الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
لَيْسُوا۟ سَوَآءً ۗ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ۝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة آل عمران:113-117].
قال محمد بن إسحاق وغيره ورواه العَوْفِيّ عن ابن عباس - ا -: إن هذه الآيات نزلت فيمن آمَنَ من أحبار أهل الكتاب".

هناك ذَكَر أن أهل الكتاب على طائفتين: منهم من آمن، وأكثرهم الفاسقون، وذكر حال هؤلاء الفاسقين، وأنهم لن يضروكم إلا أذى، وأنهم ضربت عليهم الذلة، والمسكنة إلى آخر ما ذكر، ثم ذكر بعد ذلك تفصيلاً فقال: لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ [سورة آل عمران:113]، فأثنى على أهل الإيمان منهم، وهم الذين آمنوا بمحمد ﷺ، والآية تحتمل معنىً آخر وهو أنه وصف أهل الإيمان منهم قبل مبعث النبي ﷺ ممن كانوا على الدين الصحيح.
وعلى كل حال فإنه بعد بعث النبي ﷺ لا يُقبل من أحد دين سوى الإسلام، ومتابعة النبي - عليه الصلاة والسلام -، ولا يمكن بعد مبعث النبي ﷺ أن يوصف أحد من أهل الكتاب بأنه على شيء، وأنه على استقامة، أو يُثنى عليه، فالمقصود أن هذه الآية على المعنى الأول أنها في المؤمنين بمحمد ﷺ كما ذكر هنا، وكما قال الله : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سورة البقرة:121]، وفي الآية الأخرى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ [سورة آل عمران:199]، وكذلك قوله: وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقَِّ [سورة المائدة:83] إلى آخر الآية، فهؤلاء كلهم كما قال الله : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:82] ليس كل النصارى، وإنما قال: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ۝ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ۝ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ [سورة المائدة:82-84] إلى آخر ما ذكر، فهذا لا يقوله الكفار منهم، وإنما هي في الذين آمنوا أمثال النجاشي، وعبد الله بن سلام، وأمثال هؤلاء ممن تابع النبي ﷺ فإن الأوصاف المذكورة بعدها لا يمكن أن تكون إلا فيمن آمن بالنبي ﷺ، وبالكتاب الذي جاء به، فهي مصرحة بذلك.
وهذه الآيات يُلبَّس بها كثيراً هذه الأيام في الثناء على النصارى، ومدحهم، وأنهم أقرب إلى المسلمين، وهؤلاء لا تسيل دموعهم إذا سمعوا ما جاء به الرسول ﷺ ولا يقولون: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، فهم لا يؤمنون إطلاقاً، فينبغي للإنسان أن لا يبتر الآية، وإنما يكمل الآية فيتضح المراد بها، وإلا فإن هؤلاء النصارى اليوم لا فرق بينهم وبين اليهود، فهم عرفوا الحق وجحدوه، فجمعوا بين الضلال وبين الغضب، فكفرهم اجتمع فيه الجهل، والعناد، والمكابرة، فكل ذلك وقع لهم، فهؤلاء ليسوا أقرب للمسلمين، وما يجري للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها عامته إنما يقع بسبب النصارى، والله المستعان.
"إن هذه الآيات نزلت فيمن آمَنَ من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سَلام، وأسَد بن عُبَيْد، وثعلبة بن سَعْية، وأسَيد بن سعْية وغيرهم، أي: لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال تعالى: لَيْسُواْ سَوَاء [سورة آل عمران:113] أي: ليسوا كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن، ومنهم المجرم، ولهذا قال تعالى: مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ [سورة آل عمران:113]".

قوله: لَيْسُواْ سَوَاء يعني الذين آمنوا بالنبي ﷺ، والذين كفروا به، وهذا على المعنى الذي ذكرته آنفاً، وهو اختيار كثير من المحققين ومنهم ابن جرير - رحمه الله -.
"ولهذا قال تعالى: مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ [سورة آل عمران:113] أي: قائمة بأمر الله، مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله فهي قَآئِمَةٌ يعني مستقيمة يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [سورة آل عمران:113] أي: يقومون الليل، ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم".

قوله: يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ يعني في ساعات الليل، فآناء جمع مفرده إنْيٌ، والمراد ساعات الليل.
وقوله: وَهُمْ يَسْجُدُونَ هل المراد أنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل، وفي السجود أيضاً؛ مع أنه ورد النهي عن ذلك كما جاء من حديث علي وابن عباس، فهل المراد أنهم يقرؤون القرآن في السجود؟
هكذا فهم بعض أهل العلم، واستشكلوا - بناءً عليه - معنى الآية بهذا الاعتبار، والذي يظهر - والله أعلم - أنه ليس المراد أنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل، وفي السجود، ولذا فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد أنهم يتلونه في الصلاة، وأنه عبر عنها بركن منها، فالشيء قد يعبر عنه بجزئه، وعليه يكون المعنى أنهم يتلونه في ساعات الليل، وفي الصلاة، فالصلاة يقال لها: سجود.
ولعل الأحسن من هذا أن يقال: إنهم يتلون آيات الله آناء الليل، في ساعات الليل، وهم مع ذلك يسجدون لله - تبارك وتعالى -، ويتقربون إليه، لا أنهم يقرءونه في حال السجود، لكن ذكر لهم صفتين هما: أنهم يتلون آيات الله وهم مع ذلك يسجدون لله - تبارك وتعالى -، فإذا فُهم هذا المعنى فيمكن أن يقال بعد ذلك: إن المراد بالسجود هو الصلاة، ومن المعلوم أن السجود لا يكون منفرداً وإنما يكون في صلاة إلا في حالات مخصوصة كسجود الشكر، وسجود التلاوة.

مرات الإستماع: 0

"لَيْسُوا سَوَاءً [آل عمران:113] أي: ليس أهل الكتاب مستويين في دينهم."

لما ذكر هذه الأوصاف، والأحوال السيئة، بيّن أنهم: لَيْسُوا سَوَاءً ليسوا سواء في هذه الأوصاف، والأحوال لَيْسُوا سَوَاءً ليس أهل الكتاب مستويين في دينهم. يعني: منهم صلحاء أخيار، منهم: أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113] من هم هؤلاء؟ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:114] فلذلك حمله أبو جعفر ابن جرير[1] والحافظ ابن كثير[2] على الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب، يعني: الذين آمنوا بالنبي ﷺ ويقابلهم لَيْسُوا سَوَاءً الفريق الكافر الذي لم يؤمن.

فهؤلاء الذين أثنى الله عليهم، هم من آمن بالنبي ﷺ ويمكن أن يقال: بأن ذلك يصدق عليهم بلا شك، يعني: من آمن بالنبي ﷺ أدركه، فآمن به، وكذلك من كان قبل بعث النبي ﷺ من أهل الإيمان منهم، والتوحيد، والاستقامة، والطاعة، والعمل الصالح، قبل بعث النبي ﷺ

لاشك أنه يوجد منه قصة إسلام سلمان معروفة، فيوجد منهم فئة، بقيت على الإيمان الصحيح، والتوحيد، وكانت تنكر ما عليه جمع هؤلاء، من الشرك بالله ومحادة الله، ورسوله - عليهم الصلاة، والسلام، فهؤلاء داخلون في هذا، لكن بعد بعث النبي ﷺ ما من يهوديٍ، ولا نصرانيٍ، يسمع بي من هذه الأمة، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار[3] فلا يمكن أن يُثنى على أحدٍ منهم، بعد النبي ﷺ وهو باقٍ على ملته، يكون كافرًا.

"أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113] أي: قائمةٌ بالحق، وذلك فيمن أسلم من اليهود: كعبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأخيه أسدٍ، وغيرهم.

وثعلبة بن سعية، وليس ابن سعيد، وأخيه أسد، وبعضهم يقول: أُسيد.

يقول: منهم أُمَّةٌ قَائِمَةٌ أي: قائمةٌ بالحق هكذا فسره، كما قال ابن كثير: "قائمة بأمر الله، مطيعة لشرعه، ومتبعة للنبي ﷺ "[4] يعني قائمة بمعنى: مستقيمة، منهم أُمَّةٌ قَائِمَةٌ أي: مستقيمة، على أمر الله - تبارك، وتعالى -.

وقوله - تبارك، وتعالى -: لَيْسُوا سَوَاءً جاء عن ابن مسعود قال: أخّر رسول الله ﷺ ليلةً صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: أما إنه من هذه الأديان أحدٌ يذكر الله هذه الساعة غيركم قال: وأُنزلت هذه الآية: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ[5].

أما هذا الذي ذكره المؤلف، قال، بأنها: فيمن أسلم من اليهود: كعبد الله بن سلام. . إلى آخره، هذا جاء في أثر لا يصح، عن ابن عباس - ا - قال: "لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسيد بن عبيد، ومن أسلم من اليهود معهم، فآمنوا، وصدّقوا، ورغبوا في الإسلام، قالت أحبار اليهود، وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد، وتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله: لَيْسُوا سَوَاءً"[6] لكن هذه الرواية لا تصح، هذا الذي يشير إليه المؤلف - رحمه الله - أنها: فيمن أسلم من اليهود.

لكن من جهة المعنى، أن الثناء لا يكون إلا على من آمن بالنبي ﷺ أو كان قبل مبعثه مستقيمًا، على الإيمان، والتوحيد، من غير إشراكٍ.

"وَهُمْ يَسْجُدُونَ يدل أن: تلاوتهم للكتاب في الصلاة."

يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ المقصود أن: لا يُفهم بحالٍ من الأحوال، أنهم يتلون الآيات في حال السجود؛ لأن ذلك ليس بموضعٍ لتلاوة الآيات، وقد يفهم من ظاهر الآية، أنهم يتلون حال سجودهم، وهذا غير مراد، وقد ورد النهي عن ذلك، كما في حديث علي، وابن عباس - ا - عند مسلم[7] ولذلك فسره بعضهم: بالصلاة يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يعني: وهم يصلون.

لكن رده ابن جرير - رحمه الله - وحمله على معنى، يعني: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وهم مع ذلك يسجدون فيها، يعني: في مواضع السجود[8].

فهذا ما ذهب إليه ابن جرير - رحمه الله - ويحتمل أن المقصود: يَسْجُدُونَ أنه: عُبِر بذلك عن الصلاة، وإذا عُبِر عن العبادة بجزءٍ منها، فهذا يدل على ركنيته، يُعبر بجزء شريف، كما قال الله : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] والمقصود به: القراءة في صلاة الفجر في الفريضة، تشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار، فالصلاة قد يُعبَر عنها بجزءٍ شريفٍ منها: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يعني: في حال الصلاة التي عُبِر عنها بالسجود. 

  1. تفسير الطبري (5/699).
  2. تفسير ابن كثير (2/105).
  3. أخرجه النسائي في الكبرى، برقم (11177).
  4. تفسير ابن كثير (2/105).
  5. أخرجه أحمد في المسند، برقم (3760) وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناده حسن لأجل عاصم - وهو ابن أبي النجود، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين".
  6. تفسير الطبري (5/691).
  7. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع، والسجود، برقم (480).
  8. تفسير الطبري (5/699).