الثلاثاء 04 / ربيع الآخر / 1446 - 08 / أكتوبر 2024
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّٰلِحُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۝ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ۝ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [سورة الأنبياء:105-107].

يقول تعالى مخبراً عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى: إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة الأعراف:128]، وقال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [سورة غافر:51]، وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [سورة النور:55]، وأخبر تعالى أن هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كائن لا محالة؛ ولهذا قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ، قال الأعمش: سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ، فقال الزبور: التوراة والإنجيل، والقرآن، وقال مجاهد: الزبور الكتاب، وقال ابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد: الزبور: الذي أنزل على داود، والذكر التوراة، وقال مجاهد: الزبور الكتب بعد الذكر، والذكر أم الكتاب عند الله، وكذا قال زيد بن أسلم: هو الكتاب الأول، وقال الثوري: هو اللوح المحفوظ.

وقال مجاهد عن ابن عباس أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ قال: أرض الجنة، وكذا قال أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي وأبو صالح والربيع بن أنس والثوري - رحمهم الله تعالى.

قوله - تبارك وتعالى -: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ، ذكر الحافظ هنا جملة من الأقوال، سعيد بن جبير يقول: الزبور: التوراة والإنجيل والقرآن. يعني جعلها جنس الكتاب، التوراة والإنجيل والقرآن، ولو قيل له: وزبور داود ﷺ، فقد لا يقول: لا؛ لأن المقصود جنس الكتب فهذا للتمثيل فقط، التوراة والزبور والقرآن، وقال مجاهد: الزبور: الكتاب، فهذا أعم في العبارة، وقال ابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد: الزبور الذي أنزل على داود، بخصوصه، وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [سورة الإسراء:55]، يقول: والذكر التوراة، الزبور من بعد الذكر: يعني أعطي داود الزبور بعد التوراة التي أعطيت لموسى، فموسى ﷺ هو كبير أنبياء بني إسرائيل ، وكتابه هو أعظم الكتب التي نزلت عليهم، يقول: والذكر أم الكتاب عند الله، يعني اللوح المحفوظ، يقول: قال مجاهد: الزبور الكتب، يعني بعد الذكر، يعني والذكر أم الكتاب عند الله ، يعني اللوح المحفوظ، الزبور الكتب يعني جنس الكتب، كما قال الله : بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [سورة آل عمران: 184]، يعني الكتب، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ يعني في الكتاب، فالزبر في الأصل هو الكتب، الزبر الكتب، يقال: زبرت يعني كتبت، ولا يختص هذا بكتاب داود ﷺ، فيصح أن يطلق على كل كتاب أنه زبور، أي: مزبور، بمعني مكتوب، فالزبر هو الكتابة، أو الكتب، وفي قراءة حمزة وهي قراءة متواترة بضم الزاي وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزُّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ، فهذه قطعاً ليس المراد بها كتاب داود ﷺ بخصوصه وإنما عموم الكتب، والقراءات يفسر بعضها بعضاً إذا كان معناها واحداً، كما أن القراءة الأحادية تفسر المتواترة، لكن هنا متواترة تفسر متواترة، فقوله: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ يحتمل أنه خصوص كتاب داود ﷺ، ويحتمل أنه جنس الكتب، لكن القراءة الثانية وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزُّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ فيدخل في الزبر التوراة وصحف إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- والقرآن والإنجيل والزبور، مِن بَعْدِ الذِّكْرِ، ويكون المقصود بالذكر هو اللوح المحفوظ، وهذا هو الأرجح والأقوى في تفسير هذه الآية، - والله تعالى أعلم -، وهو اختيار المحققين من المفسرين، وقال به كبير المفسرين ابن جرير، واختار هذا القول ابن القيم، ورجحه من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، فيكون الزبور مفسراً بالزبر - قراءة حمزة -، والمقصود جنس الكتب، أن الله كتب في الكتب التي أنزلها على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كتب من بعد ما كتب في اللوح المحفوظ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ.

وقوله - تبارك وتعالى -: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ، الذكر هو اللوح المحفوظ، يقول: وقال الثوري: هو اللوح المحفوظ، وابن جرير - رحمه الله - قال بأن الذكر هو اللوح المحفوظ، واحتج له بأشياء منها أن دخول "ال" للدلالة على معهود، مِن بَعْدِ الذِّكْرِ، فحينما دخلت "ال" فهي عهدية، ما هو المعهود إذا قيل: الذكر، مِن بَعْدِ الذِّكْرِ؟ اللوح المحفوظ، فهو شيء معهود، وإلا فكل كتاب أنزله فهو ذكر، ولهذا يقول ابن جرير: إن صحف إبراهيم ﷺ كانت قبل التوراة فلماذا لا يقال بأن الله كتب في الزبور من بعد الذكر؟ ولماذا يقال: التوراة، لماذا لا يقال: صحف إبراهيم ﷺ فإنها قبلها، فهؤلاء العلماء رجحوا أن الذكر هو اللوح المحفوظ.

وقوله - تبارك وتعالى -: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ قال: أرض الجنة، قبل أن أدخل في هذه المسألة انظروا إلى عبارة ابن كثير -رحمه الله-، وهي دقيقة جداً، وهذا من مزايا هذا الكتاب، يقول: يقول تعالى مخبراً عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة، وكثيراً ما يعبر ابن كثير بهذه العبارات الدقيقة، لكن قد لا يعرف قدرها من لم يطلع على كلام أهل العلم في هذا الموضع، والاختلاف الواقع فيه، فعبارة ابن كثير هذه عبارة جامعة، جمع فيها بين أقوال السلف، وهذا مما يميز هذا الكتاب، ويجعله بهذه المنزلة، فكتاب ابن كثير -رحمه الله- لا يعوض عنه غيره، أبداً، كثير من الكتب الآثار الموجودة فيها موجودة في التي قبلها، إن كانت من كتب المأثور، وكثير من الكتب التي تعنى بالجوانب البلاغية أو بالأحكام أو نحو ذلك فيها كلام مكرر في كتب قبلها، لكن هذا الكتاب لا يعوض عنه غيره، من أجلّ الكتب فعلاً، فانظر إلى عبارته، وانظر إلى عبارات السلف ماذا قال: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ قال: أرض الجنة هذا عن ابن عباس - ا -، أرض الجنة، وهذا هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير أرض الجنة، باعتبار أن الكافرين قد يكون لهم ظهور، وأن الصالحين إنما يكون جزاؤهم عند الله في الجنة، وهكذا يحتجون بقوله - تبارك وتعالى - عن أهل الجنة إذا دخلوها: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء [سورة الزمر:74]، قالوا: الأرض هي الجنة، فهذه تفسر هذا، أَنَّ الْأَرْضَ هي أرض الجنة، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء، وهذا التفسير يشهد له القرآن كما ترون، ومن حيث النظر قالوا ما ذكرتُ من أن الصالحين جزاؤهم على الله في الآخرة، أما في الدنيا فقد يحصل لهم الفقر والضيق والأذى، والقتل، وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ [سورة آل عمران:146]، وفي هذه القراءة المتواترة قُتل معه ربيون كثير أي جماعات كثيرة، فابن جرير حملها على هذا المعنى أرض الجنة، وهذا قال به جماعة من السلف، كأبي العالية ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي وأبي صالح، والربيع بن أنس، والثوري، كل هؤلاء قالوا: أرض الجنة، لهذين الاعتبارين؛ دليل من المنقول، ودليل من النظر، ولكن القول الآخر قال به طائفة كثيرة من أهل العلم، بل نسبه ابن القيم - رحمه الله - إلى أكثر المفسرين، وهذا يحتاج إلى تأمل، لكن قال بأن المقصود بالأرض أرض الكافرين، واستدل بآيات من القرآن، كقوله - تبارك وتعالى -: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا[سورة الأحزاب:27]، وهكذا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [سورة النور:55]، وهكذا في قوله - تبارك وتعالى -: وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [سورة إبراهيم:14]، وهكذا في قول موسى ﷺ: إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وفي قوله: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [سورة الأعراف:137]، فقالوا: هذه في الدنيا، وعبارة ابن كثير السابقة حملها على ماذا؟ تأملوها وانظروا فيها، حملها على المعنيين، أن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض أرض الدنيا والأرض في الجنة، فليس العبرة بوقت يحصل فيه هزيمة أو ضيق لأهل الإيمان، وإنما العبرة بالعواقب والنهايات، ولهذا لما قال الله في حق عيسى ﷺ: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:55]، لم يكن للنصارى ظهور، إلا ببعث محمد ﷺ فصار الظهور لأهل الإيمان، أهل التوحيد، وإلا فإن الذين اتبعوا عيسى ﷺ من أهل التوحيد كانوا قلة مستضعفة، ودخل قسطنطين في النصرانية كما هو معلوم وجرها إلى الوثنية، وتسلطوا كما حصل في المجمع الذي أقروا فيه التثليث، تسلطوا على أهل التوحيد وصاروا يقتلونهم ويستضعفونهم، وصار لهؤلاء النصارى ظهور على اليهود، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فبعض أهل العلم كابن القيم يقول: المقصود بهم النصارى، ظهروا على اليهود فأذلوهم وكانوا ينادون عليهم في ممالك الروم حيناً بعد حين، ويقتلون في تلك الأمصار، يقتلون اليهود، فابن القيم يقول: من كان له شائبة في اتباع المسيح أولى ممن كفر به بالكلية، يعني اليهود، فيرى أنها في النصارى، ولكن هذا يشكل عليه بعض الأمور التي أشرت إليها، والأقرب أن ذلك كان ببعث محمد ﷺ، فالعبرة بالعواقب، وإلا ففي الآية السابقة وكأين من نبي قُتل إذا وقفنا هنا فالنبي قد يقتل، والمقتول قد يقال: إنه مغلوب فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ [سورة النساء:74]؛ لأن الله قابل الغلبة بالقتل، فالمقتول مغلوب، قد يقول قائل هذا، ولكن إذا جمعت النصوص فإن العبرة بالعواقب والنهايات، ليست العبرة بضعف البدايات وإنما بكمال النهايات، فهنا هذه الآيات يحتج بها أمثال ابن القيم - رحمه الله -، على أن الأرض أرض الدنيا، وابن كثير في ظاهر كلامه جمع بين المعنيين، وهذا الذي ذهب إليه الشنقيطي، وهو من أحسن ما يقال - والله أعلم - في تفسير الآية، إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ [سورة الأعراف:128]، فدل القرآن على أنها الجنة، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء [سورة الزمر:74]، وأن الأرض أيضاً في الدنيا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ [سورة الأحزاب:27]، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ، وما شابه ذلك، فالآية قد تحتمل معنيين يشهد لكل واحد منهما قرآن، فتحمل على هذا وهذا، ما لم يوجد دليل يمنع من ذلك، أي دليل يوجب حملها على أحد هذه المعاني، ما عندنا دليل، هذا يشهد له قرآن وهذا يشهد له قرآن، فنحملها على الجميع، هذا مقتضى القواعد العلمية، والله تعالى أعلم.