الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا۟ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَٰهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلْءَايَٰتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ۝ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [سورة آل عمران:118-120].
يقول - تبارك وتعالى - ناهياً عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة أي: يطلعونهم على سرائرهم، وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم، وطاقتهم؛ لا يألون المؤمنين خبالاً أي: يسعون في مخالفتهم، وما يضرهم؛ بكل ممكن".
فقوله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ [سورة آل عمران:118] أي من غيركم من الكفار بجميع طوائفهم، وأصنافهم، والبطانة شبهت بما يلي الجسد من الثياب، وإن شئت أن تقول: بما يلي البطن من الثياب، فهؤلاء لما كانوا من خاصتهم، ومن المقربين الذين يطلعون على دخائلهم، وما يختص بهم؛ كانوا بمنزلة ما يلي الجسد من الثياب لشدة قربهم منهم، ومعرفتهم، واطلاعهم على أحوالهم؛ كاتخاذهم كُتَّاباً يطلعون على دخائل الأمور، أو اتخاذهم مستشارين أو نحو ذلك.
قوله: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً أي لا يقصرون في أي نقص يستطيعون إيصاله إليكم، فهم لا يدخرون في ذلك جهداً، بل كل شيء يدخل عليكم الفساد من جهتهم، فهم مجتهدون في تحصيله.
والخبال يطلق على الفساد سواء كان ذلك في البدن، أو العقل، أو المال فقوله: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً أي: لا يفتئون، ولا يقصرون، بل يبذلون كل جهد مستطاع في إضعافكم، وكل ما يجلب الوهن إليكم.
"لا يألون المؤمنين خبالاً أي: يسعون في مخالفتهم، وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعونه من المكر والخديعة، ويودون ما يُعْنتُ المؤمنين، ويخرجهم، ويَشُقّ عليهم.
وقوله: لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ أي من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل هم خاصّة أهله الذين يطلعون على داخلة أمره.
وقد روى البخاري والنسائي وغيرهما عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال: ما بعث الله مِن نبي، ولا استخلف من خليفة؛ إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله[1].
وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي الدِّهْقانة قال: قيل لعمر بن الخطاب : إن هاهنا غلاماً من أهل الحيرة حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتباً؟ قال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين.
ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمُورهم التي يُخْشَى أن يُفْشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال تعالى: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ [سورة آل عمران:118].
ثم قال تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [سورة آل عمران:118] أي: قد لاح على صَفَحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة؛ مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام، وأهله؛ ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل؛ ولهذا قال تعالى: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [سورة آل عمران:118]".
  1. أخرجه البخاري في كتاب الأحكام - باب بطانة الإمام وأهل مشورته (6773) (ج 6 / ص 2632).

مرات الإستماع: 0

"بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118] أي: أولياءً من غيركم فالمعنى: نهيٌ عن استخلاص الكفار، وموالاتهم، وقيل: لعمر : إن هنا رجلا من النصارى، لا أحد أحسن خطًا منه، أفلا يكتب عنك، قال: "إذًا أتخذ بطانةً من دون المؤمنين"[1]."

هنا قال: بِطَانَةً أي: أولياءً من غيركم. يعني: دخلاء، بطانة الرجل: هم أهل سره، والقرب منه، الذين يبطنون أمره، من يسكن إليهم، ويثق بهم، وبمودتهم، وذكر ابن جرير - رحمه الله - أنه: شبهه بما ولي بطنه من ثيابه، لحلوله منه محل ما، ولي جسده من ثيابه، يعني يقول: شدة القرب، وابن كثير - رحمه الله - يقول: إن بطانة الرجل: هم خاصة أهله، الذين يطلعون على داخلة أمره[2] من يقربهم، ويطلعون على أموره، وشؤونه الخاصة التي لا يتطلع عليها الناس.

تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ يعني: من غيركم، قال: فالمعنى: نهيٌ عن استخلاص الكفار، وموالاتهم، وذكر أثر عمر قال: إذًا أتخذ بطانةً من دون المؤمنين يعني: إذا اتخذه كاتبًا، وجاء في الصحيح، من حديث أبي سعيد الخدري - مرفوعًا عن النبي ﷺ ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان؛ بطانة تأمره بالخير، وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء، وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله[3] هذا إذا كان في الأنبياء، والخلفاء.

"لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا [آل عمران:118] أي: لا يقصرون في إفسادكم، والخبال: الفساد."

لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا يقال: آليت في الشيء، آلو؛ إذا قصرت فيه، تقول: لم آلو جهدًا، يعني: لم أقصر، لأم أدخر وسعًا لا يَأْلُونَكُمْ أي: لا يقصرون في إفسادكم يعني: يبذلون كل مستطاع، والخبال: الفساد لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا أصل الخبل فساد الأعضاء، والجنون؛ هذه أصله، يقال: أصابه الخبال، أو الخبل.

"وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ أي: تمنوا مضرتكم، وما مصدرية، وهذه الجملة، والتي قبلها صفةٌ للبطانة، أو استئناف."

وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ أصل العنت: المشقة، يعني: وَدُّوا عنتكم، يعني بكل طريقٍ مستطاع، يقول: لا تقربونهم، فهؤلاء لا يريدون بكم خيرًا، وإنما يريدون بكم العنت، فيوقعونكم فيه ما استطاعوا، لا يدخرون وسعًا في ذلك.

يقول: ما مصدرية وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ يعني: ودوا عنتكم، تصاغ مع ما بعدها بمصدر: عنتكم، ودوا عنتكم.

يقول: هذه الجملة، والتي قبلها؛ صفةٌ للبطانة، أو استئناف، صفة لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا هي صفةٌ للبطانة، أو استئناف.

لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا يعني: الأعداء الكفار، أو المنافقين، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - حمل ذلك كله على المنافقين[4] حمله على المنافقين باعتبار أنهم يظهرون الإيمان وَلا يُحِبُّونَكُمْ لأنهم يبطنون الكفر وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا. . . [آل عمران:119] هذا الذي يقولون آمنا هم أهل النفاق وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ [آل عمران:119].

فيكون ذلك تحذيرًا من المنافقين، ومن الكفار من باب أولى، يعني: هؤلاء أظهروا الإيمان، فحذر الله منهم، فالكافر الذي لم يظهر الإيمان أصلًا، كيف يُقرّب؟ هذا تحذير من تقريب قوم أظهروا الإيمان، ويصلون معكم، فغيرهم ممن لم يظهر الإيمان أصلًا، كيف يُقرّب؟ يعني: هذا قد يحب من يحبه، ويقّرب من يقربه، باعتبار الظاهر، أنه مؤمن - والله أعلم -. 

  1.  - الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/300).
  2.  - تفسير ابن كثير (2/106).
  3.  - أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب بطانة الإمام، وأهل مشورته، برقم (7198).
  4.  - تفسير ابن كثير (2/106).