قوله: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ يعني القرآن، وبعضهم يقول: الشهادة، وبعضهم يقول: الموعظة، وهذا لا منافاة فيه بين هذه الأقوال - والله تعالى أعلم -.
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي فالذكر هو القرآن، والذكر هو الموعظة، فالقرآن الله جعله موعظة، وكذلك أيضاً قول من قال بأنه الشهادة - توحيد الإيمان - لأن القرآن متضمن لذلك، ويدعو إليه، وهو مفتاح الجنة، وشرط دخولها، فأضله عن ذلك كله: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي.
هذا يحتمل أن يكون من بقية كلامه، فيكون الاتصال فيه باللفظ، والمعنى، وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا يعني هو يقول هذا أي الظالم حينما يندم: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا بقية كلامه، ويحتمل أن يكون من الموصول لفظاً المفصول معنى، ويكون من كلام الله - تبارك وتعالى - تعقيباً على ذلك، وهذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا وهو المتبادر من السياق - والله تعالى أعلم - أن هذا من كلام الله.
وكون الشيطان للإنسان خذولاً كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [سورة إبراهيم:22] فهذا من خذلانه.
وكذلك في يوم بدر لما تراءى الجمعان: نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ [سورة الأنفال:48] فخذلهم بعد أن قادهم إلى المعركة، وقال: وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ جاءهم على صورة رجل، وأجارهم من بني كنانة حيث كانوا يتخوفونهم على أهليهم، وذراريهم قال: وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ثم بعد ذلك تولى، وتركهم.
وقوله - تبارك وتعالى -: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ [سورة الحشر:16] وأكثر السلف ذكروا هذه الرواية وإن كانت من قبيل الإسرائيليات، وإنما أذكرها لأن الصحابة وعامة من تطرق للآية ذكرها في قصة الشيطان الذي جاء للإخوة الذين أرادوا الخروج إلى الجهاد من بني إسرائيل، وذهبوا بأخت لهم إلى راهب...، فهي وإن لم تثبت من طريق معتبر فهي من الإسرائيليات، لكن مثل هذا أيضاً داخل تحت قوله - لو صحت هذه الرواية -: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ففيها عبرة، ولهذا يذكرها أهل العلم عادة، أغراه بأمور متدرجاً حتى أوقعه بالفاحشة، فحملت، فقتل الولد، ثم كذب عليهم، ثم زعم أنه يخلصه من ذلك بعد أن أخذوه، وأمره بالسجود، فمات على هذه الحال.