روى البخاري عن أبي هريرة : كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال: "خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام"، وهكذا قال ابن عباس - ا -، ومجاهد وعطية العوفي، وعكرمة وعطاء، والربيع بن أنس: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يعني خير الناس للناس، والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس ولهذا قال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [سورة آل عمران:110]".
في قوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ هل "كان" تامة أم ناقصة؟
الفرق بين "كان" التامة و"كان" الناقصة أن "كان" التامة لا تحتاج إلى مبتدأ وخبر، فهي ليست من النواسخ، وعلى هذا يكون المعنى وُجِدتُم خير أمة، كما تقول مثلاً: قال الله له: كن فكان، فهذه تامة معناها فوُجد، فإذا كانت هنا في الآية تامة فهي ليست بمعنى المضي، وإنما يكون هذا وصف ثابت لهم، أما إذا كانت ناقصة ناسخة تنسخ المبتدأ والخبر بحيث يكون المبتدأ اسماً لها، والخبر خبراً لها؛ فعندئذ هل تكون "كنتم" يعني في الزمن الماضي خير أمة أخرجت للناس فقط؟
ليس هذا هو المراد، وإنما من فسرها بأنها ناقصة، واعتبر فيها معنى المضي، قال: إن "كنتم" يعني في اللوح المحفوظ خير أمة أخرجت للناس، ومنهم من يقول: كنتم منذ آمنتم خير أمة أخرجت للناس.
ومن أهل العلم من يقول كابن جرير - رحمه الله -: إن "كان" هذه ذِكْرها وعدم ذكرها سواء من جهة الدلالة على المعنى الأصلي الذي سيقت له الآية، وهو أن هذا الوصف ثابت لهذه الأمة في الحال أي حينما نزلت عليها هذه الآية وليس ذلك في المضي، ومثل هذه الآية قوله تعالى: وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ [سورة الأعراف:86] وقوله: وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ [سورة الأنفال:26] وما شابه ذلك، فالمعنى أنتم خير أمة أخرجت للناس.
وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد - صلوات الله وسلامه عليه - فإنه أشرف خلق الله، وأكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم؛ لم يعطه نبياً قبله، ولا رسولاً من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه كما روى الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله ﷺ: أعطيت ما لم يُعطَ أحد من الأنبياء فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهوراً، وجعلت أمتي خير الأمم[2] وإسناده حسن، وقد وردت أحاديث يناسب ذكر بعضها هاهنا.
وثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر فقال أبو هريرة: فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نمرة عليه، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله ﷺ: اللهم اجعله منهم، ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة[3]".
قوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ إلى آخره يعني أنتم خير أمة أظهرت للناس، حيث اتصفتم بهذه الصفة تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وهذا يدل على أن الأمة إذا تخلت عن هذا فقد تخلت عن سبب خيريتها، وتفضيلها، وهذا يدل أيضاً على أن هذه الأمة أفضل الأمم، وأنها أفضل من بني إسرائيل، وإن كان الله قد قال في حق بني إسرائيل: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47] فيعني أنه فضلهم على عالم زمانهم، فلما كفروا مقتهم الله ، ولعنهم، وقطعهم في الأرض أمماً، وحصل بهم ما حصل.
روى الإمام أحمد عن جابر أنه سمع النبي ﷺ يقول: إنِّي لأرْجُو أنْ يَكُونَ مَنْ يَتَّبِعُنِي مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُبْعَ الْجَنَّةِ قال: فكبَّرنا، ثم قال: أَرْجُو أنْ يَكُونُوا ثلثَ النَّاسِ قال: فكبرنا، ثم قال: أَرْجُو أنْ تَكُونُوا الشَّطْرَ وهكذا رواه عن طريق آخر وهو على شرط مسلم[4].
وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قال لنا رسول الله ﷺ: أمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنِّةِ؟ فكبرنا، ثم قال: أَمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ فكبرنا، ثم قال: إنِّي لأرْجُو أنْ تَكُونُوا شطر أَهْلِ الْجَنَّة[5].
حديث آخر: روى الإمام أحمد عن بريدة أن النبي ﷺ قال: أهل الجنة عشرون ومائة صف؛ هذه الأمة من ذلك ثمانون صفاً وكذلك رواه عن طريق آخر وأخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن، ورواه ابن ماجه[6].
وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه الناس لنا فيه تبع غداً لليهود، وللنصارى بعد غد [رواه البخاري ومسلم مرفوعاً بنحوه][7].
ورواه مسلم أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول من يدخل الجنة وذكر تمام الحديث[8].
فهذه الأحاديث وغيرها في معنى قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [سورة آل عمران:110] فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم، والمدح لهم، كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب في حجة حجها رأى من الناس رِعةً فقرأ هذه الآية".
قوله: "رأى من الناس رِعةً " يعني سوء هيئة، أو سوء تصرف، يعني رأى منهم ما ينافي الأدب.
ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله تعالى: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ الآية [سورة المائدة:79]، ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة على هذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم فقال تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ أي: بما أنزل على محمد ﷺ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ أي: قليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم، وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة، والكفر، والفسق، والعصيان".
وهذه الأحاديث التي ذكرها إضافة إلى الآية كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ لا تعارض ما سبق من قول الله - تبارك وتعالى - في بني إسرائيل: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47].
وقد ذكرنا هناك بأن المقصود بتلك الآية هو أنهم فضلوا على عالمي زمانهم، ولم يفضلوا على هذه الأمة، ثم بعد ذلك نزع الله منهم هذا التفضيل، وأورث الكتاب لهذه الأمة كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ الآية [سورة فاطر:32] وهم هذه الأمة، فخير أمة على الإطلاق هي أمة محمد ﷺ، والنصوص مصرِّحة بهذا لا خفاء فيها.
وأما ما ذكر الله بعده من قوله: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة آل عمران:110] فالمقصود أنهم لو آمنوا بمحمد ﷺ، ودخلوا في الإسلام؛ لكان خيراً لهم.
فالله تعالى في هذه الآية قسمهم على طائفتين منهم من آمن، ومنهم من لم يؤمن، وهم الذين عبر عنهم بالفاسقين؛ لأنهم خرجوا عن الإيمان الذي وجب عليهم ولم يتابعوا رسول الله ﷺ، ثم إنه بعد ذلك فصل في حال الفريقين كما سيأتي في قوله تعالى: لَيْسُواْ سَوَاء [سورة آل عمران:113] فهذا تفصيل لهذا على قول طائفة من أهل العلم كما سيأتي.
وقوله تعالى: مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة آل عمران:110] يحتمل أن يكون المقصود بذلك قبل مبعث النبي ﷺ أي أن منهم من كان على دينه متمسكاً به، متابعاً لنبيه، ومنهم من كان خارجاً عن ذلك، فهذا تحتمله الآية، وقد يكون المراد - والله تعالى أعلم - هو ما ذكرته أولاً، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
- أخرجه الترمذي في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (3001) (ج 5 / ص 226) وابن ماجه في كتاب الزهد - باب صفة أمة محمد ﷺ (4288) (ج 2 / ص 1433) وأحمد (20029) (ج 4 / ص 447).
- أخرجه أحمد (763) (ج 1 / ص 98) وهو في السلسلة الصحيحة برقم (3939).
- أخرجه البخاري في كتاب اللباس - باب البرود والحبرة والشملة (5474) (ج 5 / ص 2189) ومسلم في كتاب الإيمان - باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب (216) (ج 1 / ص 197).
- أخرجه أحمد (15154) (ج 3 / ص 383) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قصة يأجوج ومأجوج (3170) (ج 3 / ص 1221) ومسلم في كتاب الإيمان - باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة (221) (ج 1 / ص 200).
- أخرجه الترمذي في كتاب صفة الجنة - باب ما جاء في صفة أهل الجنة (2546) (ج 4 / ص 683) وابن ماجه في كتاب الزهد - باب صفة أمة محمد ﷺ (4289) (ج 2 / ص 1434) وأحمد (22990) (ج 5 / ص 347) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح.
- أخرجه البخاري في كتاب الجمعة - باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم (856) (ج 1 / ص 305) ومسلم في كتاب الجمعة - باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (2017) (ج 3 / ص 6).
- صحيح مسلم - كتاب الجمعة - باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (2017) (ج 3 / ص 6).