قوله: بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ فلم يكونوا كلهم كارهين للحق، ولكنه قد يكون في حال من الإعراض، والاشتغال، وقد يكون يخشى المذمة إن التحق بدين الإسلام، وقد كان أبو طالب يقول:
ولقد علمتُ بأنّ دين محمدٍ | من خيرِ أديانِ البريةِ ديناً |
قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الله - سبحانه - في إثبات نبوة رسوله باعتبار التأمل لأحواله، وتأمل دعوته، وما جاء به أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [سورة المؤمنون:69-70] فدعاهم - سبحانه - إلى تدبر القول، وتأمل حال القائل؛ فإن كون القول للشيء كذباً، وزوراً؛ يعلم من نفس القول تارة، وتناقضه، واضطرابه، وظهور شواهد الكذب عليه، فالكذب بادٍ على صفحاته، وبادٍ على ظاهره، وباطنه.
ويعرف من حال القائل تارة، فإن المعروف بالكذب، والفجور، والخداع لا تكون أقواله إلا مناسبة لأفعاله، ولا يتأتى منه من القول، والفعل ما يتأتي من البار الصادق، المبرأ من كل فاحشة، وغدر، وكذب، وفجور، بل قلب هذا، وقصده، وقوله، وعمله؛ يشبه بعضه بعضاً، فدعاهم - سبحانه - إلى تدبر القول، وتأمل سيرة القائل، وأحواله، وحينئذ تتبين لهم حقيقة الأمر، وأن ما جاء به في أعلى مراتب الصدق"[1].
ومما يوضح كراهيتهم للحق أنهم يمتنعون من سماع القرآن، ويستعملون الوسائل التي تمنعهم من أن يسمعوه كما قال تعالى في قصة أول الرسل الذين أرسلهم بتوحيده، والنهي عن الإشراك به وهو نوح : وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [سورة نوح:7].
وقال - تبارك وتعالى - في أمر آخر الأنبياء: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [سورة فصلت:26]، فترى بعضهم ينهي بعضاً عن سماع القرآن، ويأمرهم باللغو فيه كالصياح، والتصفيق المانع من السماع، لكراهتهم للحق، ومحاولتهم أن يغلّبوا الحق على الباطل.
- الصواعق المرسلة (2/469-470).