وقوله: وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، أي: أَنزل هذا القرآنَ الذي خلق الأرض والسموات العلىُّ الذي يعلم السر وأخفى، كما قال تعالى: قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة الفرقان:6]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى قال: السر: ما أسره ابن آدم في نفسه، وَأَخْفَى ما أُخفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه، فالله يعلم ذلك كله، فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد، وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة، وهو قوله: مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [سورة لقمان:28].
قوله: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، السرَّ وأخفى من السرِّ، هذا المعنى الذي هو عليه الجمهور، يعني: وما هو أخفى من السر، وإن اختلفوا في المراد بما هو أخفى من السر، فبعضهم يقول: إن السرَّ هو ما حدَّث به الإنسان غيره، ولا يريد أن يطلع الناس عليه، وأخفى من السرِّ ما حدث به نفسه، وبعضهم يقول: السرُّ ما حدَّث به الإنسان نفسه، وأخفى من السر ما لم يحدِّث الإنسان به نفسه، وما دار بخَلَده من الأمور التي لم تقع والله لم يطلعه عليها، ولم يعملها بعدُ، وسوف يعملها، كما قال الله : وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا [سورة لقمان:34]، فالأشياء التي تجري من الإنسان الله يعلمها، يعلم أنك اليوم في الساعة العاشرة صباحاً ستفعل كذا، وتقول كذا، مما لم يجر في خلدك الآن فذلك أخفى من السر، والسر هو الشيء الذي حدثت به نفسك، تقول الساعة الفلانية سأفعل كذا، سأقول كذا، سأذهب إلى كذا، هذا في سرك أنت، وأخفى من السر هو الشيء الذي لم تشعر به، ولم تعلم به مما أنت فاعله وقد علمه الله ، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، وبعض أهل العلم - كالشنقيطي رحم الله الجميع - يحمل الآية على هذا جميعاً، فالله يقول: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ [سورة الملك:14] يعني: اللطيف الذي يعلم دقائق الأشياء، الخبيرالذي يعلم بواطن الأمور وخفاياها، وهكذا الآيات المصرحة بعلم الله الشامل المحيط، وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ [سورة البقرة:284] مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [سورة المجادلة:7] إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على اطلاع الله على ما يُسِره الإنسان، كما قال الله تعالى عن اليهود: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [سورة المجادلة:8] على المعنيين: المعنى الأول: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ، أي: أن الواحد يحدث بذلك نفسه، ويقول: لو كان نبياً لعذبنا الله بما نقول له: السام عليك، والمعنى الثاني: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ، أي: يقول بعضهم لبعض سراً إذا خلوا: لو كان نبياً لعُِذبنا، ولاستجيب له فينا؛ لأنه يقول: وعليكم، وهكذا الله تعالى يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [سورة ق:16] فكل هذه الآيات تدل على هذه المعاني، وهكذا ما سيكون من الإنسان، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فالله - تبارك وتعالى - يقول: لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [سورة التوبة:47] فهم لم يخرجوا، ويقول عن المنافقين لما وعدوا يهود بني النضير بالنصر، يقول: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ [سورة الحشر:11]، فهذا من السر الذي قالوه لهم، إلى أن قال الله : لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ[سورة الحشر:12] فذكر ما دار بينهم سراً، وذكر أمراً لم يكن، ولو كان كيف يكون، وهكذا، على كل حال فقوله: وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى المعنى: يعلم السر وما هو أخفى من السر، وبعضهم يفسر أخفى باعتبار أنه فعل ماضٍ، وهذا قول ضعيف، هذا خارج عن ذلك كله، يقول: يعلم السر وأخفى، أخفى ذلك فلم يطلع عليه أحداً، وهذا غير صحيح، بل هو أفعل تفضيل يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، يعني: وما هو أخفى من السر، كما تقدم.