الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا۟ لَمْ يُسْرِفُوا۟ وَلَمْ يَقْتُرُوا۟ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا... الآية، أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة".

قوله: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا قال: بئس المنزل منظراً، وبئس المقيل مقاماً، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا يعني: مكاناً للقرار، المستقر هو القرار، والمُقام يعني الإقامة، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا يعني: قراراً وإقامة، وهذا الذي فسرها به كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا أي: قراراً، وإقامة؛ لأنه قد يتوهم أن هاتين اللفظتين بمعنى واحد سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا مستقراً يعني ساءت قراراً، ومقاماً إقامة، إقامة لا تعني قصر المدة.

"وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا... الآية، أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلاً خيارًا، وخير الأمور أوسطها".

يعني هذا الذي ذكرته قال به بعض المفسرين، الفرق بين المستقر والمقام يعني قال بعضهم: إن المستقر القرار الدائم، والمقام هو الوقت اليسير؛ ولهذا هنا العبارة قال: وبئس المقيل، ولكن لو فسرت بما سبق - والله أعلم - مستقراً، ومقاماً يعني: إقامة عموماً - والله تعالى أعلم -، كل كتب التفسير تعرض لعبارة ابن جرير، القرار والإقامة، لكن إن كنت تقصد في الفروق اللغوية ففي كتب في الفروق اللغوية، لكن لا دليل عليه هنا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا فحمل الآية على معنى أعم أولى - والله تعالى أعلم - من تخصيصها من غير دليل، كأن يقال مثلاً: ساءت مستقراً للكفار، ومقاماً لأهل الإيمان مثلاً، إنما هي بئس القرار، وبئس المحل للإقامة - والله أعلم - كما يقول الله : وَبِئْسَ الْقَرَارُ [سورة إبراهيم:29].

"أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهْليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلاً خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا، ولا هذا: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، كَمَا قَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ.. [سورة الإسراء:29] الآية".

قوله: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا القوام بمعنى العدل، والاستقامة، يعني: يعتدلون في نفقتهم إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا... والعلماء - رحمهم الله - تكلموا على مسألة وهي: هل في الإنفاق في سبيل الله إسراف، وتبذير، وتجاوز للحد أو لا؟ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا...، وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29] ينقطع الإنسان عن مصالحه، ويلوم نفسه، ويلومه أصحاب الحقوق أنه لا يستطيع أن ينفق عليهم، والمحسور هو المنقطع.

فالحاصل أن من أهل العلم من قال: هذا يدخل فيه الإنفاق في سبيل الله، فحمل الآية على العموم.

ومنهم من يقول: ذلك لا يدخل فيه النفقة في سبيل الله، ويحتج بالأحاديث الواردة في هذا عن النبي ﷺ: ما يسرني أن لي مثل جبل أحد ذهباً تأتي عليه ثلاث..[1] الحديث، وكذلك أيضاً ما جاء من أفعال أصحاب رسول الله ﷺ، فأبو بكر جاء بجميع ماله، وأقره النبي ﷺ على هذا، وعمر جاء بشطر ماله، وأقره النبي ﷺ على هذا، ولهذا قال بعضهم كالشاطبي - رحمه الله - بأن ذلك يتفاوت بحسب أحوال الناس، بينما ذلك الرجل الذي جاء بقطعة من الذهب، وأعطاها النبي ﷺ، فأعرض عنه، ثم عرض عليه فأعرض عنه، فأخذها فرمى بها كالمغضب، وعلل ذلك بأن الرجل يأتي بماله ثم بعد ذلك يتكفف الناس، فيقول: من كان بهذه المثابة من ضعف اليقين، وإذا أنفق ماله يبدأ يتطلع، ويتعلق قلبه بالآخرين، ويتعرض لهم؛ فمثل هذا لا ينفق ماله، ومن كان بمنزلة أبي بكر فأنفق ماله لكمال يقينه، وتعلقه بالله وحده؛ فإنه لا يعاب في ذلك، فتكون هذه المسألة على هذا التفصيل: هل النفقة في سبيل الله يقال فيها إسراف أو لا؟ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا هل هي داخلة في هذا أو غير داخلة؟ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ، وأما في غير النفقة في سبيل الله فكل ما ينفق في الحرام فهو داخل في الإسراف، والتبذير، وتضييع المال، وأما في المباحات فذلك يختلف باختلاف الناس، فقد يكون هذا الثوب إسرافاً بالنسبة لزيد، ولا يكون إسرافاً بالنسبة لعمرو، وقد يكون هذا الجهاز الجوال إسرافاً بالنسبة لزيد ولا يكون إسرافاً بالنسبة لعمرو، قد تكون هذه السيارة إسرافاً بالنسبة لزيد، وهذا الأثاث إسرافاً بالنسبة إليه، بألف وخمسمائة نعم، مستأجرٌ صالة بأربعين ألفاً، وقبل أيام بثمانين ألفاً صالة للرجال والنساء، راتب ضئيل مثل هذا، إنسان فقير، وكل ذلك بالديون، وسيارات بالأقساط، وصدقات، وزكوات؛ صالة بثمانين ألفاً، فهذا يسمى إسراف وتبذير، لكن آخر يملك ملياراتـ وثمانين ألفاً هذه لا تساوي عنده، ولا شيء، مثل هذا قد لا يكون إسرافاً وتبذيراً بالنسبة لغيره، فيختلف باختلاف الناس - والله المستعان -، كنا نشاهد بعض الأشياء، وبعض الطلاب أعاجم في بعض الجامعات من غير أهل البلد، وليس ذلك بزيهم، لا بد أن يحاكي في أحسن اللباس، فيشتري من هذه العمائم أو الشمغ أفضل الأنواع، كما يقال: آخر بصمة، وهو لا يجد شيئاً، لا يجد قوتاً لزوجته، وأولاده، كل هذا على الصدقات، واللباس لازم تفصيل وأقمشة جيدة، لكن هذه العمامة بعشرة، وثوبه بخمسة عشر، ويحصل المقصود أبيض نظيف - والحمد لله - فهذا يعتبر إسرافاً، وقل مثل ذلك فيما يأكله الإنسان.

  1. رواه البخاري، كتاب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب أداء الدين، برقم (2388)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة، برقم (94).