الأربعاء 09 / ذو القعدة / 1446 - 07 / مايو 2025
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلْقِتَالِ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم شرع تعالى في ذكر قصة أحد وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين، والتمييز بين المؤمنين، والمنافقين، وبيان صَبْر الصابرين فقال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ۝ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة آل عمران:121-123]".

هناك قاعدة تقول: إن "إذ" منصوبة دائماً بـ"اذكر" مقدراً، فيكون المعنى: واذكر إذ غدوت من أهلك تُبوِّئ المؤمنين مقاعد للقتال، فيمكن أن يكون ذلك على سبيل الاستئناف - جملة جديدة - يذكر فيها ما وقع لهم في أحد.
ومثل ابن جرير - رحمه الله - يربط بين هذه الآية وبين الآيات السابقة، فهو في السابق قال: إن تصبروا على طاعة الله، وعن معصيته، وما يقع لكم من الآلام، والمصائب، وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً، وإن خالفتم أمري، ولم تصبروا على طاعتي؛ فإنه يقع لكم ما وقع لمن قبلكم، واذكروا إذ غدا النبي ﷺ إلى أحد، فذكرهم بهذا المصاب والهزيمة التي وقعت، وما حصل فيها من الجراح، والقتل بسبب المعصية، وقلة الصبر، فالذين نزلوا من الجبل لم يمتثلوا أمر الله وكان ذلك من قلة صبرهم، وتقواهم؛ فكانت النتيجة أن هزموا، فعلى هذا الاعتبار يكون ذلك مرتبطاً بما قبله، والعلم عند الله .
"المرادُ بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهور".

هذا الذي عليه عامة أهل العلم، وابن عباس يقول عن سورة آل عمران: "هذه أحدية" يعني أنها تتحدث عن غزوة أحد، ومن هنا إلى رأس ستين آية كل ذلك يتحدث عن غزوة أحد مع ما يتخلله من الكلام على بعض القضايا مثل الربا ونحو ذلك، وإلا فإن الكلام هو في غزوة أحد، وبعض أهل العلم قال: هذا في غزوة بدر، وبعضهم قال: في غزوة الخندق، ولكن هذا بعيد، ولو استشكل هذا بأن النبي ﷺ كما جاء في بعض الروايات في السير أنه خرج بعد صلاة الجمعة، وفي بعضها أنه خرج يوم السبت، في بعضها أنه خرج بعد صلاة الجمعة لما شاور أصحابه كما هو معروف، ثم دخل، ولبس آلة الحرب فخرج مساء الجمعة، فهذا قد يستشكل مع قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [سورة آل عمران:121] فقالوا: هو لم يخرج في أول الصباح، فمن هنا قال بعض أهل العلم: إنها ليست في أحد، لكن الذي عليه عامة أهل العلم أنها في أحد، وهذا لا شك فيه، والله تعالى أعلم، وأما وجه هذا التعبير وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [سورة آل عمران:121] فإن هذا وإن كان في أصل الاستعمال يقال عن الذي يخرج في أول النهار لكن صار يستعمل في غير هذا على سبيل التوسع لمطلق الخروج في أي وقت، وهذا مثل استعمالات لفظ "أضحى" أي إذا دخل في وقت الضحى، لكنه صار يعبر به على سبيل التوسع في الاستعمال فيما يمكن أن يكون بمعنى صار، تقول: أضحى زيد عليلاً أي: صار عليلاً، وإن كان أصل معناه دخل في وقت الضحى، والله أعلم.
"المرادُ بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهور قاله ابن عباس - ا - والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، وغير واحد، وكانت وقعةُ أحد يومَ السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وقال عكرمة: يوم السبت للنصف من شوال، فالله أعلم".

يعني أن النبي ﷺ خرج يوم الجمعة، وصارت الوقعة في يوم السبت.
"وكان سببها أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر، وسلمت العيرُ بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سفيان، فلما رجع قفَلُهُم إلى مكة قال أبناء من قُتل، ورؤساء من بقي لأبي سفيان: ارصد هذه الأموال لقتال محمد، فأنفقوها في ذلك، وجمعوا الجموع، والأحابيش، وأقبلوا في نحو من ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريباً من أحد تلقاء المدينة، فصلى رسولُ الله ﷺ يومَ الجمعة، فلما فرغ منها صَلى على رجل من بني النجار يقال له: مالك بن عمرو، واستشار الناس: أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة؟ فأشار عبد الله بن أُبيّ بالمقام بالمدينة، فإن أقاموا أقاموا بشرِّ محبس، وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين.
وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدراً بالخروج إليهم، فدخل رسول الله ﷺ فلبس لأمته، وخرج عليهم".

قوله: "فلبس لأمته"، يعني لبس أداة الحرب، وكل أداة الحرب يقال لها: لأمة، السيف، والرمح، والمغفر، والدرع، وما أشبه هذا مما يلبسه المحارب، ويحمله معه يقال له: لأمة الحرب.
"فلبس لأمته، وخرج عليهم، وقد ندم بعضهم، وقالوا: لعلنا استكرَهْنَا رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله إن شئت أن نمكث؟ فقال رسول الله ﷺ: ما ينبغِي لنَبِي إِذا لبس لأمته أن يرجِع حتى يحكم الله له[1] فسار في ألف من أصحابه، فلما كانوا بالشوط رجع عبد الله بن أبي في ثلث الجيش مغضباً".

الشوط مكان بين جبل الرماة وبين المدينة.
"رجع عبد الله بن أبي في ثلث الجيش مغضباً؛ لكونه لم يرجع إلى قوله، وقال هو وأصحابه: لو نعلم اليوم قتالاً لاتبعناكم، ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم.
واستمر رسول الله ﷺ سائراً حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال".

قوله: حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي، يعني في جانب الوادي، وذلك أنك لو وقفت متجهاً إلى المدينة وأنت على جبل الرماة؛ فإنك ستجد الوادي يمر بينك وبين المدينة، وهذا الوادي هو الذي أرسل النبي ﷺ عليه أمثال حمزة ومجموعة من الجيش، وبالنسبة للرماة فقد كانوا ينضحون خيل المشركين؛ لئلا تعلو المسلمين، ولئلا يتسلل أحد من جهة هذا الوادي؛ لأن المنطقة إلى ناحية المدينة كانت مزارع، ونخيل، وهذا الوادي يمكن أن يمر به الفرسان أو نحو ذلك، ولا يشاهدهم الناس.
كما أن هذا الوادي - إن لم تخنِّي الذاكرة - هو امتداد لما يعرف الآن بوادي العَاقول الذي يأتي من طريق القصيم من عند حرة النار، فالسائر فيه يأتي ويمر من جانب جبل الرماة، فالمسلمون كان ظهرهم إلى الجبل حيث كانت فيه مساحات كأنها داخل الجبل قليلاً، وكان الرماة يحمونهم؛ لئلا يعلوهم المشركون، فكانوا يحتمون بالجبل، ومن الناحية الثانية بجبل الرماة.
"وتهيأ رسول الله ﷺ للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه ، وأمَّر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، والرماة يومئذ خمسون رجلاً فقال لهم: انضحوا الخيل عنا ولا نؤتين من قبلكم، والزموا مكانكم إن كانت النوبة لنا أوعلينا، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم[2].
وظاهر رسول الله ﷺ بين درعين، وأعطى اللواء مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، وأجاز رسول الله ﷺ بعض الغلمان يومئذ، وأرجأ آخرين، حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين.
وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس قد جنبوها فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ودفعوا إلى بني عبد الدار اللواء، ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه الآيات - إن شاء الله تعالى -.
ولهذا قال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [سورة آل عمران:121] أي: تنزلهم منازلهم، وتجعلهم ميمنة، وميسرة، وحيث أمرتهم".

أصل التبوء هو اتخاذ المباءة تقول: فقد باء بغضب من الله، فليتبوأ مقعده من النار، فهو اتخاذ المباءة أي المكان الذي ينزل فيه الإنسان وقوله: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ أي أن النبي ﷺ يحدد موقع جيش المسلمين فيضع الميمنة هاهنا، والميسرة هاهنا، وظهورهم إلى الجبل بمعنى أنه يُعبِّئ الجيش بحيث يعرف كل مقاتل موقعه في هذا الجيش.
"أي: تنزلهم منازلهم، وتجعلهم ميمنة، وميسرة، وحيث أمرتهم وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة آل عمران:121] أي: سميع لما تقولون، عليم بضمائركم".
  1. أخرجه الحاكم (2588) (ج 2 / ص 141) وصححه الألباني في صحيح السيرة.
  2. فقه السيرة للغزالي وصححه الألباني.

مرات الإستماع: 0

"وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آل عمران:121] قال: نزلت في غزوة أحد، وكان غدو رسول الله ﷺ للقتال صبيحة يوم السبت، وخرج من المدينة يوم الجمعة بعد الصلاة، وكان قد شاور أصحابه قبل الصلاة."

هذا هو الموضوع الثاني الرئيس في هذه السورة، تحدث عن غزوة أحد، قد ذكر أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - وجه الارتباط بين هذه الآية: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران:121] وجه الارتباط بينها، وما قبلها إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] أي: أنكم إذا صبرتم، واتقيتم فإنه لا يضركم كيدهم شيئًا، بل ينصركم كما في بدرٍ، وإن خالفتم أمره فإنه نازلٌ بكم ما نزل بهم في أحد، واذكروا ذلك اليوم إذ غدا نبكم ﷺ يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال[1].

هذا وجه الارتباط الذي يسمونه المناسبة وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آل عمران:121] كما سبق في مثل هذا التركيب وَإِذْ غَدَوْتَ أنه يتعلق بمحذوف على قول معروف مشهور، واذكر وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ والغداة معروف أنها تكون أول النهار.

يقول: "نزلت في غزوة أحد" وهذا على قول الجمهور ليس محل اتفاق، لأن من أهل العلم من قال أنها تتحدث عن بدر هذه الآية وَإِذْ غَدَوْت وبعضهم يقول تتحدث عن الخندق، ولكن هذا بعيد - والله أعلم - والذي حملهم على هذا القول الذي يبدو غريبًا، والسياق في أحد: الذي حملهم على ذلك هو قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ الغدو أول النهار، والنبي ﷺ خرج إلى أحد بعد صلاة الجمعة، وكانت المعركة يوم السبت، فكيف يكون ذلك من قبيل الغدو، وقد خرج بعد صلاة الجمعة؟ يعني: خرج إليها بالعشي، فهذا وجه الإشكال، وهو الذي حمل هؤلاء على القول بأن ذلك كان في بدر، أو القول بأن ذلك كان في الخندق، ولكن لا شك أن السياق في أحد، ويمكن أن يجاب عن هذا بأجوبة كما سيأتي.

لكن نبين وجه هذه الأقوال التي قد تبدو في غاية الغرابة، والذين يذكرونها علماء، ومنشأ الإشكال ما ذكرت - والله تعالى أعلم -.

يقول: "وكان غدو رسول الله للقتال ﷺ صبيحة يوم السبت" هذا في السنة الثالثة، ذكر عكرمة أنه في منتصف شهر شوال[2].

لاحظ: وكان غدو رسول الله للقتال ﷺ صبيحة يوم السبت، يعني: أن ابن جزي حمل ذلك، وهو جوابٌ لهذا الإشكال الذي لم يصرح به وَإِذْ غَدَوْتَ يعني: صبيحة يوم السبت، لكن لم يكن ذلك حينما خرج من أهله - عليه الصلاة، والسلام - فقد خرج من أهله بعد صلاة الجمعة بالعشي، فقال الله: وَإِذْ غَدَوْتَ واذكر إذ غدوت مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ولهذا بعض أهل العلم حمل ذلك على أن المقصود هو الشروع في تعبئة الجيش، قبل المعركة، وذلك صبيحة يوم السبت.

قال: وهذا محمله. هذا جواب ابن جزي - رحمه الله - يقول: "وخرج من المدينة يوم الجمعة بعد الصلاة، وكان قد شاور أصحابه قبل الصلاة".

ويمكن أن يُجاب بغير هذا كما سيأتي إن شاء الله، وفي بعض النسخ: "كان غزو رسول الله ﷺ للقتال" لا ليس غزو، لا يقال غزو الرسول ﷺ للقتال - لا يقال هذا - وإنما يقال غدو رسول الله، الكلام في الغدو، لأنه يتحدث عن وَإِذْ غَدَوْتَ وهو يجيب عن هذا الإشكال، وهو جواب معروف الذي ذكره ابن جزي - رحمه الله - وَإِذْ غَدَوْتَ أنه غدا إلى القتال يوم السبت، أن هذا هو محمله، وهذا هو المقصود، وليس غزوت للقتال، لا يقال غزوت للقتال - والله أعلم -.

فالصحيح: نزلت في غزوة أحد، وكان غدو رسول الله ﷺ للقتال صبيحة يوم السبت.

"قوله تعالى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:121] قال تنزلهم، وذلك يوم السبت حين حضر القتال، وقيل: ذلك يوم الجمعة بعد الصلاة حين خرج من المدينة، وذلك ضعيف؛ لأنه لا يقال غدوت فيما بعد الزوال إلا على المجاز، وقيل: ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس، وذلك ضعيف؛ لأنه لم يبوئ حينئذ مقاعد للقتال إلا أن يراد أنه بوأهم بالتدبير حين المشاورة.

لاحظ هذه الاحتمالات، والأقوال التي ذكرها تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ تبوئ يعني: تتخذ لهم، وتوطن أصل التبوؤ اتخاذ المنزل، بمعنى: تعبئة الجيش، يضع كل رجلٍ في موضعه المناسب، ويضع للجيش - كما هو معلوم - مقدمة، وميمنة، وميسرة، وقلب، وساقة، ونحو ذلك، هذه تعبئة الجيش تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ تجعل لكل أحدٍ - لكل واحد منهم - منزلًا، ومقامًا في الجيش.

يقول: "وذلك يوم السبت حين حضر القتال" وهذا هو المتبادر؛ لأن تعبئة الجيش حينما تكون قبل المواجهة، ولم يكن ذلك بمجرد خروجه ﷺ يوم الجمعة لاسيما وأنه خرج - كما سبق - بعد صلاة الجمعة، وليس ذلك من قبيل الغدو، فهذا يبين ما سبق من أنه قصد الغدو، غدا للقتال يوم السبت.

لكن المشكل عليه: مِنْ أَهْلِكَ وخرج من أهله بعد الزوال يوم الجمعة.

يقول: " ذلك يوم الجمعة حين خرج من المدينة، وذلك ضعيف" لماذا ضعيف؟ قال: "لأنه لا يقال غدوت فيما بعد الزوال إلا على المجاز" بأي اعتبار؟ يعني على سبيل التوسع، استعمال عبارة: الغدو فيما يكون بعد الزوال، يعني: في الخروج مطلقًا، ولو كان في آخر النهار، أو في وسط النهار، فالغدو فيما يكون بعد الزوال، يعني: في الخروج مطلقًا، ولو كان في آخر النهار، أو في وسط النهار.

فالغدو بهذا الاعتبار في أصله: الخروج أول النهار، ولكن قد يتوسع بالاستعمال، فيعذر به عن الخروج مطلقًا، ولو كان في آخر النهار، وهذا له وجه قوي من النظر أن يستعمل اللفظ بمعنى أوسع، ويشبه هذا قول النبي ﷺ: من راح إلى الجمعة. . . [3] والرواح بعد الزوال، ومعلوم أن ساعات الجمعة التبكير للجمعة تُحتسب من أول ساعة في النهار، ساعات النهار تحتسب من طلوع الشمس، الساعة الأولى، والثانية إلى الخامسة، ثم يصعد الإمام المنبر.

ولهذا جاء عن الإمام مالك - رحمه الله - أن الرواح، وأن الساعة الأولى تحتسب بعد الزوال، وأن التبكير قبل ذلك ليس بمراد[4] وهذا يصلح للذين يحبون الأقوال الشاذة هذه الأيام، والإغراض على الناس، أن يتلقفوا هذا القول، ويذيعوه، وينشروه، ويثيروا البلبلة عند الناس، فيما تواطأ الناس عليه، وتلقوه عن علمائهم، وانتشر، وداع من أن ذلك يكون من الساعة الأولى في صبيحة اليوم، تكون ساعات النهار الخمس، كل ذلك إلى ما قبل الزوال.

على قول الإمام مالك - رحمة الله - لفظ الرواح بعد الزوال، فتبدأ الساعة الأولى بعد الزوال، فمن الناس من يُفتن بمثل هذا، ويولع به، لا سيما أنه قد يوافق هوى، فيأتي بعد الزوال، ويقول: أنا جئت من الساعة الأولى، وحصلت البدنة، وأما مجيئكم من الساعات المبكرة لصبيحة اليوم فهذا ليس له أساس.

هذه فتنة قد يقول العالم الإمام الكبير قولًا يخالف فيه غيره، وقد لا يكون الصواب معه، كل يؤخذ من قوله، ويُرَد، لكن يفتن بهذا من يولع بالغرائب، ويأت الناس بما لم يعهدوا، ويكون ذلك سببًا لتشكيكهم فيما وراءهم مما تلقفوه، وتلقوه، ونشأوا عليه من الدين الذي دانوا به، فيحذر من مثل هذا، أعني تلقف الغرائب، وإذاعة ذلك بين الناس فهذا فعل من لا يتقِ الله ولم يؤتَ حكمة، قد يفعلها إنسان بحسن نية، ولكن في الغالب إنما يفعلها من ابتلي من حب الإغراض، والشذوذ، ومن باب خالف تذكر، ولا يبالي بعد ذلك بالنتائج المترتبة على ذلك من تشكيك الناس في ثوابتهم، وما عهدوه من دينهم، ومقرراتهم التي تلقوها منذ نشأتهم، وسيجد مثل هذا في أبواب شتى ما هو من هذا القبيل.

فيكون الإمام العالم: كالإمام مالك - رحمه الله - معذورًا بهذا، ولكن قد لا يُعذر من يفعل ذلك حبًا للإغراض، أو تتبعًا لمثل هذه الأمور لإثارة الجدال، والنزاع بين الناس، والبلبلة، فهذه علة، ونسأل الله العافية، والسلامة، وإنما ليكون طالب العلم على الجادة، واليوم قد اتسع الخرق على الراقع، فصار بيد كل أحدٍ منبر يكتب ما يشاء، ويذيعه من ساعته فيصل إلى الآفاق، ولربما يكون من أذاع ذلك ممن لا يحسن كتابة اسمه، فإلى الله المشتكى.

يقول: "لأنه لا يقال غدوت فيما بعد الزوال" فهنا مثل الرواح للجمعة، ما محمله عند الجمهور؟ قالوا: نعم الأصل أن الرواح يكون بعد الزوال، ولكنه قد يتوسع بالاستعمال فيقال للخروج مطلقًا، سواء كان قبل الزوال، أو بعد الزوال، وهذا هو الشاهد.

فهنا وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ الغدو يكون في أول النهار، وقد يتوسع في الاستعمال، فيعبر به عن الخروج مطلقًا، فخرج ﷺ بعد صلاة الجمعة، كما عبر بذلك في حضور الجمعة بالرواح، والمقصود من راح في الساعة الأولى أي يكون ذلك بعد طلوع الشمس في أول النهار.

وقوله: "لأنه لا يقال غدوت فيما بعد الزوال إلا على المجاز" باعتبار ماذا؟ عند القائل بالمجاز أن حمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، وهذه قاعدة صحيحة: "إذا دار الكلام بين الحقيقة، والمجاز فالحقيقة مقدمة" كما ذكرت في بعض المناسبات أن القواعد الترجيحية هي ما كان مبناها على هذا الأساس، يعني: أنها مصرحة بالترجيح.

وليس كل قاعدة استعملها المفسر في ترجيح قول على قول يقال لها قاعدة ترجيحية كما قد يظن، وكل الكتابات التي وقفت عليها في القواعد الترجيحية صار أصحابها على هذا النهج.

يعني: أنه كل من استعمل قاعدة من المفسرين في ترجيح قول على قول سموها قاعدة ترجيحية، وعلى هذا الأساس كل قواعد التفسير قواعد ترجيحية؛ لأنه يرجح بها قول على قول.

وطرق الترجيح ذكر بعضهم منها - كالآمدي - أكثر من مائة، وسبعين طريقًا، وصرح غيره بأن ذلك لا يحد، فمن طرق الترجيح: الترجيح بالقواعد قلَّت، أو كثرت أيًا كان نوعها، فصحيح أنه يقدم الحقيقة على المجاز، لكن قد توجد قرينة، ودليل يوجب تقديم المجاز على الحقيقة على القول بالمجاز - عند القائلين بالمجاز - إذا اعتبرنا هذا من قبيل المجاز، وإلا فإن الحقيقة هي ما يتبادر إلى الذهن، والسياق هو الذي يبين عن ذلك، فيكون ما تبادر عن طريق السياق مقدمًا، وهو الحقيقة، وليس بمجاز.

فهنا يوجد قرينة تدل على أن المقصود ما هو أوسع من الخروج في أول النهار، وهو ما عُلِم من مخرج رسول الله ﷺ بعد صلاة الجمعة، هذا الدليل - والله أعلم - أن المقصود بالغدو هو خروجه من المدينة، وكان بعد الزوال.

يقول: "وقيل ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس" لكن هذا ليس بخروج وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ هذا ليس بتعبئة للجيش، فلم يبوؤهم النبي ﷺ مقاعد للقتال إلا في أرض المعركة.

قال: "وذلك ضعيف؛ لأنه لم يبوئ حينئذٍ مقاعد للقتال إلا أن يراد أنه بوأهم بالتدبير حين المشاورة" وهذا فيه بعد، لكن أحسن من هذا - والله أعلم - أنه على اعتبار أنه يعبر بالرواح، والغدو عن الخروج، والدخول مطلقًا، فقد يكون أصل الاستعمال في وقت محدد، ولكن توسع الناس فيه، وهذا كثير في اللغة فيما توسع الناس فيه بالاستعمال.

وما عُلِمَ من مخرجه ﷺ هذا إذا قلنا بأنه لا مجاز في القرآن، ومن يقول بالمجاز، وهم الجمهور، يقولون هذا مجاز أن الغدو استعمل في غير معناه المتبادر. الذي وضع له أولًا، وهو الخروج في أول النهار.

ومن ينظر إلى أن المتبادر هو ما عُلِمَ من السياق كشيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - يسمى هذه حقيقة في القرائن، والسباق، واللحاق، والسياق، كل هذا يدل على المراد، فيكون متبادرًا بهذا الاعتبار، فعندها يكون هو الحقيقة ليس الحديث عن المجاز، ولكن المقصود بيان محمل ما ذكره ابن جزي - رحمه الله - سواء قلنا أنه مجاز، أو حقيقة.

"قوله تعالى: مَقَاعِدَ قال مواضع، وهو جمع مقعد."

مقاعد: مواضع، وهو جمع مقعد، مقاعد مصاف جمع مقعد، وأصل المقعد هو مكان القعود، فالمقاعد هنا هي المصاف، حيث يصطف المقاتلون كل في موضعه، ومقامه الذي وضع فيه.

فالقتال في الإسلام ليس كما هو الشأن في الجاهلية، على طريقة الهيشات - كما يقال - هيشات بطريقة فوضوية، وإنما بصفوف، وينظم الجيش يعبأ، كان النبي ﷺ يسوي صفوفهم كما هو معلوم في الصلاة، وفي القتال، بحيث لا يتقدم أحد، ولا يتأخر.

  1.  تفسير الطبري (7/159).
  2.  المصدر السابق (7/399).
  3.  أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، رقم: (342).
  4.  البيان، والتحصيل (1/390) بداية المجتهد، ونهاية المقتصد (1/176).