"وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [سورة المؤمنون:4] الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة كما قال تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141].
وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا: زكاة النفس من الشرك، والدنس كقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 9-10].
وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً، وهو زكاة النفوس، وزكاة الأموال؛ فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا وهذا؛ والله أعلم".
قوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [سورة المؤمنون:4] هذه السورة مكية بالاتفاق، والعلماء - رحمهم الله - تجد بعضهم إذا مر بموضع كهذا فإنه قد يلجأ إلى تأويل الآية.
والأصل أن الحكم بأن الآية نازلة بمكة أو المدينة مبني على النقل ممن شاهدوا التنزيل، وحضروه، لا بناءً على المعنى، فعندما يقول قائل: إن الآية التي يذكر فيها النفاق نازلة في المدينة، والآية التي يذكر فيها اليهود كذلك مدنية.
فنقول: لا حاجة لمثل هذا، فالآية قد تنزل قبل تقرير الحكم.
وقد يكون معنى الآية غير ما ذكر، أو غير ما توهمه هذا القائل، فهذا في قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، فمن نظر إلى أن السورة مكية ويرى أن الزكاة - كما هو مشهور - لم تفرض إلا في المدينة يقول: المقصود بالزكاة هنا زكاة النفوس، أو يلجأ إلى القول بأن هذه الآية مستثناة، وأنها نازلة في المدينة، ولا ضرورة لهذا، فيمكن أن يقال بأن الآية مكية، والأصل أن جميع الآيات في السور المكية مكية، إلا بدليل.
فقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ الأقرب أن الزكاة فرض أصلها في مكة، ولكن التفاصيل المتعلقة بها في أنواع الأموال نزلت بالمدينة، فسورة الأنعام نازلة بمكة، وقد جاءت روايات كثيرة على أن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة، ومع ذلك تجد من يقول في قوله - تبارك وتعالى - في سورة الأنعام: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141]: إن هذه مدنية باعتبار أن الزكاة فرضت بالمدينة، ولا حاجة لهذا، فهذه الآية مكية كغيرها من آيات السورة.
وقد قرن الله - تبارك وتعالى - في هذه الآية بين الصلاة والزكاة، وهذا دليل على أن الزكاة هنا المقصود بها زكاة الأموال قال : الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [سورة المؤمنون:2-4].
وإذا قلنا بأن الزكاة ليس معناها زكاة المال؛ وإنما تزكية النفوس بالإيمان، والعمل الصالح؛ سيكون هذا بالنسبة لما قبله، وما بعده؛ من قبيل التكرار، والتأسيس مقدم على التوكيد، فكون المعنى يؤسس أو اللفظة تؤسس معنىً جديداً أولى من أن يكون هذا من قبيل تحصيل الحاصل، فهذه الأشياء المذكورة جميعاً في هذه الأوصاف هي من قبيل تزكية النفوس من الإيمان، والعمل الصالح، فكيف يقال: إن قوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [سورة المؤمنون:4]، المقصود به تزكية النفوس؟ وعلى كل حال هذه الآية تحتمل المعنيين، وحمْلُها على زكاة المال هو الأقرب.