"وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [سورة القصص:14-17].
لما ذكر تعالى مبدأ أمر موسى ذكر أنه لما بلغ أشده، واستوى؛ آتاه الله حكماً، وعلماً، قال مجاهد: يعني النبوة وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ".
قوله - تبارك وتعالى -: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قال: "ذكر أنه لما بلغ أشده، واستوى؛ آتاه الله حكماً، وعلماً" لم يتفق أهل العلم على قول في معنى بلوغ الأشد، فالإمام مالك - رحمه الله - يرى أن بلوغ الأشد هو بلوغ الحلم، إذا وصل يعني إلى سن البلوغ، ويستدل لذلك بقوله - تبارك وتعالى -: وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ [سورة النساء:6] البلوغ يعني فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فهناك بالنسبة لليتيم يطلب فيه البلوغ بجانب حسن التصرف في المال، فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن بلوغ الأشد ليس مجرد البلوغ المعروف، وإنما يطلب معه ما هو فوق ذلك مما يحصل به النضج، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن بلوغ الأشد أن يبلغ الرابعة والثلاثين كما يقول مجاهد، وسفيان الثوري؛ يبلغ الرابعة والثلاثين، قالوا هذا يكون حالاً من الاستواء، والاكتمال، وبعضهم يقول: يكون من الثامنة عشرة إلى الثلاثين، هذا بلوغ الأشد عندهم، والاستواء فوقه يعني باعتبار أنه بلغ أشده واستوى؛ لأن الواو تقتضي المغايرة، فالاستواء غير بلوغ الأشد، فقد يبلغ الأشد لكنه ما استوى بعد، فبلوغ الأشد عندهم من الثامنة عشرة إلى الثلاثين، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين هكذا يقول بعض أهل العلم، وبعضهم يحدد الاستواء بالأربعين، والله يقول: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [سورة الأحقاف:15] فيحتمل أن يكون بلوغ الأشد يحصل قبل ذلك لكنه إذا بلغ الأربعين كانت النهاية، ولا شك أن من بلغ الأربعين يكون قد بلغ الأشد من جهة اكتمال العقل، فالكمال على مراتب، النضج العقلي ليس على مرتبة، ولهذا يمكن أن يقال - والله تعالى أعلم -: إن بلوغ الأشد يكون بمعنى اكتمال العقل، والنضج العقلي يكون على قوته، وشدته، وهذا يتفاوت الناس فيه بحسب نمو مداركهم العقلية، وما يحصل لهم من التجارب في الحياة، فإن العقل منه ما هو فطري، ومنه ما هو مكتسب، والناس يتفاوتون في هذا تفاوتاً كبيراً، كما يتفاوتون في عافية أبدانهم، وفي صور أجسامهم، كذلك يتفاوتون في عقولهم، والعقل غير الذكاء، وقد يكون الإنسان في غاية الذكاء ولكنه لا عقل له، كما أن العقل ليس هو العلم، فقد يكون الإنسان من أوعية العلم، ولكنه لا عقل له، ولا يُحسن التدبير، وليس عنده حكمة، ولا حسن نظر في الأمور، وإنما فيه شيء من الطيش، والعجلة، لا يقدر الأمور بصورة صحيحة؛ لربما يفسد أكثر مما يصلح إذا كان ليس له حكمة، ولا رزانة، ولا عقل، ولهذا يقول ابن جرير - رحمه الله -: إن بلوغ الأشد يعني حينما يكون في حال من الاشتداد، واكتمال الخلق، والنمو يعني شدة البدن، واكتمال النمو عند هذا الإنسان، شدة البدن، وانتهاء القوى، وإن الاستواء يكون بلوغ النهاية في ذلك، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ولا يبعد - والله تعالى أعلم - أن بلوغ الأشد يشمل هذا وهذا، فإن الاكتمال الذي يحصل للإنسان يعني النمو البدني، فالحد الذي يقرره الأطباء مثلاً بالنسبة للعظام، البنت يقولون: إنها إذا وصلت للسابعة عشرة العظام لا تنمو، وهذا يحتاج إليه فيما يتطلبه تنمية العظام من أغذية ونحو ذلك، وكذلك في العلاجات التي لربما تحتاج إلى معالجة، وتتطور مع الوقت؛ فإذا وصلت إلى هذا يعلم أنه لا يحصل نمو أكثر، والحال ستبقى على هذا، وبالنسبة للذكر يقولون: إلى الحادية والعشرين يتوقف نمو العظام هذا بالنسبة لنمو العظام، لكن بقية نمو الجسم لا شك أنه يحصل للإنسان نمو، فالذي يبلغ الحادية والعشرين لا يكون كذلك إذا بلغ الأربعين من ناحية النمو، فاكتماله يكون ببلوغ النهاية في النمو البدني إلى الأربعين، وكذلك بالنسبة للنمو العقلي الناس يتفاوتون في سرعة هذا النمو، فقد تجلس مع ابن في الثامنة عشرة وهو في عقله مثل ابن الأربعين، قد يوجد لكنها حالات نادرة أو قليلة، وقد ترى ابن العشرين أو الثلاثين كذلك لكن غاية النمو العقلي إلى الأربعين يعني لا يرجى له بعد الأربعين عقل زائد إلا ما كان من قبيل التجربة، والخبرة العقل المكتسب لكن من كان به سفه، ونقص في العقل، وضعف في التفكير وما إلى ذلك؛ لا يرجى له بعد الأربعين أن يحصل له نمو عقلي، إنما تكون التجارب التي هي جزء العقل الآخر يعني تحنكه التجارب، وينتفع بذلك، فبلوغ الأشد من أهل العلم من يقول: هو المقصود بقوله: وَاسْتَوَى بلغ الأشد، الاكتمال العقلي وهو الاستواء، وأكثر أهل العلم يفرقون بين بلوغ الأشد والاستواء يقولون: الاستواء أمر زائد على ذلك، ونحن نعلم أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إنما يبعثون إذا بلغوا الأربعين، فهذا حد الكمال - والله تعالى أعلم - ولهذا ذكره الله في قوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي يعني ذهب عنه الطيش - والله أعلم -.
آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا فالحكم فسر بالنبوة، وفسر بالحكمة، وفسر بالفقه في الدين، وابن جرير - رحمه الله - يفسر هذا بالفقه بالدين، وهذه المعاني إذا نظرت إلى أصل المادة الحاء والكاف والميم تجد أنها ترجع إلى ذلك جميعاً، فكمال العلم والحكمة إنما هو في النبوة التي يعطيها الله من شاء من عباده، فهذا منتهى الفهم، والعلم، والعقل، والكمال، والحكمة هي موهبة ربانية من الله لمن شاء من عباده، لا يصل إليها الإنسان بتهذيب، ومجاهدات، وتزكيات وما إلى ذلك كما يقول الفلاسفة، إنما هي موهبة ربانية، وهي النبوة فمن قال: إنها النبوة فذلك منتهى الحكم، وأما العلم المشار إليه - والله تعالى أعلم - فبعضهم يقول: هو الفهم، وبعضهم يقول: هو الفقه، فمن يقول: إن ذلك كان قبل النبوة فيقول: أعطاه الله حكماً يعني حكمة، وفهماً، وفقهاً في الدين، وعلماً يقول: أعطاه الله العلم بدينه، ودين آبائه، فعلّمه الله ذلك أعطاه الله حكماً وعلما، فإن قيل: هذا قبل النبوة فهذا كما سبق، وإن قيل: بعد النبوة فيمكن أن يحمل ذلك على منتهاه وهو النبوة، على أكمل صوره، وحالاته، علمه الله بوحيه، فالآيات هنا تحتمل أن يكون ذلك على ما قصه الله بهذا السياق، والترتيب، حتى حصل ما حصل من قتل القبطي باعتبار أن ذلك كان قبل النبوة، وأن النبوة لم تحصل له إلا بعدما رجع من مدين، ففي الطريق أوحى الله إليه في الوادي المقدس طوى عند جبل الطور، فحصلت له النبوة حينما أوحى الله إليه هناك، وما قبل ذلك كان قبل النبوة، فبهذا الاعتبار يحمل العلم والحكم هنا على الفقه في الدين، والفهم، والحكمة وما شابه ذلك، وإذا قيل: إن النبوة حصلت له قبل أن يذهب إلى مدين فيمكن أن يحمل هنا الحكم على النبوة - والله تعالى أعلم -، والعلماء - رحمهم الله - منهم من يقول: إن النبوة حصلت له بعدما رجع في الطريق حين ناداه الله : إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [سورة طه:12-13]، ومنهم من يقول: كانت له النبوة قبل ذلك - والله تعالى أعلم -، ولا يبعد - والعلم عند الله أنه قبل أن يذهب إلى مدين كان في شبابه قبل أن يبلغ الأربعين، وكان لا يزال في حال من التمكن لكونه تربى في قصر فرعون، يحتمل هذا - والله تعالى أعلم -، ثم بعد ذلك ذهب وتزوج في مدين.