الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّآ أَذًى ۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى مخبراً عباده المؤمنين، ومُبشِّرًا لهم أن النصر والظَّفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين فقال تعالى: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ [سورة آل عمران:111] وهكذا وقع، فإنهم يوم خيبر أذلّهم الله، وأرْغَم أنوفهم".
قوله: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى يمكن أن يكون هذا الاستثناء بـ"إلا" مفرغاً من أعم الأحوال، ويمكن أن يكون مقطعاً بمعنى لكن، أي لن يضروكم لكن.
والمراد بالأذى في قوله: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى يعني كأن يُسمعوكم ما تكرهون في نبيكم، وكتابكم، وتسمعون منهم ما تكرهون في عيسى - عليه الصلاة والسلام -، وفي أمِّه، وما إلى ذلك من القبائح التي تسمعونها منهم.
والأذى والضرر بينهما فرق فالله يقول في الحديث القدسي: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني[1]، ومع ذلك يقول في كتابه الكريم: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [سورة الأحزاب:57]، ويقول في الحديث القدسي الآخر: يؤذيني ابن آدم[2] وذلك أن الأذى يمكن أن يوصله الإنسان إلى الله - تبارك وتعالى - كالذي ينسب إليه الصاحبة، والولد، ويشرك بالله ، ويكذب عليه وما أشبه ذلك، فهذا من الأذى، لكن الضرر أبلغ من الأذى، فلا يستطيع أحد أن يلحق الضرر بالله - تبارك وتعالى -، فالله - تبارك وتعالى - يقول هنا: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى [سورة آل عمران:111] فالأذى ليس بضرر وإنما هو دونه، ومعنى الآية: لن يصلوا إليكم بما يحبون من النكاية، والقتل وما أشبه ذلك، ولكنه أذى بما تكرهون سماعه حيث يسمعونكم ما تكرهون من قالة السوء ونحو هذا فحسب، فلن يصل الأمر إلى أبعد من ذلك مما يكون أثره في الواقع من النيل منكم، وإصابة أهل الإيمان بالقتل ونحوه.
"وهكذا وقع فإنهم يوم خيبر أذلّهم الله، وأرْغَم أنوفهم، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قينقاع، وبني النضِير، وبني قريظة؛ كلهم أذلهم الله، وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن، وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين، ودهر الداهرين، ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم كذلك، ويحكم بشرع محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام -، فيَكْسر الصَّلِيب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزْية، ولا يقبل إلا الإسلام".
  1. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب تحريم الظلم (2577) (ج 4 / ص 1994).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [(15) سورة الفتح] (7053) (ج 6 / ص 2722) ومسلم في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها - باب النهي عن سب الدهر (2246) (ج 4 / ص 1762).

مرات الإستماع: 0

"لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران:111] قال: بالكلام خاصة، وهو أهون المضرة."

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى قال: بالكلام خاصة استثناء هنا، يعني: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى إلا أذى، مفرغ عند بعضهم، وبعضهم يقول: منقطع، يعني: لكن أذى، وابن جرير - رحمه الله - فسره، بأنهم لَنْ يَضُرُّوكُمْ: بكفرهم، وشركهم إِلَّا أَذًى: بما يسمعونكم من الكلام القبيح، ونحو ذلك، ما يسمعونكم في عيسى - عليه الصلاة، والسلام - باعتبار أن السياق في كثير من آيات هذه السورة في صدرها موجه لأهل الكتاب، لما يسمعونكم في عيسى، وأمه من القول السيء.

فهذا لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى إلا أذى، هل الأذى من الضرر، أو لا؟ إذا قلت: بأن: الأذى من الضرر فالاستثناء متصل، وأنه نوعٌ منه، وإذا قلت، بأن: الأذى ليس من الضرر، فالاستثناء منقطع، ليس من جنس المستثنى منه.

 تأمل قول الله - تبارك، وتعالى - في الحديث القدسي: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني[1] مع قوله في الحديث الآخر القدسي: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر[2] فأثبت الأذى، ونفى الضرر، فأثبت الأذى، ونفى الضرر عنه - سبحانه، وتعالى - الخلق أضعف من أن يلحقوا به ضررًا، لكن الأذى يؤذيني ابن آدم.

فهنا: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى فعلى هذا الاعتبار، يكون الأذى غير الضرر، يعني: لن يبلغوا منكم الضرر، وإنما غاية ما هنالك أنهم يؤذونكم، يؤذونكم بما يسمعونكم من الكلام القبيح، ونحو ذلك - والله أعلم -. 

"يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ [آل عمران:111] إخبارٌ بغيبٍ ظهر في الوجود صدقه."

باعتبار لو حصل القتال لا يقاتلوكم وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [آل عمران:111].

"ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ إخبارٌ مستأنفٌ، غير معطوفٍ على يولوكم، وفائدة ذلك: أن توليهم الأدبار مقيدٌ بوقت القتال - وفي النسخة الخطية: وفائدة ذلك: أن تولتيهم الأدبار مقيدةٌ بوقت القتال - وعدم النصر على الإطلاق، وعطفت الجملة على جملة الشرط، والجزاء ثُمَّ لترتيب الأحوال؛ لأن عدم نصرهم على الإطلاق، أشد من توليهم الأدبار حين القتال."

يقول: وعطفت الجملة ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ على جملة الشرط وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ فهنا ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ هذه يقول: عطفت الجملة على جملة الشرط، والجزاء معطوف عليها وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ هذه عاطفة لا يُنْصَرُونَ.

قال: وثُمَّ لترتيب الأحوال، يعني: أن ثُمَّ هنا ليس للترتيب الزمني، وإنما ثُمَّ تكون أحيانًا لبيان الرتبة: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد:17] وتارةً تكون للترتيب الزمن، هنا يقول: لترتيب الأحوال فذكر أنهم يولون الأدبار، وذكر حالًا أخرى أنهم لا يُنْصَرُونَ.

قال: لأن عدم نصرهم على الإطلاق؛ أشد من توليهم الأدبار حين القتال. يعني: قد يولون الأدبار، ثم يكون لهم كرّة، كما حصل للمشركين يوم أُحد، هُزموا في أول المعركة، وولوا الأدبار، وذهب النساء لا يلوين على شيء، صُعدًا في الجبل حاسرات عن سوقهن حتى بدت خلاخلهن، ثم بعد ذلك تحول ميزان المعركة، ووقع ما وقع - والله المستعان -. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
  2. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24] الآيَةَ، برقم (4826) ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب، وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، برقم (2246).