يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار.
روى مسلم في صحيحه عن مسروق قال: سألْنا عبد الله عن هذه الآية: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [سورة آل عمران:169] فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله ﷺ فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا وقد روي نحوه عن أنس وأبي سعيد - ا -[1]".
هذه الآية تفسرها الآية الأخرى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ [سورة البقرة:154] فتلك الآية تفسر هذه، وتبين أن هذه الحياة التي يحياها الشهداء لا تدخل تحت إدراكنا، ولذلك قال: وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ [سورة البقرة:154] لأن الشعور المقصود به الإدراك، فإذا ارتفع شعور الإنسان معنى ذلك أنه ارتفع إدراكه، فنحن لا نشعر بهذا، ولا ندرك طبيعة هذه الحياة، لما حجب عنا في هذه الدنيا من هذه الأمور الغيبية، فهي حياةٌ الله أعلم بها لا تدخل تحت نطاق شعورنا، لكنهم أحياء والله يقول: لا تقولوا أمواتاً إنما هم أحياء، لكن ذلك لا يدخل تحت إدراككم، يعني لمّا أزهقت نفوسهم في سبيل الله، وحصل لهم هذا التلف في الأبدان، وبذلوا المُهج عوضهم الله الحياة الكاملة التي لا تقارن بهذه الحياة، فإذا رأوا ذلك تمنوا أن يرجعوا فيقتلوا، وهذه هي أمنيتهم الوحيدة.
هنا يقول: لها عند الله خير ولهذا في قوله - تبارك وتعالى -: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [سورة المنافقون:10] قال ابن عباس - ا -: "ما من أحد يكون عليه حق لله تعالى - يعني في المال - لا يؤديه إلا تمنى الرجعة عند الموت"، فقالوا له: اتق الله يا ابن عباس فإنه لا يتمنى الرجعة أحد له خير عند الله إلا الشهيد، فقرأ عليهم ابن عباس هذه الآية: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [سورة المنافقون:10] فالإنسان المقصر في الحقوق المالية يتمنى أن يرجع ليتصدق، ويبذل.
وروى أبو بكر بن مردويه عن جابر بن عبد الله - ا - قال: نظر إليَّ رسول الله ﷺ ذات يوم فقال: يا جابر ما لي أراك مهتماً قال: قلت: يا رسول الله استشهد أبي، وترك ديناً، وعيالاً، قال: فقال: ألا أخبرك ما كلم اللهَ أحدٌ قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كَفاحاً قال علي: الكَفاح: المواجهة".
يعني أنه كلَّمه مباشرة من غير واسطة، وظاهره أن ذلك من غير حجاب أيضاً.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: الشهداء على بارقِ نهر بباب الجنة في قبة خضراء..".
بعضهم يفسر قوله: على بارق نهر يعني أول النهر، ومطلع النهر، ومبتدأ النهر عند باب الجنة أي الموضع الذي يلوح فيه النهر أو يبرق فيه النهر عند باب الجنة، وكأنه يكون له شيء من اللمعان والبريق، والله أعلم.
وحسنه أيضاً الذين حققوا مسند الإمام أحمد، وعلى كل حال هذا الحديث مع الأحاديث الأخرى التي تذكر أنهم في حواصل جوف طير خضر تأوي إلى قناديل ... إلى آخره يمكن أن يقال: إن هذا يختلف باختلاف أحوالهم، ربما يكون ذلك - والله أعلم - فبعضهم هكذا، وبعضهم هكذا، وقد يكون لهم هذا، وهذا، فالله على كل حال يكرمهم بألوان من النعيم أخبر عن بعضه في مثل هذه النصوص.
هنا ذكر وجهين للجمع بين هذا، وبين أنها في أجواف طير، إما أن هذا يختلف باختلاف أحوال الشهداء فمنهم من يكون كذا، ومنهم من يكون كذا، أو أن هذا من الأمور التي يعطيهم الله إياها فهم في بعض الأطوار يكونون في أجواف طير خضر، وقد يفضون إلى مكان كهذا يتنعمون به، فالله أعلم.
هنا يشير إلى بعض الأحاديث التي تذكر أن أرواح المؤمنين أيضاً في الجنة، وأن ذلك لا يختص بالشهداء، ولكن أرواح الشهداء في جوف طير خضر، وهذا هو الفرق، والله أعلم.
عالم الأرواح، وكلام أهل العلم فيه، وأين أرواح المؤمنين هل هي على أفنية القبور، أو في القبور، أو في الجنة، أو لها أحوال تنتقل في العالم العلوي، وترجع إلى القبور، أو غير ذلك، إذا نظرت إلى الأدلة تجد منها ما يدل على أنه ينعم في القبر حيث يفتح له نافذة إلى الجنة فيأتيه من روحها، ونعيمها، وهناك أدلة يفهم منها أن أرواحهم في الجنة، وعلى كل حال هذه أمور غيبية، فقد يكون للأرواح أحوال، وتنقلات مع اتصال بالجسد، لا ندركه، وهذا الاتصال لا تحصل به الحياة المعروفة لدينا في الدنيا من حركة الجسد فهذه أمور الله أعلم كيف تكون.
في هذا الحديث يذكر أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، وذكر هناك أن أرواح الشهداء في جوف طير خضر، فقوله: طائر يعلق من أهل العلم من أخذه بظاهره، وقال: إنها تكون بهذه المثابة، أي أنها تكون على هيئة طائر يطير في الجنة، وليست في جوف طير خضر كأرواح الشهداء، فهؤلاء طائر يعلق في شجر الجنة، وأولئك في جوف طير خضر يأوون إلى قناديل معلقة بالعرش.
هذا الكلام لابن كثير يريد به تبيين المعنى المراد من الحديث وليس رواية أخرى، فهو فسرها بأنها تكون على هيئة طائر، وهذا قال به كثير من السلف، وبعضهم يقول: إن الروح طائر يعلق بأنهار الجنة، فقيل لها طائر بهذا الاعتبار، لكن الظاهر المتبادر هنا أنها تكون على صورة أو على هيئة طائر يعلق بأشجار الجنة، وابن القيم له كلام كثير في هذا من شاء فليراجعه.
يقول: "فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين" لأنها تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش.
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون (1887) (ج 3 / ص 1502).
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى (1877) (ج 3 / ص 1498).
- أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد - باب في فضل الشهادة (2522) (ج 2 / ص 322) وأحمد (2388) (ج 1 / ص 265) والحاكم (2444) (ج 2 / ص 97) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2520).
- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة آل عمران (3010) (ج 5 / ص 230) وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم - باب فيما أنكرت الجهمية (190) (ج 1 / ص 68) وحسنه الألباني في سنن الترمذي برقم (3010).
- أخرجه أحمد (2390) (ج 1 / ص 266) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.
- أخرجه أحمد (15816) (ج 3 / ص 15816) وإسناده صحيح كما قال شعيب الأرنؤوط.