"وقوله: قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا وذلك أن سليمان أمر الشياطين فبنوا لها قصرًا عظيماً من قوارير أي: من زجاج، وأجرى تحته الماء، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه.
أصل الصرح في كلام العرب: هو القصر، وكل بناء مرتفع قال الله إخبارًا عن فرعون - لعنه الله - أنه قال لوزيره هامان ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ... الآية [سورة غافر:36-37]، والصرح: قصر في اليمن عالي البناء، والممرد أي: المبنى بناء محكماً أملس مِنْ قَوَارِيرَ أي: زجاج، وتمريد البناء تمليسه، ومارد: حصن بدومة الجندل.
والغرض أن سليمان اتخذ قصراً عظيماً منيفاً من زجاج لهذه الملكة؛ ليريها عظمة سلطانه، وتمكنه، فلما رأت ما آتاه الله - تعالى -، وجلالة ما هو فيه، وتبصرت في أمره؛ انقادت لأمر الله، وعَرَفت أنه نبي كريم، وملك عظيم، وأسلمت لله ، وقالت: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي أي: بما سلف من كفرها، وشركها، وعبادتها، وقومها الشمس من دون الله، وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أي: متابعة لدين سليمان في عبادته لله وحده، لا شريك له، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا".
حينما نقول: إن قوله - تبارك وتعالى -: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ من قول سليمان - عليه الصلاة والسلام -، وإذا كان من قولها يعني قصدت أنها قبل هذه الآية عرفتْ نبوته، والأقرب أنه قول سليمان - عليه الصلاة والسلام -؛ ولأنها لم تسلم إلا بعد أن دخلت الصرح، وحصل ما حصل، وإذا قلنا: إنه من قول سليمان ﷺ فيمكن أن يقال: إن مراده بقوله: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا: العلم بالله وتوحيده وما إلى ذلك، وبعضهم يقول: العلم بقدرة الله ، وهذا لا ينافي ما سبق، وبعضهم يقول: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا أي من قبل مجيئها أي العلم بإسلامها قبل أن تأتي، ولكن هذا فيه بعد؛ لأنها لم تسلم إلا بعد ذلك، وهنا قال: قيل لها: ادْخُلِي الصَّرْحَ يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: وذلك أن سليمان - عليه الصلاة والسلام - أمر الشياطين فبنوا لها قصراً عظيماً من قوارير إلى آخره، هذا معناه أن ابن كثير - رحمه الله - يفسر الصرح بالقصر، وهذا معنى معروف عند العرب، إطلاق الصرح على القصر، قصر عظيم بني من قوارير يعني من زجاج، وأجرى تحته الماء فهو لصفائه يشف عما تحته، فلما دخلت فيه ظنت أنها تخوض في ماء كثير، لجة حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا، وبعضهم كالزجاج يفسر الصرح بالصحن صحن الدار، أو صحن القصر أو نحو ذلك، يعني كأنه وُضع لها بلاط من زجاج، وأجرى تحته الماء، ففسر الصرح بالصحن قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ يعني صحن القصر مثلاً، وهذا مثل قول من قال كابن قتيبة: إن ذلك بلاط من قوارير من زجاج، وظاهر الآية يدل على أن الذي كان موطئاً لأقدامها، وموضعاً لمشيها، وما أمرت بالدخول فيه؛ أنه كان من الزجاج، وأنها تمشي على أرض من زجاج؛ ولهذا حَسِبَتْهُ لُجَّةً فأجرى تحته الماء، وهذا أمر غير معهود، وإلى يومنا هذا يعتبر هذا من الأمور العجيبة جداً مع ما أعطيه الناس من إمكانات، وصناعات؛ وما أشبه ذلك، فيدل على أن ملك سليمان - عليه الصلاة والسلام -، وما أعطيه من هذه القُدر؛ أعظم مما توصل إليه الناس اليوم بمراحل كثيرة، يسير في الهواء، وعنده هؤلاء الجن، والشياطين؛ يعملون له ما يشاء من تماثيل، ومحاريب إلى آخره، حتى الآبار العجيبة إلى اليوم التي يعجب الناس منها منحوتة في الصخر بطريقة هندسية عجيبة دقيقة، كأنها حفرت بآلات بغاية الدقة، يقولون: هكذا في أطراف الشام موجودة إلى اليوم، وإن ذلك مما حفرته الجن لسليمان - عليه الصلاة والسلام - والله تعالى أعلم، ولكن ذلك يدل على قُدر غير عادية قال: حَسِبَتْهُ لُجَّةً اللجة معظم الماء، رغم أنه لجة البحر، البحر اللجيّ يعني البحر العميق، فظنت أنه لجة يعني أنه ماء كثير تحتاج إلى الخوض فيه فكشفت عن ساقيها؛ لئلا تبتل ثيابها، وهذا أيضاً اختبار آخر لها، وإظهار لقدرة سليمان - عليه الصلاة والسلام -، وفي البداية نكر لها عرشها، وهذا هو الاختبار الثاني ليظهر لها أن ما أوتيته ليس بشيء إزاء ما أعطاه الله لسليمان، فإذا كانت هذه المرأة جاءت بهذه المثابة نظرت إلى عرشها الذي ينبغي أن تكون أعرف الناس به، ثم بعد ذلك لُبّس عليها، ثم أمام سليمان - عليه الصلاة والسلام - تريد أن تمشي في مكان من اليابس، ثم ترفع، وتكشف عن ساقيها كأنها تخوض بالماء؛ فإن هذا الموقف قد لا تحسد عليه، ملكة ثم يتبين جهلها بحقيقة الأمر، ثم يقال لها: هذا ليس فيه ماء، أنت تمشين على محل يابس، فالإنسان يدرك في هذه المقامات قصوره، وجهله، وتخلفه عن بلوغ هذه المراتب من المعرفة، هذه ملكة عظيمة لها عرش عظيم، ومع ذلك منذ أن جاءت حصل لها هذه المواقف؛ فإن ذلك لا شك أنه يزعزع ثقتها بما عندها، ويذهب ما عندها من غرور، وزهو، وتعاظم - كما هو العادة مما يحصل لأهل الملك، والسلطان، وأصحاب الثروة العظيمة، فإذا حصل له مثل هذا تلاشى، ورجع إلى ما كان ينبغي أن يكون عنده - فيكون ذلك أدعى إلى إسلامها، وخضوعها، والعلم عند الله - تبارك وتعالى -.
يقول: أصل الصرح في كلام العرب هو القصر، وكل بناء مرتفع، وهذا الذي قاله ابن كثير - رحمه الله - قال به أبو عبيد القاسم بن سلام، واحتج بقوله: ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ [سورة غافر:36]، وقال: الصرح قصر في اليمن هذا لا علاقة له بالآية، لكن هو يريد أن يبين الشيء بالشيء، يذكر أن الصرح يقال: للقصر، يقال يوجد في اليمن قصر لا علاقة له بملكة سبأ، هو لا يقصد هذا، والمُمرّد هنا قال: المبني بناء محكماً أملس، وبعضهم يقول: هو البناء الطويل، يقال له: ممرد، ومنه قيل للحصن المعروف: مارد، "تَمرَّدَ ماردٌ، وعزَّ الأبْلقُ" هذا مثل أو صار مثلاً، يقول: بناء محكماً أملس من قوارير أي من زجاج، وتمريد البناء تمليسه، ولهذا قيل: الأمرد الذي ليس في وجهه شعر، فأصل هذه المادة يرجع إلى هذا المعنى - والله تعالى أعلم -.