قال محمد بن إسحاق وغيره ورواه العَوْفِيّ عن ابن عباس - ا -: إن هذه الآيات نزلت فيمن آمَنَ من أحبار أهل الكتاب".
هناك ذَكَر أن أهل الكتاب على طائفتين: منهم من آمن، وأكثرهم الفاسقون، وذكر حال هؤلاء الفاسقين، وأنهم لن يضروكم إلا أذى، وأنهم ضربت عليهم الذلة، والمسكنة إلى آخر ما ذكر، ثم ذكر بعد ذلك تفصيلاً فقال: لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ [سورة آل عمران:113]، فأثنى على أهل الإيمان منهم، وهم الذين آمنوا بمحمد ﷺ، والآية تحتمل معنىً آخر وهو أنه وصف أهل الإيمان منهم قبل مبعث النبي ﷺ ممن كانوا على الدين الصحيح.
وعلى كل حال فإنه بعد بعث النبي ﷺ لا يُقبل من أحد دين سوى الإسلام، ومتابعة النبي - عليه الصلاة والسلام -، ولا يمكن بعد مبعث النبي ﷺ أن يوصف أحد من أهل الكتاب بأنه على شيء، وأنه على استقامة، أو يُثنى عليه، فالمقصود أن هذه الآية على المعنى الأول أنها في المؤمنين بمحمد ﷺ كما ذكر هنا، وكما قال الله : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سورة البقرة:121]، وفي الآية الأخرى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ [سورة آل عمران:199]، وكذلك قوله: وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقَِّ [سورة المائدة:83] إلى آخر الآية، فهؤلاء كلهم كما قال الله : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:82] ليس كل النصارى، وإنما قال: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ [سورة المائدة:82-84] إلى آخر ما ذكر، فهذا لا يقوله الكفار منهم، وإنما هي في الذين آمنوا أمثال النجاشي، وعبد الله بن سلام، وأمثال هؤلاء ممن تابع النبي ﷺ فإن الأوصاف المذكورة بعدها لا يمكن أن تكون إلا فيمن آمن بالنبي ﷺ، وبالكتاب الذي جاء به، فهي مصرحة بذلك.
وهذه الآيات يُلبَّس بها كثيراً هذه الأيام في الثناء على النصارى، ومدحهم، وأنهم أقرب إلى المسلمين، وهؤلاء لا تسيل دموعهم إذا سمعوا ما جاء به الرسول ﷺ ولا يقولون: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، فهم لا يؤمنون إطلاقاً، فينبغي للإنسان أن لا يبتر الآية، وإنما يكمل الآية فيتضح المراد بها، وإلا فإن هؤلاء النصارى اليوم لا فرق بينهم وبين اليهود، فهم عرفوا الحق وجحدوه، فجمعوا بين الضلال وبين الغضب، فكفرهم اجتمع فيه الجهل، والعناد، والمكابرة، فكل ذلك وقع لهم، فهؤلاء ليسوا أقرب للمسلمين، وما يجري للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها عامته إنما يقع بسبب النصارى، والله المستعان.
قوله: لَيْسُواْ سَوَاء يعني الذين آمنوا بالنبي ﷺ، والذين كفروا به، وهذا على المعنى الذي ذكرته آنفاً، وهو اختيار كثير من المحققين ومنهم ابن جرير - رحمه الله -.
قوله: يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ يعني في ساعات الليل، فآناء جمع مفرده إنْيٌ، والمراد ساعات الليل.
وقوله: وَهُمْ يَسْجُدُونَ هل المراد أنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل، وفي السجود أيضاً؛ مع أنه ورد النهي عن ذلك كما جاء من حديث علي وابن عباس، فهل المراد أنهم يقرؤون القرآن في السجود؟
هكذا فهم بعض أهل العلم، واستشكلوا - بناءً عليه - معنى الآية بهذا الاعتبار، والذي يظهر - والله أعلم - أنه ليس المراد أنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل، وفي السجود، ولذا فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد أنهم يتلونه في الصلاة، وأنه عبر عنها بركن منها، فالشيء قد يعبر عنه بجزئه، وعليه يكون المعنى أنهم يتلونه في ساعات الليل، وفي الصلاة، فالصلاة يقال لها: سجود.
ولعل الأحسن من هذا أن يقال: إنهم يتلون آيات الله آناء الليل، في ساعات الليل، وهم مع ذلك يسجدون لله - تبارك وتعالى -، ويتقربون إليه، لا أنهم يقرءونه في حال السجود، لكن ذكر لهم صفتين هما: أنهم يتلون آيات الله وهم مع ذلك يسجدون لله - تبارك وتعالى -، فإذا فُهم هذا المعنى فيمكن أن يقال بعد ذلك: إن المراد بالسجود هو الصلاة، ومن المعلوم أن السجود لا يكون منفرداً وإنما يكون في صلاة إلا في حالات مخصوصة كسجود الشكر، وسجود التلاوة.