الخميس 22 / ذو الحجة / 1446 - 19 / يونيو 2025
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِۦٓ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَلاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ ۝ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتّقْوَىَ [سورة طه:131-132]، يقول تعالى لنبيه محمد ﷺ: لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة، لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد: أَزْوَاجاً مّنْهُمْ، يعني: الأغنياء، فقد آتاك خيراً مما آتاهم، كما قال في الآية الأخرى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية، وكذلك ما ادخره الله تعالى لرسوله ﷺ في الآخرة أمر عظيم لا يُحد ولا يوصف، كما قال تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [سورة الضحى:5] ولهذا قال: وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ.

قوله: وَلاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ، يعني: هذا نهي عن التطلع إلى ما في أيدي المنعمين والمترفين من أهل الدنيا، إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً ليس المقصود الأزواج والزوجات وإنما المقصود الأصناف منهم، زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وذلك ما فيها من البهرج، والمتاع الزائل الذي تنجذب إليه النفوس ثم ما يلبث أن يضمحل كما هو مشاهد، يعني: يعجب الناس به مدة من الزمان ثم بعد ذلك يتلاشى كالسراب تماماً، نحن نشاهد هذا بأمّ أعيننا ولكن كثيراً من الناس لا يعقلون، تأمل وأنت في الطريق السيارات القديمة تنظر إليها حتى كأنها نازلة، وكأنها صغيرة، لكن حينما كانت جديدة ما كانت هكذا، كانت تستهوي الناظرين وتشدهم، ولها من الرونق والجمال والبهاء، لكن ما كانت هكذا يوم كانت جديدة، فكل ما تحت أيدينا هذا مصيره، وانظر إلى ما نلبسه من اللباس أو نجلس عليه من الأثاث في أيام جدته له رونق ثم بعد ذلك يزهد فيه الإنسان، ويتغير، وهكذا في كل شيء من هذه الحياة.

ولهذا قال: وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ، وفي الصحيح: "أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله ﷺ في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن، فرآه متوسداً مضطجعاً على رُمال حصير، وليس في البيت إلا صُبْرَة من قَرَظ، وأُهُب معلقة.

المشربة: مكان غرفة في الدور الثاني، العلية.

وقوله: "على رُمال"، بضم الراء، رُمال حصير، والرُّمال ما رُمل يعني نسج، تعرفون الحصير، يعني وليس عليه غطاء، بحيث إنه ليس عليه شيء يقي الجالس أو ما اضطجع عليه من قسوته حتى لا يؤثر في جلده، الحصير لا يعتبر من الفرش الوطيئة، سرير حصير أو نسج من العيدان أو من السعف، ولم يكن عليه غطاء، رُمال حصير، وليس في البيت إلا صُبرة، الصُبرة الشيء المجموع، تقول: صُبرة من طعام، صُبرة من ثياب، قال: إلا صُبرة من قَرَظ هو ما يدبغ به، المادة التي يدبغ بها يقال لها قرظ، هناك شجر يقال له: القرظ، مادة صمغية، وهكذا يدبغ بأشياء مختلفة، يدبغ بقشر الرمان كما هو معروف، ويدلك به الجلد من باطنه فيذهب ما به مما يحصل به العفن، الشاهد أنه ليس فيه إلا صُبرة من قرظ وأُهُب معلقة، والأُهُب جمع إهاب وهو الجلد، وبعضهم يقول: الجلد الذي لم يدبغ.

فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فقال له رسول الله ﷺ: ما يبكيك يا عمر؟! فقال: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه؟ فقال: أوَ في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا[1]، فكان ﷺ أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها، إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله، ولم يدخر لنفسه شيئاً لغد.

يعني كسرى وقيصر على أسرّة من ذهب وعلى الأرائك، والنبي ﷺ في هذا المكان على الحصير، ليس في هذه الغرفة إلا مجموعة من القرظ، وأُهب: جلود معلقة، ليس فيها شيء آخر.

روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال: إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال: بركات الأرض[2]، وقال قتادة والسدي: زهرة الحياة الدنيا، يعني: زينة الحياة الدنيا، وقال قتادة: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنبتليهم.
  1. رواه البخاري، كتاب المظالم، باب الغرفة والعلية المشرفة في السطوح وغيرها، برقم (2336)، من حديث ابن عباس  ، ومسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [سورة التحريم:4]، برقم (1479).
  2. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (9/308)، وهو عند البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، برقم (6063)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، برقم (1052).