السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَٰهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ [سورة المؤمنون:71] قال مجاهد وأبو صالح والسدي: الحق هو الله ، والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى، وشرع الأمور على وفق ذلك؛ لفسدت السموات، والأرض، ومن فيهن، أي لفساد أهوائهم، واختلافها، كما أخبر عنهم في قولهم: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف:31]".

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ [سورة المؤمنون:71] نقل ابن كثير - رحمه الله - عن مجاهد وأبي صالح، والسدي أن الحق هو الله؛ وهذا قول أكثر المفسرين، والله - تبارك وتعالى - من أسمائه الحق قال سبحانه:  ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ [سورة الحج:6].

ويحتمل أن يكون المراد بالحق هو الصدق، وما يقابل الباطل وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ [سورة المؤمنون:71] باختلاف أهواء الناس يعني سواءً كان ذلك في قضايا التشريع، فهذا يريد أن يمنع هذا، وهذا يريد أن يمنع هذا، أو حتى في تدبير أمور العالم، أو الحياة؛ لو تركت هذه الأشياء للناس؛ لحصل الفساد، فهذا يريد أن تكون الحياة ليلاً، وهذا يريد أن تكون نهاراً، وهذا يقول: يجب أن يكون الليل طويلاً، وهذا يقول: يجب أن يكون النهار طويلاً، وهذا يحب البرد، وهذا يحب الحر، فلو بقيت هذه لأهواء الناس فلن يتفقوا على شيء.

قال العلامة الشنقيطي - رحمه الله -: "اختلف العلماء في المراد بالحق في هذه الآية فقال بعضهم: "الحق هو الله - تعالى -"، ومعلوم أن الحق من أسمائه الحسنى كما في قوله تعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [سورة النور:25]، وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وكون المراد بالحق في الآية هو الله عزاه القرطبي للأكثرين، وممن قال به مجاهد وابن جريح، وأبو صالح السدي، وروي عن قتادة وغيرهم، وعلى هذا القول فالمعنى لو أجابهم الله إلى تشريع ما أحبوا تشريعه، وإرسال من اقترحوا إرساله بأن جعل أمر التشريع، وإرسال الرسل، ونحو ذلك؛ تابعاً لأهوائهم الفاسدة لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ لأن أهواءهم الفاسدة، وشهواتهم الباطلة؛ لا يمكن أن تقوم عليها السماء والأرض، وذلك لفساد أهوائهم، واختلافها، فالأهواء الفاسدة المختلفة لا يمكن أن يقوم عليها نظام السماء، والأرض، ومن فيهن، بل لو كانت هي المتبعة لفسد الجميع، ومن الآيات الدالة على أن أهواءهم لا تصلح لئن تكون متبعة قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف:31]، لأن القرآن لو أنزل على أحد الرجلين المذكورين وهو كافر يعبد الأوثان فلا فساد أعظم من ذلك، وقد رد الله عليهم بقوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:32]، وقال تعالى: قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا [سورة الإسراء:100]، وقال تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [سورة النساء:53][1].

ثم قال: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:32]، وقال تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ [سورة الإسراء:100] الآية، وقال تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [سورة النساء:53]، ففي هذا كله تبيّن عجز العباد، واختلاف آرائهم، وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته، وأقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره، وتدبيره لخلقه - تعالى وتقدس -، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولهذا قال: بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ [سورة المؤمنون:71] أي: القرآن فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ [سورة المؤمنون:71].

قوله: بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ أي: القرآن، وهذا هو المتبادر، ويحتمل أن يكون المراد التذكير أو ما يحصل به التذكير، وهذا لا يختص بالقرآن، ويحتمل أن يكون المراد بالذكر الشرف، ومنه قوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ [سورة الزخرف:44] ففسر بالتذكير، وفسر بالشرف، وكذلك في قوله - تبارك وتعالى -: بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فبعضهم يقول بشرفهم، وفخرهم، وهذا القرآن فهو شرف لهم، شرّفهم الله به، وقيل هو القرآن، أو أن الذكر مصدر المقصود به ما يحصل به التذكير، وابن جرير - رحمه الله - حمل الآية على المعنيين أنه القرآن، وهو أيضاً شرف لهم، نزول هذا القرآن على العرب تشريف لهم قال تعالى : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سورة الجمعة:)] فشرّف هؤلاء الأميين بهذا.

وللشيخ الشنقيطي - رحمه الله - كلام مفيد في هذا المعنى في قوله - تبارك وتعالى -: بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ [سورة المؤمنون:71] فقال: اختلف العلماء في الذكر في الآية، فمنهم من قال: ذكرهم فخرهم، وشرفهم، لأن نزول هذا الكتاب على رجل منهم فيه لهم أكبر الفخر، والشرف، وقال بعضهم: الذكر في الآية الوعظ، والتوصية، وعليه فالآية كقوله: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:58]، وقال بعضهم: "الذكر هو ما كانوا يتمنونه في قوله: لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنْ الْأَوَّلِينَ ۝ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [سورة الصافات:168-169]"، وعليه فالآية كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ [سورة فاطر:42]، وعلى هذا القول فقوله: فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا [سورة فاطر:42] كقوله هنا: فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ [سورة المؤمنون:71]، وكقوله: أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [سورة الأنعام:157]، والآيات بمثل هذا على القول الأخيرة كثيرة، والعلم عند الله - تعالى -[2].

وعلى كل حال تفسير الذكر هنا بأنه القرآن يتضمن القول بأن المقصود بذلك ما يحصل به التذكير، والقرآن فيه تذكير، ووعظ، كذلك في قوله: لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنْ الْأَوَّلِينَ [سورة الصافات:168]، الأشياء التي فرعها الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - هي راجعة لهذا في الواقع، لكن يبقى القول الآخر أنه شرف، فابن جرير - رحمه الله - جمع بين المعنيين، فقال: إن نزول القرآن عليهم فيه تشريف لهم، وهو هذا الكتاب الذي فيه شرفهم، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والآية إذا احتملت معنيين فأكثر، ولم يوجد مانع؛ حملت عليهما من هذا الباب - والله أعلم -.

  1. أضواء البيان (5/342).
  2. أضواء البيان (5/343).