الخميس 29 / ذو الحجة / 1446 - 26 / يونيو 2025
وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِى ٱتَّخَذُوا۟ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ مَهْجُورًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ۝ كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [سورة الفرقان:30-31].

يقول تعالى مخبراً عن رسوله ونبيه محمد ﷺ دائماً إلى يوم الدين أنه قال: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن، ولا يستمعونه كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ.. [سورة فصلت:26] الآية، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه، فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به، وترك تصديقه".

فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به من هجرانه، وترك العمل من هجرانه... وهكذا.

وَقَالَ الرَّسُولُ الرسول المقصود به النبي ﷺ محمد - عليه الصلاة والسلام -، يشتكي مما وقع من هؤلاء من الهجر للقرآن وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا بعض أهل العلم يقول: أي مهجوراً فيه يعني يقولون فيه هجراً، يقولون: سحر، وكهانة، وشعر، وأساطير الأولين، فهذا من الهجر الذي قالوه فيه، وصفوه بهذه الأوصاف غير اللائقة، فبعضهم يفسره بهذا: اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا يقول فيه هجراً.

كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: كانوا لا يصغون للقرآن، ولا يستمعونه، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه، فهذا من هجرانه، اتخذوه مهجوراً بمعنى أنهم لا ينصتون إليه، ولا يريدون سماعه، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، هذا الذي قاله ابن كثير، وموافق فيه لابن جرير اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا أي: لا يصغون إليه، ولا يستمعون إليه كما قال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [سورة فصلت:26]، يرفعون الأصوات، ويشغبون عند سماعه من أجل ألا يسمعوا، وهذه حال أعداء الله في كل زمان، وابن القيم - رحمه الله - ذكر في النصوص عن أعداء المنقول بأنهم إذا سمعوا كلام الله أو كلام النبي ﷺ يحتج به عليهم شغبوا، وصيحوا، ويتواصون بذلك، وإذا رأيت إلى حال بعض من لا خلاق له في هذا العصر إذا خرج في مناظرة، أو محاورة، وهو يتشدق طيلة عمره بالحوار، ويقع في من يسميهم بالإقصائيين، والذين يحملون نظرة أحادية في التفكير، وإذا حصل بينه وبين أحد مناقشة أو مناظرة أو كذا ما تسمع إلا الصياح المرتفع طول الوقت، لا يريد أن يُسمع الناس كلمة واحدة من هذا الذي يورد النصوص من الكتاب، والسنة؛ في أي مسألة من المسائل الشرعية، وإذا جاء الجد صاروا هم أول من يتنكر لها، والآخَر حرية التعبير وما أشبه هذا، فإذا جاء أحد يورد عليهم النصوص، ويريد أن يحتج؛ يعني مباشرة تذكرت هذه الآية، بصوت مرتفع، وصياح مستمر؛ بصورة في غاية البشاعة، لا يرضاها عاقل لنفسه، وهو بين أربعة جدران لا يسمعه أحد، فكيف في قناة فضائية من أشهر القنوات يسمعه كل أحد؟!، هذه صورة، هذا يكفي فقط أن يسجل، وأن يعرض لكل من افترى، أو كذب وتشدق بهذه العبارات، ورأيتم كلامهم حينما يبين أحد أهل العلم عن رأيه فقط في القضية في ألطف عبارة كيف يفعلون، أين الرأي والرأي الآخر، وحرية التعبير؟ أين الإقصاء؟ من هو صاحب الإقصاء؟، فمثل هذه الآيات تصلح رقية يرقى فيها كل أفاك مفترٍ - والله المستعان - وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:112]، هذه الأحداث تبين أن هؤلاء هم أبعد ما يكونون عن المبادئ التي يدعون إليها - والله المستعان -.

"وترْك الإيمان به، وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به، وامتثال أوامره، واجتناب زواجره؛ من هجرانه، والعدولُ عنه إلى غيره من شعر، أو قول، أو غناء، أو لهو، أو كلام، أو طريقة مأخوذة من غيره؛ من هجرانه، فنسأل الله الكريمَ المنانَ القادرَ على ما يشاء أن يخلّصنا مما يُسْخطه، ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه، وفهمه، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطرافَ النهار، على الوجه الذي يحبه ويرضاه، إنه كريم وهاب".

الهجران يدخل فيه هذه المعاني التي ذكرها ابن كثير - رحمه الله -، ويدخل فيها غير ذلك مما لم يذكر، ترْك الاستدلال به، والاحتجاج به، والاحتجاج كما فعل أهل الكلام بالمنطق اليوناني وما أشبه ذلك مما حصل بسببه بلاء كثير، هذا من هجرانه، تقرأ في كتب الاعتقاد لهذه الطوائف لهذه الفرق كأنك تقرأ في كتاب من كتب اليونان، لا تجد فيها حديثاً، ولا آية؛ هذا من هجرانه، ترك تقرير مسائل العلم في الفقه بتقرير ذلك بالنصوص، والاشتغال بالآراء؛ هذا من هجرانه، ترك الاهتداء به، والتلقف للنظريات الغربية في التربية، أو كلام الفلاسفة، وسائل تأتيك قال بقراط، قال أرسطو، قال أفلاطون، هذا الذي بقي علينا، قال شكسبير، ويأتيك بأسماء هؤلاء الغربيين، فهذا من هجرانه، وقل مثل ذلك في ترك الاستشفاء به، ومَن ترك شيئاً ينفعه ابتلاه الله بالاشتغال بما يضره وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102] تركوا ما جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - عليهم من التوراة، تركوا العمل بها، اتبعوا السحر اشتغلوا به، وهكذا من ترك الاستشفاء بالقرآن، واشتغل بما يسميه العلاجات الروحية وهي نوع شعوذة، واستعانة بالشياطين؛ فهذا من هجران القرآن، يترك الاستشفاء به - والله المستعان -.

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "هجر القرآن أنواع:

أحدها: هجر سماعه، والإيمان به، والإصغاء إليه.

والثاني: هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه، وآمن به.

والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين، وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصّل العلم.

والرابع: هجر تدبّره، وتفهّمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.

والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب، وأدوائها، فيَطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وإن كان بعض الهجر أهون من بعض"[1].

لا شك أن مَن ترك التحاكم إليه، أو ترك قراءته بالكلية؛ ليس كالذي ترك التداوي، والاستشفاء به، وأهل الكلام قالوا: إن أدلته - دلائل القرآن - لا تفيد اليقين؛ لأنه يرد عليها الاحتمالات من تخصيص، وتقييد وما إلى ذلك، وقالوا: العقائد لا تثبت إلا بالقواطع العقلية، فتركوا القرآن، ولم يعولوا عليه، وصار من قواعدهم أن النقل للاعتضاد، والحجة بالمقاييس العقلية، هذا من أعظم الهجر؛ ولذلك تجد مثل هؤلاء لا يقيمون وزناً للقرآن، ولا يُعنَوْن به، ولا يشتغلون به في التلاوة، ولا يشتغلون بالتدبر، والتفهم له، وانظر واعتبر في حال الفرق المنحرفة من هؤلاء وغيرهم كالرافضة هم أبعد ما يكون عن القرآن، وذكر شيخ الإسلام عن رجل من علماء أهل الكلام يقال له: الأصبهاني، لما جيء له بالمصحف أراد أن يقرأ من سورة الأعراف، يقال له عالم، فأراد أن يقرأ: آلمص فلم يعرف يقرأ، أول مرة يمر على الآية، في الظاهر أول مرة، يذكرني بأحد الطلاب أجريت معه مقابلة أعطيته المصحف قلت له: اقرأ، وفتحت له سورة المائدة؛ ما عرف يقرأ، تخرّج من الثانوي معدله فوق الخمسة والثمانين، ما عرف يقرأ، قلت: الظاهر أن الأخ لأول مرة تمر عليك السورة، قال: نعم أول مرة تمر عليّ سورة المائدة، وآخر يقال له: اقرأ من حفظك، قال: ماذا اقرأ؟ قيل له: اقرأ الفاتحة، قال: الفاتحة رب العالمين، هذا حصل معي أنا أو مع واحد آخر؛ سمعتها بأذني، فاتحة رب العالمين، فهذا في إنجيل متّى أو برنابا، وهذا تجده كثيراً، والسبب أنه ما ذلت ألسن هؤلاء بالقرآن، ولا اشتغلوا به، اشتغلوا بالغناء، وبعضهم ربما اشتغل بسماع القصائد الملحّنة التي صارت مطربة بعد ذلك في أغلبها، فشغلهم ذلك عن القرآن، راجعوا كلام الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - في القواعد الحسان في قاعدة ذكرها وهي: أن من ترك ما ينفعه أو ما هو بصدده ابتلاه الله بالاشتغال بما يضره، وذكر أدلة على هذا من القرآن.

  1. الفوائد لابن القيم (ص: 82).