"يقول تعالى مخاطباً رسوله ﷺ، ممتناً عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ أي: أي شيء جعلك لهم ليناً لولا رحمة الله بك وبهم.
وقال قتادة: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [سورة آل عمران:159] يقول: فبرحمة من الله لنت لهم، و"ما" صلة والعرب تصلها بالمعرفة كقوله: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ [سورة النساء:155] وبالنكرة كقوله: عَمَّا قَلِيلٍ [سورة المؤمنون:40] وهكذا هاهنا قال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [سورة آل عمران:159] أي: برحمة من الله.
وقال الحسن البصري: هذا خلق محمد ﷺ بعثه الله به، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة:128]".
فقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [سورة آل عمران:159] قال: أي فبرحمة من الله لنت لهم.
يقول: و"ما" صلة، وعرفنا أنهم يعبرون بالصلة عن الزيادة، يعني أنها زائدة إعراباً، وحينما يقولون: صلة فالمقصود أنها مزيدة للتوكيد، وهذا مشى عليه كثير من المحققين من أئمة العربية، ومن أئمة التفسير كأبي جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله - فقوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ أي: برحمة محققة من الله حصل لهم هذا اللين من جانبك، فإن ذلك أدعى للقبول، والمتابعة، والالتفاف حول النبي ﷺ.
الغليظ الجافي الجلف يقال: فلان فظ يعني أنه غليظ جافٍ من الأجلاف الذين يعاملون الناس بالمخاشنة، وسوء الخلق.
يقال: غليظ الكلام، وغليظ الخلق، وغليظ الكلام لا شك أنه ينتج عن غليظ خلق ينطوي عليه، فهو غليظ الخلق مع قسوة القلب، فقوله: فظاً أي: غليظ الأخلاق غَلِيظَ الْقَلْبِ يعني قاسي القلب لا يرحم، ولا يشفق على أتباعه ونحو ذلك، فالنبي ﷺ بخلاف هذا.
على كل حال هذه أخلاق كاملة لا سيما لمن أراد أن يتصدى لدعوة الناس، أو نحو ذلك، فينبغي أن يتحلى بها، فلا يكون جلفاً سيئ الخلق، يتأذى الناس بمجالسته، وما يسمعون منه من جرح مشاعرهم، وسبهم، وشتمهم، ويكون في قلبه قاسياً حقوداً لا يعفو الزلة عن الأتباع، ولا يتجاوز، ولا يحتمل لهم الغلط، والهفوة وما أشبه ذلك، وإنما طبعه الغلظة، والشدة، فمثل هذا تنفر منه النفوس بطبيعتها، فالنفوس لا تحب من كان كذلك، يعني حتى الإنسان الغليظ، الجافي إذا رأى إنساناً آخر غليظاً، جافياً، فإنه ينفر منه، وفي كثير من الأحيان الإنسان قد لا يتفطن،, ولا يرى عيوبه ولو كانت أمثال الجبال؛ لكنه يرى ذلك في الناس ولو كان صغيراً فينفر من هذه الصفات.
فالمقصود أن الدعاة إلى الله ، وطلاب العلم؛ أولى بمثل هذه الأوصاف من رحمة المسلمين، والعطف عليهم، والشفقة، وألا يكون سيئ الخلق في تعامله مع الناس فهذه أمور لا تليق، قد يكون الإنسان طالب علم فيغلظ على الناس في الكلام، وربما شتمهم، وربما آذاهم، وربما أقفل السماعة وهو يحادثهم في الهاتف، فيخاف الناس منه ومن سؤاله، ومن الدنو منه، ومن معاشرته، وإذا عاشروه رأوا منه ألوان الأخلاق الكريهة، فينبغي للإنسان أن يكون قدوة في سلوكه، قدوة في تصرفاته، فإذا عنف أحداً فهو يقصد هذا لمعنىً يرى أنه مصلحة لهذا الإنسان المعنف، ولا يجد في نفسه تشفياً في مثل هذه الحال، فهو كالطبيب يضع الدواء حيث نفع لا سيما في التعامل مع الناس الذين يظنون أن هؤلاء لهم أخلاق كما يقال: أخلاق ربانية، أو أخلاق أنبياء، فحينما يأتي الناس لطلاب العلم، أو يأتون لمن يدرسون في الجامعات الشرعية أو نحو هذا؛ ينبغي أن يجدوا منهم اللين، والغلظة، ولا يجدون الأخلاق الصحراوية، والجفاف في النفوس، والسلاطة، والتعنيف في اللسان وما إلى ذلك، فحتى لو كان الإنسان يعيش في بيئةٍ الغلظة غالبة فيها فإنه ينبغي أن يهذب أخلاقه، فيتخلص الإنسان قدر المستطاع من مثل هذه الأوصاف، فإن ذلك ينفر النفوس، وكم من طالب علم جاء مندفعاً متحمساً حينما كان يقرأ عن أخلاق الإمام أحمد، والفضيل وابن المبارك وأمثالهم، ثم رأى عكس هذا تماماً لدى بعض من يحتف به، أو ابتلي بتعليمه؛ فنفر وكره العلم، وكره طلاب العلم، وكذلك الدعاة إلى الله إذا كانوا بهذه المثابة، فلا بد من التجاوز، واحتمال أخطاء الناس، وهفواتهم، والذي لا يصلح لشيء يصلح لشيء آخر، والله خلق الناس في غاية التفاوت، فلا بد من سعة الصدر لهم، وإعطاء كل إنسان ما يحسنه، والحاجة موجودة للجميع.
يعني إذا شاورت الإنسان جعلته شريكاً لك في هذا حتى في الناحية النفسية كما يقال، إذا أردت أن تجعل إنساناً في صفك فيمكن أن تدخله معك من هذه البوابة، إنسان ممكن أن يعترض، وينبري لمعارضة هذا الأمر، فمن الممكن أن تأتيه وتقول: نحن نعاني من كذا وكذا وكذا بماذا تشير علي؟ فيمكن أن يقترح عليك الرأي الذي يمكن أن يكون هو أكثر المعارضين له، وللأسف هذه يمكن أن يستغلها أهل الفساد مع بعض الطيبين، ويُستغفلون بهذه الطريقة فيكون هذا عوناً لهم، ويمكن أن يستغلها أهل الصلاح حتى في المشكلات الزوجية وما أشبه ذلك، قد تسبق الزوجة إلى أحد من المصلحين الذين يصلحون بين الأسر، أو القضاة؛ فتبدأ تذكر له المشكلة، وتقلب الأمر بين يديه، وماذا يشير عليها وما إلى ذلك، فيتحول تلقائياً إلى إنسان مستشار لها، وهذا لا بأس به إلى هذا الحد، لكن أن يكون كلامها هو الحق، وأن يعطيها تعليمات كيف تفعل لتنتصر على هذا الإنسان، وتأخذ حقها منه وما أشبه ذلك؛ حتى إذا جاء ذلك الزوج فإذا القضية محسومة في نظر هذا القاضي، وأن هذا إنسان ظالم، وينبغي أن يؤدب، والسبب أنها جاءت بطريقة مشاورته في الموضوع، وماذا يمكن أن تفعل، فتحول دون أن يشعر إلى عاضد وناصر، وهذا حاصل بشكل كبير جداً، فالمقصود أنك بكل بساطة تستطيع أن تحول الكثيرين إلى أعوان وأنصار بهذا الأسلوب حتى بالتعامل مع الأب مثلاً قد تجده يعترض على شيء، فتعرض عليه وتقول: أنا أعاني من إشكال وكذا فماذا تشير عليَّ؟ فتجده يبدأ يجتهد بكل طاقته ليعطيك حلولاً، فهذه الحلول قد تكون أنت تفكر فيها أصلاً، لكن إذا طرحتها لأول وهلة تجد المعارضة.
وعلى كل حال هذه الآية تضمنت حق الله وحق النبي ﷺ، وحق الخلق، فالله يقول: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [سورة آل عمران:159]، فقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ أي: إن بدر منهم تقصير في حقك، وقوله: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي مما يقع منهم من الذنوب، والمعاصي، والتقصير في حق الله ، وقوله: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ هذا حق لهم.
قوله: "المعنق ليموت" ربما قيل له ذلك - إن صحت الروايات التي في السير - لما كان في بئر معونة، فأقدم بعد أن قتل أصحابه، وأصرَّ ألا يبرح، وألا يفارق حتى يقاتل المشركين، أو يقتل، فأقدم عليهم حتى قتلوه، فيقولون: إن النبي ﷺ قال له: أعنق ليموت[1].
فقوله: أعنق ليموت يعني بادر ليموت، ثم لقب بهذا، هكذا في بعض الروايات في السير إن صحت.
على كل حال هذا هو الواجب، وقد قال ابن عطية - رحمه الله -: إن من لا يشاور أهل الدين، والصلاح، والعلم يجب عزله.
واستشار علياً وأسامة - ا - في فراق عائشة - ا وأرضاها - فكان ﷺ يشاورهم في الحروب ونحوها.
وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: المستشار مؤتمن [ورواه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي]".
قوله: أبْنوا أهلي الأَبْن: التهمة، والمعنى هنا اتهموا أهلي، وعلى كل حال الحديث فيه كلام معروف وضعف في إسناده لكنه قد يحتمل التحسين لشواهده، وقد رواه أبو داود والترمذي وحسنه، والتحسين من قبل الترمذي.
- الطبقات الكبرى لابن سعد (ج 3 / ص 567).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة النور (4479) (ج 4 / ص 1780) ومسلم في كتاب التوبة - باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (2770) (ج 4 / ص 2129).