"ثم عزم على البطش بذلك القبطي، فاعتقد الإسرائيلي لخوَرِه، وضعفه، وذلته؛ أن موسى إنما يريد قصده لمّا سمعه يقول ذلك، فقال يدفع عن نفسه: يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ وذلك لأنه لم يعلم به إلا هو وموسى ، فلما سمعها ذلك القبطي لقَفَها من فمه، ثم ذهب بها إلى باب فرعون فألقاها عنده، فعلم بذلك، فاشتد حنقه، وعزم على قتل موسى، فطلبوه فبعثوا وراءه ليحضروه لذلك.
هذا هو قول الجمهور: إن الذي قال: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ هو الإسرائيلي، وحجتهم في ذلك أنه لم يعلم بذلك أحد سوى هذا الإسرائيلي، وهو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، وعامة أهل العلم أن القائل هو الإسرائيلي، ومن أهل العلم من قال: إن القائل هو القبطي، واحتجوا على ذلك بأنه ظاهر القرآن، وأن السياق يدل عليه، وقالوا: هنا الآيات: فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا فالقائل هو المخبَر عنه المحدَّث عنه الذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا لكن قالوا: الإسرائيلي محتمل، لكن ظاهر القرآن أن القبطي هو القائل، وهذا وجيه من جهة السياق، والآية تحتمل هذا وهذا، فذاك مبناه على النظر، وهذا مبناه على السياق، وظاهر القرآن، فهذه طرق في الترجيح، ومن أهل العلم من اعتمد ظاهر القرآن، والسياق، وقال: إن القائل هو القبطي علم بطريقة ما، وقد يكون هذا الإسرائيلي هو الذي قال له، وقد يكون القائل هو الإسرائيلي غلب عليه الخوف فظن أن موسى - عليه الصلاة والسلام - لما قال: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ أنه يريد أن يبطش به، وأن يؤدبه فقال: يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ والجبار هو الذي يفتك، ولا ينظر في العواقب، ولا يكترث، ولا يهتم، صاحب فتك يقتل، وبعض السلف كالشعبي أخذ من هذا أن من قتل نفسين فهو جبار أي: نفسان قتلهما بغير حق، قالوا: لأنه قال: كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ قالوا: إذا أضاف إلى واحد آخر في القتل فهو جبار، وهذا ليس بلازم أنه لا يقال للإنسان جبار إلا إذا قتل نفسين فأكثر، فقد يكون جباراً من غير قتل، قد يحصل هذا؛ ولهذا قال الزجاج: إن الجبار هو الذي لا يتواضع لأمر الله ، وكذلك أيضاً القاتل بغير حق إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ، والذين قالوا: إن القائل هو الفرعوني قالوا: هل يعقل أن الإسرائيلي باعتبار أن موسى - عليه الصلاة والسلام - نبي إذا قيل: إن هذا وقع في نبوته هل يعقل أن الإسرائيلي يقول لموسى: إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فـ"إنْ" هنا نافية يعني ما تريد إلا أن تكون جباراً، ولا يعقل أن يخاطبه رجل من بني إسرائيل مؤمن بنبوته - عليه الصلاة والسلام - ويقول له: إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ، وإن القتل هنا الذي حصل لم يكن مقصوداً أصلاً، وإن موسى - عليه الصلاة والسلام - تاب، والذين يقولون: إن القائل هو الإسرائيلي، يمكن أن يقولوا: هذا كان أصلاً قبل النبوة، ثم هذا الإسرائيلي الذي حصل منه هذا؛ كل يوم هو في مشكلة مع آخر كما قال له موسى - عليه الصلاة والسلام -: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أي بيّن ظاهر الغواية، فمثل هذا ما يبعد أن يصدر منه مثل هذا الكلام في حال الخوف، والآية تحتمل هذا وهذا - والله تعالى أعلم -.