ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورَيْن وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادةُ فَأَزَلَّهُمَا أي: من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي: بسببها.
يقول: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا يصح أن يكون الضمير في قوله: عَنْهَا....إلى آخره: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي بمعنى صرفهما عن طاعة الله ، فأوقعهما في الزلة من الزلل، فالزلة تقال على الخطيئة، والذنب، والإساءة، يقال: فلان زلَّ زلة، وهذه زلة، ويقال: لا يستزلنك الشيطان، وما أشبه ذلك، فيكون بمعنى صرفهما عن طاعة الله في أمره: وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [سورة البقرة:35]، فحيث نهاهما فأكلا منها فكان ذلك زلة من آدم ﷺ وحواء، فيكون هذا الأكل، ووسوسة إبليس، أو إغواء إبليس كان سبباً لهذه الزلة التي كانت سبباً لزواله عن الجنة.
إذا قلنا ذلك نكون قد جمعنا بين القراءتين المشار إليهما - قراءة حمزة وقراءة الجمهور - فقراءة الجمهور: فَأَزَلَّهُمَا، وقراءة حمزة: فَأَزَالهُمَا، فيكون بهذا الاعتبار معنى أزالهما من الإزالة كقولك: أزلت هذا.
كيف نجمع بين القراءتين؟:
بعض العلماء يقول: معنى القراءتين واحد، وإذا قلنا بهذا فلا إشكال، ولكن المتبادر أن المعنى مختلف، فأزلهما من الزلة أي الزلل المعروف وهي: الخطيئة، والذنب، والمخالفة، وأزالهما بمعنى نحاهما، وأبعدهما عن النعيم الذي كانا يتمتعان به، فهذا معنى، وذاك معنى آخر، والقاعدة أن القراءتين إن كان لكل واحدة معنى يخصها فإنهما بمنزلة الآيتين، أي كأن عندنا آيتين إحداهما تقول: فأزلهما، والثانية تقول: فأزالهما.
وعلى هذا هل نستطيع أن نجمع بين القراءتين؟
الوجه الذي ذكرته قبل قليل هو طريق للجمع فيمكن أن يقال: أزلهما بمعنى أنه تسبب في إيقاعهما في الزلة التي أدت إلى الإزالة والتنحية عن الجنة، والله تعالى أعلم.
يقول: يصح أن يكون الضمير في قوله: عَنْهَا عائداً إلى الجنة": يعني أزلهما عن الجنة، أي: نحاهما وأخرجهما، وأبعدهما عن الجنة.
يقول: "ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورَيْن وهو الشجرة": إذا قلنا: إنه يعود إلى الشجرة، فيكون معنى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا بسببها أي أبعدهما عن الجنة ونعيمها بسبب الشجرة.
مسألة: كيف يكون معنى "عنها" بسببها؟:
معلوم أن "عن" تأتي بمعنى السببية كما تقول: هذا الجزاء إنما هو عن قولك كذا يعني بسبب قولك كذا، ويكون معنى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي: بسببها.
وعلى أساس ما يسمى تضمين الفعل معنى الفعل تقول: أزلهما نتضمن معنى الفعل أصدر، أي: أصدر الشيطان زلتهما عنها بمعنى أصدر الزلة عن الشجرة أي: من ناحيتها، ومن جهتها، وفعل أصدر يصلح أن يُعدَّى بـ"عن"، فتقول: هذه الوثيقة صادرة عن مكتب كذا يعني من جهة مكتب كذا، وبالتالي يكون معنى أزلهما الشيطان استطاع أن يدخل على آدم وحواء من ناحية الإغراء بأكل هذه الشجرة.
كذلك إن قلنا: الضمير يعود على الجنة يكون أزلهما مضمن معنى أبعد يعني عن الجنة أي: فأبعدهما عن الجنة، حيث إن الفعل أزل مضمن معنى فعل آخر هو أبعد، وأبعد يصح أن يعدى بـ"عن"، فتقول: أبعدته عن المسجد، أبعدته عن منزله وهكذا، وهذا توجيه للتعدية بـ"عن" على القول بتضمين الفعل الذي هو أزل بمعنى فعل آخر.
وخلاصة هذا أنه إذا قلنا: إن الضمير يعود إلى الشجرة فيكون أزلَّ مضمن معنى فعل آخر وهو أصدر، وبالتالي فالمعنى أصدر الشيطان زلة آدم وحواء عن الشجرة، وإذا قلنا: الضمير يعود إلى الجنة، فيكون أزلَّ مضمن معنى أبعد، فالمعنى أبعدهما عن الجنة.
يقول: "فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم بن بَهْدلَة وهو ابن أبي النَّجُود": الصواب أن هذه قراءة حمزة وليست قراءة عاصم، فليتنبه لذلك؛ إذ أن قراءة عاصم موافقة لقراءة الجمهور.
يقول: فأزالهما أي: فنحاهما: يمكن أزالهما هذه أن ترجع إلى قراءة الجمهور من حيث المعنى؛ لأنه يقال: زل عن المكان أي تنحى عنه، فتكون من الزوال، وعلى قراءة الجمهور فَأَزَلَّهُمَا يمكن أيضاً أن تكون من زلل القدم.
وعلى كل حال هذه وجوه في محاولة الجمع بين القراءتين بحيث إعادة القراءتين إلى معنى متحد، ولكن الأقرب أن كل قراءة لها معنى يخصها هنا، وهو ما ذكرت والله تعالى أعلم.
يقول: "قال الحسن وقتادةُ: فَأَزَلَّهُمَا أي: من قبل الزلل: من قِبَل الزلل يعني من ناحية الزلل.
فعلى هذا يكون تقدير الكلام فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي: بسببها": هذا كما قال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [سورة الذاريات:9]، وهذا مثال على تفسير أسلوب قرآني بأسلوب آخر، وإلا فإن قوله: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ليس له علاقة بقوله: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا لكن أحياناً يشكل عليك التركيب، فتنظر إلى تركيب آخر واضح يشبه هذا، فقوله: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ليس فيه إشكال، فيفسر هذا بهذا ليتضح المراد.
فقوله: يُؤْفَكُ عَنْهُ أي: يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [سورة البقرة:36] أي: من اللباس، والمنزل الرحب، والراحة، والرزق الهنيء المريح الواسع الذي لا كلفة فيه، ولا تعب، ولا معاناة وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36].
قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [سورة البقرة:36] يصح أن يكون الضمير في قوله: عَنْهَا عائداً إلى الجنة، فيكون معنى الكلام كما قرأ حمزة: فأزالهما، أي: فنجَّاهما، ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورين وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادةُ: فَأَزَلَّهُمَا أي: من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي: بسببها، كما قال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [سورة الذاريات:9] أي: يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال تعالى: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [سورة البقرة:36] أي: من اللباس، والمنزل الرحب، والرزق الهنيء، والراحة.
وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] أي: قرار، وأرزاق، وآجال.
إِلَى حِينٍ أي: إلى وقت ومقدار معين ثم تقوم القيامة.فقوله - تبارك وتعالى -: وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ هذا الخطاب جاء بصيغة الجمع وَقُلْنَا اهْبِطُواْ، وجاء أيضاً بصيغة التثنية في قوله تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا [سورة طه:123]، وجاء أيضاً بصيغة الإفراد مخاطباً به إبليس، فيحمل ما جاء بصيغة الجمع كما هنا وَقُلْنَا اهْبِطُواْ على أن المخاطب بذلك الثلاثة: آدم، وحواء، وإبليس.
وقوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي أن الآدميين يمثلهم أبواهم آدم وحواء أعداء لإبليس، وإبليس عدو لهم.
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ: هذا عدو لهذا، وهذا عدو لهذا، فهي عداوة من الطرفين مشتركة، وليست من طرف واحد، ليس إبليس هو الذي يعادي الآدميين فقط؛ بل نحن نعاديه، فهو أشد الأعداء لنا، وإنما نعادي غيره؛ لأنهم يتفرعون منه، وينضوون تحت لوائه بين مقل ومكثر.
وما جاء بصيغة التثنية اهْبِطَا مِنْهَا فبعض أهل العلم يقولون: المراد به آدم وحواء.
وقوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني أنكما أعداء لإبليس، فالهبوط يكون لآدم وحواء، والعداوة مع إبليس.
وبعض أهل العلم يقولون: قوله: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة طه:123] المراد بذلك هو: آدم وإبليس، فإن قيل: وأين حواء؟ يقال: هي تبع لآدم، ولذلك نجد أن الله يخاطب آدم ﷺ فيقول: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [سورة الأعراف:19] فجعلها تبعاً له.
وكذلك حينما عاتبه على الأكل من الشجرة خاطبه هو، وقال أيضاً في توبته: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:37]، مع أن الله تاب على آدم، وحواء؛ فهي تبع له.
وعلى كل حال فالمعنى الآخر في قوله: اهْبِطَا مِنْهَا أي آدم، وإبليس، وحواء تبع لآدم، وبالنسبة للعداوة فهي بين الآدميين وبين إبليس وحزبه.
قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36]: المراد بقوله: إِلَى حِينٍ إما أن يكون إلى الموت، أي: لهم في الأرض مستقر ومتاع إلى أن يموتوا، أو إلى قيام الساعة.
وعلى كل حال إذا نُظِرَ إلى الأفراد كآدم بشخصه فإن ذلك المتاع ينقضي بالموت، وإذا نُظِرَ إلى جنس الآدميين فإن ذلك يكون إلى قيام الساعة، فالأرض مستقر لهم، وفيها يتمتعون.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله خلق آدم رجلاً طُوَالاً، كثير شعر الرأس، كأنه نخلة سَحُوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يَشْتَد في الجنة، فأخذت شَعْرَه شجرةٌ، فنازعها، فناداه الرحمن: يا آدم، مني تَفِرُّ! فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا، ولكن استحياء[1].هذا الحديث لا يخلو من ضعف حتى إن الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في الأصل أشار إلى ضعفه، والذين اختصروا الكتاب كأنهم حسنوا الحديث باعتبار أن له شاهداً آخر ينجبر به هذا الضعف.
وعلى كل حال فمسألة التصحيح والتضعيف مسألة اجتهادية، فهذا يصحح حديثاً وهذا يضعفه، فهم أدخلوه في هذا الكتاب بناء على أنه يتقوى بذلك الشاهد، ويكون من قبيل الحسن، والله تعالى أعلم.
وروى الحاكم عن ابن عباس - ا - قال: "ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس" ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.هذا الأثر يفيد أن آدم - عليه الصلاة والسلام - ما أسكن الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وجاء في بعض الآثار الأخرى وهي آثار ترجع في أصلها إلى الإسرائيليات، وهذا الوقت الذي مكثه آدم في الجنة ما بين العصر إلى غروب الشمس يقدرونه بمدد طويلة باعتبار أن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون، فيقدرون المدة لآدم في الجنة بمائة وثلاثين سنة، وهذا على قول الحسن، وبعضهم قال أكثر من هذا، ولكن هذا كله لا يثبت به شيء، والإسرائيليات وما له حكم الإسرائيليات في هذا كثيرة جداً؛ فلا يعتد بها، فالله تعالى هو أعلم كم بقي آدم في الجنة، ونحن إنما علمنا من الله تعالى خلق آدم في يوم الجمعة، وأن الله أخرجه من الجنة في يوم الجمعة أيضاً، فهل كان ذلك في نفس اليوم الذي خلقه فيه أدخله فيه الجنة، ثم أخرجه منها، أو كان ذلك في جمعة أخرى؟ الله تعالى أعلم.
والاشتغال في مثل هذا لا يعنينا شيئاً، ولا يترتب عليه لا علم، ولا عمل، فهذا من فضول العلم الذي لا يمكن الوصول إليه؛ لأنه ليس هناك طريق يصح ويوثق به عن رسول الله ﷺ، ولا تترتب على العلم به فائدة.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - قال: أُهبِط آدم إلى أرض يقال لها: دَحْنا بين مكة والطائف.
وعن الحسن البصري قال: "أُهبِط آدم بالهند، وحواء بجُدَّة، وإبليس بدَسْتُمِيسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان" [رواه ابن أبي حاتم].هذا كله يرجع إلى الإسرائيليات، ومما يدلك على أن هذا الكلام لا يوثق به هذا التناقض الموجود بحيث أنه لا يمكن أن يصح الجمع بين هذه الأقوال، فقول: إنه اهبط في الهند، وآخر: إنه أهبط في جُدَّة، فأين الهند من جُدَّة؟
وأما هذه الحية التي يشيرون إليها فيزعمون أن إبليس توصل إلى آدم في الجنة عن طريق الحية، ويصفون هذه الحية بأنها مخلوق عظيم، له أرجل طويلة كالجمل، وأن إبليس دخل في الحية من أجل أن يدخل الجنة، وأن ذلك خفي على الملائكة الذين هم خزان الجنة؛ لأنه تخفى في وسط الحية، فدخل فوسوس إلى آدم من الحية.
ويفترضون في هذا قضايا منها كيف استطاع الوصول إلى آدم، فبعضهم يقول عن طريق الوسوسة التي تقع في النفس، مع أن ظاهر القرآن يرد على هذا حيث جاء التصريح بالوسوسة أنها من الشيطان حيث قال: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى [سورة طه:120]، وكذلك في قوله: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [سورة الأعراف:21] فهل هذا يكون هذا الحلف من الوسوسة التي في النفس؟ لا يمكن أن يكون هذا من الوسوسة التي في النفس، وإنما يدل ذلك على أنه خطاب صريح، وأما كيف توصل فهذا لا يعنينا، وهذا من الفضول، والاشتغال بما لم نكلف به، وإنما المهم هو أنه خطابهما بهذا، فقد يكون وهو خارج الجنة - كما يقول بعض أهل العلم -، وقد يكون دخل الجنة من أجل هذا الابتلاء والامتحان لآدم ﷺ، أو غير ذلك، فهذا كله مما لم نكلف علمه، فلا ينبغي للإنسان أن يتشاغل بمثل هذه الأمور، ويضيع الوقت من غير طائل، خاصة وأنه لا يستطيع أن يخرج معها بنتيجة حاسمة.
وروى مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها[2]، فإن قيل: فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء - كما يقوله الجمهور من العلماء - فكيف تمكَّن إبليس من دخول الجنة وقد طرد من هنالك طردًا قدريًّا، والقدري لا يُخَالف، ولا يُمَانع؟!العلماء يتكلمون عن هذه الجنة هل هي في الأرض، أو الجنة المعروفة في السماء؟
وظاهره أنها الجنة التي فيه السماء؛ إذ الأصل أن الجنة إذا أطلقت ليس ثمة إلا الجنة المعروفة.
ويدل على ذلك قوله - تبارك وتعالى -: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا [سورة طه:123]، وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36]، فالهبوط يدل على أن ذلك نزول في الأصل من أعلى إلى أسفل.
والذين يخالفون في هذا يقولون: إن الجنة كانت في الأرض، وليس عندهم دليل أبداً، ويفسرون الهبوط الوارد في الآيات بأنه بمعنى الانتقال من بلد إلى بلد كما قال الله لبني إسرائيل لما أرادوا الأكل مما تخرج الأرض من بقلها، وقثائها: اهْبِطُواْ مِصْراً [سورة البقرة:61] أي بلداً أو قرية من القرى، أي: مصراً من الأمصار تجدون فيه بغيتكم، وليس المقصود بمصر البلد المعروفة اليوم.
فالأصل حمل القرآن على ظاهره المتبادر إلا لدليل يجب الرجوع إليه، وظاهره المتبادر إنما هي الجنة المعروفة، وهؤلاء الذين قالوا غير ذلك يشوش عليهم، ويلجؤهم إلى القول بغيره بعض الأمور مثل هذا التساؤل: كيف يدخل إبليس هذه الجنة - إذا كانت الجنة التي في السماء - وهو طريد لعين؟ وهذا يمكن أن يجاب عنه بمثل ما ذكرت آنفاً. فالجواب: أن هذا بعينه استدل به من يقول: إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء، كما قد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية.
وأجاب الجمهور بأجوبة:
أحدها: أنه منع من دخول الجنة مكرماً، فأما على وجه السرقة والإهانة فلا يمتنع؛ ولهذا قال بعضهم: كما جاء في التوراة: إنه دخل في فم الحية إلى الجنة، وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة، وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض، وهما في السماء؛ ذكرها الزمخشري وغيره.من أراد أن يعرف منهج الحافظ ابن كثير في التفسير يدون هذه الأشياء مثل نقل بعض الإسرائيليات، النقل عن الزمخشري، النقل عن الرازي، التصريح مثلاً بنقل ترجيحات الرازي، ذكر الخلاف في المسألة، والأقوال فيها، والترجيح بعد ذلك، ومناقشة الأقوال، فالقراءة تختلف اختلافاً كبيراً كما بين السماء والأرض، فقراءة تختلف عن قراءة، لكن هذا ينفع الإنسان كثيراً في المستقبل.
- أخرجه الحاكم (3038) (ج 2 / ص 288) وابن أبي شيبة (31807) (ج 6 / ص 328) وصححه الذهبي في التلخيص.
- أخرجه مسلم في كتاب: الجمعة - باب: فضل يوم الجمعة (854) (ج 2 / ص 585).