قوله: أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "أي لا تماس الناس ولا يمسونك"، يعني: لا يمس الناس ولا يمسونه، فإذا مس أحداً أو مسه أحدٌ حُمَّ، كان يصاب بالحمى، ويتأذى بذلك، فإذا أراد أحد أن يقترب منه قال له: لا مساس، لا تمسني من أجل أن لا أُصاب بالحمى، هكذا قال بعضهم، وبعضهم قال غير هذا، والشاهد أن منهم من يقول: إن ذلك بمعنى أنه لا يختلط بالناس، ولا يجلس معهم، بمعنى أنه يُهجر، فهُجر، فصار لا يجلس معه أحد، لكن المس غير الهجر، فالذي يظهر - والله أعلم - أنها عقوبة حلت به فصار يقول: لا مساس؛ لأنه لا يطيق ذلك لسبب أو لآخر، - والله أعلم -، وبعضهم فسر المساس هنا: بمعنى أنه لا يطيق الجماع، مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ [سورة البقرة:237] يعني أن تجامعوهن، وهذا بعيد، والله تعالى أعلم.
يعني: أن عقوبته في الدنيا أن يقول: لا مساس، وله عقوبة أخروية لن تتخلف، يقال كما قال الله : وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً لّن تُخْلَفَهُ، يعني: أن ذلك واقع بك لا مناص ولا محيد من الوقوع فيه، وقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا، هو ليس بإله، ولكنه سماه إلهاً بحسب نظر المخاطب، فهو قال: إنه إله، فخاطبه بما يعتقد أو بما يزعم، وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا، قال: "أي أقمت على عبادته، يعني: العجل".
قوله - تبارك وتعالى -: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا، العكوف هو المكث الطويل، ملازمة الشيء، لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا، وقوله - تبارك وتعالى -: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [سورة طه:105]، أصل النسف هو نفض الشيء لتذروه الريح، ومنه المنسف.
فالشاهد أن معنى لَنَنسِفَنَّهُ هكذا فسرها طائفة من أهل العلم، ولهذا قال ابن جرير - رحمه الله -: بمعنى لنذرينّه في البحر تذريةً، يذرى العجل الذي من الذهب في البحر ببرده بالمبارد، ولهذا يقول ابن عباس - ا -: "سحَلَه بالمبارد وألقاه على النار" فابتداءً يبرد ثم يحرق، إن صح ذلك عنه، ومهما يكن من أمر فإن قوله: لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ إذا قلنا بأن النسف هو التذرية في الرياح فإن ذلك لا يكون إلا بعد تبريده، لأنه لا يكون إلا للشيء المفتت، وهذا يدل على أنه من ذهب وليس من لحم ودم، فهذا المعنى على قول من قال بأنه برده بالمبارد، وأما إذا كان من لحم ودم فإنه يكون رماداً إذا أحرق، وحديث البخاري: إذا مت فأحرقوني[1]، الشاهد أن هذه التذرية في الريح لابد أن يسبقها شيء آخر غير الإحراق وهو أن يبرد بالمبارد بحيث يتفتت ثم بعد ذلك يطير في الهواء لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا.
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [سورة الفتح:15]، برقم (7069)، من حديث أبي سعيد الخدري .