الإثنين 24 / جمادى الآخرة / 1447 - 15 / ديسمبر 2025
بَلَىٰٓ ۚ إِن تَصْبِرُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلَٰٓئِكَةِ مُسَوِّمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ [سورة آل عمران:125] يعني: تصبروا على مُصَابرة عَدُوّكم، وتتقوني، وتطيعوا أمري.
وقوله تعالى: وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا [سورة آل عمران:125] قال الحسن وقتادة، والربيع والسُّدِّي أي من وجههم هذا، وقال العَوْفيّ عن ابن عباس - ا -..."

قوله: من وجههم هذا يعني من خروجهم هذا.
"وقال العَوْفيّ عن ابن عباس - ا - من سفرهم هذا".

وهذا بمعنى الأول، فقوله: من فورهم هذا، أو من وجههم، أو من سفرهم هذا؛ كل ذلك بمعنىً واحد، وهذا من اختلاف التنوع.
"ويقال: "من غضبهم هذا".

يقال: من غضبهم هذا باعتبار معنى الفوران وهو الغضب، أي: فاروا غضباً، فمخرجهم كان بناء على هذا الغضب، وعلى كل حال كل ذلك واقع فيهم، فيمكن أن يقال: من فورهم هذا أي: من مخرجهم، ووجههم الذي خرجوا فيه غضبة بمصابهم في يوم بدر.
"القول الثاني: أن هذا الوعد متعلق بقوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [سورة آل عمران:121]".

نحن عرفنا أن الراجح في قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ أنها في يوم أحد وليست في يوم بدر، فإذا كان وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم؛ فعلى هذا الاعتبار لم يحصل الصبر مع أنهم وعدوا بثلاثة ويزيدون إلى خمسة، فلما لم يحصل منهم الصبر، ولا التقوى حيث خالفوا أمر رسول الله ﷺ، فحصلت الهزيمة، ولم يمدهم الله بالملائكة، لكن الأرجح هو الأول، والله أعلم.
"وذلك يوم أحد، ولكن لم يحصل الإمداد بالملائكة يومئذ؛ لقوله تعالى: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ [سورة آل عمران:125] فلم يصبروا بل فروا فلم يُمَدوا بملك واحد.
وقوله تعالى: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ [سورة آل عمران:125] أي: معلَّمين بالسِّيما".

قوله: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم المدد هو إعطاء الشيء حالاً بعد حال، أو شيئاً بعد شيء.
وقوله - تبارك وتعالى -: مُسَوِّمِينَ [سورة آل عمران:125] هذه قراءة متواترة، والقراءة الأخرى أيضاً متواترة وهي مسوَّمِين، وعلى هذه القراءة الثانية يكون المعنى معلَّمين بعلامات يُعرفون بها، وقد جاء في بعض الروايات عن بعض السلف وليس فيه دليل صريح واضح يجب الوقوف عنده في هذه العلامة والسمة فيما أعلم، فمنهم من يقول: العمائم، بعضهم يقول: صفر، وبعضهم يقول: سود، وبعضهم يقول: بيض، وبعضهم يقول: حمر، وبعضهم يقول غير هذا.
فالمقصود أنه على قراءة مسوَّمِين أي: أنهم قد وضعت لهم علامات، والقراءة الثانية مسوِّمِين أي قد جعلوا علامات لأنفسهم، فهذا هو الفرق بين مسوَّمين ومسوِّمين.
"وقال أبو إسحاق السَّبِيعي عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب  قال: "كان سِيَما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكان سيماهم أيضًا في نواصي خيلِهم".
وقال مكحول: "مسوَّمين بالعمائم، وكان سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود، ويوم حنين عمائم حمر".
وروى عن ابن عباس - ا - قال: "لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر".
وروى ابن أبي حاتم عن يحيى بن عباد: أن الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء مُعْتَجرًا بها، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر".

وجاء في بعض الروايات أنها خضر، وفي بعضها أنها حمر أي في وقعة بدر، وهنا في الرواية التي سبقت أنها في يوم بدر عمائم سود، و في يوم حنين عمائم حمر، وفي بعض الروايات أنها في يوم بدر عمائم حمر، وعلى كل حال هذا كله فيه مثل هذا التفاوت، والاختلاف، والمقصود أنه كانت لهم علامة، والله تعالى أعلم.

مرات الإستماع: 0

"وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ [آل عمران:125] الضمير للمشركين، والفور السرعة، أي: من ساعتهم، وفي نسختين الفور الساعة، أي: من ساعتهم، وقيل المعنى من سفرهم."

الفور هو السرعة الفور، أي: من ساعتهم، وقيل: المعنى من سفرهم، ويأتوكم من فورهم، قيل: من وجههم كما جاء عن الحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي من وجههم هذا[1] أو من ساعتهم، أو من غضبهم، باعتبار أن الفور بمعنى الغضب، يقال: فار فائره إذ غضب، "فورهم" أي: من غضبتهم، جاءوا في حال من الحنق على المسلمين.

فإذا قيل: إن هذا كان في بدر فجاؤوا، وهم في حالة من الغضب لعيرهم، وتعرض النبي ﷺ لها، وكانت فيها تجارة عظيمة لقريش، وعلى القول بأن ذلك في أُحد فقد جاؤوا موتورين لما وقع لسراتهم في يوم بدر، جاؤوا يثأرون يأتوكم من فورهم، وبعضهم يقول: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ يعني: خرج المشركون عليكم مباشرة من حيث خرجوا لقتالكم مسرعين إليكم في حدة، وحرارة، فجمع بين المعاني المذكورة، يعني: أنهم خرجوا من وجههم في حال من الإسراع، والغضب؛ فإن الفور يحتمل ذلك جميعًا، وليس ثمة ما يحدد أحد هذه المعاني دون غيره، فهم خرجوا بحال من الغضب، والإسراع لقتال المسلمين بحدة، وحرارة. 

وبعضهم يقول: يأتي المدد لنصرة إخوانهم المشركين وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا؛ لأنهم وعدوا عن المشركين بالمدد، فقيد هذا، يعني مجيء الثلاثة، والخمسة إذا جاء مدد المشركين، ولم يأت المدد، فلم تنزل الثلاثة، والخمسة على هذا الاعتبار، مع أن هذا من جهة الرواية لا يثبت، يعني: الرواية الواردة في هذا بأنهم وُعدوا بالمدد، لا يصح من جهة الإسناد، يعني: يكون وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يعني: المدد، فينزل المدد من الملائكة مقابل ذلك.

"قوله: بِخَمْسَةِ آلَافٍ [آل عمران:125] بأكثر من العدد الذي يكفيكم ليزيد ذلك في قوتكم فإن كان هذا يوم بدر فقد قاتلت فيه الملائكة، وإن كان يوم أحد فقد شرط في قوله: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:120] فلما خالفوا الشرط لم تنزل الملائكة."

خالفوا الشرط لم تنزل الملائكة، وقد جاء في الصحيحين عند سعد بن أبي وقاص قال: "رأيت عن يمين رسول الله ﷺ وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بياض، ما رأيتهما قبل، ولا بعد - يعني جبريل - وميكائيل عليهما السلام -"[2].

يعني: جبريل، وميكائيل، هذا في يوم أحد، لكن هذا أخذ منه الإمام النووي رحمه الله: أن الملائكة قاتلت يوم أحد[3].

الجمهور يقولون: لم تقاتل يوم أحد، ويقولون: أيضًا يوم حنين نزلت الملائكة للسكينة، والطمأنينة في قلوب المؤمنين ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [التوبة: 26] في يوم حنين.

فعلى كلِّ حال: حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين يدل على أن الملائكة قاتلوا، لكن هل يعني هذا أن هذا العدد، إذا قيل: بأن ذلك يوم أحد ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف، وقاتلت مع المسلمين؟ لا يدل على ذلك، وإنما هؤلاء الملائكة قاتلوا عن رسول الله ﷺ بخصوصه، وإلا لو نزلت الملائكة، وقاتلوا لم تحصل الهزيمة، لا يمكن أن تحصل الهزيمة، وعلى القول بأنه في أحد كان مشروطًا بالصبر، والتقوى، فلم يحصل ذلك؛ فلم تنزل.

وعلى القول قول الجمهور أن ذلك في بدر يكون واضحًا، وإنما قاتل هؤلاء مع رسول الله ﷺ ذبًا عنه، وإلا فإن المشركين قد قصدوه ﷺ ووصلوا إليه، وأصحابه منهم من صعد الجبل، ومنهم من دخل المدنية، ولم يكد يبق معه إلا في بعض الروايات، أو في بعض المواقع، أو المواقف واحد، وفي بعضها نفر يسير قليل أفراد، حتى وصل إليه بعض المشركين، فكسرت رباعيته ﷺ وشج وجهه، وكسرت البيضة على رأسه، وهي ما يغطي الرأس من الحديد، فهذه تكسر بضرب قوي شديد، وسقط في الحفرة التي حفرها أبو عامر الراهب.

"قوله: مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125] بفتح الواو، وكسرها، أي: مُعَلَّمين، أو مُعَلِّمين بفتح الواو، وكسرها، أي معلمين، أو معلمين أنفسهم، أو خيلهم، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء إلا جبريل، فإنه كانت عمامته صفراء، وقيل: كانت عمائم صفر، وكانت خيلهم مجذوذة الأذناب، وقيل :كانوا على خيل بُلق."

يقول: (مسوّمين) بفتح الواو، وكسرها، قرأ ابن كثير، البصريان، وعاصم بالكسر (مسوِّمين) وبالفتح قرأ الباقون.

يقول: أي معلَّمين على (مسوَّمين) بالفتح، و(مسوِّمين) يعني: معلِّمين تضع علامات معلمين أنفسهم، أو معلِّمين، عليهم علامات، أو على خيلهم، يعني بعلامة الحرب المأخوذ من السومة، والسيماء، وهي العلامة سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ [الفتح:29] يعني: علامتهم التي تبدو ظاهرة لكل أحد.

يقول: وكانت سيم الملائكة يوم بدر بيض، وبعضهم يقول: سود، وبعضهم يقول خضر، يقول: إلا جبريل فإنه كانت عمامته صفراء، وقيل كانوا بعمائم صفر، وقيل: كانوا على خيل بُلق.

على كل حال: كان من عادة العرب في القتال أنهم يعلمون أنفسهم، وفي قوله - تبارك، وتعالى -: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آل عمران: 14] على أحد الأقوال فيها: المعلمة بشيات، وعلامات، وكانوا يضعون ذلك على الخيل، وتارة على أنفسهم، بعضهم يُعرَف إذا ربط عصابة حمراء، فمعنى ذلك الاستماتة، أنه مقبل على الموت لا يتوانى، فكان يضع ذلك الشجعان؛ ليعرفوا، ويقصدوا، يعني: يقصدهم الأبطال من العدو، فلا يكون خفيًا بين الناس، في أغمار الجيش، وإنما يبرز حتى يُستهدف، فكان يفعل ذلك الشجعان. 

  1. تفسير ابن كثير (2/113).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب في قتال جبريل، وميكائيل عن النبي ﷺ يوم أحد، رقم: (2306).
  3. شرح النووي على مسلم (15/66).