قال المؤلف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [سورة الفرقان:20].
يقول تعالى مخبراً عن جميع مَنْ بعثه من الرسل المتقدمين أنهم كانوا يأكلون الطعام، ويحتاجون إلى التغذي به وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ للتكسب، والتجارة، وليس ذلك بمناف لحالهم، ومنصبهم، فإن الله - تعالى - جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، والأدلة الظاهرة؛ ما يستدل به كل ذي لب سليم، وبصيرة مستقيمة على صدق ما جاءوا به من الله، ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [سورة يوسف:109]، وقوله: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ.. [سورة الأنبياء:8] الآية.
وقوله: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ أي: اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض لنعلم مَن يُطيع ممن يعصي؛ ولهذا قال: أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا أي: بمن يستحق أن يوحي إليه كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124]، ومن يستحق أن يهديه الله لِمَا أرسلهم به، ومن لا يستحق ذلك.
وقال محمد بن إسحاق في قوله: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ قال: "يقول الله: لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يُخالَفون لفعلت، ولكني قد أردتُ أن أبتلي العباد بهم، وأبتليكم بهم".
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله ﷺ: يقول الله: إني مُبْتَلِيك، ومُبْتَلٍ بك[1]، وفي الصحيح: "أنه - عليه أفضل الصلاة والسلام - خُيِّر بين أن يكون نبياً ملكاً، أو عبداً رسولاً؛ فاختار أن يكون عبداً رسولاً"[2]".
فقوله - تبارك وتعالى -: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ جعلنا بعضكم لبعض فهذا يصدق على الرسل - عليهم الصلاة والسلام - مع أقوامهم، فقد جعلهم الله فتنة لهم، فيفتن من شاء الله فتنته، فيقول: هلا بعث الله ملَكاً؟ هلا أرسل إلينا ملائكة؟ كيف يكون الرسول بشراً؟
ويفتن من يفتن أيضاً بالرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيقول من يقول: هلا أنزل هذا القرآن هذا الكتاب على رجل عظيم له ملك وسؤدد؟ هلا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم؟ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:32] يعني: النبوة.
ويفتن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - بأقوامهم، وما يحصل منهم، ويقع؛ من التكذيب، وما يقولونه في حقهم من الأباطيل، والإفك، قولهم: شاعر.. كاهن.. كذاب، وهكذا يكون الناس بعضهم لبعض فتنة، الأغنياء يفتنون بالفقراء، والفقراء يبتلون بالأغنياء، فالفقير حينما يرى الغني لربما ضاق صدره بذلك، بل ربما حسده، والغني يُبتلى بالفقير هل يؤدي إليه حقه، ويحسن إليه؛ لا سيما إذا تعرض للسؤال، وطلب النوال، أو يعرض عنه؟ وهكذا أيضاً تبتلى المرأة بالرجل، والرجل بالمرأة، لربما تتمنى المرأة ما وهب الله للرجل من الكمالات، أو لربما يعترض من يعترض منهن على قدر الله في التفضيل، وهكذا الرجل يبتلى بالمرأة حيث جعلها تحت ولايته، فهو قيمها، وسيدها، هل يقوم بما أمره الله به، أو أنه يتسلط، ويظلم، ويضيع؟ إلى غير ذلك مما يبتلي الله به الناس بعضهم ببعض، المسلم يبتلى بالكافر، والكافر يبتلى بالمسلم، المؤمن يبتلى بالمنافق، والمنافق يبتلى بالمؤمن، فهؤلاء يتخذون أهل الإيمان سخرياً قال الله - تعالى -: حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي [سورة المؤمنون:110] يعني: عبادتي، وما أُمرتم به، انشغلوا في الحياة بالسخرية بهم، والوقيعة بهم، والله يبتلي أهل الإيمان أيصبرون على ما يصدر من هؤلاء من الأذى؟، فهذا عام في الخلق وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وإن كان ذلك جاء في سياق الرد على المشركين حينما اعترضوا على كون الرسل - عليهم الصلاة والسلام - من البشر، لكن العبرة بعموم الألفاظ والمعاني، وإذا نظرت تجد أن هذا في كل شيء، لا يخلو منه نوع من الناس: الوالد مع الولد، والولد مع الوالد، فهذا يُبتلى بهذا، وهذا يبتلى بهذا، العالم مع الجاهل، وهلم جراً.
- رواه مسلم، بلفظ: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، كتاب الجنة، وصفة نعيمها، وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، برقم (2865).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (7160)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وابن حبان في صحيحه برقم (6365)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (1002).