الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
يَوْمَ نَطْوِى ٱلسَّمَآءَ كَطَىِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُۥ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَآ ۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال : يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [سورة الأنبياء:104].

يقول تعالى: هذا كائن يوم القيامة يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، كما قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة الزمر:67]، وقد روى البخاري عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ قال: إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه[1]، انفرد به البخاري - رحمه الله -.

وقوله: كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ المراد بالسجل الكتاب، وقال السدي في هذه الآية: السجل ملَك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان رفع كتابه إلى السجل، فطواه ورفعه إلى يوم القيامة، والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة، قاله علي بن أبي طلحة، والعوفي عنه، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير؛ لأنه المعروف في اللغة، فعلى هذا يكون معنى الكلام يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب، أي: على الكتاب بمعنى المكتوب، كقوله: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [سورة الصافات:103]: أي على الجبين، وله نظائر في اللغة، والله أعلم.  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله - تبارك وتعالى -: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ السجل أحسن ما يفسر به هو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وهو الكتاب، خلافاً لمن قال بأن السجل ملك من الملائكة، وأنه يطوي صحيفة الإنسان بعد موته، فهذا لا دليل عليه، وبهذه المناسبة أنبه إلى أن ما يتداوله كثير من الناس في نهاية العام يقولون: طويت صحيفة عام، وفتحت صحيفة جديدة وما أشبه ذلك لا أعلم دليلاً على أنه تطوى صحيفة الإنسان في نهاية العام، وبعضهم يقول: السجل هو كاتب كان يكتب لرسول الله ﷺ الوحي، وهذا لا أصل له، وإنما يقال: السجل هو الكتاب، كطي الكتاب للكتب، وفي القراءة الأخرى "الكتاب"، كله بمعنى واحد يعني المكتوب، فهذه الكتابة التي تكون في الصحيفة، يقال لها: كتاب، ويقال لها: كتب، باعتبار مجموع ما كتب فيها، كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كطي الكاتب لما كتب أو للصحيفة التي كتب فيها، فهذه الكتابة يقال لها: الكتاب، ويقال لها: الكتب، فيكون المعنى هكذا كطي الصحيفة لما كتب فيها، ولهذا قال: المراد بالسجل الكتاب، وقال: والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة، واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة، فعلى هذا يكون معنى الكلام يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ: أي على هذا الكتاب بمعنى المكتوب؛ لأن الكتاب مصدر، والمصدر يأتي بمعنى الفاعل، ويأتي بمعنى المفعول، كتاب بمعنى مكتوب، وقال: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ يعني: على الجبين، كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ أي: على الكتب، فاللام بمعنى "على"، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ على الجبين، هذا بتضمين الحرف معنى الحرف، والله أعلم.

وقوله: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ يعني: هذا كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق خلقاً جديداً، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم. وذلك واجب الوقوع لأنه من جملة وعد الله الذي لا يُخلف ولا يبدل، وهو القادر على ذلك، ولهذا قال: إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ.

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله ﷺ بموعظةٍ: فقال: إنكم محشورون إلى الله حفاة عراةً غُرْلاً، كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا، إنا كنا فاعلين[2]، وذكر تمام الحديث، أخرجاه في الصحيحين، وذكره البخاري عند هذه الآية في كتابه.

من أهل العلم من يقول: إن المراد بقوله - تبارك وتعالى -: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ أن السماء لما تطوى ويحصل ما يحصل كما قال الله : يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [سورة إبراهيم:8]، قالوا: إن الإعادة كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ معناها إعادة هذا الخلق بعد الطي، والمشهور أن هذه الآية إنما هي في إعادة الخلق من جديد بعد أن تفرقت أبعاضهم وأجسادهم في التراب، وهي القضية التي كان يكابر بها المشركون، وهي من القضايا الكبار التي جاء القرآن لتقريرها، وجادل المنكرين بالعبث، وهذا له طرق كثيرة ففي سورة البقرة وحدها نحو خمسة مواضع فيها طريق واحد فقط، وهو إعادة الموتى الذين أماتهم الله  من جديد، كما في قصة قتيل بني إسرائيل اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [سورة البقرة:73]، وهكذا الذي مر على قرية، وإبراهيم ﷺ حينما قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [سورة البقرة:260]، وهذا نوع واحد من الأنواع التي يذكرها القرآن لتقرير الإعادة والبعث من جديد، وأن من مات يحييه الله - تبارك وتعالى - ثانية، وهناك أشياء أخرى من طرق الاستدلال، مثل الشجر الأخضر كيف يخرج الله منه النار، والخضرة والرطوبة لا تتناسب مع النار والإحراق والحرارة وما أشبه ذلك، وهكذا خلق السماوات والأرض، والأجرام العظيمة، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم [سورة يس:81]، فالمشهور في هذه الآية: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ أن الله يحتج على البعث بابتداء الخلق، ولهذا قال الله : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم:27]، وأَهْوَنُ هنا ليست على بابها، وإنما المقصود بها مطلق الاتصاف، يعني وهو هين عليه؛ لأنه سوى بالنسبة لله ، وذكرنا قاعدة أخرى، وذكرت هذا المثال عليها وهي أن الخطاب في القرآن قد يرد مراعياً فيه حال السامع، فهو أهون عليه هذا بالنسبة إليكم، فجرى الخطاب على تصور السامعين، أن الإعادة ثانياً أسهل من الابتداء، والخلق لأول مرة، فهذا هو المشهور، هذه دليل على قدرة الله على البعث، فالنبي ﷺ ذكر هذه الآية على المنبر كما في هذا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد، وهو حديث ثابت صحيح: إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غُرْلاً يعني: غير مختونين، ثم قرأ هذه الآية: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ، فالنبي ﷺ أوردها في هذا السياق، بمعنى أن الإنسان حينما يبعث يبعث كما ولدته أمه، إن كان فقد عضواً في حياته يرجع إليه، ليس عليه ثياب، ولا معه متاع ولا غير ذلك، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ فالآية في ظاهرها وعمومها تشمل هذا المعنى، وإن كان قد يتبادر إلى الذهن أنها سيقت أولاً لتقرير مسألة البعث، ولذلك ذكرت في القواعد قاعدة وهي: أن الآية قد ترد في سياق فتدل على معنى، ولكنها قد تحمل على غيره مراعاةً لعموم اللفظ، وإن كان السياق في معنى معين، مثل لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [سورة التوبة:108]، سياق هذه الآية في مسجد قباء، لكن لما اختصم الرجل العوفي والآخر الخدري، العوفي يقول: مسجد قباء، والخدري يقول: مسجد النبي ﷺ، قال: هو مسجدي هذا[3]، مسجد النبي ﷺ، لكن لا ينفي ذلك عن مسجد قباء، ولكن ذكر النبي ﷺ الأحق، وهكذا في قول النبي ﷺ حينما أيقظ علياً وفاطمة - ا -: ألا تصليان؟ يعني من الليل، فقال علي : إن أرواحنا بيد الله متى ما شاء أن يبعثها بعثها، فرجع ﷺ كالمغضب يلطخ فخذه ويقول: وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا[4]، مع أن هذه الآية جاءت في الكافرين والمجادلين في الوحدانية والنبوة، والبعث، والوحي، واستدل بها النبي ﷺ في هذا المقام، أخذاً من عموم اللفظ، وإن كان السياق في معنى، فهنا هذه الآية السياق في قضية تقرير البعث، والنبي ﷺ ذكرها في صفة حشرهم، فالعموم يشمل هذا جميعاً، وهذا يفيد في مسألة توسيع المعاني، والعلم عند الله .

  1. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [سورة ص:75]، برقم (6977).
  2. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [سورة النساء:125]، برقم (3171)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2860)، وأحمد في المسند، برقم (2096).
  3. رواه النسائي، كتاب المساجد، باب ذكر المسجد الذي أسس على التقوى، برقم (697)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة التوبة، برقم (3099)، وأحمد في المسند، برقم (11846)، وقال محققوه: حديث صحيح.
  4. رواه البخاري، كتاب التهجد، باب تحريض النبي ﷺ على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، برقم (1075)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليلة أجمع حتى أصبح، برقم (775).