الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّوا۟ مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ۝ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ۝ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ۝ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۝ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ۝ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [سورة آل عمران:159-164].
"يقول تعالى مخاطباً رسوله ﷺ، ممتناً عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ أي: أي شيء جعلك لهم ليناً لولا رحمة الله بك وبهم.
وقال قتادة: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [سورة آل عمران:159] يقول: فبرحمة من الله لنت لهم، و"ما" صلة والعرب تصلها بالمعرفة كقوله: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ [سورة النساء:155] وبالنكرة كقوله: عَمَّا قَلِيلٍ [سورة المؤمنون:40] وهكذا هاهنا قال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [سورة آل عمران:159] أي: برحمة من الله.
وقال الحسن البصري: هذا خلق محمد ﷺ بعثه الله به، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة:128]".

فقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [سورة آل عمران:159] قال: أي فبرحمة من الله لنت لهم.
يقول: و"ما" صلة، وعرفنا أنهم يعبرون بالصلة عن الزيادة، يعني أنها زائدة إعراباً، وحينما يقولون: صلة فالمقصود أنها مزيدة للتوكيد، وهذا مشى عليه كثير من المحققين من أئمة العربية، ومن أئمة التفسير كأبي جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله - فقوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ أي: برحمة محققة من الله حصل لهم هذا اللين من جانبك، فإن ذلك أدعى للقبول، والمتابعة، والالتفاف حول النبي ﷺ.
 
"ثم قال تعالى: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [سورة آل عمران:159] والفظُّ: الغليظ".

الغليظ الجافي الجلف يقال: فلان فظ يعني أنه غليظ جافٍ من الأجلاف الذين يعاملون الناس بالمخاشنة، وسوء الخلق.
"والمراد به هاهنا غليظ الكلام، لقوله بعد ذلك: غَلِيظَ الْقَلْبِ".

يقال: غليظ الكلام، وغليظ الخلق، وغليظ الكلام لا شك أنه ينتج عن غليظ خلق ينطوي عليه، فهو غليظ الخلق مع قسوة القلب، فقوله: فظاً أي: غليظ الأخلاق غَلِيظَ الْقَلْبِ يعني قاسي القلب لا يرحم، ولا يشفق على أتباعه ونحو ذلك، فالنبي ﷺ بخلاف هذا.
"أي: لو كنت سيئ الكلام، قاسي القلب عليهم؛ لانفضوا عنك، وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم كما قال عبد الله بن عمرو - ا -: إنه رأى صفة رسول الله ﷺ في الكتب المتقدمة: "إنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح".

على كل حال هذه أخلاق كاملة لا سيما لمن أراد أن يتصدى لدعوة الناس، أو نحو ذلك، فينبغي أن يتحلى بها، فلا يكون جلفاً سيئ الخلق، يتأذى الناس بمجالسته، وما يسمعون منه من جرح مشاعرهم، وسبهم، وشتمهم، ويكون في قلبه قاسياً حقوداً لا يعفو الزلة عن الأتباع، ولا يتجاوز، ولا يحتمل لهم الغلط، والهفوة وما أشبه ذلك، وإنما طبعه الغلظة، والشدة، فمثل هذا تنفر منه النفوس بطبيعتها، فالنفوس لا تحب من كان كذلك، يعني حتى الإنسان الغليظ، الجافي إذا رأى إنساناً آخر غليظاً، جافياً، فإنه ينفر منه، وفي كثير من الأحيان الإنسان قد لا يتفطن،, ولا يرى عيوبه ولو كانت أمثال الجبال؛ لكنه يرى ذلك في الناس ولو كان صغيراً فينفر من هذه الصفات.
فالمقصود أن الدعاة إلى الله ، وطلاب العلم؛ أولى بمثل هذه الأوصاف من رحمة المسلمين، والعطف عليهم، والشفقة، وألا يكون سيئ الخلق في تعامله مع الناس فهذه أمور لا تليق، قد يكون الإنسان طالب علم فيغلظ على الناس في الكلام، وربما شتمهم، وربما آذاهم، وربما أقفل السماعة وهو يحادثهم في الهاتف، فيخاف الناس منه ومن سؤاله، ومن الدنو منه، ومن معاشرته، وإذا عاشروه رأوا منه ألوان الأخلاق الكريهة، فينبغي للإنسان أن يكون قدوة في سلوكه، قدوة في تصرفاته، فإذا عنف أحداً فهو يقصد هذا لمعنىً يرى أنه مصلحة لهذا الإنسان المعنف، ولا يجد في نفسه تشفياً في مثل هذه الحال، فهو كالطبيب يضع الدواء حيث نفع لا سيما في التعامل مع الناس الذين يظنون أن هؤلاء لهم أخلاق كما يقال: أخلاق ربانية، أو أخلاق أنبياء، فحينما يأتي الناس لطلاب العلم، أو يأتون لمن يدرسون في الجامعات الشرعية أو نحو هذا؛ ينبغي أن يجدوا منهم اللين، والغلظة، ولا يجدون الأخلاق الصحراوية، والجفاف في النفوس، والسلاطة، والتعنيف في اللسان وما إلى ذلك، فحتى لو كان الإنسان يعيش في بيئةٍ الغلظة غالبة فيها فإنه ينبغي أن يهذب أخلاقه، فيتخلص الإنسان قدر المستطاع من مثل هذه الأوصاف، فإن ذلك ينفر النفوس، وكم من طالب علم جاء مندفعاً متحمساً حينما كان يقرأ عن أخلاق الإمام أحمد، والفضيل وابن المبارك وأمثالهم، ثم رأى عكس هذا تماماً لدى بعض من يحتف به، أو ابتلي بتعليمه؛ فنفر وكره العلم، وكره طلاب العلم، وكذلك الدعاة إلى الله إذا كانوا بهذه المثابة، فلا بد من التجاوز، واحتمال أخطاء الناس، وهفواتهم، والذي لا يصلح لشيء يصلح لشيء آخر، والله خلق الناس في غاية التفاوت، فلا بد من سعة الصدر لهم، وإعطاء كل إنسان ما يحسنه، والحاجة موجودة للجميع.
"ولهذا قال تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [سورة آل عمران:159] ولذلك كان رسول الله ﷺ يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييباً لقلوبهم؛ ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه".

يعني إذا شاورت الإنسان جعلته شريكاً لك في هذا حتى في الناحية النفسية كما يقال، إذا أردت أن تجعل إنساناً في صفك فيمكن أن تدخله معك من هذه البوابة، إنسان ممكن أن يعترض، وينبري لمعارضة هذا الأمر، فمن الممكن أن تأتيه وتقول: نحن نعاني من كذا وكذا وكذا بماذا تشير علي؟ فيمكن أن يقترح عليك الرأي الذي يمكن أن يكون هو أكثر المعارضين له، وللأسف هذه يمكن أن يستغلها أهل الفساد مع بعض الطيبين، ويُستغفلون بهذه الطريقة فيكون هذا عوناً لهم، ويمكن أن يستغلها أهل الصلاح حتى في المشكلات الزوجية وما أشبه ذلك، قد تسبق الزوجة إلى أحد من المصلحين الذين يصلحون بين الأسر، أو القضاة؛ فتبدأ تذكر له المشكلة، وتقلب الأمر بين يديه، وماذا يشير عليها وما إلى ذلك، فيتحول تلقائياً إلى إنسان مستشار لها، وهذا لا بأس به إلى هذا الحد، لكن أن يكون كلامها هو الحق، وأن يعطيها تعليمات كيف تفعل لتنتصر على هذا الإنسان، وتأخذ حقها منه وما أشبه ذلك؛ حتى إذا جاء ذلك الزوج فإذا القضية محسومة في نظر هذا القاضي، وأن هذا إنسان ظالم، وينبغي أن يؤدب، والسبب أنها جاءت بطريقة مشاورته في الموضوع، وماذا يمكن أن تفعل، فتحول دون أن يشعر إلى عاضد وناصر، وهذا حاصل بشكل كبير جداً، فالمقصود أنك بكل بساطة تستطيع أن تحول الكثيرين إلى أعوان وأنصار بهذا الأسلوب حتى بالتعامل مع الأب مثلاً قد تجده يعترض على شيء، فتعرض عليه وتقول: أنا أعاني من إشكال وكذا فماذا تشير عليَّ؟ فتجده يبدأ يجتهد بكل طاقته ليعطيك حلولاً، فهذه الحلول قد تكون أنت تفكر فيها أصلاً، لكن إذا طرحتها لأول وهلة تجد المعارضة.
وعلى كل حال هذه الآية تضمنت حق الله وحق النبي ﷺ، وحق الخلق، فالله يقول: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [سورة آل عمران:159]، فقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ أي: إن بدر منهم تقصير في حقك، وقوله: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي مما يقع منهم من الذنوب، والمعاصي، والتقصير في حق الله ، وقوله: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ هذا حق لهم.
"كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا: "يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب فنحن معك، وبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك مقاتلون"، وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل حتى أشار المنذر بن عمرو - المعنق ليموت - بالتقدم إلى أمام القوم".

قوله: "المعنق ليموت" ربما قيل له ذلك - إن صحت الروايات التي في السير - لما كان في بئر معونة، فأقدم بعد أن قتل أصحابه، وأصرَّ ألا يبرح، وألا يفارق حتى يقاتل المشركين، أو يقتل، فأقدم عليهم حتى قتلوه، فيقولون: إن النبي ﷺ قال له: أعنق ليموت[1].
فقوله: أعنق ليموت يعني بادر ليموت، ثم لقب بهذا، هكذا في بعض الروايات في السير إن صحت.
"وشاورهم في أُحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو؛ فأشار جمهورهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم، وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ؛ فأبى عليه ذلك السعدان: سعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة - ا - فترك ذلك، وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين فقال له الصديق : "إنا لم نجئ لقتال أحد، وإنما جئنا معتمرين" فأجابه إلى ما قال".

على كل حال هذا هو الواجب، وقد قال ابن عطية - رحمه الله -: إن من لا يشاور أهل الدين، والصلاح، والعلم يجب عزله.
"وقال ﷺ في قصة الإفك: أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبْنُوا أهلي، ورموهم، وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء، وأبْنُوهم بمن؟ والله ما علمت عليه إلا خيراً[2].
واستشار علياً وأسامة - ا - في فراق عائشة - ا وأرضاها - فكان ﷺ يشاورهم في الحروب ونحوها.
وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: المستشار مؤتمن [ورواه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي]".

قوله: أبْنوا أهلي الأَبْن: التهمة، والمعنى هنا اتهموا أهلي، وعلى كل حال الحديث فيه كلام معروف وضعف في إسناده لكنه قد يحتمل التحسين لشواهده، وقد رواه أبو داود والترمذي وحسنه، والتحسين من قبل الترمذي.
"وقوله تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ [سورة آل عمران:159] أي: إذا شاورتهم في الأمر، وعزمت عليه؛ فتوكل على الله فيه إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [سورة آل عمران:159]".
  1. الطبقات الكبرى لابن سعد (ج 3 / ص 567).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة النور (4479) (ج 4 / ص 1780) ومسلم في كتاب التوبة - باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (2770) (ج 4 / ص 2129).

مرات الإستماع: 0

"فَبِمَا رَحْمَةٍ [آل عمران:159] (ما) زائدة للتأكيد لانْفَضُّوا [آل عمران:159] أي: تفرقوا".

يقول: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:159] (ما) زائدة للتأكيد"، وسبق في بعض المناسبات الكلام على إطلاق لفظ الزيادة، وأن بعضهم كرهه، وأن لا زائد في القرآن، طبعًا يقصدون زائدة إعرابًا لتقوية الكلام، وتأكيده - والله أعلم -.

وهنا يقول: "زائدة للتأكيد" يعني: بسبب رحمة الله تعالى لك، ولأصحابك ألان قلبك لهم، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يعني: بسبب، فالباء للسببية، بسبب رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لك، ولهم، ألان قلبك لهم، كما قال الله : قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

وفي الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - ا - في صفة النبي ﷺ في التوراة: ليس بفظٍ، ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق - الصخاب في الأسواق رفع الصوت في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو، ويغفر [1].

وابن كثير - رحمه الله - يقول: أي شيءٍ جعلك لهم لينًا، لولا رحمة الله بك، وبهم[2] وقال قتادة: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ برحمة من الله لنت لهم[3] وهذا التفسير جاري على أن (ما) للتوكيد.

وهذه يسميها بعضهم من باب التأدب في العبارة: (ما) صلة للتوكيد، يقولون: تصلها العرب بالمعرفة، كقولهم: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155] يعني: فبنقضهم ميثاقهم، ويصلونها بالنكرة، كقوله: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ [المؤمنون:40].

وفي هذا الموضع أيضًا في قوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِأن (ما) زائدة هذه للتوكيد، هذا الذي جرى عليه اختيار سيبويه شيخ النحو[4] وأبو جعفر ابن جرير شيخ المفسرين[5] والحافظ ابن كثير[6] فكلهم جروا على هذا فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي: فبرحمةٍ من الله، فـ(ما) حرف زائد للتوكيد.

"لانْفَضُّوا أي: تفرقوا".

"لانْفَضُّوا أي: تفرقوا" يعني: لم يسكنوا إليك، والفض: كسر الشيء، والتفريق بين بعضه بعضًا، فأصله: التفريق، والتجزئة.

"فَاعْفُ عَنْهُمْ [آل عمران:159] أي: فيما يختص بك، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي: فيما يختص بحق الله وَشَاوِرْهُمْ المشاورة مأمور بها شرعًا، وإنما يشاور النبي ﷺ الناس، في الرأي في الحروب، وغيرها، لا في الأحكام الشرعية، وقرأ ابن عباسٍ: وشاورهم في بعض الأمر[7]".

ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أن هذه الآية تضمنت الحقوق الثلاثة؛ حق الله - تبارك، وتعالى - الذي هو وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وحق النبي ﷺ فَاعْفُ عَنْهُمْ، وحق الخلق وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ.

"فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159] التوكل: هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع، أو حفظها بعد حصولها، وفي دفع المضرات، ورفعها بعد، وقوعها، وهو من أعلى المقامات".

فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أصل العزم: القطع، والمقصود: عقدت قلبك على إمضاء الأمور فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.

"وهو من أعلى المقامات؛ لوجهين: أحدهما: قوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159]، والآخر: الضمان الذي في قوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] وقد يكون واجبًا؛ لقوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] فجعله شرطًا في الإيمان؛، ولظاهر قوله : وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:123] فإن الأمر محمولٌ على الوجوب".

وأعلم أن الناس في التوكل على ثلاث مراتب:

الأولى: أن يعتمد العبد على ربه، كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده، الذي لا يشك في نصيحته له، وقيامه بمصالحه.

والثانية: أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه، فإنه لا يعرف سواها، ولا يلجأ إلّا إليها.

والثالثة: أن يكون العبد مع ربه: كالميت بين يدي الغاسل، وقد أسلم نفسه إليه بالكلية.

فصاحب الدرجة الأولى له حظ من النظر - في النسخة الخطية -: فصاحب الدرجة الأولى عنده حظ من النظر - لنفسه، بخلاف صاحب الثانية، وصاحب الثانية له حظ من المراد، والاختيار، بخلاف صاحب الثالثة.

وهذه الدرجات مبنيّة على التوحيد الخاص الذي تكلمنا عليه في قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة:163] فهي تقوى بقوته، وتضعف بضعفه".

هذا التوحيد الخاص الذي يتكلم عليه هو الذي مضى الكلام، والتعليق عليه صفحة: (256،255)، وهذا الكلام من جنس كلام الصوفية، وهنا يشير إليه في مسألة التوكل، مضى الكلام عليه عند قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة:163] لما تكلم على الواحد، قال: "واعلم أن توحيد الخلق لله - تعالى - على ثلاث درجات: توحيد عامة المسلمين، وهو الذي يعصم النفس، والمال في الدنيا، وينجي من الخلود في النار في الآخرة، وهو نفي الشركاء، والأنداد، والصاحبة، والأولاد، والأشباه، والأضداد.

والدرجة الثانية: توحيد الخاصة، وهو أن يرى الأفعال كلها صادرةً من الله وحده، ويشاهد ذلك بطريق المكاشفة، لا بطريق الاستدلال الحاصل لكل مؤمن، وإنما مقام الخاصة في التوحيد يقينهم في القلب بعلمٍ ضروري لا يحتاج إلى دليل" وهذا الذي يُسمى عند الصوفية: وحدة الشهود، وهذه مشكلة "وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله، والتوكل عليه وحده... إلى آخره.

والدرجة الثالثة: ألا يرى في الوجود إلا الله وحده، فيغيب عن النظر إلى المخلوقات" وهذا الذي يُعرف بوحدة الوجود، هذا توحيد خاصة الخاصة، توحيد المنحرفين، والضلال هو توحيد خاصة الخاصة - نسأل الله العافية -.

وهذا الذي أشار إليه هنا بقوله "وهذه الدرجات مبنيّة" يعني في التوكل، يعني أصحاب الدرجة الثالثة هؤلاء هم خاصة الخاصة، الذين هم أصحاب وحدة الوجود "أن يكون العبد مع ربه كالميت بين يدي الغاسل، قد أسلم نفسه إليه بالكلية" ليس هذا على إطلاقه بأن يكون كالميت، معروف مدافعة القدر بالقدر، وعمر لما ذهب إلى الشام، ووقع فيها الطاعون، واستشار أصحاب النبي ﷺ وهي واقعة معروفة، وكيف رد على أبي عبيدة لما قال: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت، واديًا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟[8] فهذا يدفع قدر الله كما يُدفع الجوع بالأكل، والعطش بالري، والشرب، والمرض بالدواء، ونحو ذلك.

وقلنا: إن هذا على أقسام - كما ذكرنا - في الأعمال القلبية، منه ما لا مدفع له، فهنا يجب التسليم، كالموت إذا نزل، والمصيبة التي تقع مما لا يمكن دفعه، ففي هذه الحال انتهى، يجب التسليم، والصبر، ولا يعترض على قدر الله وهناك ما يمكن دفعه، ولكن مدافعته تكون بأسبابٍ مظنونة ليست مقطوعة، فهذا لا يجب، مثل: لو أنه مرض، ويوجد علاج مظنون، فلا يجب عليه التداوي في هذه الحال. 

النوع الثالث: ما يكون أثره مقطوعًا به؛ مثل: الجوع، والعطش، لو قال: لا أشرب، ولا آكل، حتى مات، فيكون قد فرط، وعرض نفسه للهلكة، ولا تبرأ ذمته، كذلك لو أنه جُرح، فصار ينزف، وكان بالإمكان أن يربط هذا الجرح، فهذه نتيجته معروفة، عند تخيط الجرح يقف الدم، فيقول: لا، أنا أتركه ينزف حتى أموت، ولا أتسبب، وقد ذكر بعضهم شخصًا للإمام أحمد: أنه لم يكن يأكل من باب التوكل، فكانوا يضعون الطعام في فيه، فما كان يمضغ؛ لأن المضغ حركة، وتسبب، فكانوا يحركون فكه، طيب هذا إذا احتاج الخلاء ماذا يصنع؟ هو لا يتحرك، ولا يتسبب أبدًا، ماذا يصنع؟ يعني هذا لا يمكن، هذا مخالف لطبيعة الحيوان، والإنسان، وفطر الخلق، وسنن الله في الكون، فالتسبب، وفعل الأسباب، ولا يقال: "يكون كالميت بين يدي الغاسل" مطلقًا هكذا، هذا غير صحيح.

وإنما هناك من القدر ما يدافع بقدر الله والناس يذهبون، ويعملون، ويكتسبون، وعلى هذا جرت الحياة، وعمارة الأرض، وهكذا الأكل، والشرب، والنكاح، إلى آخره، وهذا يريد من الناس أن يتعطلوا من كل شيء، وهذا توحيد خاصة الخاصة، الذي يشير إليه، فهذا غير صحيح، فالقدر يُدافع بالقدر.

"فإن قيل: هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا؟ فالجواب: أن الأسباب على ثلاثة أقسام:

أحدها: سبب معلومٌ قطعا، قد أجراه الله تعالى: فهذا لا يجوز تركه: كالأكل لدفع الجوع، واللباس لدفع البرد".

إذا كان "كالميت بين يدي الغاسل" فالجوع من قدر الله فلا يدفعه بالأكل على هذا، مما يدل على أن تلك المرتبة التي يصفها غير صحيحة.

"الثاني: سببٌ مظنونٌ: كالتجارة، وطلب المعاش، وشبه ذلك، فهذا لا يقدح فعله في التوكل؛ لأن التوكل من أعمال القلب، لا من أعمال البدن، ويجوز تركه لمن قوي عليه".

تركه خلاف سنة الله في هذا الخلق، وخلاف سنن المرسلين وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:20].

"والثالث: سبب موهوم بعيدٌ، فهذا يقدح فعله في التوكل، ثم إن فوق التوكل التفويض، وهو الاستسلام لأمر الله - تعالى - بالكلية، فإن المتوكل له مرادٌ، واختياٌر، وهو يطلب مراده باعتماده على ربه، وأما المفوض فليس له مرادٌ، ولا اختيار، بل أسند المراد، والاختيار إلى الله - تعالى - فهو أكمل أدبًا مع الله - تعالى".

ليس بهذا الإطلاق، بل بالتفصيل السابق، فإن فعل الأسباب فيه هذا التفصيل، لكن من الأدب مع الله - تبارك، وتعالى - ألا يكون للعبد اختيار مع الله، هذا ليس بهذا الإطلاق الذي يذكره المؤلف، لكن متى يكون هذا، لا يكون له اختيار؟ يعني - مثلًا - أن يُرزق الإنسان بالبنات، ولا يُرزق بالذكور الأبناء، فيقول: أنا مُفوض أمري إلى الله، والذي يأتي من الله أنا راضي به، والحمد لله، ولا يكون له اختيار مع الله. 

قد يقول له الأطباء: أنه هناك، وصفات معينة، وبرنامج معين في الأكل، والشرب، أو نحو ذلك، يغلب أن يكون المولود ذكرًا إذا تعاطيت هذه الأسباب، فيقول: لا، أنا لا يكون لي اختيار مع الله، فهذا صحيح، لكن أن يترك فعل الأسباب من باب التفويض، فيترك الكسب، والتجارة، والعمل، أو يترك التداوي، أو يترك حتى الأكل، والشرب، من باب التفويض، هذا كلام غير صحيح، وليس على إطلاقه.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب كراهية السخب في السوق برقم: (2125).
  2.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/148).
  3.  المصدر السابق.
  4.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/533)، وفتح القدير للشوكاني (1/451)، وتفسير القرطبي (4/248).
  5.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (2/235).
  6.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/148).
  7.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (3/802).
  8.  أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون برقم: (5729)، ومسلم في السلام، باب الطاعون، والطيرة، والكهانة، ونحوها برقم: (2219).