الثلاثاء 24 / جمادى الأولى / 1446 - 26 / نوفمبر 2024
وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـًٔا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا أي: ونضع الموازين العدل ليوم القيامة، الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جُمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه.

وقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ يعني العدل، فالقسط هنا يمكن أن يكون صفة للموازين، فهو مصدر "قِسْط" مصدر يوصف به، تقول: ميزان قسط، وموازين قسط، يعني ميزان عدل وموازين عدل، تقول: هم قوم عدل، يعني عدول، وهم قوم رضا، يعني أنهم مرضيون، فالمصدر يوصف به، ويكون لفظه مفرداً، ويوصف به الجمع كما يوصف به المفرد، يعني وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ أي: ذوات القسط، لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وبعضهم يقول: فيه تقدير أي: لأهل يوم القيامة، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أي: لأهل يوم القيامة، وقالوا: هذا محذوف يفهم من السياق، مثلما قال الله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [سورة يوسف:82] أي: واسأل أهل القرية، وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا أي: واسأل أهل العير، وبعضهم يقول: اللام بمعنى "في" وحروف الجر تتناوب، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أي: في يوم القيامة، وابن جرير - رحمه الله - يرجح أن يكون المراد: لأهل يوم القيامة، ويحتمل أن تكون اللام هذه للتوقيت، والعلم عند الله ، يقول: "الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جُمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة"، ويقول العلامة الشنقيطي - رحمه الله -: "وقوله في هذه الآية الكريمة: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ جمع ميزان، وظاهر القرآن تعدد الموازين لكل شخص؛ لقوله: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [سورة الأعراف:8]، وقوله: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [سورة الأعراف:9]"[1].

فالجمع في قوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ باعتبار أن كل واحد له ميزان، يحتمل أن يكون ميزان واحد يوزن به الناس جميعاً، ويحتمل أن يكون هناك موازين، الأشخاص يوزنون، والأعمال توزن، كما في حديث البطاقة، والسجلات توزن، والحديث: يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة[2].

وقال - رحمه الله -: "فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله، كما قال الشاعر:

ملكٌ تقوم الحادثات لعدله فلكل حادثة لها ميزانُ

والقاعدة المقررة في الأصول: أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه، وقد قدمنا في آخر سورة "الكهف" كلام العلماء في كيفية وزن الأعمال، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

وقوله في هذه الآية: الْقِسْطَ: العدل، وهو مصدر وصف به، ولذا لزم إفراده، كما قال في الخلاصة:

ونعتوا بمصدرٍ كثيراً فالتزَموا الإفراد والتذكيراً

كما قدمناه مراراً، ومعلوم أن النعت بالمصدر يقول فيه بعض العلماء: إنه المبالغة، وبعضهم يقول: هو بنيّة المضاف المحذوف، فعلى الأول كأنه بالغ في عدالة الموازين حتى سماها القسط الذي هو العدل، وعلى الثاني فالمعنى: الموازين ذوات القسط"[3].

هذا على تقدير محذوف، موازين القسط أي ذوات القسط، لكن للمبالغة أنها موازين القسط يعني كأنه وصفها بأنها قسط، مبالغة في كونها؛ لأنها آلة العدل.

وقال - رحمه الله -: "واللام في قوله: لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فيها أوجه معروفة عند العلماء:

منها: أنها للتوقيت، أي الدلالة على الوقت، كقول العرب: جئت لخمس ليال بقين من الشهر، ومنه قول نابغة ذبيان:

توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع"[4]

لستة أعوام، اللام للتوقيت، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [سورة الحشر:2]، فإن اللام هذه بعضهم يقول: هي للتوقيت، فهي تدل على الزمن، باعتبار أنه لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي: لأول حشر الجيش لهم، يعني تساقطوا لمجرد حشر الجيش لهم، ويحتمل أن يكون المعنى غير هذا، بل هذا من أبعد المعاني في تفسير هذه الآية: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ.

وقال - رحمه الله -: "ومنها: أنها لام "كي"، أي نضع الموازين القسط لأجل يوم القيامة، أي لحساب الناس فيه حساباً في غاية العدالة والإنصاف.

ومنها: أنها بمعنى "في": أي نضع الموازين القسط في يوم القيامة.

والكوفيون يقولون: إن اللام تأتي بمعنى في، ويقولون: إن من ذلك قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أي: في يوم القيامة.

وقوله تعالى: لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [سورة الأعراف:187] أي: في وقتها، ووافقهم في ذلك ابن قتيبة من المتقدمين، وابن مالك من المتأخرين، وأنشد مستشهدا لذلك قول مسكين الدارمي:

أولئك قومِي قد مضوْا لسبيلهم كما قد مضى من قبلُ عادٌ وتُبّعُ

يعني مضوا في سبيلهم، وقول الآخر:

وكل أب وابن وإن عمّرا معاً  مقيميْن مفقودٌ لوقت وفاقدٌ

أي: في وقت.

وقوله تعالى في هذه الآية: فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا يجوز أن يكون شيئاً هو المفعول الثاني لـ تُظْلَمُ"[5].

قال المصنف -رحمه الله تعالى-:

وقوله: فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ [سورة الأنبياء:47]، كما قال تعالى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49]، وقال: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40]، وقال لقمان: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [سورة لقمان:16]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم[6].

وروى الإمام أحمد أيضاً عن عائشة - ا -: أن رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ جلس بين يديه، فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأضربهم وأشتمهم، فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله ﷺ: يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قِبَلك، فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله ﷺ ويهتف، فقال رسول الله ﷺ: ماله لا يقرأ كتاب الله وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئاً خيراً من فراق هؤلاء - يعني عبيده - إني أشهدك أنهم أحرار كلهم[7].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله - تبارك وتعالى -: فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ [سورة الأنبياء:47]، قراءة الجمهور مِثْقَالَ بالنصب، ومثقال الشيء هو ميزانه، وقرأ نافع بالرفع مِثْقَالُ باعتبار أن كان تامة، بمعنى وُجِد مثقالُ حبة من خردل.

قوله: وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ، الحسب هو العد والإحصاء، يعني: وكفى بنا مُحصين، وفسرها بعض أهل العلم بالعلم، والمعنى: كفى بنا عالمين، فإن هذا من باب الملازمة، فإن من أحصى شيئاً وحسبه فإنه يكون عالماً به كما لا يخفى.

  1. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/159).
  2. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [سورة الكهف:105]، برقم (4452)، من حديث أبي هريرة ، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، برقم (2785).
  3. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/159-160).
  4. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/160).
  5. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/160).
  6. رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا قال والله لا أتكلم اليوم فصلى أو قرأ أو سبح أو كبر أو حمد أو هلل فهو على نيته (6 / 2459)، برقم: (6304)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (4 / 2072)، برقم: (2694).
  7. رواه الترمذي، كتاب التفسير، باب سورة الأنبياء (5 / 320)، برقم: (3165)، وأحمد (43 / 406)، برقم: (26401)، وصححه الألباني.