وقال سبحانه: بَلْ مَتّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتّىَ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ قُلْ إِنّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصّمُّ الدّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ [سورة الأنبياء:44-47].
يقول تعالى مخبراً عن المشركين: إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم مُتّعوا في الحياة الدنيا ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء، ثم قال واعظاً لهم: أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا.
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا يذكر المناسبة بين قوله: بَلْ مَتّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ وما قبلها فيقول: "إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم مُتعوا في الحياة الدنيا، وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء"، فهذا التمتيع الذي حصل لهم والإنعام والإفضال والإمهال بسبب أنهم على جادة؟ وعلى عمل صحيح؟ وعبادة قويمة؟ فالله يرد عليهم بَلْ مَتّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتّىَ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، ولكن هذا لا يعني أنهم على حق، بل وجّه نظرهم إلى ما يحصل حولهم، على أحد الأقوال كما سيأتي، أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا فالواجب أن لا يغتر أحد بالإمهال، ويمكن أن يقال: لما أبطل الله معبودات المشركين وما هم عليه من عبادة غير الله أضرب عن ذلك منتقلاً إلى بيان أن ما هم فيه من الخير والتمتيع والإمهال أن ذلك ليس بسبب مانع يمنعهم من الله - تبارك وتعالى -، وإنما الله أمهلهم لعلهم يرجعون ويتوبون، ولكن إذا أراد أخذهم فإنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلا يغتر أحد بإمهال الله ، كما لا يغتر بما يفيض عليه ويدر عليه من النعم، فإذا كان العبد على غير طريقة مستقيمة فإن هذا يكون من قبيل الاستدراج، كما قال الله : وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة الأعراف:183]، فإذا رأيت الله يوالي نعمه على عبده وهو في حال من الإعراض عنه فإن ذلك استدراج، ليزداد إثماً، وإذا كان العبد على طاعة واستقامة ونحو ذلك رُجي أن يكون ذلك من باب الإفضال والإنعام، وما يعجل للإنسان في هذه الدنيا من جزاء الأعمال الصالحة، والله أعلم.
المراد بقوله: أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا كقوله: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ، والمقصود بالقرى المُهلَكة التي نزلت بها المثلات والعقوبات، مثل ثمود، وقوم لوط، وقوم هود، وغير ذلك ممن عذبهم الله ، كما يقول الله : وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [سورة الصافات:137-138]، ولما ذكر قوم لوط قال: مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [سورة هود: 83] أي: العقوبة، وهذه الآية وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى يعني القرى المهلكة المعذبة، فيكون هذا التفسير باعتبار أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا بإهلاك المكذبين والظالمين والمجرمين؛ لأن هناك معنى آخر وهو أن المقصود به الذين في زمن النبي ﷺ تأخذهم سراياه وجيوشه حول مكة، نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، ولهذا يقول: قال الحسن البصري: يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر، فقول الحسن المقصود به: أن نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا يعني: بما يحصل من الانتصارات على الكفار حول مكة، بفتح خيبر، بغزو بني المصطلق، وما حصل من الانتصار عليهم، وما إلى ذلك، والمعنى: أفلا يعتبرون؟.
وبعضهم يقول: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أن المقصود بذلك موت العلماء، لكن هذا خلاف الظاهر المتبادر من القرآن، وبعض من يتكلم في التفسير العلمي والإعجاز العلمي يقول: إن اليابسة تتقلص وتقل، وما أشبه ذلك، وليس هذا هو الذي تفسر به الآية، والله أعلم.
ويقول الشيخ محمد الشنقيطي - رحمه الله - في قوله تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ": في معنى إتيان الله الأرض ينقصها من أطرافها في هذه الآية الكريمة أقوال معروفة للعلماء، وبعضها تدل له قرينة قرآنية:
قال بعض العلماء: نقصها من أطرافها موت العلماء، وجاء في ذلك حديث مرفوع عن أبي هريرة، وبُعد هذا القول عن ظاهر القرآن بحسب دلالة السياق ظاهر كما ترى.
وقال بعض أهل العلم: نقصها من أطرافها خرابها عند موت أهلها.
وقال بعض أهل العلم: نقصها من أطرافها هو نقص الأنفس، والثمرات، إلى غير ذلك من الأقوال، وأما القول الذي دلت عليه القرينة القرآنية فهو أن معنى نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أي: ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها، وإظهارهم على أهلها، وردها دار إسلام، والقرينة الدالة على هذا المعنى هي قوله بعده: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ والاستفهام لإنكار غلبتهم، وقيل: لتقريرهم بأنهم مغلوبون لا غالبون، فقوله: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ دليل على أن نقص الأرض من أطرافها سبب لغلبة المسلمين للكفار، وذلك إنما يحصل بالمعنى المذكور، ومما يدل لهذا الوجه قوله تعالى: وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ [سورة الرعد:31] على قول من قال: إن المراد بالقارعة التي تصيبهم سرايا النبي ﷺ تفتح أطراف بلادهم، أو تحل أنت يا نبي الله قريبا من دارهم، وممن يروى عنه هذا القول: ابن عباس، وأبو سعيد، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم، وهذا المعنى الذي ذكر الله هنا ذكره في آخر "سورة الرعد" أيضا في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة الرعد:41] وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير آية "الأنبياء" هذه: إن أحسن ما فسر به قوله تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا هو قوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الأحقاف:27].
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له -: ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - صواب، واستقراء القرآن العظيم يدل عليه، وعليه فالمعنى: أفلا يرى كفار مكة ومن سار سيرهم في تكذيبك يا نبي الله والكفر بما جئت به أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أي: بإهلاك الذين كذبوا الرسل كما أهلكنا قوم صالح وقوم لوط، وهم يمرون بديارهم. وكما أهلكنا قوم هود، وجعلنا سبأ أحاديث ومزقناهم كل ممزق، كل ذلك بسبب تكذيب الرسل والكفر بما جاءوا به، وهذا هو معنى قوله: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى كقوم صالح وقوم لوط وقوم هود وسبأ، فاحذروا من تكذيب نبينا محمد ﷺ لئلا نُنْزِلَ بكم مثل ما أنزلنا بهم، وهذا الوجه لا ينافي قوله بعده: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ والمعنى أن الغلبة لحزب الله القادر على كل شيء، الذي أهلك ما حولكم من القرى بسبب تكذيبهم رسلهم، وأنتم لستم بأقوى منهم، ولا أكثر أموالاً ولا أولاداً، كما قال تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ [سورة الدخان:37] الآية، وقال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة غافر:82]، وقال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [سورة الروم:9] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وإنذار الذين كذبوه ﷺ بما وقع لمن كذب مَن قبله مِن الرسل كثير جدا في القرآن، وبه تعلم اتجاه ما استحسنه ابن كثير - رحمه الله - من تفسير آية "الأنبياء" هذه بآية "الأحقاف" المذكورة كما بينا"[1].
والفرق بين القولين واضح، نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا يعني بظهور المسلمين وأخذ القرى، وذلك بما يتحقق من الانتصارات على يد رسول الله ﷺ وأصحابه، فتأخذهم جيوشه وسراياه قرية بعد قرية حتى يتسع نطاق الإسلام، ويمتد حكمه وهيمنته، والمعنى الثاني: أن الأخذ إنما هو بما ينزل من العقوبات، أو ما نزل من العقوبات على الأمم المكذبة، هذا الذي اختاره ابن كثير وهو الذي رجحه الشنقيطي - رحمه الله -، وما ذكره الشنقيطي - رحمه الله - من أن قوله: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ قد يكون قرينة للمعنى الآخر، وهو أن المقصود الانتصار الذي يحصل للمسلمين ليس بلازم؛ لأن الله هو الغالب، فالله -تبارك وتعالى- يخبر أنه أخذ القرى المكذبة فيقول: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ}، فالله - تبارك وتعالى - غالب على أمره، فيهلك من شاء إهلاكه وينزل به ألوان العقوبات، ولا يستطيع أحد أن يرد ذلك أو يمتنع منه.
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/157-158).