزالهما.
وعلى هذا هل نستطيع أن نجمع بين القراءتين؟
الوجه الذي ذكرته قبل قليل هو طريق للجمع فيمكن أن يقال: أزلهما بمعنى أنه تسبب في إيقاعهما في الزلة التي أدت إلى الإزالة والتنحية عن الجنة، والله تعالى أعلم.
يقول: يصح أن يكون الضمير في قوله: عَنْهَا عائداً إلى الجنة": يعني أزلهما عن الجنة، أي: نحاهما وأخرجهما، وأبعدهما عن الجنة.
يقول: "ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورَيْن وهو الشجرة": إذا قلنا: إنه يعود إلى الشجرة، فيكون معنى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا بسببها أي أبعدهما عن الجنة ونعيمها بسبب الشجرة.
مسألة: كيف يكون معنى "عنها" بسببها؟:
معلوم أن "عن" تأتي بمعنى السببية كما تقول: هذا الجزاء إنما هو عن قولك كذا يعني بسبب قولك كذا، ويكون معنى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي: بسببها.
وعلى أساس ما يسمى تضمين الفعل معنى الفعل تقول: أزلهما نتضمن معنى الفعل أصدر، أي: أصدر الشيطان زلتهما عنها بمعنى أصدر الزلة عن الشجرة أي: من ناحيتها، ومن جهتها، وفعل أصدر يصلح أن يُعدَّى بـ"عن"، فتقول: هذه الوثيقة صادرة عن مكتب كذا يعني من جهة مكتب كذا، وبالتالي يكون معنى أزلهما الشيطان استطاع أن يدخل على آدم وحواء من ناحية الإغراء بأكل هذه الشجرة.
كذلك إن قلنا: الضمير يعود على الجنة يكون أزلهما مضمن معنى أبعد يعني عن الجنة أي: فأبعدهما عن الجنة، حيث إن الفعل أزل مضمن معنى فعل آخر هو أبعد، وأبعد يصح أن يعدى بـ"عن"، فتقول: أبعدته عن المسجد، أبعدته عن منزله وهكذا، وهذا توجيه للتعدية بـ"عن" على القول بتضمين الفعل الذي هو أزل بمعنى فعل آخر.
وخلاصة هذا أنه إذا قلنا: إن الضمير يعود إلى الشجرة فيكون أزلَّ مضمن معنى فعل آخر وهو أصدر، وبالتالي فالمعنى أصدر الشيطان زلة آدم وحواء عن الشجرة، وإذا قلنا: الضمير يعود إلى الجنة، فيكون أزلَّ مضمن معنى أبعد، فالمعنى أبعدهما عن الجنة.
يقول: "فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم بن بَهْدلَة وهو ابن أبي النَّجُود": الصواب أن هذه قراءة حمزة وليست قراءة عاصم، فليتنبه لذلك؛ إذ أن قراءة عاصم موافقة لقراءة الجمهور.
يقول: فأزالهما أي: فنحاهما: يمكن أزالهما هذه أن ترجع إلى قراءة الجمهور من حيث المعنى؛ لأنه يقال: زل عن المكان أي تنحى عنه، فتكون من الزوال، وعلى قراءة الجمهور فَأَزَلَّهُمَا يمكن أيضاً أن تكون من زلل القدم.
وعلى كل حال هذه وجوه في محاولة الجمع بين القراءتين بحيث إعادة القراءتين إلى معنى متحد، ولكن الأقرب أن كل قراءة لها معنى يخصها هنا، وهو ما ذكرت والله تعالى أعلم.
يقول: "قال الحسن وقتادةُ: فَأَزَلَّهُمَا أي: من قبل الزلل: من قِبَل الزلل يعني من ناحية الزلل.
فعلى هذا يكون تقدير الكلام فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي: بسببها": هذا كما قال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [سورة الذاريات:9]، وهذا مثال على تفسير أسلوب قرآني بأسلوب آخر، وإلا فإن قوله: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ليس له علاقة بقوله: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا لكن أحياناً يشكل عليك التركيب، فتنظر إلى تركيب آخر واضح يشبه هذا، فقوله: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ليس فيه إشكال، فيفسر هذا بهذا ليتضح المراد.
فقوله: يُؤْفَكُ عَنْهُ أي: يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [سورة البقرة:36] أي: من اللباس، والمنزل الرحب، والراحة، والرزق الهنيء المريح الواسع الذي لا كلفة فيه، ولا تعب، ولا معاناة وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36].
قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [سورة البقرة:36] يصح أن يكون الضمير في قوله: عَنْهَا عائداً إلى الجنة، فيكون معنى الكلام كما قرأ حمزة: فأزالهما، أي: فنجَّاهما، ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورين وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادةُ: فَأَزَلَّهُمَا أي: من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي: بسببها، كما قال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [سورة الذاريات:9] أي: يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال تعالى: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [سورة البقرة:36] أي: من اللباس، والمنزل الرحب، والرزق الهنيء، والراحة.
وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] أي: قرار، وأرزاق، وآجال.
إِلَى حِينٍ أي: إلى وقت ومقدار معين ثم تقوم القيامة.
فقوله - تبارك وتعالى -: وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ هذا الخطاب جاء بصيغة الجمع وَقُلْنَا اهْبِطُواْ، وجاء أيضاً بصيغة التثنية في قوله تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا [سورة طه:123]، وجاء أيضاً بصيغة الإفراد مخاطباً به إبليس، فيحمل ما جاء بصيغة الجمع كما هنا وَقُلْنَا اهْبِطُواْ على أن المخاطب بذلك الثلاثة: آدم، وحواء، وإبليس.
وقوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي أن الآدميين يمثلهم أبواهم آدم وحواء أعداء لإبليس، وإبليس عدو لهم.
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ: هذا عدو لهذا، وهذا عدو لهذا، فهي عداوة من الطرفين مشتركة، وليست من طرف واحد، ليس إبليس هو الذي يعادي الآدميين فقط؛ بل نحن نعاديه، فهو أشد الأعداء لنا، وإنما نعادي غيره؛ لأنهم يتفرعون منه، وينضوون تحت لوائه بين مقل ومكثر.
وما جاء بصيغة التثنية اهْبِطَا مِنْهَا فبعض أهل العلم يقولون: المراد به آدم وحواء.
وقوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني أنكما أعداء لإبليس، فالهبوط يكون لآدم وحواء، والعداوة مع إبليس.
وبعض أهل العلم يقولون: قوله: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة طه:123] المراد بذلك هو: آدم وإبليس، فإن قيل: وأين حواء؟ يقال: هي تبع لآدم، ولذلك نجد أن الله يخاطب آدم ﷺ فيقول: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [سورة الأعراف:19] فجعلها تبعاً له.
وكذلك حينما عاتبه على الأكل من الشجرة خاطبه هو، وقال أيضاً في توبته: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:37]، مع أن الله تاب على آدم، وحواء؛ فهي تبع له.
وعلى كل حال فالمعنى الآخر في قوله: اهْبِطَا مِنْهَا أي آدم، وإبليس، وحواء تبع لآدم، وبالنسبة للعداوة فهي بين الآدميين وبين إبليس وحزبه.
قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36]: المراد بقوله: إِلَى حِينٍ إما أن يكون إلى الموت، أي: لهم في الأرض مستقر ومتاع إلى أن يموتوا، أو إلى قيام الساعة.
وعلى كل حال إذا نُظِرَ إلى الأفراد كآدم بشخصه فإن ذلك المتاع ينقضي بالموت، وإذا نُظِرَ إلى جنس الآدميين فإن ذلك يكون إلى قيام الساعة، فالأرض مستقر لهم، وفيها يتمتعون.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله خلق آدم رجلاً طُوَالاً، كثير شعر الرأس، كأنه نخلة سَحُوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يَشْتَد في الجنة، فأخذت شَعْرَه شجرةٌ، فنازعها، فناداه الرحمن: يا آدم، مني تَفِرُّ! فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا، ولكن استحياء[1].هذا الحديث لا يخلو من ضعف حتى إن الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في الأصل أشار إلى ضعفه، والذين اختصروا الكتاب كأنهم حسنوا الحديث باعتبار أن له شاهداً آخر ينجبر به هذا الضعف.
وعلى كل حال فمسألة التصحيح والتضعيف مسألة اجتهادية، فهذا يصحح حديثاً وهذا يضعفه، فهم أدخلوه في هذا الكتاب بناء على أنه يتقوى بذلك الشاهد، ويكون من قبيل الحسن، والله تعالى أعلم.
وروى الحاكم عن ابن عباس - ا - قال: "ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس" ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.هذا الأثر يفيد أن آدم - عليه الصلاة والسلام - ما أسكن الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وجاء في بعض الآثار الأخرى وهي آثار ترجع في أصلها إلى الإسرائيليات، وهذا الوقت الذي مكثه آدم في الجنة ما بين العصر إلى غروب الشمس يقدرونه بمدد طويلة باعتبار أن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون، فيقدرون المدة لآدم في الجنة بمائة وثلاثين سنة، وهذا على قول الحسن، وبعضهم قال أكثر من هذا، ولكن هذا كله لا يثبت به شيء، والإسرائيليات وما له حكم الإسرائيليات في هذا كثيرة جداً؛ فلا يعتد بها، فالله تعالى هو أعلم كم بقي آدم في الجنة، ونحن إنما علمنا من الله تعالى خلق آدم في يوم الجمعة، وأن الله أخرجه من الجنة في يوم الجمعة أيضاً، فهل كان ذلك في نفس اليوم الذي خلقه فيه أدخله فيه الجنة، ثم أخرجه منها، أو كان ذلك في جمعة أخرى؟ الله تعالى أعلم.
والاشتغال في مثل هذا لا يعنينا شيئاً، ولا يترتب عليه لا علم، ولا عمل، فهذا من فضول العلم الذي لا يمكن الوصول إليه؛ لأنه ليس هناك طريق يصح ويوثق به عن رسول الله ﷺ، ولا تترتب على العلم به فائدة.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - قال: أُهبِط آدم إلى أرض يقال لها: دَحْنا بين مكة والطائف.
وعن الحسن البصري قال: "أُهبِط آدم بالهند، وحواء بجُدَّة، وإبليس بدَسْتُمِيسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان" [رواه ابن أبي حاتم].
هذا كله يرجع إلى الإسرائيليات، ومما يدلك على أن هذا الكلام لا يوثق به هذا التناقض الموجود بحيث أنه لا يمكن أن يصح الجمع بين هذه الأقوال، فقول: إنه اهبط في الهند، وآخر: إنه أهبط في جُدَّة، فأين الهند من جُدَّة؟
وأما هذه الحية التي يشيرون إليها فيزعمون أن إبليس توصل إلى آدم في الجنة عن طريق الحية، ويصفون هذه الحية بأنها مخلوق عظيم، له أرجل طويلة كالجمل، وأن إبليس دخل في الحية من أجل أن يدخل الجنة، وأن ذلك خفي على الملائكة الذين هم خزان الجنة؛ لأنه تخفى في وسط الحية، فدخل فوسوس إلى آدم من الحية.
ويفترضون في هذا قضايا منها كيف استطاع الوصول إلى آدم، فبعضهم يقول عن طريق الوسوسة التي تقع في النفس، مع أن ظاهر القرآن يرد على هذا حيث جاء التصريح بالوسوسة أنها من الشيطان حيث قال: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى [سورة طه:120]، وكذلك في قوله: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [سورة الأعراف:21] فهل هذا يكون هذا الحلف من الوسوسة التي في النفس؟ لا يمكن أن يكون هذا من الوسوسة التي في النفس، وإنما يدل ذلك على أنه خطاب صريح، وأما كيف توصل فهذا لا يعنينا، وهذا من الفضول، والاشتغال بما لم نكلف به، وإنما المهم هو أنه خطابهما بهذا، فقد يكون وهو خارج الجنة - كما يقول بعض أهل العلم -، وقد يكون دخل الجنة من أجل هذا الابتلاء والامتحان لآدم ﷺ، أو غير ذلك، فهذا كله مما لم نكلف علمه، فلا ينبغي للإنسان أن يتشاغل بمثل هذه الأمور، ويضيع الوقت من غير طائل، خاصة وأنه لا يستطيع أن يخرج معها بنتيجة حاسمة.
وروى مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها[2]، فإن قيل: فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء - كما يقوله الجمهور من العلماء - فكيف تمكَّن إبليس من دخول الجنة وقد طرد من هنالك طردًا قدريًّا، والقدري لا يُخَالف، ولا يُمَانع؟!العلماء يتكلمون عن هذه الجنة هل هي في الأرض، أو الجنة المعروفة في السماء؟
وظاهره أنها الجنة التي فيه السماء؛ إذ الأصل أن الجنة إذا أطلقت ليس ثمة إلا الجنة المعروفة.
ويدل على ذلك قوله - تبارك وتعالى -: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا [سورة طه:123]، وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36]، فالهبوط يدل على أن ذلك نزول في الأصل من أعلى إلى أسفل.
والذين يخالفون في هذا يقولون: إن الجنة كانت في الأرض، وليس عندهم دليل أبداً، ويفسرون الهبوط الوارد في الآيات بأنه بمعنى الانتقال من بلد إلى بلد كما قال الله لبني إسرائيل لما أرادوا الأكل مما تخرج الأرض من بقلها، وقثائها: اهْبِطُواْ مِصْراً [سورة البقرة:61] أي بلداً أو قرية من القرى، أي: مصراً من الأمصار تجدون فيه بغيتكم، وليس المقصود بمصر البلد المعروفة اليوم.
فالأصل حمل القرآن على ظاهره المتبادر إلا لدليل يجب الرجوع إليه، وظاهره المتبادر إنما هي الجنة المعروفة، وهؤلاء الذين قالوا غير ذلك يشوش عليهم، ويلجؤهم إلى القول بغيره بعض الأمور مثل هذا التساؤل: كيف يدخل إبليس هذه الجنة - إذا كانت الجنة التي في السماء - وهو طريد لعين؟ وهذا يمكن أن يجاب عنه بمثل ما ذكرت آنفاً. فالجواب: أن هذا بعينه استدل به من يقول: إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء، كما قد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية.
وأجاب الجمهور بأجوبة:
أحدها: أنه منع من دخول الجنة مكرماً، فأما على وجه السرقة والإهانة فلا يمتنع؛ ولهذا قال بعضهم: كما جاء في التوراة: إنه دخل في فم الحية إلى الجنة، وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة، وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض، وهما في السماء؛ ذكرها الزمخشري وغيره.
من أراد أن يعرف منهج الحافظ ابن كثير في التفسير يدون هذه الأشياء مثل نقل بعض الإسرائيليات، النقل عن الزمخشري، النقل عن الرازي، التصريح مثلاً بنقل ترجيحات الرازي، ذكر الخلاف في المسألة، والأقوال فيها، والترجيح بعد ذلك، ومناقشة الأقوال، فالقراءة تختلف اختلافاً كبيراً كما بين السماء والأرض، فقراءة تختلف عن قراءة، لكن هذا ينفع الإنسان كثيراً في المستقبل.
  1. أخرجه الحاكم (3038) (ج 2 / ص 288) وابن أبي شيبة (31807) (ج 6 / ص 328) وصححه الذهبي في التلخيص.
  2. أخرجه مسلم في كتاب: الجمعة - باب: فضل يوم الجمعة (854) (ج 2 / ص 585).

مرات الإستماع: 0

"فَأَزَلَّهُمَا متعدّ من أزل القدم، وأزالهما بالألف من الزوال."

 

فأزلهما متعد من زلل القدم يعني إن الهمزة للتعدية أزلهما، زل، وأزل، زل هو، زلت قدمه، أزله عن الحق، والصواب، فهذه للتعدية، يعني: أزل غيره، أزله فزله، فهذا معنى متعد من زلل القدم، وأزالهما بالألف من الزوال، (فأزالهما) هذه قراءة حمزة[1] وقراءة الجمهور فَأَزَلَّهُمَا هكذا مشددة، أزلهما يمكن أن يقال بمعنى صرفهما عن طاعة الله، فأوقعهما في الزلة، قاعدة: أن القراءتين بمنزلة الآيتين، يعني إذا كان لكل قراءة معنى، فكل قراءة بمنزلة آية، فهنا فَأَزَلَّهُمَا بالتعدية صرفهما عن طاعة الله فأوقعهما في الزلة فكان ذلك سببًا للزوال، (فأزالهما) هذه دلت على معنى، وهذه دلت على معنى، ونكون بهذا قد جمعنا بين القراءتين بهذا التفسير، وجوّز الحافظ ابن كثير عود الضمير هنا عَنْهَا إلى الجنة، فعلى قراءة حمزة (فأزالهما) يعني فنحاهما يعني أزالهما عن الجنة، نحاهما عن الجنة، ويمكن أن تحمل أيضًا على قراءة الجمهور من زل عن المكان إذا تنحى عنه فَأَزَلَّهُمَا ... عَنْهَا فتكون من الزوال أيضًا، كما جوّز ابن كثير أن يعود الضمير إلى أقرب المذكورين، وهو الشجرة فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا يعني عن الشجرة، فتكون عن بمعنى الباء يعني بسببها، يعني بسبب الشجرة، لكن المتبادر أن ذلك يرجع إلى الجنة، لاحظ: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ۝ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا بناء على أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فأقرب مذكور هو الشجرة فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي: عن الشجرة، فتكون عن بمعنى الباء، وحروف الجر تتناوب، بسبب الشجرة، ولكن المتبادر أن ذلك يرجع إلى الجنة بما يفهم من السياق - والله أعلم -.

"عَنْها الضمير عائد على الجنة، أو على الشجرة فتكون عن سببية على هذا."

يعني: عن بمعنى الباء، هذا كونها سببية.

"فائدة: اختلفوا في أكل آدم من الشجرة، فالأظهر أنه كان على وجه النسيان؛ لقوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه: 115]."

يعني: هنا القول بأن ذلك وقع على سبيل النسيان أخذًا من قول: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه: 115] النسيان يأتي بمعنى الترك، فترك طاعة الله يقال له نسيان، والله يقول: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر: 19] فهنا بمعنى الترك، ويأتي النسيان بمعنى الذهول عن المعلوم، كما قال صاحب المراقي:

ذهاب ما عُلم قل نسيان والعلم في السهو له اكتنان

والفرق بين النسيان، والسهو: أن النسيان الذهول عن المعلوم، ذهاب المعلوم، يعني علمت مسألة، حفظت مسألة، نسيتها، حفظت آية نسيتها، والسهو يكون العلم موجودًا، ولكن يسهو الإنسان عن الشيء، هذا الفرق بين السهو، والنسيان.

فالقول هنا بأن آدم ع فعل ذلك نسيانًا بمعنى الذهول عن المعلوم، وذهابه من الذهن هذا بعيد، وكأن هؤلاء الذي حملهم على هذا هو أنهم ربما يميلون إلى القول بأن الأنبياء لا تقع منهم المعصية أصلًا، وآدم - عليه الصلاة، والسلام - نبي، فقالوا هنا بمعنى النسيان، لكن لو كان بمعنى الذهول عن المعلوم فنسي، فإن الإنسان لا يؤاخذ بالنسيان رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] قال الله: (قد فعلت)[2].

لكن هؤلاء قد يقولون: إن هذا رُفع عن هذه الأمة فقط. يعني النسيان، وعلى كل حال الله يقول: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه: 121]، وهذا واضح، ونص صريح بأن ذلك من قبيل المعصية، وآدم ﷺ قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا [الأعراف: 23] فعبر عن هذا الفعل بأنه ظلم للنفس، وظلم النفس يكون بالمعصية، أما القول بأنه سَكِر فهذا غير صحيح؛ لأن خمر الجنة لا يُسكر.

"وقيل: سكر من خمر الجنة فحينئذ أكل منها، وهذا باطل؛ لأن خمر الجنة لا تسكر."

ولا حاجة لذكر هذا في التفسير أصلًا، إذا كان من الأقوال الباطلة لا حاجة لإيراده.

وقيل: أكل عمدًا، وهي معصية صغرى، وهذا عند من أجاز على الأنبياء الصغائر، وقيل: تأوّل آدم أن النهي: كان عن شجرة معينة فأكل من غيرها من جنسها، وقيل: لما حلف له إبليس صدقه؛ لأنه ظن أنه لا يحلف أحد بالله كاذبًا.

قوله: وقيل: أكل عمدًا، وهي معصية صغرى، وهذا عند من أجاز على الأنبياء الصغائر.

على كل حال الأنبياء تقع منهم الصغائر، ولكنهم لا يصرون عليها من جهة، ومن جهة أخرى لا تقع منهم ما يسمى بصغائر الخسة، يقولون: الصغائر التي تُسقط المروءة. كتطفيف حبات في كيل، ونحو ذلك، هذه من الصغائر لكنها تدل على قلة المروءة، وذهاب المروءة، ونحو هذا، فمثل هذا لا يقع من الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -؛ لأنهم أكمل الناس مروءة، فيتوبون، ولهذا قال الله : فَتَابَ عَلَيْهِ فهذه التوبة تكون من المعصية غالبًا، المعتزلة الذين يقولون: إن الأنبياء لا تقع منهم المعصية.

يفسرون قوله، بل يحرفون قوله: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه: 121] جعلوا ذلك مفسرًا بغير مادة الفعل، قالوا: من غوى الفصيل غوي إذا بشم. يعني أنه رضع، وأكثر حتى انتفخ بطنه، قالوا: فآدم غوى بمعنى أنه أكثر من الأكل من الشجرة.

وفرق بين غوى يغوى غواية، وبين غوي، فرق بين أصل المادة في الفعلين، فهؤلاء يريدون أن يحرفوا هذه بحيث أنهم يقولون: إن الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - لا تقع منهم المعصية فقالوا هو من غوي الفصيل. رضع حتى انتفخ بطنه، فآدم أكل من الشجرة حتى أكثر منها. فهذا بعيد، وتحريف للكلم عن مواضعه.

"اهْبِطُوا خطاب لآدم، وزوجه، وإبليس بدليل: بعضكم لبعض عدوّ."

يعني آدم مع زوجه من جهة، وإبليس من جهة أخرى، فالعداوة بين آدم، وإبليس، وحواء تبع لآدم  فالاهباط اهْبِطُوا تارة يُذكر بلفظ الجمع كما هنا فيكون آدم، وحواء، وإبليس، وتارة يُذكر بالإفراد: فَاهْبِطْ مِنْهَا [الأعراف: 13] فيكون المراد إبليس، وتارة يُذكر بالتثنية: اهْبِطَا مِنْهَا بعضهم يقول: المراد آدم، وحواء، والعداوة مع إبليس، أو اهْبِطَا مِنْهَا [طه: 123] يعني: آدم، وإبليس، وحواء تبع لآدم، قوله تعالى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وقال الحافظ ابن القيم: أي بين آدم، وإبليس، وذريتهما، فالعداوة قائمة بين آدم، وإبليس، وكذلك هو عدو للذرية[3].

"مُسْتَقَرٌّ موضع استقرار، وهو في مدّة الحياة، وقيل في بطن الأرض بعد الموت. "

وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ يعني: من يقول بأن المستقر هو بطن الأرض بعد الموت يكون المتاع على ظهرها، لكن الذي يظهر - والله أعلم - مستقر لكم تستقرون فيها، تقوم مصالحكم، ومعايشكم، ويحصل لكم فيها المتاع إلى حين، هذه الآية: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ يأخذ منها أهل العلم أن بني آدم لا يمكن أن يعيشوا على كوكب آخر غير الأرض، هكذا قضى الله - تبارك، وتعالى -.

"وَمَتاعٌ ما يتمتع به. إِلى حِينٍ إلى الموت."

قوله: إِلى حِينٍ إلى الموت.

إي: إلى انقضاء الآجال، أو إلى قيام الساعة كما يقول ابن كثير - رحمه الله -[4] فهذا يحتمل وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ إذا نظرت إلى الأفراد فهم يتمتعون إلى انقضاء آجالهم، وإذا نظرت إلى العموم فهذا يكون إلى قيام الساعة، وعلى كل حال يمكن أن يقال: بأنهم يستقرون على ظهرها أحياء متمتعين بما فيها إلى انقضاء آجالهم، ويستقرون أيضًا في بطنها مقبورين إلى قيام الساعة.

"فَتَلَقَّى أي أخذ، وقبل على قراءة الجماعة، وقرأ ابن كثير بنصب آدم، ورفع الكلمات[5] فتلقى على هذا من اللقاء."

فتلقى، أي: أخذ، وقَبِل يعني: عَمِل بما فيها، وبعضهم يقول: المقصود بـ تلقى يعني فهمه لها هو التلقي فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فيكون آدم هو الفاعل، تلقى الكلمات، وعلى قراءة ابن كثير (فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ) فتكون الكلمات فاعل، والمتلقي هو آدم - عليه الصلاة، والسلام - هو المفعول به، وهذا مثال على ما ذكرته في مناسبة سابقة في مسألة الجمع بين القراءات، قلنا: إن ذلك لا إشكال فيه بثلاثة شروط: آكد هذه الشروط ألا تكون إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى في المعنى، أو الإعراب.

ولو قلنا: يصح الخلط بين القراءات، والجمع بين القراءات، فتقرأ هذا الموضع بقراءة، والموضع الذي بعده بقراءة أخرى لا إشكال في هذا بشروط: منها ألا تكون إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى في المعنى، أو الإعراب مثل هذا الموضع، الآن لو قرأت الموضع الأول (فتلقى آدمَ) على قراءة ابن كثير، مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ على قراءة الجمهور لم يوجد فاعل، صار في كل موضع النصب فلا فاعل فأفسد المعنى، كذلك لو أنه قرأ في الموضع الأول فَتَلَقَّى آدَمُ على قراءة الجمهور بالرفع فهو فاعل، (من ربه كلماتٌ) على قراءة ابن كثير فيكون هنا لا يوجد مفعول به، فهذا يُفسد المعنى، فهذا لا يجوز قطعًا فَتَلَقَّى أي أخذ، وقبل.

"كَلِماتٍ هي قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ بدليل، ورودها في [الأعراف: 23]، وقيل غير ذلك."

هذه هي الكلمات، وأحسن ما يفسر به القرآن؟ القرآن، ما هذه الكلمات؟ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف: 23].

"اهْبِطُوا كرر ليناط به ما بعده، ويحتمل أن يكون أحد الهبوطين من السماء إلى الأرض، والآخر من الجنة، وأن يكون هذا الثاني لذرية آدم؛ لقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ والأول أظهر لتناوله لآدم، وزوجه، وإبليس."

اهْبِطُوا بالجمع يعني آدم، وحواء، وإبليس، وهذا الذي اختاره ابن جرير[6] والحافظ ابن القيم - رحمهما الله - قال: كرر ليناط به ما بعده قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى يقول: ويحتمل أن يكون أحد الهبوطين من السماء إلى الأرض، والآخر من الجنة. ابن القيم - رحمه الله - يقول: الاهباط الأول من الجنة، والثاني من السماء[7].

وابن جزي لم يحدد أحد الهبوطين، وابن القيم يقول: الأول من الجنة، والثاني من السماء، الأول: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ هذا من الجنة.

والثاني: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فيكون هذا من السماء إلى الأرض، يعني لا تكرار، وعلى المعنى الأول الذي ذكره ابن جزي قال: كُرر ليناط به ما بعده.

يعني: في كل موضع، فهنا يقول في الموضع الأول: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ العداوة، والاستقرار في الأرض، والتمتع فيها إلى حين، الموضع الثاني: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ كُرر ليناط به ما بعده، يعني ليُذكر الكلام الذي بعده في كل موضع، والأصل عدم التكرار، والتأسيس مقدم على التوكيد، فعلى قول ابن القيم، - رحمه الله - والاحتمال الذي ذكره ابن جزي: أن الاهباط الأول غير الثاني، مع إن ظاهر الآيات - والله أعلم - أنه من الجنة اهْبِطَا مِنْهَا [طه: 123]، وليس للسماء ذكر، لاحظ الموضع الثاني ليس في السياق ما يدل على السماء - والله أعلم -.

وفي نسخة خطية: وأن يكون هذا الثاني لذرية آدم لقوله:  فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ والأول لآدم، وزوجه، وإبليس.

"وروي أن آدم نزل بسرنديب من أرض الهند، ونزلت حواء بجُدة، وإبليس بالأبُلة." 

سرنديب موضع معروف من أرض الهند مما يلي الصين، ونزلت حواء بجدة، وإبليس بالأَبُلة، الأَبُلة قريبة من البصرة، قديمة أقدم من البصرة بطبيعة الحال؛ لأن البصرة، والكوفة كانت في زمن عمر  لكن هذا الكلام لا دليل عليه، وهو مأخوذ من الإسرائيليات، ولا حاجة لإيراده، وذكره في التفسير، وعلى كل حال تحديد هذه الأماكن، وأين نزل آدم، وأين نزلت حواء، وإبليس لا يترتب عليه فائدة أصلًا، ولو قرأتم في كتب البلدان، قرأتم عن سرنديب هذه تجدون من الأساطير، والخرافات، ويذكرون موضع قدم آدم، وأن أحد القدمين كانت على جبل، وأنها لازلت الآثار فيه، والقدم الأخرى في البحر، وأكاذيب كثيرة، وينسجون إلى هذه الناحية، وهذا الجبل أساطير، وأشياء لا صحة لها.

"فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ إن شرطية، وما زائدة للتأكيد، والهدى هنا: يراد به كتاب الله، ورسالاته، وفي نسخة خطية كُتب الله، ورسالاته"

على كل حال كتاب الله هذا مفرد مضاف يفيد العموم، لكن الثانية أوضح في بعض النسخ كُتب الله، ورسالاته، وفي نسخه: ورسالته، وهذه أيضًا رسالته يمكن أن تكون بمعنى أيضًا العموم.

"فَمَنْ تَبِعَ شرط، وهو جواب الشرط الأول، وقيل: (فلا خوف) جواب الشرطين."

فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى هذا الشرط الأول، الشرط الثاني: فَمَنْ تَبِعَ شرط، وهو جواب الشرط الأول، وقيل: فَلَا خَوْفٌ جواب الشرطين فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.

  1.  تفسير ابن كثير (1/236).
  2.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه [البقرة: 284]، رقم: (126).
  3.  مفتاح دار السعادة، ومنشور، ولاية العلم، والإرادة (1/16)
  4. تفسير ابن كثير (1/236).
  5.  تفسير القرطبي (1/326).
  6.  تفسير الطبري (1/535).
  7. مفتاح دار السعادة، ومنشور، ولاية العلم، والإرادة (1/ 15)

مرات الإستماع: 0

قال الله -تبارك وتعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين [سورة البقرة:36] فأزلهما وأوقعهما الشيطان في الخطيئة بالأكل من الشجرة التي نهى الله -تبارك وتعالى- آدم وحواء عن الأكل منها، فتسبَّب ذلك في إخراجهما من الجنة، ومُفارقة ذلك النعيم، الذي لا يُقادر قدره.

فالله -تبارك وتعالى- قال لهم: اهبطوا من هذه الجنة إلى الأرض بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36] يعني: يُعادي بعضكم بعضًا، فقد كتب الله -تبارك وتعالى- هذه العداوة بين آدم وبنيه مع إبليس، ومن أهل العلم من يقول: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36] يكون ذلك في الآدميين، ولكن القول الأول هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [سورة البقرة:36] موضع استقرار وإقامة وانتفاع بما فيها وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] إلى وقت انقضاء آجالكم، وإلى وقت انقضاء هذه الحياة الدنيا.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [سورة البقرة:36] فهذا يُؤخذ منه الحذر من كيد الشيطان وتزيينه وتسويله ووسوسته، وما يُملي به من الباطل والمُنكر، فالشيطان يغر الإنسان ويُغريه، كما غر أباه، ووسوس له ولزوجه وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [سورة الأعراف:21] فإذا كان هذا فعله بالأبوين، فما ظنكم بالذُرية؟! فكيف يُصدقه من عقل ذلك عن الله -تبارك وتعالى- وعرف هذا القصص الذي قصه الله علينا؛ لنتعظ ونعتبر بما وقع لأبينا، فلا نقع في طاعة الشيطان، ولا نسلك مسالكه.

ثم أيضًا في هذه الآية إضافة الفعل إلى المُتسبب فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ [سورة البقرة:36] فهذا هو الشيطان فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [سورة البقرة:36] ولم يقل: من الجنة، وإنما قال: مِمَّا كَانَا فِيهِ [سورة البقرة:36] فجاء بهذا الإبهام؛ وذلك في هذا الموضع يدل على التعظيم والتفخيم لهذه الجنة، التي أخرجهما الشيطان منها، فهذه الخسارة، لا يمكن أن تُقدر بثمن، لا يمكن أن يُستعاض عنها بشيء، خسارة لا يمكن أن نعرف مداها، وتأملوا: ما تتابع عبر التاريخ، ومنذ آدم إلى أن تقوم الساعة: من الشقاء والعناء في هذه الحياة بجميع أنواعه، والمعاناة والكبد، حيث يخرج الإنسان باكيًا إلى الدنيا، ويخرج منها مبكيًا عليه، ويُعاني فيما بين ذلك ألوان المُعاناة في طلب الرزق، والمعاش، ويُعاني ويُكابد في طلب مصالحه وحاجاته ولذاته، وما يدفع به عن نفسه من الأذى والضرر والمخاوف بأنواعها.

وتصوروا أيضًا ما وقع في هذا المدى الطويل من المعاصي والتزيين، وما وقع فيه من المصائب في الدين والدنيا: في الأبدان، والنفوس، والأرواح، والأموال، وفي كل شيء، فكل هذا من جُملة هذه الخسائر غير المُتناهية، فالناس حينما يقع لهم شيء من الضرر في تعطل مصالح، أو ربما يُحاصر بلد، أو نحو ذلك لمدة أيام، أو أسابيع، يُخرجون أرقامًا فلكية - كما يُقال - في الخسائر، ويحسبون هذه الخسائر بطُرق معروفة: كم تعطل من العاملين، وكم تعطل من الإنتاج، وكم ساعات العمل التي فاتت... إلى آخره، فيُخرجون هذه الأرقام، وليس ذلك بأموال أنفقوها، أو أموال خرجت من أيديهم بالضرورة، لكن هكذا تُحسب الخسائر، فتصور كم من الخسائر في فوات اللذات في الجنة؟ وما يحصل من المصاعب والمُتاعب في تحصيل اللذات في الدنيا؟ وما وجد فيها من المُقاساة والمعاناة بأنواعها من الآلام والهموم والمُشكلات والأمراض والعِلل والأوصاب، إضافة إلى ما يحتاج إليه الناس من أنواع المُجاهدات للزوم طاعة الله وترك معصيته. 

ولذلك كم صار من نصيب النار، ومن أتباع الشيطان من هؤلاء من ذرية آدم فلا شك أن هؤلاء صاروا من جُملة صيوده وفرائسه وأوليائه وحزبه الذين يصيرون معه في النار، فأكثر الناس على هذا، والنبي ﷺ أخبرنا أن الله يقول: يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين [1]يعني: في النار، فتصور هؤلاء الذين قد اجتالتهم الشياطين، وضمهم الشيطان إليه، واستحوذ عليهم، وصاروا معه إلى الجحيم، فهذه كلها أيضًا من الخسائر، فحينما يضل فئام من الناس، فهذه لا شك أنها أعظم خسارة؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة الزمر:15] فهذه أعظم خسارة، وهي أن يخسر الإنسان الإيمان، وما يعقب ذلك من رضا الله -تبارك وتعالى- ودخول الجنة، فيُحرم من هذا، ويصير إلى النار.

ثم تأمّل قوله -تبارك وتعالى: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36] الهبوط يكون من أعلى إلى أسفل، وهذا يُؤخذ منه أن الجنة في الأعلى، فوق، ويدل على ذلك أدلة غير هذا، كما هو معلوم، كقوله -تبارك وتعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [سورة الذاريات:22] فهذه الآية صريحة في الدلالة على هذا المعنى.

وكذلك تأمَّل قوله -تبارك وتعالى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36] يقول شيخ الإسلام - رحمه الله: "فكل عداوة كانت في ذريتهما وبلاء ومكروه، وتكون إلى يوم القيامة" يعني: ما سيكون في المستقبل "وفي النار يوم القيامة، يحصل العداوة بين الأتباع والمتبوعين، وما إلى ذلك، سببها الذنوب، ومعصية الرب -تبارك وتعالى"[2] فهذه العداوة التي فُرضت بين آدم وإبليس، وآدم مع ذريته وإبليس، فهذه سببها ما هو؟ المعصية، حينما أغواهما بها إبليس.

وكذلك أيضًا يُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] أن هذه الدار ليست محل بقاء، ولا إقامة مُستمرة، وإنما هو متاع إلى حين، والمتاع هو الشيء الذي يعرض مما يحصل به التنعم وقتًا يسيرًا مُحددًا، ثم بعد ذلك يتلاشى ويزول، ولو نظرت إلى جميع ما في الدنيا من اللذات والمُتع لرأيتها على هذا المهيع، فكل شيء من هذه اللذات في هذا الحُطام فإنه يزول، ولو نظرت إلى أعظم اللذات عند العرب: وهي: الطعام، والشراب، والنكاح، فهذه الثلاث لو نظرت فيها لرأيت فيها أعظم عبرة على سرعة انقضاء لذات الدنيا، وهذا أمر مُشاهد لا يخفى.

فالطعام والشراب إنما يلتذ بهما الإنسان حينما يكون ذلك في موضع الذوق في فمه، وفي وقت المضغ، وقبل ذلك لا يلتذ، وبعده حينما يهبط الطعام فإنه لا يلتذ، ولو سألنا أنفسنا عن ما طعمناه في هذا اليوم، فإننا لا نجد لذته، دعك مما كان بالأمس، وقبل الأمس، والسنة الماضية، وما قبلها، وهكذا تتلاشى اللذات، كم من مرة تناولنا المُتع، وكم من مرة ذهبنا وأكلنا أطايب الطعام هنا وهناك، وكم من مرة أقمنا المُناسبات والاحتفالات، وما إلى ذلك، ووضعنا فيها صنوف اللذات من المطعوم الآن، فكل ذلك تلاشى، ولم يبق إلا ما حُفظ في بعض الصور، ولو نظرت إلى هذه الصور، وما بقي من الحقائق بعدها، تجد أن ذلك جميعًا كأنه أحلام، وهكذا الحياة الدنيا.

وهكذا لذة النِكاح، وما إلى ذلك من اللذات، وحينما يسكن الإنسان الدور الجميلة، والقصور الفارهة، وما إلى ذلك، إنما يلتذ بها لحظة السُكنى، وفي وقت السُكنى، وفي وقت قصير، ثم بعد ذلك يعتادها، فيذهب في عينه رونقها وبهاؤها وجمالها، ثم بعد ذلك لا يُحرك ما يُشاهده فيها وما يُعافسه شعرة في جسده، ولكن من ينظر من بعيد يظن أن هذا يدخل في لذة، ويخرج من لذة، والواقع أنه تبلد الحِس نحوها، فصار يطلب غيرها، ويتطلع إلى غيرها، وبعد سنين تتحول هذه الدار إلى دار قديمة، تقادم العهد عليها، فهو يريد التحول منها إلى غيرها، ولكن لم تكن كذلك في أول الأمر، وهكذا الحياة الدنيا.

ويعجب الإنسان حينما يرى من يُشيد القصور الكِبار الواسعة، فهل يظن هؤلاء أنهم يُخلدون فيها؟! لو كانت الدنيا دار خلود لتظافرت الهِمم لهذا البناء، وهذا العِمران، وتجميع هذا الحُطام، ولكن المسألة هي متاع إلى حين، يكفي بعض هذا، والقليل من هذا، ويشتغل العبد بطاعة الله، والسعي في مرضاته فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [سورة لقمان:33] فهذه حقيقتها، يُسافر الإنسان وفي أول سفره يكون في نشاط وبهجة، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يسأم، ويسأم المكان الذي هو فيه، ويبدأ يتململ، حتى يرجع ثانية، وهو في حال من التثاقل والترهل، ولم يكن في أول سفره كذلك، قضى نهمته من هذا السفر، ثم بعد ذلك بقيت ذكرى، لكن ما الذي يبقى في رصيد العبد من أعماله؟ إنما يبقى طاعة الله .

ثم أيضًا تأمّل حال آدم فالله -تبارك وتعالى- أخرجه من الجنة، وأهبطه إلى الأرض، حينما أكل من الشجرة، وأما إبليس فلعنه وطرده من رحمته، فأخذ أهل العلم من هذا: أن ترك جنس المأمور أعظم من فعل جنس المحظور، يعني: هناك مأمورات وطاعات فرضها الله على العبد، وهناك معصية حرم على العبد مواقعتها، فإذا ترك المأمور، وفعل المحظور أيهما أشد؟ ترك جنس المأمور أعظم من فعل جنس المحظور، نقول: الجنس، وليس الأفراد، فالأفراد تتفاوت، فقد يكون هذا المحظور من المُوبقات السبع، وقد يكون هذا المحظور هو الإشراك بالله والمأمور قد يكون دون ذلك بكثير، فلا يُقال: بأن ترك هذا المأمور أعظم من فعل، من اقتراف ذلك المحظور، لا، فالأفراد تختلف، وهي الأنواع.

فالشرك محظور إذا وقع فيه الإنسان، فهذا ليس كمن ترك مأمورًا دونه، مثل لو أنه مثلاً ترك صلاة الجماعة في المسجد هذا مأمور، لكن هل ترك المأمور هذا مثل فعل المحظور ذاك الذي هو الإشراك بالله؟ كلا، ولو أنه ترك صلاة الجماعة في المسجد، أو فعل محظورًا بأن زنا، أو شرب الخمر، أو نحو ذلك، فأيهما أعظم؟

الزنا وشرب الخمر، هذا من فعل المحظور، وترك صلاة الجماعة من ترك المأمور، فهذه الأفراد تتفاوت، فلا يُقال مُطلقًا: بأن فعل المحظور أسهل من ترك المأمور، وإنما يُقال: الجنس، فجنس فعل المحظور أسهل من ترك المأمور، هذا من حيث الجنس، أما من حيث الأفراد فإنها تتفاوت، فانظروا ماذا حصل لإبليس لعنه من الطرد من رحمة الله وما حصل لآدم من الإخراج من الجنة، فشتان بين هذا وهذا.

نواصل الحديث -أيها الأحبة- عن هذه الهدايات التي تُستخرج من هذه الآيات الكريمات، من سورة البقرة، فقد كان الحديث عن الآيات التي ذكر الله -تبارك وتعالى- فيها خبر آدم مع إبليس، وأن إبليس أبى أن يسجد لآدم وأما آدم فقد كانت معصيته من نوع آخر، فإبليس ترك المأمور، وآدم فعل المحظور، وقلنا: بأن أهل العلم أخذوا من ذلك أصلاً وهو أن جنس ارتكاب المحظور أسهل من جنس ترك المأمور، وأن ذلك باعتبار الجنس لا باعتبار الأفراد من الأعمال، ومثلت لهذا بأمثلة.

كما أن قوله -تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] يدل على أن هذه الحياة مؤقتة، فينبغي أن يُتعامل معها على هذا الأساس لا يكون الإقبال عليها، وعلى حطامها، وعلى التطاول في البيان، والتكاثر من عرضها الزائل أن يصير بحال كأنما يُخلد الإنسان فيها، إنما هو متاع إلى حين، يتمتع به الإنسان بُرهة من الزمن، ثم يتلاشى كل شيء، يذهب الشباب ونضارته، وتذهب جِدة الأشياء ورونقها، وما فيها مما يجذب النفوس ويأسرها لأول وهلة، ثم بعد ذلك يصير ذلك الشيء قد تقادم عليه الزمان، وملته النفوس، وما عاد له ذلك البريق الذي يستهوي الناظرين.

فهكذا الحياة بعد أن يكون الإنسان شابًا يافعًا، ثم بعد ذلك يقوى ويشتد شبابه، حتى يكون إلى سن يكون فيها راشدًا، ثم بعد ذلك يبدأ بمرحلة الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم بعد ذلك يصير إلى حال من الضعف، حيث تضعف حواسه، وتضعف مداركه، ويصير إلى حال في الغالب ربما يُعاني أنواع الأوجاع والعِلل والأوصاب، وربما سأم الحياة إن لم يكن موفقًا قد شُغل بذكر الله وطاعته، أما ذاك الذي قد قضى العُمر في ذهاب ومجيء في طلب الدنيا، والاشتغال بها، والتمتع بأنواع اللذات والنُزه، وما إلى ذلك، ولم يُفتح عليه في باب الذكر والعبادة والطاعة، فإن مثل هذا تتلاشى قواه، فتذهب تلك اللذات، ولا يكون لها في نفسه وقع، فيسأم، وكما قيل:

سئمت تَكاليفَ الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم[3]

وكقول الآخر الذي سأم الحياة:

ألا موت يُباع فأشتريه فذاك العيش مما لا خير فيه
ألا رحم المُهيمن رأس حر تصدق بالوفاة على أخيه[4].

وكما قال الآخر:

يسُر المرء طول عيش وطول عيش قد يضره
تفنى لذاذته ويبقى بعد حلو العيش مره
وتسوئه الأيام حتى ما يرى شيئًا يسُره[5]

فيكون في حال من الاكتئاب والضيق والضجر، لا يحتمله أقرب الناس إليه، وما عاد يهوى الخُلطة بالآخرين، بعد أن كان يملأ صدور المجالس، هذه طبيعة هذه الحياة لمن فتح الله بصيرته، ونظر إلى ما وراء هذا البهرج، الذي يغُر الكثيرين، فهو متاع إلى حين.

أيضًا تأمل هذا الموضع وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [سورة البقرة:36] هذا يدل على أنه في مكان آخر غير الأرض، فالذين يبحثون عن كوكب آخر بزعمهم يمكن أن يجدوا فيه ما يُقيم العيش، وما يحصل به الحياة، فهؤلاء يبحثون عن سراب، فالله -تبارك وتعالى- قد هيأ هذه الأرض للعيش فيها، فقال: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] لا نستطيع أن نعيش على كوكب آخر غير الأرض، فتلك غير مُهيأة، وإنما هيأ الله الأرض، وجعل فيها المعايش والأقوات، وبارك فيها من أجل أن تكون صالحة لذلك.

ومن هذه الآية يؤخذ أيضًا المِنة على أبينا آدم بأن الله -تبارك وتعالى- قد أسجد له الملائكة، ثم بعد ذلك حينما امتنع إبليس طرده وأبعده وحينما عصى آدم ربه قبل توبته، واجتباه، وامتن عليه، كما قال الله : فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:37] فالمِنة الواصلة لأبينا آدم هي لاحقة للذرية؛ لأن القاعدة: أن المِنة الواصلة للآباء لاحقة للأبناء؛ ولهذا نجد كثيرًا ما يمتن ربنا -تبارك وتعالى- على بني إسرائيل بِمنن أدركت آباءهم وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [سورة البقرة:57] مع أن ذلك كان لآبائهم وأجدادهم، ولكن لما كانت هذه المِنة واقعة للآباء صارت لاحقة للذرية.

كما أن المذمة أيضًا التي تلحق الآباء تلحق الذرية إن كانوا على طريقتهم؛ ولهذا يقول الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] وما أشبه ذلك مما ذكره الله وقصَّ علينا من خبر بني إسرائيل ومساوئهم وجناياتهم، وإنما وقع ذلك من أجدادهم، فخوطب به أولئك الذين عاصروا النبي ﷺ حينما نزل القرآن، فالمذمة التي تلحق الآباء تلحق الأبناء إن كانوا على نفس الطريق.

ثم تأمَّل قوله -تبارك وتعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [سورة البقرة:37] فتلقى آدم كلمات بالقبول، ألهمه الله -تبارك وتعالى- إياها، توبة واستغفارًا، وهي قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:23] فهذه هي الكلمات، والقرآن يُفسر بعضه بعضًا، فقبل الله ذلك من آدم وتاب عليه، وغفر ذنبه، والله -تبارك وتعالى- هو التواب الرحيم.

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:37] فهذه نعمة ومنة، وهي أن الله -تبارك وتعالى- ألهم أبانا آدم الكلمات؛ ليتوب عليه، فهذا يدل على سعة فضله، ورحمته على عباده، في حال معصيتهم، فكيف تكون الحال مع المُطيعين المُتقربين المُستجيبين لله -جل جلاله، وتقدست أسمائه.

ويُؤخذ من هذا -أيها الأحبة- أن الله -تبارك وتعالى- إذا فتح قلب العبد للتوبة، ووفقه لمعرفة تقصيره ومُخالفته ومعصيته، فإن هذا طريق إلى التوبة والاستقامة والهداية.

إن الكثيرين حينما ينحدرون فيُضيعون أمر الله -تبارك وتعالى- وينتهكون حدوده، لا سيما في مثل هذه الأوقات، قد يُلبسون ذلك بلبوس الشُبهات، فيستحلون ذلك، ويُجادلون عنه، ويرى الواحد أنه لم يفعل ما يُلام عليه، ولم تحصل منه جناية حتى يتوب، فمثل هذا كيف يُسدد ويوفق ويُهدى، وهو يرى أنه على هدى، وهو مُقيم على معصية الله -تبارك وتعالى؟!

لكن قد يحصل للعبد ضعف، وتراجع وغفلة، وقد تغلبه نفسه، ثم يحصل له إفاقة إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف:201] فحُذف المُتعلق هنا، تذكروا ماذا؟ تذكروا تقصيرهم، وعظمة الله، والجزاء والحساب، والوقوف بين يدي الله -تبارك وتعالى- والطريق التي تركوها تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف:201].

والفاء تدل على التعقيب المُباشر، فهو يرجع مُباشرة، ولا يُمهل؛ لأنه -كما قيل: الفُرصة لا تطرق بابك مرتين، ويُخشى على الإنسان حينما يحصل له مثل هذه النفحات، ثم يُدير ظهره إليها أن يُخلى بينه وبين نفسه وهواه، فيضيع، ويكون بعد ذلك كمن قال الله -تبارك وتعالى: وَإِخْوَانُهُمْ [سورة الأعراف:202] يعني: إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:202] يُمد هؤلاء من أوليائهم بالغي، فلا يحصل منهم ارعواء، ولا تراجع، ولا توبة، ولا تفكير في التوبة؛ لأنه لا يرى أن به بأسًا، بل هو على حال من الكمال والتكميل.

كما ذكرنا في قوله -تبارك وتعالى- عن المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سورة البقرة:11] فجاءوا بأسلوب الحصر، وهي ثاني أقوى صيغة من صيغ الحصر عند الأصوليين واللغوين إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ حصروا أنفسهم في الإصلاح، يعني: ليس فقط أنهم على حال من الصلاح، بل قد زادوا على ذلك، فصاروا إلى حال من الإصلاح إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سورة البقرة:11] فالإنسان أحيانًا يعمى عن عِلله وأدواءه، فيُخلى بينه وبين نفسه فيضل، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة الحشر:19] فهنا إذا فُتح على قلب الإنسان في التوبة، وبصره الله بما كان عليه من الغفلة والمعصية والانحراف، فينبغي أن يُبادر إلى التوبة النصوح، والتوبة النصوح هي على اسمها، تكون مستوفية لثلاثة أوصاف أو شروط:

الأول: أن تكون شاملة.

الثاني: أن تكون هذه التوبة صادقة خالصة لله رب العالمين، ليس من أجل الناس، ولا الخوف من الناس، ولا لأنه وقع في يد الهيئة، أو غير ذلك.

الثالث: أن تكون هذه التوبة جازمة، لا تردد فيها، فلا يقول في نفسه: إنه متى لاحت له فرصة أعاد الكرة للمعصية، فهذه ليست بتوبة صحيحة.

وهذا يدل أيضًا على أن التوبة ليست بعمل صعب، فالله -تبارك وتعالى- ألهمه هذه الكلمات، وتاب عليه، وهي كلمات، فيحتاج من المرء أن يصدق مع الله ويندم على ما مضى، ولا يحتاج إلى وسائط، كما هو عند النصارى، فإنهم لا يتوبون إلا على يد مخلوق يُقررهم بكل جناياتهم مُفصلة، على كُرسي، يسمونه كرسي الاعتراف، يجلس عليه الرجل والمرأة على حد سواء، ويذكر مُفصلاً كل ما اقترفت يداه، ثم بعد ذلك يمُن عليه بالتوبة، أما هذا الدين الذي لم يتطرق إليه التحريف والتبديل، فيكفي أن العبد يندم ويعزم أن لا يعود، ويصدق مع الله -تبارك وتعالى- في هذه التوبة، وإن كان ثمة مظالم للعباد، فإنه يرد هذه المظالم مع إقلاعه عن المعصية إن كان مُقيمًا على شيء من ذلك، فيتخلص العبد من أوضارها، وتعود صفحته بيضاء نقية، ليس فيها شوب ولا كدر.

المخلوق قد تُسيء في حقه، قد يحصل منك جناية، ويبقى لك سجل عند هذا المخلوق، يُذكرك به في كل مناسبة، أما الله -تبارك وتعالى- فإنه يستر عبده، ثم بعد ذلك يمحو خطيئته؛ ولهذا قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بأن حال آدم بعد الأكل من الشجرة والمعصية أكمل من حاله قبل المعصية[6] وذلك أن العبد المؤمن الصادق حينما تقع منه المعصية، فإن ذلك يبعثه على المزيد من الطاعات والبذل للترقي في المدارج العالية، في سُلم العبودية؛ لأنه كلما تذكر هذه المعصية جد واجتهد؛ لأن الحسنات يُذهبن السيئات وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [سورة هود:114] اصبر على التوبة، واصبر على الطاعة والحسنات، وعن المعاصي، ثم بعد ذلك تجد الألطاف الربانية تحف بك من كل جانب، فهنا ينبغي على العبد أن يُبادر، وهذا شهر الرحمة والمغفرة، فالتوبة فيه أيسر وأقرب، والنفوس فيها مُهيأة، والشياطين مُصفدة، وليس أحد يُبرئ نفسه من الذنوب والمعايب والخطايا.

ونلحظ هذا التواضع من آدم وزوجه، حيث اعترفوا بالخطيئة فقالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا [سورة الأعراف:23] وهنا: يتلقى هذه الكلمات من الله -تبارك وتعالى؛ ولهذا جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما: "إذا كانت خطيئة الرجل في كِبر فلا ترجه، وإذا كانت خطيئته في معصية فارجه، فإن خطيئة آدم في معصية، وخطيئة إبليس في كِبره"[7] إبليس استكبر، والمُتكبر يصعب عليه جدًا أن يرجع، وأن يرضخ للحق ثانية، وإنما يبقى في حال من التعالي.

ولذلك انظروا فيما قصَّ الله من خبر المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سورة المنافقون:5] فعبد الله بن أُبي لما قال ما قال في غزوة بني المُصطلق، قال: أوقد فعلوها، والله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [سورة المنافقون:8][8] وأنكر هذا المُنافق مقالته، حينما سأله النبي ﷺ فجاء الوحي مُخبرًا عن قيله، فلما قيل له: اذهب إلى رسول الله ﷺ يستغفر لك، لوى عُنقه تيهًا وكِبرًا، فمثل هذا لا يوفق ولا يُسدد؛ ولذلك مات على النفاق؛ ولما زاره النبي ﷺ في مرضه الذي مات فيه، قال: هذا ابن زُرارة كان مؤمنًا صادقًا ومات، هكذا يفهم ذلك البهيم، أن المسألة مسألة موت، يموت الأنبياء، ويموت الصديقون والصالحون، فالموت للجميع كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [سورة آل عمران:185] ولكن يصدرون مصادر شتى، وشتان بين موت المنافق، وموت المؤمن.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا هذا اللطف من الله -تبارك وتعالى- بآدم حيث لم يتركه يواجه عاقبة المعصية، بل علمه كيف يرجع ويتوب، وهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان مع إخوانهم، إذا وقع من أحد معصية وتقصير، فينبغي أن لا يكون ذلك هو نهاية المطاف معه، فيُترك ويُنبذ ويُلاحق بهذه المعصية، ولو صحت توبته، هذا الإنسان ربما يُعامل معاملة تبقى أبد الدهر؛ وذلك في خطأ وقع منه أو معصية، أو غلبة النفس والهوى والشيطان في ساعة ضعف، فيُلاحق بذلك، ويُذم ويُعاب، ثم لربما يُقطع قطيعة كاملة؛ لأنه في نظر بعضنا دنس، بينما نجد أن الله -تبارك وتعالى- يتلطف مع آدم وقد عصى، ويُقربه للتوبة، فالله رحيم، فهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان رُحماء، إذا كان الله -وهو الغني عن خلقه- يفرح بتوبة العبد، فما بالنا لا نقبل من المُسيء صرفًا ولا عدلاً؟! للأسف لو نظرنا في تصرفاتنا إزاء من أخطأ وعصى نجد أننا ربما غلب علينا هذا اللون في تعاملنا ومواقفنا، والله المستعان.

ثم أيضًا إذا كان آدم وهو من هو، الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- بيده، وأسجد له ملائكته، ثم أسكنه جنته، ومع ذلك لم يستغن عن التوبة، فبادر وتاب، فهل يستغني بعد ذلك أحد عن التوبة؟! الكل محتاج إلى التوبة، والنبي ﷺ وهو من هو كان يُكثر من الاستغفار والتوبة، والله -تبارك وتعالى- يُخاطب أهل الإيمان خطابًا عامًا، يشمل الصالح والطالح يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [سورة التحريم:8] فهذا خطاب للجميع، فالكل بحاجة إلى التوبة، الكبير والصغير، الرئيس والمرؤوس، العالم والمُتعلم، والأمة أحوج ما تكون إلى التوبة في مثل هذه الأوقات، توبة عامة شاملة؛ لما أُصبنا به من ألوان المصائب والفتن، بلاد ممُزقة هنا وهناك، وقد شُرد أهلها، وتحولوا بعد العافية والغِنى إلى حال من المسغبة والخوف والجوع، تُجمع لهم الأطعمة، ونحو ذلك، ويستوي عندهم شهر الصوم وشهور الفطر، يبيتون طاووين، جائعين، ما الذي أوصل الأمة إلى مثل هذا؟

ولو نظرت إلى من يتصدرون للتوجيه والإصلاح، ونحو ذلك، تجد من التفرق على جميع المستويات، والتشرذم والتطاحن والتباغض، وتناكر القلوب والتدابر، مما لا يرضاه الله -تبارك وتعالى- والله يقول: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا [سورة الأنفال:46] فالفاء للتعقيب المُباشر، والفشل هنا لم يُحدد بلون، وإنما قال: تفشلوا، ولم يقل: تفشلوا في الميدان العسكري الحربي، وإنما قال: فَتَفْشَلُوا يعني: تفشلوا على جميع الأصعدة، تفشلوا في الحرب، وميدانها، وفي الدعوة وقبول الناس لها، وفي برامجكم ومشاريعكم، فكل ذلك يقع حال التنازع والتطاحن والاختلاف، فنحتاج إلى توبة صادقة، وأن يكون شعار الجميع أولاً قبل كل شيء: ما مني شيء، ولا لي شيء، على مستوى المجموع، وعلى مستوى الأفراد.

فإذا كنا نتحدث عن حال الأمة بعمومها، فإذا كان هنا كيانات وهناك كيانات، وكل واحد يقول: مُكتسباتي ومُقدراتي، وسابقتي ورصيدي من الأتباع، وما إلى ذلك، فهذا لا يمكن أن يتأتى معه الإصلاح، الإصلاح يتطلب أن ينخلع الإنسان من هذا كله، ويقول: مصلحة الأمة هي المطلب الأساس، وما عدا ذلك: ما مني شيء، ولا لي شيء، بعيدًا عن كل شعار، وكل لافتة، إنما يكون المطلب هو مرضاة الرب -تبارك وتعالى- ولا يُذكر من يُمثله، سواء كان يُمثل مؤسسة أو جمعية، أو غير ذلك، فالنفوس الكِبار، والقلوب الكِبار هي التي تستوعب هذا المعنى أولاً، ثم بعد ذلك من الناحية العملية يطبقونه ويُمارسونه، أما القلوب المُتناكرة وهذا التدابر الذي نُشاهده، فهذا لا يُمكن أن يأتي معه إلا الفشل، والله المستعان.

على كل حال هذه الآية تدل على أن رحمته سبقت غضبه، ولاحظ هنا في مقام معصية، ومع ذلك الرحمة تسبق، ويجتبي آدم ويُقربه، سبحانه ما أرحمه! وما أكرمه! وما أحلمه! 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب قوله Uإِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] برقم: (6530) ومسلم في الإيمان، باب قوله يقول الله لآدم: أخرج بعث النار... برقم: (222). 
  2.  مجموع الفتاوى (14/160). 
  3.  البيت لزهير بن أبي سلمى في العين (5/ 372) وجمهرة أشعار العرب (ص: 179) من معلقته المشهورة. 
  4.  البيتان لأبي محمد الوزير المهلبي في ثمرات الأوراق في المحاضرات (1/ 80) والتذكرة الحمدونية (5/ 71). 
  5.  الأبيات في الأضداد لابن الأنباري (ص: 196) وأمالي القالي (2/ 8) لنابغة بَنِي ذُبيان (الجعدي) مع اختلاف فيها، وردت هكذا:
    المرءُ يَهوى أَن يعيـ # ـش وطولُ عيشٍ ما يضرُّهْ
    تَفْنَى بشاشتُهُ ويَبْـ # ـقَى بعد حُلْوِ العيش مرّهْ
    وتَصَرَّفُ الأَيامُ حتَّى # ما يَرَى شيئاً يَسُرُّهْ
    كم شامتٍ بي إن هَلَكْـ # ـتُ وقائل لله دَرُّهْ. 
  6.  مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 299). 
  7.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (18/ 40). 
  8. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (23/ 404).