"وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آل عمران:121] قال: نزلت في غزوة أحد، وكان غدو رسول الله ﷺ للقتال صبيحة يوم السبت، وخرج من المدينة يوم الجمعة بعد الصلاة، وكان قد شاور أصحابه قبل الصلاة."
هذا هو الموضوع الثاني الرئيس في هذه السورة، تحدث عن غزوة أحد، قد ذكر أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - وجه الارتباط بين هذه الآية: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران:121] وجه الارتباط بينها، وما قبلها إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] أي: أنكم إذا صبرتم، واتقيتم فإنه لا يضركم كيدهم شيئًا، بل ينصركم كما في بدرٍ، وإن خالفتم أمره فإنه نازلٌ بكم ما نزل بهم في أحد، واذكروا ذلك اليوم إذ غدا نبكم ﷺ يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.
هذا وجه الارتباط الذي يسمونه المناسبة وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آل عمران:121] كما سبق في مثل هذا التركيب وَإِذْ غَدَوْتَ أنه يتعلق بمحذوف على قول معروف مشهور، واذكر وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ والغداة معروف أنها تكون أول النهار.
يقول: "نزلت في غزوة أحد" وهذا على قول الجمهور ليس محل اتفاق، لأن من أهل العلم من قال أنها تتحدث عن بدر هذه الآية وَإِذْ غَدَوْت وبعضهم يقول تتحدث عن الخندق، ولكن هذا بعيد - والله أعلم - والذي حملهم على هذا القول الذي يبدو غريبًا، والسياق في أحد: الذي حملهم على ذلك هو قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ الغدو أول النهار، والنبي ﷺ خرج إلى أحد بعد صلاة الجمعة، وكانت المعركة يوم السبت، فكيف يكون ذلك من قبيل الغدو، وقد خرج بعد صلاة الجمعة؟ يعني: خرج إليها بالعشي، فهذا وجه الإشكال، وهو الذي حمل هؤلاء على القول بأن ذلك كان في بدر، أو القول بأن ذلك كان في الخندق، ولكن لا شك أن السياق في أحد، ويمكن أن يجاب عن هذا بأجوبة كما سيأتي.
لكن نبين وجه هذه الأقوال التي قد تبدو في غاية الغرابة، والذين يذكرونها علماء، ومنشأ الإشكال ما ذكرت - والله تعالى أعلم -.
يقول: "وكان غدو رسول الله للقتال ﷺ صبيحة يوم السبت" هذا في السنة الثالثة، ذكر عكرمة أنه في منتصف شهر شوال.
لاحظ: وكان غدو رسول الله للقتال ﷺ صبيحة يوم السبت، يعني: أن ابن جزي حمل ذلك، وهو جوابٌ لهذا الإشكال الذي لم يصرح به وَإِذْ غَدَوْتَ يعني: صبيحة يوم السبت، لكن لم يكن ذلك حينما خرج من أهله - عليه الصلاة، والسلام - فقد خرج من أهله بعد صلاة الجمعة بالعشي، فقال الله: وَإِذْ غَدَوْتَ واذكر إذ غدوت مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ولهذا بعض أهل العلم حمل ذلك على أن المقصود هو الشروع في تعبئة الجيش، قبل المعركة، وذلك صبيحة يوم السبت.
قال: وهذا محمله. هذا جواب ابن جزي - رحمه الله - يقول: "وخرج من المدينة يوم الجمعة بعد الصلاة، وكان قد شاور أصحابه قبل الصلاة".
ويمكن أن يُجاب بغير هذا كما سيأتي إن شاء الله، وفي بعض النسخ: "كان غزو رسول الله ﷺ للقتال" لا ليس غزو، لا يقال غزو الرسول ﷺ للقتال - لا يقال هذا - وإنما يقال غدو رسول الله، الكلام في الغدو، لأنه يتحدث عن وَإِذْ غَدَوْتَ وهو يجيب عن هذا الإشكال، وهو جواب معروف الذي ذكره ابن جزي - رحمه الله - وَإِذْ غَدَوْتَ أنه غدا إلى القتال يوم السبت، أن هذا هو محمله، وهذا هو المقصود، وليس غزوت للقتال، لا يقال غزوت للقتال - والله أعلم -.
فالصحيح: نزلت في غزوة أحد، وكان غدو رسول الله ﷺ للقتال صبيحة يوم السبت.
"قوله تعالى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:121] قال تنزلهم، وذلك يوم السبت حين حضر القتال، وقيل: ذلك يوم الجمعة بعد الصلاة حين خرج من المدينة، وذلك ضعيف؛ لأنه لا يقال غدوت فيما بعد الزوال إلا على المجاز، وقيل: ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس، وذلك ضعيف؛ لأنه لم يبوئ حينئذ مقاعد للقتال إلا أن يراد أنه بوأهم بالتدبير حين المشاورة.
لاحظ هذه الاحتمالات، والأقوال التي ذكرها تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ تبوئ يعني: تتخذ لهم، وتوطن أصل التبوؤ اتخاذ المنزل، بمعنى: تعبئة الجيش، يضع كل رجلٍ في موضعه المناسب، ويضع للجيش - كما هو معلوم - مقدمة، وميمنة، وميسرة، وقلب، وساقة، ونحو ذلك، هذه تعبئة الجيش تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ تجعل لكل أحدٍ - لكل واحد منهم - منزلًا، ومقامًا في الجيش.
يقول: "وذلك يوم السبت حين حضر القتال" وهذا هو المتبادر؛ لأن تعبئة الجيش حينما تكون قبل المواجهة، ولم يكن ذلك بمجرد خروجه ﷺ يوم الجمعة لاسيما وأنه خرج - كما سبق - بعد صلاة الجمعة، وليس ذلك من قبيل الغدو، فهذا يبين ما سبق من أنه قصد الغدو، غدا للقتال يوم السبت.
لكن المشكل عليه: مِنْ أَهْلِكَ وخرج من أهله بعد الزوال يوم الجمعة.
يقول: " ذلك يوم الجمعة حين خرج من المدينة، وذلك ضعيف" لماذا ضعيف؟ قال: "لأنه لا يقال غدوت فيما بعد الزوال إلا على المجاز" بأي اعتبار؟ يعني على سبيل التوسع، استعمال عبارة: الغدو فيما يكون بعد الزوال، يعني: في الخروج مطلقًا، ولو كان في آخر النهار، أو في وسط النهار، فالغدو فيما يكون بعد الزوال، يعني: في الخروج مطلقًا، ولو كان في آخر النهار، أو في وسط النهار.
فالغدو بهذا الاعتبار في أصله: الخروج أول النهار، ولكن قد يتوسع بالاستعمال، فيعذر به عن الخروج مطلقًا، ولو كان في آخر النهار، وهذا له وجه قوي من النظر أن يستعمل اللفظ بمعنى أوسع، ويشبه هذا قول النبي ﷺ: من راح إلى الجمعة. . . والرواح بعد الزوال، ومعلوم أن ساعات الجمعة التبكير للجمعة تُحتسب من أول ساعة في النهار، ساعات النهار تحتسب من طلوع الشمس، الساعة الأولى، والثانية إلى الخامسة، ثم يصعد الإمام المنبر.
ولهذا جاء عن الإمام مالك - رحمه الله - أن الرواح، وأن الساعة الأولى تحتسب بعد الزوال، وأن التبكير قبل ذلك ليس بمراد وهذا يصلح للذين يحبون الأقوال الشاذة هذه الأيام، والإغراض على الناس، أن يتلقفوا هذا القول، ويذيعوه، وينشروه، ويثيروا البلبلة عند الناس، فيما تواطأ الناس عليه، وتلقوه عن علمائهم، وانتشر، وداع من أن ذلك يكون من الساعة الأولى في صبيحة اليوم، تكون ساعات النهار الخمس، كل ذلك إلى ما قبل الزوال.
على قول الإمام مالك - رحمة الله - لفظ الرواح بعد الزوال، فتبدأ الساعة الأولى بعد الزوال، فمن الناس من يُفتن بمثل هذا، ويولع به، لا سيما أنه قد يوافق هوى، فيأتي بعد الزوال، ويقول: أنا جئت من الساعة الأولى، وحصلت البدنة، وأما مجيئكم من الساعات المبكرة لصبيحة اليوم فهذا ليس له أساس.
هذه فتنة قد يقول العالم الإمام الكبير قولًا يخالف فيه غيره، وقد لا يكون الصواب معه، كل يؤخذ من قوله، ويُرَد، لكن يفتن بهذا من يولع بالغرائب، ويأت الناس بما لم يعهدوا، ويكون ذلك سببًا لتشكيكهم فيما وراءهم مما تلقفوه، وتلقوه، ونشأوا عليه من الدين الذي دانوا به، فيحذر من مثل هذا، أعني تلقف الغرائب، وإذاعة ذلك بين الناس فهذا فعل من لا يتقِ الله ولم يؤتَ حكمة، قد يفعلها إنسان بحسن نية، ولكن في الغالب إنما يفعلها من ابتلي من حب الإغراض، والشذوذ، ومن باب خالف تذكر، ولا يبالي بعد ذلك بالنتائج المترتبة على ذلك من تشكيك الناس في ثوابتهم، وما عهدوه من دينهم، ومقرراتهم التي تلقوها منذ نشأتهم، وسيجد مثل هذا في أبواب شتى ما هو من هذا القبيل.
فيكون الإمام العالم: كالإمام مالك - رحمه الله - معذورًا بهذا، ولكن قد لا يُعذر من يفعل ذلك حبًا للإغراض، أو تتبعًا لمثل هذه الأمور لإثارة الجدال، والنزاع بين الناس، والبلبلة، فهذه علة، ونسأل الله العافية، والسلامة، وإنما ليكون طالب العلم على الجادة، واليوم قد اتسع الخرق على الراقع، فصار بيد كل أحدٍ منبر يكتب ما يشاء، ويذيعه من ساعته فيصل إلى الآفاق، ولربما يكون من أذاع ذلك ممن لا يحسن كتابة اسمه، فإلى الله المشتكى.
يقول: "لأنه لا يقال غدوت فيما بعد الزوال" فهنا مثل الرواح للجمعة، ما محمله عند الجمهور؟ قالوا: نعم الأصل أن الرواح يكون بعد الزوال، ولكنه قد يتوسع بالاستعمال فيقال للخروج مطلقًا، سواء كان قبل الزوال، أو بعد الزوال، وهذا هو الشاهد.
فهنا وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ الغدو يكون في أول النهار، وقد يتوسع في الاستعمال، فيعبر به عن الخروج مطلقًا، فخرج ﷺ بعد صلاة الجمعة، كما عبر بذلك في حضور الجمعة بالرواح، والمقصود من راح في الساعة الأولى أي يكون ذلك بعد طلوع الشمس في أول النهار.
وقوله: "لأنه لا يقال غدوت فيما بعد الزوال إلا على المجاز" باعتبار ماذا؟ عند القائل بالمجاز أن حمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، وهذه قاعدة صحيحة: "إذا دار الكلام بين الحقيقة، والمجاز فالحقيقة مقدمة" كما ذكرت في بعض المناسبات أن القواعد الترجيحية هي ما كان مبناها على هذا الأساس، يعني: أنها مصرحة بالترجيح.
وليس كل قاعدة استعملها المفسر في ترجيح قول على قول يقال لها قاعدة ترجيحية كما قد يظن، وكل الكتابات التي وقفت عليها في القواعد الترجيحية صار أصحابها على هذا النهج.
يعني: أنه كل من استعمل قاعدة من المفسرين في ترجيح قول على قول سموها قاعدة ترجيحية، وعلى هذا الأساس كل قواعد التفسير قواعد ترجيحية؛ لأنه يرجح بها قول على قول.
وطرق الترجيح ذكر بعضهم منها - كالآمدي - أكثر من مائة، وسبعين طريقًا، وصرح غيره بأن ذلك لا يحد، فمن طرق الترجيح: الترجيح بالقواعد قلَّت، أو كثرت أيًا كان نوعها، فصحيح أنه يقدم الحقيقة على المجاز، لكن قد توجد قرينة، ودليل يوجب تقديم المجاز على الحقيقة على القول بالمجاز - عند القائلين بالمجاز - إذا اعتبرنا هذا من قبيل المجاز، وإلا فإن الحقيقة هي ما يتبادر إلى الذهن، والسياق هو الذي يبين عن ذلك، فيكون ما تبادر عن طريق السياق مقدمًا، وهو الحقيقة، وليس بمجاز.
فهنا يوجد قرينة تدل على أن المقصود ما هو أوسع من الخروج في أول النهار، وهو ما عُلِم من مخرج رسول الله ﷺ بعد صلاة الجمعة، هذا الدليل - والله أعلم - أن المقصود بالغدو هو خروجه من المدينة، وكان بعد الزوال.
يقول: "وقيل ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس" لكن هذا ليس بخروج وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ هذا ليس بتعبئة للجيش، فلم يبوؤهم النبي ﷺ مقاعد للقتال إلا في أرض المعركة.
قال: "وذلك ضعيف؛ لأنه لم يبوئ حينئذٍ مقاعد للقتال إلا أن يراد أنه بوأهم بالتدبير حين المشاورة" وهذا فيه بعد، لكن أحسن من هذا - والله أعلم - أنه على اعتبار أنه يعبر بالرواح، والغدو عن الخروج، والدخول مطلقًا، فقد يكون أصل الاستعمال في وقت محدد، ولكن توسع الناس فيه، وهذا كثير في اللغة فيما توسع الناس فيه بالاستعمال.
وما عُلِمَ من مخرجه ﷺ هذا إذا قلنا بأنه لا مجاز في القرآن، ومن يقول بالمجاز، وهم الجمهور، يقولون هذا مجاز أن الغدو استعمل في غير معناه المتبادر. الذي وضع له أولًا، وهو الخروج في أول النهار.
ومن ينظر إلى أن المتبادر هو ما عُلِمَ من السياق كشيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - يسمى هذه حقيقة في القرائن، والسباق، واللحاق، والسياق، كل هذا يدل على المراد، فيكون متبادرًا بهذا الاعتبار، فعندها يكون هو الحقيقة ليس الحديث عن المجاز، ولكن المقصود بيان محمل ما ذكره ابن جزي - رحمه الله - سواء قلنا أنه مجاز، أو حقيقة.
"قوله تعالى: مَقَاعِدَ قال مواضع، وهو جمع مقعد."
مقاعد: مواضع، وهو جمع مقعد، مقاعد مصاف جمع مقعد، وأصل المقعد هو مكان القعود، فالمقاعد هنا هي المصاف، حيث يصطف المقاتلون كل في موضعه، ومقامه الذي وضع فيه.
فالقتال في الإسلام ليس كما هو الشأن في الجاهلية، على طريقة الهيشات - كما يقال - هيشات بطريقة فوضوية، وإنما بصفوف، وينظم الجيش يعبأ، كان النبي ﷺ يسوي صفوفهم كما هو معلوم في الصلاة، وفي القتال، بحيث لا يتقدم أحد، ولا يتأخر.