"وقوله تعالى: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ أي: جعلنا له ملكاً كاملاً من جميع ما يحتاج إليه الملوك" قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: "كان أشد أهل الدنيا سلطاناً".
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ قال هنا: جعلنا له ملكاً كاملاً من جميع الوجوه، وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ يعني ثبتناه، وقويناه، وذلك لا يكون إلا بتحقق ما يُثبت، أو يحصل به ذلك، يحصل به ثبات الملك، وقوة الملك، ورسوخه، وذلك بأمور لا تخفى، شددنا ملكه، ملكٌ وسلطان قوي ثابت، ليس فيه ضعف، واضطراب.
"وقوله - عز وعلا -: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ قال مجاهد: يعني: "الفهم، والعقل، والفطنة"، وقال قتادة: "كتاب الله، واتباع ما فيه"، وقال السدي: "الْحِكْمَةَ النبوة".
الحكمة تفسر بهذا وهذا، ولذلك تجد عبارات السلف فيها، وكلام أهل العلم في المواضع المتفرقة يأتي لمعانٍ متعددة، والواقع أنها ترجع إلى معنى يمكن أن يلتئم من كون الحكمة في أصلها - أصل هذه المادة "الحاء والكاف والميم" - ترجع إلى المنع، ولذلك يقولون فيها: إنها مثلاً الإصابة في القول، والعمل، فهذا الذي تحصل له الإصابة في القول، والعمل؛ يحصل له بذلك منع بهذه الحكمة من الشطط، والخطل في القول، والرأي، والحكم وما إلى ذلك؛ ولهذا يقال في الحكم مما يرجع إلى هذه المادة، وقد مضى الكلام على هذا في الكلام على اسم الله الحَكم والحكيم، وذلك أن الحكم يمنع أحد الخصمين من أخذ حق غيره، أو من التعدي على الآخر، والحاكم كذلك أيضاً، وحينما يقال: إن الحكمة وضع الشيء في موضعه، وإيقاعه في موقعه، فذلك أيضاً منع لمن كان موصوفاً بهذه الصفة من الخطل، والخطأ، والشطط في القول، والعمل، فهذا يحصل بالعلم، وهو يحصل في أجلى صوره بالنبوة، فهي أعلى، وأعظم، فهي منحة إلهية تكون متضمنة للعلم، ويكون معها من الفهم، والصواب، ووضع الأشياء في مواضعها وما إلى ذلك، كل ذلك متحقق في النبوة، ولهذا كانت الحكمة تأتي بمعنى النبوة، وتأتي بمعنى الفهم، وتأتي بمعنى العلم، وتأتي بمعنى الإصابة وما إلى ذلك، كل هذه المعاني التي يذكرها السلف صحيحة، ولهذا قال: الفهم، والعقل، والفطنة، قال قتادة: "كتاب الله واتباع ما فيه"، وقال السدي: "الحكمة: النبوة".
"وقوله : وَفَصْلَ الْخِطَابِ قال شريح القاضي، والشعبي: "فصل الخطاب: الشهود، والأيمان"، وقال قتادة: "شاهدان على المدعي، أو يمين المدعى عليه هو فصل الخطاب الذي فصل به الأنبياء والرسل - أو قال: المؤمنون والصالحون - وهو قضاء هذه الأمة إلى يوم القيامة"، وكذا قال أبو عبد الرحمن السلمي، وقال مجاهد والسدي: "هو إصابة القضاء، وفهم ذلك"، وقال مجاهد أيضاً: "هو الفصل في الكلام، وفي الحكم"، وهذا يشمل هذا كله، وهو المراد واختاره ابن جرير".
هنا وَفَصْلَ الْخِطَابِ هذه الأقوال التي ذكرها ما عدا الأخير يعني قول مجاهد: هو الفصل في الكلام، وفي الحكم، ما قبل ذلك الأيمان، والشهود، شاهدان على المدعي، أو يمين المدعى عليه، وهكذا، الأقوال، أو العبارات التي نقلها عن السلف في هذا المعنى ترجع إلى شيء واحد، وهذا الذي عزاه الواحدي لأكثر المفسرين، فصل الخطاب يعني: ما يتعلق بالحكم: الشهود، والأيمان، فالقول الأخير الذي نقله عن مجاهد، قال: هو الفصل في الكلام، وفي الحكم، الفصل في الكلام بعضهم قال: الإيجاز في الكلام، يقول قولاً فصلاً، وبعضهم يقول: الفصل في الكلام يكون المراد به قول: أما بعد، يفصل بين جزءين من الكلام، أما بعد، يقولون: أول من قالها داود - عليه الصلاة والسلام -، وليس ثمة ما يثبت ذلك - والله تعالى أعلم -، وهكذا قول من قال: إيجاز المعنى، المعنى الكثير في القول أو الكلام الوجيز المختصر وَفَصْلَ الْخِطَابِ.
مجاهد - رحمه الله - جمع هذه الأقوال فقال: هو الفصل في الكلام، وفي الحكم، وابن كثير يؤيده، يقول: وهذا يشمل هذا كله، وهو المراد، واختاره ابن جرير، وذلك أن ابن جرير كما هي العادة يقول: إنه لا يوجد دليل يدل على أحد هذه المعاني، وكل ذلك يقال له: فصل الخطاب، فآتى الله داود - عليه الصلاة والسلام - هذا كله من الفصل في الكلام، وفي الحكم بين الخصوم - والله تعالى أعلم -.