الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِى هَٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم ضرب مثلاً لما ينفقه الكفار في هذه الدار - قاله مجاهد، والحسن، والسُّدِّي - فقال تعالى: مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [سورة آل عمران:117] أي: برد شديد، قاله ابن عباس - ا -، وعِكْرِمة، وسعيد بن جبَير، وقتادة والحسن، والضحاك، والرَّبِيع بن أنس وغيرهم.
وقال عطاء: برد وجَلِيد، وعن ابن عباس - ا - أيضاً، ومجاهد فِيهَا صِرٌّ أي: نار، وهو يرجع إلى الأول؛ فإن البرد الشديد - ولا سيّما الجليد - يحرق الزروع، والثمار؛ كما يُحرق الشيء بالنار".

هذا وجه جيد للجمع بين الأقوال، وهذا من مزايا هذا التفسير، فهذه اللفظة فِيهَا صِرٌّ بعضهم فسرها بالبرد، وبعضهم فسرها بالريح، وبعضهم فسرها بالنار المحرقة، والصرير هو الصوت، وهذا الصوت قد يكون في الريح لشدتها، وقد يكون ذلك في النار، وهذه المعاني المذكورة في هذه الآية لا منافاة بينها، ولا يحتاج ذلك منا إلى ترجيح، وإنما يقال: فِيهَا صِرٌّ أي أنها ريح لها صوت لشدتها، وقوتها، فهي ريح باردة تتلف حروثهم، وزروعهم، وثمارهم، فيكون ذلك أثر الإحراق بالنار، فكأن هذه الزروع قد أحرقت، وهذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير هنا وهو اختيار الحافظ ابن القيم - رحمه الله - خلافاً لبعض السلف الذين حددوا أنها البرد الشديد كما مشى على ذلك ابن جرير - رحمه الله - حيث فسرها بالريح الباردة، وعلى كل حال لا حاجة للاقتصار على قول ابن جرير؛ لأنه يمكن أن يجمع بين هذه الأقوال، ويكون ذلك من قبيل اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، وهذا باعتبار ما يئول إليه الحال عند الجمع بين الأقوال، وإلا فإنه يوجد فرق كبير بين الريح، وبين النار، وبين البرد؛ فهذا في الواقع اختلاف تضاد، لكن من اختلاف التضاد ما يمكن جمع الأقوال فيه كهذا المثال.
"أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [سورة آل عمران:117] أي: فأحرقته يعني بذلك السَّفْعة إذا نزلت على حَرْث قد آن جِدَادُه أو حصاده فدمرته، وأعدَمَتْ ما فيه من ثمر، أو زرع؛ فذهبت به، وأفسدته، فعَدمَه صاحبه أحوج ما كان إليه، فكذلك الكفار يمحق الله ثواب أعمالهم في هذه الدنيا وثمرتها كما أذهب ثمرة هذا الحرث بذنوب صاحبه، وكذلك هؤلاء بنوها على غير أصل، وعلى غير أساس وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة آل عمران:117]".

مرات الإستماع: 0

"مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ الآية [آل عمران:117] تشبيهٌ لنفقة الكافرين بزرعٍ أهلكته ريحٍ باردة، فلن ينتفع به أصحابه، فكذلك لا ينتفع الكفار ما ينفقون، وفي الكلام حذفٌ تقديره: مثل ما ينفقون كمثل مُهلك ريحٍ، أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، وإنما احتيج لهذا؛ لأن ما ينفقون ليس شبيهًا بالريح، إنما هو شبيهٌ بالزرع، الذي أهلكته الريح."

مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117] هنا في تشبيه مَا يُنْفِقُونَ بريحٍ أتت على حَرْثَ يعني: زرع قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ تشبيه هنا النفقة بالريح التي أهلكت الزرع، النفقة لا تشبه بالريح، يعني: ليس هذا هو المراد، وإنما كمُهلك ريحٍ، ومهلك الريح؛ هو الزرع الذي أتت عليه هذه الريح فأهلكته، هذا مراده.

قال: تشبيهٌ لنفقة الكافرين بزرعٍ أهلكته ريحٍ باردة، فلن ينتفع به أصحابه، فكذلك لا ينتفع الكفار ما ينفقون، وفي الكلام حذفٌ، تقديره: مثل ما ينفقون كمثل مُهلك ريحٍ. مُهلك الريح: هو الزرع الذي أتت عليه هذه الريح، أو مثل إهلاك ما ينفقون، يعني إما التقدير في الجزء الأول - الشطر الأول، أو في الشطر الثاني، المشبه، والمشبه به، بطرفي المثل.

يعني إما أن يكون التقدير في المشبه، أو المشبه به مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ مثل إهلاك ما ينفقون كَمَثَلِ رِيحٍ أتت على حرث قوم فأهلكته، أومَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ يكون المقصود: تشبيه النفقة كَمَثَلِ رِيحٍ كمثل مُهلك ريحٍ، وهو الزرع الذي أتت عليه، فيكون فيه تقدير.

وهذا له نظائر في الأمثال في القرآن، وقد ذكرت هذا مفصلًا في الكلام على شرح الأمثال في القرآن، في هذا المثل، وغيره، قال: وإنما احتيج لهذا؛ لأن ما ينفقون ليس شبيهًا بالريح، إنما هو شبيهٌ بالزرع، الذي أهلكته الريح.

"صِرٌّ أي: برد." 

صِرٌّ: ريحٌ فيها صِرٌّ بعضهم يقول: هو البرد الشديد، برد شديد؛ هذا جاء عن جماعة من السلف، كابن عباس - ا - وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحّاك، والربيع بن أنس[1] وهو اختيار ابن جرير[2] - رحمهم الله -.

فِيهَا صِرٌّ أي: برد شديد، وأُطلق على البرد الشديد، بأي اعتبار؟ بعضهم قال: باعتبار التعقد، هذا النبات ينكمش بسبب هذه البرودة فِيهَا صِرٌّ وبعضهم يقول: أن الصر: هو صوت الريح الشديدة، صوت الريح من الصرير، صوت الريح الشديدة، أو فِيهَا صِرٌّ أو صوت لهب النار، يعني فيها نار فِيهَا صِرٌّ وأصله من الصرير، الذي هو الصوت.

الحافظ ابن القيم[3] - رحمه الله - وابن كثير[4] ذهبوا إلى أن هذه المعاني متلازمة، باعتبار أن هذه الريح الباردة، شديدة البرودة، إذا أتت على هذا الزرع فإنها تتلفه، فيكون فعلها فيه كفعل النار، ويكون هذا الزرع مسودًا كالمحترق، من شدة البرودة فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ فيها بردٌ شديد، والريح لها صوت، فمن فسره بالصوت فِيهَا صِرٌّ فهو بهذا الاعتبار، أن الريح لا تكون إلا بصوت، وكذلك - أيضًا - من قال نار، فإنها تترك هذا الزرع مسودًا كالمحترق.

وقوله - تبارك، وتعالى - في آية البقرة: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة:266] هناك نص على أنه هذا الإعصار فيه نار، مع أن أكثر المفسرين، عامة المفسرين حملوه على محامل صار فيه نار، بعضهم يقول: برودة شديدة، وبعضهم يقول: فتركه هالكًا مسودًا، ونحو ذلك، لكن هناك صرّح على أنه إعصار فيه نار.

وهذا على ظاهره إعصار فيه نار، فكان كثير من المفسرين، لا يتصور، وجود إعصار حقيقي، فيه نار حقيقية، ولكن وُجِد هذا في أزمنةٍ مختلفة، وصُوِّر بعض هذا في العصر الحديث، وعرضت حينها صورةً لإعصار فيه نار، يأتي على الأرض الشاسعة الواسعة فيحرق ما فيها، من الأشجار، والزروع، لا يبقي، ولا يذر، فهناك صرّح بأنه إعصار فيه نار.

لكن هنا فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ فوجود الصوت فيها أمرٌ معلوم، وهذه البرودة الشديدة، التي تترك الزرع كأنه محترقًا، هذا معنى كونه متلازمًا عند ابن القيم، والحافظ بن كثير - رحم الله الجميع - والله أعلم -.

وبعضهم يقول: جاء عن عطاء: أنه برد، وجليد[5] فِيهَا صِرٌّ وجاء عن ابن عباس، ومجاهد: نار[6] فيها نار الصرصر: التي فيها من الصوت الصرير رِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة:6].

"حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117] أي: عصوا الله، فعاقبهم بإهلاك حرثهم."

الحرث: يعني الزرع، ويقال - أيضًا - لإلقاء البذر في الأرض لتهيؤها أيضًا للزرع، ويسمى المحروث، ويقال له: حرث، وأصله الجمع، والكسب، لكن هنا: أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ يعني: زرع قوم ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر، والمعاصي فَأَهْلَكَتْهُ.

"وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ [آل عمران:117] الضمير للكفار، والمنافقين، أو لأصحاب الحرث، والأول أرجح، لأن قوله: أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117] فعل حال يدل على أنه للحاضرين."

هو المثل مضروب لأعمال هؤلاء الكافرين، نفقات هؤلاء الكافرين، فلما أذهبها الله - عز، وجل - لم يكن ظالمًا لهم بذلك، وليس المقصود وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ من وقع لهم ذلك الريح التي أتت، هذا مثلٌ مضروب لتقريب المعنى، بصورةٍ محسوسة، معنىً معقول، فليس الكلام على بيان حال أصحاب الزرع، الذين ذُكر المثل، وضُرب المثل بهم، وإنما من ضُرب المثل لهم، وهم: الكفار، والمنافقين.

وفي بعض النسخ الكفار، والمنفقين، ويمكن أن يكون هذا المنفقين هذه النفقات مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ ويمكن أن يكون المنافقين، لأن المنافق كافر في الباطن، فحاله كحال الكفار، أو أسوء، لكن الآية إذا نظرت إلى سياقها، وما قبلها إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ [آل عمران:116 - 117] أي: مثل نفقاتهم، هذا مثل الكفار، والمنافقون داخلون فيها، فإذا قلت: الكفار، والمنافقين، فهذا صحيح، وإذا قلت: مثل الكفار، والمنفقين، ليس على إطلاقه، وإنما المنفقين منهم، فالذي يظهر أنها للكفار، والمنافقين - والله أعلم -.

  1.  - تفسير ابن كثير (2/106).
  2.  - تفسير الطبري (5/703).
  3.  - إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/143).
  4.  - تفسير ابن كثير (2/106).
  5.  - المصدر السابق.
  6.  - المصدر السابق.