الأربعاء 01 / ربيع الآخر / 1447 - 24 / سبتمبر 2025
وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِۦ ۗ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر -رحمه الله تعالى-: "وقوله تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ [سورة آل عمران:126] أي: وما أنزل الله الملائكة، وأعلمكم بإنزالهم؛ إلا بشارةً لكم، وتطييباً لقلوبكم، وتطميناً، وإلا فإنما النصر من عند الله الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [سورة محمد:4-6] ولهذا قال هاهنا: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:126] أي: هو ذو العزة التي لا تُرام، والحكمةُ في قَدَرِه، والإحكام".

فقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ [سورة آل عمران:126] الحافظ ابن كثير - رحمه الله - حمل ذلك على إنزال الملائكة يعني وما جعله الله - أي المدد بالملائكة الذي في قوله: أَنِّي مُمِدُّكُم [سورة الأنفال:9] - إلا بشرى لكم، وهذا هو المشهور، وهو الأليق بالسياق.
ومن أهل العلم من جعل ذلك يرجع إلى التسويم، يعني مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم، وهذا لا يظهر كل الظهور، والله تعالى أعلم، وعلى كل حال هذه الآية يستدل بها من يقول: إن الملائكة لم تقاتل لا في بدر، ولا في غير بدر، وقالوا: إن الله ذكر ذلك بصيغة الحصر، يعني وما جعله - أي الإنزال - إلا بشرى، وأقوى صيغة من صيغ الحصر هي النفي، والاستثناء، وهو هنا لم يذكر القتال وإنما البشارة، وطمأنينة القلب، لكن على كل حال السياق هنا يدل على أن النصر لا يتنزل من جهة سوى الله - تبارك وتعالى -، فالذين يُنزِّلون النصر ليسوا هم الملائكة، ولا غير الملائكة؛ وذلك من أجل أن ترتبط القلوب بالله ، فحينما يذكر هذه القضية لتحقيق هذا المعنى فإن ذلك لا يدل على نفي أمور أخرى حصلت مع تنزيل الملائكة - عليهم السلام -، ولذلك فإن الأرجح من قولي العلماء وهو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم أن الملائكة قاتلوا في يوم بدر.
ومما يحتج به من  يقول: إن الملائكة لم تقاتل، من النظر أنهم يقولون: ما الحاجة أن ينزل الله ألفاً، أو ثلاثة آلاف، أو خمسة آلاف، وملك واحد يمكن أن يسحق هؤلاء جميعاً، ويقتلع الأرض التي يطئون عليها؟
يقال لهم: إن الله له في ذلك حكم بالغة، وإلا فإن النصر يأتي من غير تنزيل الملائكة أصلاً، فالله يخذلهم، ويموتون في أماكنهم، والله يقول: وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [سورة محمد:4] فالمقصود أن مثل هذه الأسئلة والإشكالات لا ترد؛ لأن لله حكماً، والله يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه.

مرات الإستماع: 0

"وَمَا جَعَلَهُ [آل عمران:126] الضمير عائد على الإنزال، أو الإمداد، وفي جميع النسخ على الإنزال، والإمداد."

على الإنزال، أو الإمداد، وممكن تكون "أو" عاطفة لا إشكال، وبعضهم يقول على التسويم وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ [آل عمران:126] وهذا بعيد؛ لأن التسويم بمجرده ليس هو البشرى، وإنما نزول الملائكة أني ممدكم، هذا الإمداد هو بشرى وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى هو مجرد بشرى، ولا يكون جالبًا للنصر، هذه عقيدة ينبغي أن تكون راسخة، وإلا النصر فله متطلبات لابد من تحقيقها، وأصلاه العظيمان: الاعتصام بحبل الله، والثاني: عدم التفرق، وكل ذلك غير متحقق في الأمة في هذه الأوقات، ولذلك لا نرجو نصرًا مؤزرًا على الأعداء، ونحن نشاهد الأمة في هذا التفرق، والانقسام، والاختلاف بين كل الطوائف على مستوى أهل الجهاد، والقتال، طوائف كثيرة متفرقة، فهذا عنوان الهزيمة.

وكذلك على مستوى الدعاة إلى الله، فالله - تبارك، وتعالى - يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

فمن أراد النصر فعليه أن يحقق شرط الله فيه، أما هذا الذي نحن فيه في هذا العصر فإن ذلك دليل على قلة العقل، وضعف الدين، وهذه الأحوال التي نشاهدها، المقاتل، والمذابح التي تجري على المسلمين رجالًا، ونساءًا صغارًا، وشيبًا، كل ذلك بسبب هذا البلاء، والداء الذي ابتليت به هذه الأمة، فلن يتحقق لها النصر، والتمكين إلا بأن يتجرد الناس لله، ويتخلوا عن أهوائهم، وما قد يتشبثون به من مزاعم، ومكتسبات، وغير ذلك من الأوهام التي يتشبثون بها، وإلا فلا نصر يتحقق مع هذه الحالة التي نشاهدها - والله المستعان -.

وانظر إلى الحروب التي مضت عبر العقود الماضية لا تجد نصرًا حاسمًا يتحقق به مقصود الشارع، وإنما هو استنزاف للأمة في الأرواح، والأموال، ويحصل بسبب ذلك ما يحصل من تشريد، وتهجير، وهدم للبلاد، إلى غير ذلك مما تشاهدون، هذا بلاء ابتلينا به بسبب تفرقنا، وبعدنا عن الله .

الأمة لا زالت في غفوة، وفي لهو، ونسأل الله أن يلطف بنا، وأن يرد كيد الأعداء في نحورهم، وأن ينصر المسلمين نصرًا مؤزرًا، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يردهم إليه ردًا جميلًا، وأن يرحم ضعفهم، وعجزهم، ومسكنتهم، ويفك حصارهم، ويغنيهم من الفقر - والله المستعان -.

"قوله: وَلِتَطْمَئِنَّ [آل عمران:126] معطوف على بشرى؛ لأن هذا الفعل بتأويل المصدر، وقيل يتعلق بفعل مضمر يدل عليه "جعله".

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ [آل عمران:126] معطوف على بشرى، بشرى اسم فعطف عليه فعل (ولتطمئن) قال: لأن هذا الفعل بتأويل المصدر، يعني، والاطمئنان، ولتطمئن، يعني: وما جعله الله إلا بشرى، ولاطمئنان، أو لطمأنينة قلوبهم، وقيل: يتعلق بفعل مضمر وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ يدل على جعله (ولتطمئن) يعني: أنزلهم لتطمئن القلوب، ونحو ذلك، والأصل عدم التقدير.

من القواعد الترجيحية: أن الكلام إذا دار بين التقدير، والاستقلال، فالأصل الاستقلال، فليستقل هكذا من غير حاجة إلى تقدير.

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى يعني: هذا الإمداد، والإنزال بشرى، ولتطمئن، ولأجل اطمئنان النفوس بذلك.