الإثنين 26 / ذو الحجة / 1446 - 23 / يونيو 2025
قَالَ فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى ٱلْحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُۥ ۖ وَٱنظُرْ إِلَىٰٓ إِلَٰهِكَ ٱلَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِى ٱلْيَمِّ نَسْفًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ، أي: كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول فعقوبتك في الدنيا أن تقول لا مساس، أي لا تماسّ الناس ولا يمسونك، وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً، أي: يوم القيامة، لّن تُخْلَفَهُ، أي: لا محيد لك عنه، وقال قتادة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ قال: عقوبة لهم، وبقاياهم اليوم يقولون: لا مساس.

قوله: أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "أي لا تماس الناس ولا يمسونك"، يعني: لا يمس الناس ولا يمسونه، فإذا مس أحداً أو مسه أحدٌ حُمَّ، كان يصاب بالحمى، ويتأذى بذلك، فإذا أراد أحد أن يقترب منه قال له: لا مساس، لا تمسني من أجل أن لا أُصاب بالحمى، هكذا قال بعضهم، وبعضهم قال غير هذا، والشاهد أن منهم من يقول: إن ذلك بمعنى أنه لا يختلط بالناس، ولا يجلس معهم، بمعنى أنه يُهجر، فهُجر، فصار لا يجلس معه أحد، لكن المس غير الهجر، فالذي يظهر - والله أعلم - أنها عقوبة حلت به فصار يقول: لا مساس؛ لأنه لا يطيق ذلك لسبب أو لآخر، - والله أعلم -، وبعضهم فسر المساس هنا: بمعنى أنه لا يطيق الجماع، مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ [سورة البقرة:237] يعني أن تجامعوهن، وهذا بعيد، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً لّن تُخْلَفَهُ قال الحسن وقتادة وأبو نهيك: لن تغيب عنه، وقوله: وَانظُرْ إِلَىَ إِلَهِكَ، أي: معبودك، الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً، أي: أقمت على عبادته، يعني العجل.

يعني: أن عقوبته في الدنيا أن يقول: لا مساس، وله عقوبة أخروية لن تتخلف، يقال كما قال الله : وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً لّن تُخْلَفَهُ، يعني: أن ذلك واقع بك لا مناص ولا محيد من الوقوع فيه، وقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا، هو ليس بإله، ولكنه سماه إلهاً بحسب نظر المخاطب، فهو قال: إنه إله، فخاطبه بما يعتقد أو بما يزعم، وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا، قال: "أي أقمت على عبادته، يعني: العجل".

لّنُحَرّقَنّهُ قال الضحاك عن ابن عباس والسدي: سَحَله بالمبارد وألقاه على النار، وقال قتادة: استحال العجل من الذهب لحماً ودماً، فحرقه بالنار، ثم ألقى أي: رماده في البحر، ولهذا قال: ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن   عمارة بن عبد وأبي عبد الرحمن عن علي قال: إن موسى لما تعجل إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل، ثم صوره عجلاً، قال: فعمد موسى إلى العجل، فوضع عليه المبارد فبرّده بها وهو على شط نهر فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب، فقالوا لموسى: ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً، وهكذا قال السدي، وقد تقدم في تفسير سورة البقرة، ثم في حديث الفتون بسطُ ذلك.

قوله - تبارك وتعالى -: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا، العكوف هو المكث الطويل، ملازمة الشيء، لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا، وقوله - تبارك وتعالى -: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [سورة طه:105]، أصل النسف هو نفض الشيء لتذروه الريح، ومنه المنسف.

فالشاهد أن معنى لَنَنسِفَنَّهُ هكذا فسرها طائفة من أهل العلم، ولهذا قال ابن جرير - رحمه الله -: بمعنى لنذرينّه في البحر تذريةً، يذرى العجل الذي من الذهب في البحر ببرده بالمبارد، ولهذا يقول ابن عباس - ا -: "سحَلَه بالمبارد وألقاه على النار" فابتداءً يبرد ثم يحرق، إن صح ذلك عنه، ومهما يكن من أمر فإن قوله: لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ إذا قلنا بأن النسف هو التذرية في الرياح فإن ذلك لا يكون إلا بعد تبريده، لأنه لا يكون إلا للشيء المفتت، وهذا يدل على أنه من ذهب وليس من لحم ودم، فهذا المعنى على قول من قال بأنه برده بالمبارد، وأما إذا كان من لحم ودم فإنه يكون رماداً إذا أحرق، وحديث البخاري: إذا مت فأحرقوني[1]، الشاهد أن هذه التذرية في الريح لابد أن يسبقها شيء آخر غير الإحراق وهو أن يبرد بالمبارد بحيث يتفتت ثم بعد ذلك يطير في الهواء لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا.

  1. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [سورة الفتح:15]، برقم (7069)، من حديث أبي سعيد الخدري .