قال الله -تبارك وتعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين [سورة البقرة:36] فأزلهما وأوقعهما الشيطان في الخطيئة بالأكل من الشجرة التي نهى الله -تبارك وتعالى- آدم وحواء عن الأكل منها، فتسبَّب ذلك في إخراجهما من الجنة، ومُفارقة ذلك النعيم، الذي لا يُقادر قدره.
فالله -تبارك وتعالى- قال لهم: اهبطوا من هذه الجنة إلى الأرض بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36] يعني: يُعادي بعضكم بعضًا، فقد كتب الله -تبارك وتعالى- هذه العداوة بين آدم وبنيه مع إبليس، ومن أهل العلم من يقول: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36] يكون ذلك في الآدميين، ولكن القول الأول هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [سورة البقرة:36] موضع استقرار وإقامة وانتفاع بما فيها وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] إلى وقت انقضاء آجالكم، وإلى وقت انقضاء هذه الحياة الدنيا.
وتأمل قوله -تبارك وتعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [سورة البقرة:36] فهذا يُؤخذ منه الحذر من كيد الشيطان وتزيينه وتسويله ووسوسته، وما يُملي به من الباطل والمُنكر، فالشيطان يغر الإنسان ويُغريه، كما غر أباه، ووسوس له ولزوجه وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [سورة الأعراف:21] فإذا كان هذا فعله بالأبوين، فما ظنكم بالذُرية؟! فكيف يُصدقه من عقل ذلك عن الله -تبارك وتعالى- وعرف هذا القصص الذي قصه الله علينا؛ لنتعظ ونعتبر بما وقع لأبينا، فلا نقع في طاعة الشيطان، ولا نسلك مسالكه.
ثم أيضًا في هذه الآية إضافة الفعل إلى المُتسبب فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ [سورة البقرة:36] فهذا هو الشيطان فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [سورة البقرة:36] ولم يقل: من الجنة، وإنما قال: مِمَّا كَانَا فِيهِ [سورة البقرة:36] فجاء بهذا الإبهام؛ وذلك في هذا الموضع يدل على التعظيم والتفخيم لهذه الجنة، التي أخرجهما الشيطان منها، فهذه الخسارة، لا يمكن أن تُقدر بثمن، لا يمكن أن يُستعاض عنها بشيء، خسارة لا يمكن أن نعرف مداها، وتأملوا: ما تتابع عبر التاريخ، ومنذ آدم إلى أن تقوم الساعة: من الشقاء والعناء في هذه الحياة بجميع أنواعه، والمعاناة والكبد، حيث يخرج الإنسان باكيًا إلى الدنيا، ويخرج منها مبكيًا عليه، ويُعاني فيما بين ذلك ألوان المُعاناة في طلب الرزق، والمعاش، ويُعاني ويُكابد في طلب مصالحه وحاجاته ولذاته، وما يدفع به عن نفسه من الأذى والضرر والمخاوف بأنواعها.
وتصوروا أيضًا ما وقع في هذا المدى الطويل من المعاصي والتزيين، وما وقع فيه من المصائب في الدين والدنيا: في الأبدان، والنفوس، والأرواح، والأموال، وفي كل شيء، فكل هذا من جُملة هذه الخسائر غير المُتناهية، فالناس حينما يقع لهم شيء من الضرر في تعطل مصالح، أو ربما يُحاصر بلد، أو نحو ذلك لمدة أيام، أو أسابيع، يُخرجون أرقامًا فلكية - كما يُقال - في الخسائر، ويحسبون هذه الخسائر بطُرق معروفة: كم تعطل من العاملين، وكم تعطل من الإنتاج، وكم ساعات العمل التي فاتت... إلى آخره، فيُخرجون هذه الأرقام، وليس ذلك بأموال أنفقوها، أو أموال خرجت من أيديهم بالضرورة، لكن هكذا تُحسب الخسائر، فتصور كم من الخسائر في فوات اللذات في الجنة؟ وما يحصل من المصاعب والمُتاعب في تحصيل اللذات في الدنيا؟ وما وجد فيها من المُقاساة والمعاناة بأنواعها من الآلام والهموم والمُشكلات والأمراض والعِلل والأوصاب، إضافة إلى ما يحتاج إليه الناس من أنواع المُجاهدات للزوم طاعة الله وترك معصيته.
ولذلك كم صار من نصيب النار، ومن أتباع الشيطان من هؤلاء من ذرية آدم فلا شك أن هؤلاء صاروا من جُملة صيوده وفرائسه وأوليائه وحزبه الذين يصيرون معه في النار، فأكثر الناس على هذا، والنبي ﷺ أخبرنا أن الله يقول: يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين يعني: في النار، فتصور هؤلاء الذين قد اجتالتهم الشياطين، وضمهم الشيطان إليه، واستحوذ عليهم، وصاروا معه إلى الجحيم، فهذه كلها أيضًا من الخسائر، فحينما يضل فئام من الناس، فهذه لا شك أنها أعظم خسارة؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة الزمر:15] فهذه أعظم خسارة، وهي أن يخسر الإنسان الإيمان، وما يعقب ذلك من رضا الله -تبارك وتعالى- ودخول الجنة، فيُحرم من هذا، ويصير إلى النار.
ثم تأمّل قوله -تبارك وتعالى: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36] الهبوط يكون من أعلى إلى أسفل، وهذا يُؤخذ منه أن الجنة في الأعلى، فوق، ويدل على ذلك أدلة غير هذا، كما هو معلوم، كقوله -تبارك وتعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [سورة الذاريات:22] فهذه الآية صريحة في الدلالة على هذا المعنى.
وكذلك تأمَّل قوله -تبارك وتعالى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36] يقول شيخ الإسلام - رحمه الله: "فكل عداوة كانت في ذريتهما وبلاء ومكروه، وتكون إلى يوم القيامة" يعني: ما سيكون في المستقبل "وفي النار يوم القيامة، يحصل العداوة بين الأتباع والمتبوعين، وما إلى ذلك، سببها الذنوب، ومعصية الرب -تبارك وتعالى" فهذه العداوة التي فُرضت بين آدم وإبليس، وآدم مع ذريته وإبليس، فهذه سببها ما هو؟ المعصية، حينما أغواهما بها إبليس.
وكذلك أيضًا يُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] أن هذه الدار ليست محل بقاء، ولا إقامة مُستمرة، وإنما هو متاع إلى حين، والمتاع هو الشيء الذي يعرض مما يحصل به التنعم وقتًا يسيرًا مُحددًا، ثم بعد ذلك يتلاشى ويزول، ولو نظرت إلى جميع ما في الدنيا من اللذات والمُتع لرأيتها على هذا المهيع، فكل شيء من هذه اللذات في هذا الحُطام فإنه يزول، ولو نظرت إلى أعظم اللذات عند العرب: وهي: الطعام، والشراب، والنكاح، فهذه الثلاث لو نظرت فيها لرأيت فيها أعظم عبرة على سرعة انقضاء لذات الدنيا، وهذا أمر مُشاهد لا يخفى.
فالطعام والشراب إنما يلتذ بهما الإنسان حينما يكون ذلك في موضع الذوق في فمه، وفي وقت المضغ، وقبل ذلك لا يلتذ، وبعده حينما يهبط الطعام فإنه لا يلتذ، ولو سألنا أنفسنا عن ما طعمناه في هذا اليوم، فإننا لا نجد لذته، دعك مما كان بالأمس، وقبل الأمس، والسنة الماضية، وما قبلها، وهكذا تتلاشى اللذات، كم من مرة تناولنا المُتع، وكم من مرة ذهبنا وأكلنا أطايب الطعام هنا وهناك، وكم من مرة أقمنا المُناسبات والاحتفالات، وما إلى ذلك، ووضعنا فيها صنوف اللذات من المطعوم الآن، فكل ذلك تلاشى، ولم يبق إلا ما حُفظ في بعض الصور، ولو نظرت إلى هذه الصور، وما بقي من الحقائق بعدها، تجد أن ذلك جميعًا كأنه أحلام، وهكذا الحياة الدنيا.
وهكذا لذة النِكاح، وما إلى ذلك من اللذات، وحينما يسكن الإنسان الدور الجميلة، والقصور الفارهة، وما إلى ذلك، إنما يلتذ بها لحظة السُكنى، وفي وقت السُكنى، وفي وقت قصير، ثم بعد ذلك يعتادها، فيذهب في عينه رونقها وبهاؤها وجمالها، ثم بعد ذلك لا يُحرك ما يُشاهده فيها وما يُعافسه شعرة في جسده، ولكن من ينظر من بعيد يظن أن هذا يدخل في لذة، ويخرج من لذة، والواقع أنه تبلد الحِس نحوها، فصار يطلب غيرها، ويتطلع إلى غيرها، وبعد سنين تتحول هذه الدار إلى دار قديمة، تقادم العهد عليها، فهو يريد التحول منها إلى غيرها، ولكن لم تكن كذلك في أول الأمر، وهكذا الحياة الدنيا.
ويعجب الإنسان حينما يرى من يُشيد القصور الكِبار الواسعة، فهل يظن هؤلاء أنهم يُخلدون فيها؟! لو كانت الدنيا دار خلود لتظافرت الهِمم لهذا البناء، وهذا العِمران، وتجميع هذا الحُطام، ولكن المسألة هي متاع إلى حين، يكفي بعض هذا، والقليل من هذا، ويشتغل العبد بطاعة الله، والسعي في مرضاته فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [سورة لقمان:33] فهذه حقيقتها، يُسافر الإنسان وفي أول سفره يكون في نشاط وبهجة، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يسأم، ويسأم المكان الذي هو فيه، ويبدأ يتململ، حتى يرجع ثانية، وهو في حال من التثاقل والترهل، ولم يكن في أول سفره كذلك، قضى نهمته من هذا السفر، ثم بعد ذلك بقيت ذكرى، لكن ما الذي يبقى في رصيد العبد من أعماله؟ إنما يبقى طاعة الله .
ثم أيضًا تأمّل حال آدم فالله -تبارك وتعالى- أخرجه من الجنة، وأهبطه إلى الأرض، حينما أكل من الشجرة، وأما إبليس فلعنه وطرده من رحمته، فأخذ أهل العلم من هذا: أن ترك جنس المأمور أعظم من فعل جنس المحظور، يعني: هناك مأمورات وطاعات فرضها الله على العبد، وهناك معصية حرم على العبد مواقعتها، فإذا ترك المأمور، وفعل المحظور أيهما أشد؟ ترك جنس المأمور أعظم من فعل جنس المحظور، نقول: الجنس، وليس الأفراد، فالأفراد تتفاوت، فقد يكون هذا المحظور من المُوبقات السبع، وقد يكون هذا المحظور هو الإشراك بالله والمأمور قد يكون دون ذلك بكثير، فلا يُقال: بأن ترك هذا المأمور أعظم من فعل، من اقتراف ذلك المحظور، لا، فالأفراد تختلف، وهي الأنواع.
فالشرك محظور إذا وقع فيه الإنسان، فهذا ليس كمن ترك مأمورًا دونه، مثل لو أنه مثلاً ترك صلاة الجماعة في المسجد هذا مأمور، لكن هل ترك المأمور هذا مثل فعل المحظور ذاك الذي هو الإشراك بالله؟ كلا، ولو أنه ترك صلاة الجماعة في المسجد، أو فعل محظورًا بأن زنا، أو شرب الخمر، أو نحو ذلك، فأيهما أعظم؟
الزنا وشرب الخمر، هذا من فعل المحظور، وترك صلاة الجماعة من ترك المأمور، فهذه الأفراد تتفاوت، فلا يُقال مُطلقًا: بأن فعل المحظور أسهل من ترك المأمور، وإنما يُقال: الجنس، فجنس فعل المحظور أسهل من ترك المأمور، هذا من حيث الجنس، أما من حيث الأفراد فإنها تتفاوت، فانظروا ماذا حصل لإبليس لعنه من الطرد من رحمة الله وما حصل لآدم من الإخراج من الجنة، فشتان بين هذا وهذا.
نواصل الحديث -أيها الأحبة- عن هذه الهدايات التي تُستخرج من هذه الآيات الكريمات، من سورة البقرة، فقد كان الحديث عن الآيات التي ذكر الله -تبارك وتعالى- فيها خبر آدم مع إبليس، وأن إبليس أبى أن يسجد لآدم وأما آدم فقد كانت معصيته من نوع آخر، فإبليس ترك المأمور، وآدم فعل المحظور، وقلنا: بأن أهل العلم أخذوا من ذلك أصلاً وهو أن جنس ارتكاب المحظور أسهل من جنس ترك المأمور، وأن ذلك باعتبار الجنس لا باعتبار الأفراد من الأعمال، ومثلت لهذا بأمثلة.
كما أن قوله -تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] يدل على أن هذه الحياة مؤقتة، فينبغي أن يُتعامل معها على هذا الأساس لا يكون الإقبال عليها، وعلى حطامها، وعلى التطاول في البيان، والتكاثر من عرضها الزائل أن يصير بحال كأنما يُخلد الإنسان فيها، إنما هو متاع إلى حين، يتمتع به الإنسان بُرهة من الزمن، ثم يتلاشى كل شيء، يذهب الشباب ونضارته، وتذهب جِدة الأشياء ورونقها، وما فيها مما يجذب النفوس ويأسرها لأول وهلة، ثم بعد ذلك يصير ذلك الشيء قد تقادم عليه الزمان، وملته النفوس، وما عاد له ذلك البريق الذي يستهوي الناظرين.
فهكذا الحياة بعد أن يكون الإنسان شابًا يافعًا، ثم بعد ذلك يقوى ويشتد شبابه، حتى يكون إلى سن يكون فيها راشدًا، ثم بعد ذلك يبدأ بمرحلة الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم بعد ذلك يصير إلى حال من الضعف، حيث تضعف حواسه، وتضعف مداركه، ويصير إلى حال في الغالب ربما يُعاني أنواع الأوجاع والعِلل والأوصاب، وربما سأم الحياة إن لم يكن موفقًا قد شُغل بذكر الله وطاعته، أما ذاك الذي قد قضى العُمر في ذهاب ومجيء في طلب الدنيا، والاشتغال بها، والتمتع بأنواع اللذات والنُزه، وما إلى ذلك، ولم يُفتح عليه في باب الذكر والعبادة والطاعة، فإن مثل هذا تتلاشى قواه، فتذهب تلك اللذات، ولا يكون لها في نفسه وقع، فيسأم، وكما قيل:
سئمت تَكاليفَ الحياة ومن يعش |
ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم |
وكقول الآخر الذي سأم الحياة:
ألا موت يُباع فأشتريه |
فذاك العيش مما لا خير فيه |
ألا رحم المُهيمن رأس حر |
تصدق بالوفاة على أخيه. |
وكما قال الآخر:
يسُر المرء طول عيش |
وطول عيش قد يضره |
تفنى لذاذته ويبقى |
بعد حلو العيش مره |
وتسوئه الأيام حتى |
ما يرى شيئًا يسُره |
فيكون في حال من الاكتئاب والضيق والضجر، لا يحتمله أقرب الناس إليه، وما عاد يهوى الخُلطة بالآخرين، بعد أن كان يملأ صدور المجالس، هذه طبيعة هذه الحياة لمن فتح الله بصيرته، ونظر إلى ما وراء هذا البهرج، الذي يغُر الكثيرين، فهو متاع إلى حين.
أيضًا تأمل هذا الموضع وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [سورة البقرة:36] هذا يدل على أنه في مكان آخر غير الأرض، فالذين يبحثون عن كوكب آخر بزعمهم يمكن أن يجدوا فيه ما يُقيم العيش، وما يحصل به الحياة، فهؤلاء يبحثون عن سراب، فالله -تبارك وتعالى- قد هيأ هذه الأرض للعيش فيها، فقال: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] لا نستطيع أن نعيش على كوكب آخر غير الأرض، فتلك غير مُهيأة، وإنما هيأ الله الأرض، وجعل فيها المعايش والأقوات، وبارك فيها من أجل أن تكون صالحة لذلك.
ومن هذه الآية يؤخذ أيضًا المِنة على أبينا آدم بأن الله -تبارك وتعالى- قد أسجد له الملائكة، ثم بعد ذلك حينما امتنع إبليس طرده وأبعده وحينما عصى آدم ربه قبل توبته، واجتباه، وامتن عليه، كما قال الله : فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:37] فالمِنة الواصلة لأبينا آدم هي لاحقة للذرية؛ لأن القاعدة: أن المِنة الواصلة للآباء لاحقة للأبناء؛ ولهذا نجد كثيرًا ما يمتن ربنا -تبارك وتعالى- على بني إسرائيل بِمنن أدركت آباءهم وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [سورة البقرة:57] مع أن ذلك كان لآبائهم وأجدادهم، ولكن لما كانت هذه المِنة واقعة للآباء صارت لاحقة للذرية.
كما أن المذمة أيضًا التي تلحق الآباء تلحق الذرية إن كانوا على طريقتهم؛ ولهذا يقول الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] وما أشبه ذلك مما ذكره الله وقصَّ علينا من خبر بني إسرائيل ومساوئهم وجناياتهم، وإنما وقع ذلك من أجدادهم، فخوطب به أولئك الذين عاصروا النبي ﷺ حينما نزل القرآن، فالمذمة التي تلحق الآباء تلحق الأبناء إن كانوا على نفس الطريق.
ثم تأمَّل قوله -تبارك وتعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [سورة البقرة:37] فتلقى آدم كلمات بالقبول، ألهمه الله -تبارك وتعالى- إياها، توبة واستغفارًا، وهي قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:23] فهذه هي الكلمات، والقرآن يُفسر بعضه بعضًا، فقبل الله ذلك من آدم وتاب عليه، وغفر ذنبه، والله -تبارك وتعالى- هو التواب الرحيم.
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:37] فهذه نعمة ومنة، وهي أن الله -تبارك وتعالى- ألهم أبانا آدم الكلمات؛ ليتوب عليه، فهذا يدل على سعة فضله، ورحمته على عباده، في حال معصيتهم، فكيف تكون الحال مع المُطيعين المُتقربين المُستجيبين لله -جل جلاله، وتقدست أسمائه.
ويُؤخذ من هذا -أيها الأحبة- أن الله -تبارك وتعالى- إذا فتح قلب العبد للتوبة، ووفقه لمعرفة تقصيره ومُخالفته ومعصيته، فإن هذا طريق إلى التوبة والاستقامة والهداية.
إن الكثيرين حينما ينحدرون فيُضيعون أمر الله -تبارك وتعالى- وينتهكون حدوده، لا سيما في مثل هذه الأوقات، قد يُلبسون ذلك بلبوس الشُبهات، فيستحلون ذلك، ويُجادلون عنه، ويرى الواحد أنه لم يفعل ما يُلام عليه، ولم تحصل منه جناية حتى يتوب، فمثل هذا كيف يُسدد ويوفق ويُهدى، وهو يرى أنه على هدى، وهو مُقيم على معصية الله -تبارك وتعالى؟!
لكن قد يحصل للعبد ضعف، وتراجع وغفلة، وقد تغلبه نفسه، ثم يحصل له إفاقة إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف:201] فحُذف المُتعلق هنا، تذكروا ماذا؟ تذكروا تقصيرهم، وعظمة الله، والجزاء والحساب، والوقوف بين يدي الله -تبارك وتعالى- والطريق التي تركوها تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف:201].
والفاء تدل على التعقيب المُباشر، فهو يرجع مُباشرة، ولا يُمهل؛ لأنه -كما قيل: الفُرصة لا تطرق بابك مرتين، ويُخشى على الإنسان حينما يحصل له مثل هذه النفحات، ثم يُدير ظهره إليها أن يُخلى بينه وبين نفسه وهواه، فيضيع، ويكون بعد ذلك كمن قال الله -تبارك وتعالى: وَإِخْوَانُهُمْ [سورة الأعراف:202] يعني: إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:202] يُمد هؤلاء من أوليائهم بالغي، فلا يحصل منهم ارعواء، ولا تراجع، ولا توبة، ولا تفكير في التوبة؛ لأنه لا يرى أن به بأسًا، بل هو على حال من الكمال والتكميل.
كما ذكرنا في قوله -تبارك وتعالى- عن المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سورة البقرة:11] فجاءوا بأسلوب الحصر، وهي ثاني أقوى صيغة من صيغ الحصر عند الأصوليين واللغوين إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ حصروا أنفسهم في الإصلاح، يعني: ليس فقط أنهم على حال من الصلاح، بل قد زادوا على ذلك، فصاروا إلى حال من الإصلاح إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سورة البقرة:11] فالإنسان أحيانًا يعمى عن عِلله وأدواءه، فيُخلى بينه وبين نفسه فيضل، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة الحشر:19] فهنا إذا فُتح على قلب الإنسان في التوبة، وبصره الله بما كان عليه من الغفلة والمعصية والانحراف، فينبغي أن يُبادر إلى التوبة النصوح، والتوبة النصوح هي على اسمها، تكون مستوفية لثلاثة أوصاف أو شروط:
الأول: أن تكون شاملة.
الثاني: أن تكون هذه التوبة صادقة خالصة لله رب العالمين، ليس من أجل الناس، ولا الخوف من الناس، ولا لأنه وقع في يد الهيئة، أو غير ذلك.
الثالث: أن تكون هذه التوبة جازمة، لا تردد فيها، فلا يقول في نفسه: إنه متى لاحت له فرصة أعاد الكرة للمعصية، فهذه ليست بتوبة صحيحة.
وهذا يدل أيضًا على أن التوبة ليست بعمل صعب، فالله -تبارك وتعالى- ألهمه هذه الكلمات، وتاب عليه، وهي كلمات، فيحتاج من المرء أن يصدق مع الله ويندم على ما مضى، ولا يحتاج إلى وسائط، كما هو عند النصارى، فإنهم لا يتوبون إلا على يد مخلوق يُقررهم بكل جناياتهم مُفصلة، على كُرسي، يسمونه كرسي الاعتراف، يجلس عليه الرجل والمرأة على حد سواء، ويذكر مُفصلاً كل ما اقترفت يداه، ثم بعد ذلك يمُن عليه بالتوبة، أما هذا الدين الذي لم يتطرق إليه التحريف والتبديل، فيكفي أن العبد يندم ويعزم أن لا يعود، ويصدق مع الله -تبارك وتعالى- في هذه التوبة، وإن كان ثمة مظالم للعباد، فإنه يرد هذه المظالم مع إقلاعه عن المعصية إن كان مُقيمًا على شيء من ذلك، فيتخلص العبد من أوضارها، وتعود صفحته بيضاء نقية، ليس فيها شوب ولا كدر.
المخلوق قد تُسيء في حقه، قد يحصل منك جناية، ويبقى لك سجل عند هذا المخلوق، يُذكرك به في كل مناسبة، أما الله -تبارك وتعالى- فإنه يستر عبده، ثم بعد ذلك يمحو خطيئته؛ ولهذا قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بأن حال آدم بعد الأكل من الشجرة والمعصية أكمل من حاله قبل المعصية وذلك أن العبد المؤمن الصادق حينما تقع منه المعصية، فإن ذلك يبعثه على المزيد من الطاعات والبذل للترقي في المدارج العالية، في سُلم العبودية؛ لأنه كلما تذكر هذه المعصية جد واجتهد؛ لأن الحسنات يُذهبن السيئات وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [سورة هود:114] اصبر على التوبة، واصبر على الطاعة والحسنات، وعن المعاصي، ثم بعد ذلك تجد الألطاف الربانية تحف بك من كل جانب، فهنا ينبغي على العبد أن يُبادر، وهذا شهر الرحمة والمغفرة، فالتوبة فيه أيسر وأقرب، والنفوس فيها مُهيأة، والشياطين مُصفدة، وليس أحد يُبرئ نفسه من الذنوب والمعايب والخطايا.
ونلحظ هذا التواضع من آدم وزوجه، حيث اعترفوا بالخطيئة فقالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا [سورة الأعراف:23] وهنا: يتلقى هذه الكلمات من الله -تبارك وتعالى؛ ولهذا جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما: "إذا كانت خطيئة الرجل في كِبر فلا ترجه، وإذا كانت خطيئته في معصية فارجه، فإن خطيئة آدم في معصية، وخطيئة إبليس في كِبره" إبليس استكبر، والمُتكبر يصعب عليه جدًا أن يرجع، وأن يرضخ للحق ثانية، وإنما يبقى في حال من التعالي.
ولذلك انظروا فيما قصَّ الله من خبر المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سورة المنافقون:5] فعبد الله بن أُبي لما قال ما قال في غزوة بني المُصطلق، قال: أوقد فعلوها، والله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [سورة المنافقون:8] وأنكر هذا المُنافق مقالته، حينما سأله النبي ﷺ فجاء الوحي مُخبرًا عن قيله، فلما قيل له: اذهب إلى رسول الله ﷺ يستغفر لك، لوى عُنقه تيهًا وكِبرًا، فمثل هذا لا يوفق ولا يُسدد؛ ولذلك مات على النفاق؛ ولما زاره النبي ﷺ في مرضه الذي مات فيه، قال: هذا ابن زُرارة كان مؤمنًا صادقًا ومات، هكذا يفهم ذلك البهيم، أن المسألة مسألة موت، يموت الأنبياء، ويموت الصديقون والصالحون، فالموت للجميع كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [سورة آل عمران:185] ولكن يصدرون مصادر شتى، وشتان بين موت المنافق، وموت المؤمن.
ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا هذا اللطف من الله -تبارك وتعالى- بآدم حيث لم يتركه يواجه عاقبة المعصية، بل علمه كيف يرجع ويتوب، وهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان مع إخوانهم، إذا وقع من أحد معصية وتقصير، فينبغي أن لا يكون ذلك هو نهاية المطاف معه، فيُترك ويُنبذ ويُلاحق بهذه المعصية، ولو صحت توبته، هذا الإنسان ربما يُعامل معاملة تبقى أبد الدهر؛ وذلك في خطأ وقع منه أو معصية، أو غلبة النفس والهوى والشيطان في ساعة ضعف، فيُلاحق بذلك، ويُذم ويُعاب، ثم لربما يُقطع قطيعة كاملة؛ لأنه في نظر بعضنا دنس، بينما نجد أن الله -تبارك وتعالى- يتلطف مع آدم وقد عصى، ويُقربه للتوبة، فالله رحيم، فهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان رُحماء، إذا كان الله -وهو الغني عن خلقه- يفرح بتوبة العبد، فما بالنا لا نقبل من المُسيء صرفًا ولا عدلاً؟! للأسف لو نظرنا في تصرفاتنا إزاء من أخطأ وعصى نجد أننا ربما غلب علينا هذا اللون في تعاملنا ومواقفنا، والله المستعان.
ثم أيضًا إذا كان آدم وهو من هو، الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- بيده، وأسجد له ملائكته، ثم أسكنه جنته، ومع ذلك لم يستغن عن التوبة، فبادر وتاب، فهل يستغني بعد ذلك أحد عن التوبة؟! الكل محتاج إلى التوبة، والنبي ﷺ وهو من هو كان يُكثر من الاستغفار والتوبة، والله -تبارك وتعالى- يُخاطب أهل الإيمان خطابًا عامًا، يشمل الصالح والطالح يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [سورة التحريم:8] فهذا خطاب للجميع، فالكل بحاجة إلى التوبة، الكبير والصغير، الرئيس والمرؤوس، العالم والمُتعلم، والأمة أحوج ما تكون إلى التوبة في مثل هذه الأوقات، توبة عامة شاملة؛ لما أُصبنا به من ألوان المصائب والفتن، بلاد ممُزقة هنا وهناك، وقد شُرد أهلها، وتحولوا بعد العافية والغِنى إلى حال من المسغبة والخوف والجوع، تُجمع لهم الأطعمة، ونحو ذلك، ويستوي عندهم شهر الصوم وشهور الفطر، يبيتون طاووين، جائعين، ما الذي أوصل الأمة إلى مثل هذا؟
ولو نظرت إلى من يتصدرون للتوجيه والإصلاح، ونحو ذلك، تجد من التفرق على جميع المستويات، والتشرذم والتطاحن والتباغض، وتناكر القلوب والتدابر، مما لا يرضاه الله -تبارك وتعالى- والله يقول: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا [سورة الأنفال:46] فالفاء للتعقيب المُباشر، والفشل هنا لم يُحدد بلون، وإنما قال: تفشلوا، ولم يقل: تفشلوا في الميدان العسكري الحربي، وإنما قال: فَتَفْشَلُوا يعني: تفشلوا على جميع الأصعدة، تفشلوا في الحرب، وميدانها، وفي الدعوة وقبول الناس لها، وفي برامجكم ومشاريعكم، فكل ذلك يقع حال التنازع والتطاحن والاختلاف، فنحتاج إلى توبة صادقة، وأن يكون شعار الجميع أولاً قبل كل شيء: ما مني شيء، ولا لي شيء، على مستوى المجموع، وعلى مستوى الأفراد.
فإذا كنا نتحدث عن حال الأمة بعمومها، فإذا كان هنا كيانات وهناك كيانات، وكل واحد يقول: مُكتسباتي ومُقدراتي، وسابقتي ورصيدي من الأتباع، وما إلى ذلك، فهذا لا يمكن أن يتأتى معه الإصلاح، الإصلاح يتطلب أن ينخلع الإنسان من هذا كله، ويقول: مصلحة الأمة هي المطلب الأساس، وما عدا ذلك: ما مني شيء، ولا لي شيء، بعيدًا عن كل شعار، وكل لافتة، إنما يكون المطلب هو مرضاة الرب -تبارك وتعالى- ولا يُذكر من يُمثله، سواء كان يُمثل مؤسسة أو جمعية، أو غير ذلك، فالنفوس الكِبار، والقلوب الكِبار هي التي تستوعب هذا المعنى أولاً، ثم بعد ذلك من الناحية العملية يطبقونه ويُمارسونه، أما القلوب المُتناكرة وهذا التدابر الذي نُشاهده، فهذا لا يُمكن أن يأتي معه إلا الفشل، والله المستعان.
على كل حال هذه الآية تدل على أن رحمته سبقت غضبه، ولاحظ هنا في مقام معصية، ومع ذلك الرحمة تسبق، ويجتبي آدم ويُقربه، سبحانه ما أرحمه! وما أكرمه! وما أحلمه!