السبت 02 / محرّم / 1447 - 28 / يونيو 2025
إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًۢا بَعْدَ سُوٓءٍ فَإِنِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا استثناء منقطع، وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أن من كان على عمل شيء ثم أقلع عنه، ورجع، وأناب؛ فإن الله يتوب عليه كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [سورة طه:82]، وقال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [سورة النساء:110] والآيات في هذا كثيرة جدًا".

قوله - تبارك وتعالى - هنا: إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ۝ إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ قال: هذا استثناء منقطع، ونحن نعرف أن الاستثناء المنقطع لا يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه، فهو بمعنى لكن إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لكن مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ فلا يكون ذلك مما يعود على ما قبله مما يتصل بالمرسلين - عليهم الصلاة والسلام -، والقول بأنه منقطع قال به جماعة من أهل العلم، إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ۝ إِلَّا مَن ظَلَمَ قالوا: هذا يتصور، هذا في المرسلين واضح، قالوا: هل يصدق هذا على المرسلين؟! فإذا قلت: إنه متصل فقد يفهم من ظاهره أن منهم من يحصل له الخوف، والذي يصدر منه ما يوجب الخوف هو من ظلم، من أهل العلم من قدر هذا الإشكال وقال: إن ذلك لا يكون بالنسبة للمرسلين، والله - تبارك وتعالى - يقول: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82]، وأولى من يدخل بهذا هم الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فلهم الأمن التام، فلا تكون حالهم كحال غيرهم من أهل الخوف لسوء أعمالهم، وظلمهم، فقالوا: الاستثناء منقطع؛ ليكون قوله: إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ على إطلاقه، ثم جاء كلام آخر لا يتصل بالمرسلين منقطع عمن قبله يقرر الله فيه حقيقة وهو أن من ظلم ثم بدل حسناً من بعد سوء فإن الله يغفر له ذنبه، ويمحو إساءته.

ومن أهل العلم من قال: إن الاستثناء متصل، لكنهم اختلفوا في توجيهه، والأصل في الاستثناء الاتصال، فقالوا: نحمل الاستثناء على الأصل وهو أنه متصل، لكنهم اختلفوا في توجيهه، فبعضهم يقول: إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ۝ إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ فالرسل - عليهم الصلاة والسلام - تقع منهم صغائر الذنوب لكن بقيدين كما هو معلوم في محله: لا تقع منهم الصغائر التي يسمونها صغائر الخسة، يعني التي تسقط المروءة، والعدالة، يقولون: كتطفيف الحبات، وسرقة الأشياء التافهة إلى آخره؛ هذه لا تقع من النفوس السوية، يقول: تقع منهم الصغائر، والله قال عن آدم ﷺ وهو نبي إنه عصى ربه فغوى إلى غير لك مما يذكرون، فقالوا: المقصود بذلك الصغائر، لكنهم لا يصرون عليها إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ، ولكنه على هذا المعنى - على هذا القول بأنه متصل والله تعالى أعلم - لا يخلو من إشكال، يعني لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ۝ إِلَّا مَن ظَلَمَ يعني أنه يخاف إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ كأن المعنى غير منتظم مع السياق - والله تعالى أعلم -، وهذا القول قال به بعض أهل العلم من أهل المعاني كالنحاس، وبعضهم يقول: هو متصل لكن فيه مقدر محذوف إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ۝ إِلَّا مَن ظَلَمَ من غيرهم ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ يعني كأنه يقول: إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ، لكن الأصل عدم التقدير، ومهما أمكن أن نجعل الكلام مستقلاً فهو أولى من القول بأن فيه مقدراً محذوفاً؛ لأن هذا خلاف الأصل، وهو خلاف الظاهر، ولا ضرورة إليه، وابن جرير - رحمه الله - جعله من قبيل المتصل، وحمله على ظاهره تماماً إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ۝ إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا إلا من ظلم بالتبديل، والتغيير، أو عمل خلاف ما أمرته، ومثل هذا يعني عمل على خلاف ما أمره الله به، ثم بدل حسناً من بعد سوء؛ فالله يغفر له؛ هذا كلام ابن جرير، والأقرب - والله تعالى أعلم - هو ما ذكره الحافظ ابن كثير من أن الاستثناء منقطع، وأن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لا يتطرق إليهم الخوف، لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، ولكن ما ذكره بعض من حمل الآية على الاتصال كابن جرير فهو غير مستبعد؛ فإن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - هم أكثر الناس خوفاً من الله - تبارك وتعالى -، والنبي ﷺ غُفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، وكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وذكر لهم أنه أشدهم خشية لله - تبارك وتعالى -، وذو النون - عليه الصلاة والسلام - لما ذهب مغاضباً لقومه، وظن أن الله - تبارك وتعالى - لن يضيق عليه، أن لن نقدر عليه: نضيق عليه؛ التقمه الحوت فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء:87]، وآدم - عليه الصلاة والسلام - قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:23]، والله يقول: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:37] هذه هي الكلمات - والله تعالى أعلم -.